8 أبريل 2018

حاجة المجتمع إلي العفة






الحمد لله رب العالمين … شرع لنا الدين سموا بالإنسان إلي معارج الكمال ، وكريم الخصال ، وحميد الفعال فربي الأمة علي العفة والورع عن الحرام فقال تعالي }وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ (6){ ]النساء[
وأشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له …. بين لعبادة سبيل الحلال والحرام وحذرهم طريق الغواية والضلال فقال تعالي}وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ (151){ ]الأنعام[
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله  (ﷺ) كان يسأل الله تعالي العفاف والتقي فقال (ﷺ) }اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى{
اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه الطاهرين الذين آثروا رضا الله على شهوات نفوسهم فخرجوا من الدنيا مأجورين وعلى سعيهم مشكورين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد : فيا أيها المؤمنون …
 لقد كانت معجزة الإسراء والمعراج بمثابة الارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء.
ـ هذه المعجزة تكريم من الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام، لأنه أراه في المعراج آيات ربه، ( لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا) (ولقد رأي من آيات ربه الكبرى ).
وقد أَطْلَعَ الله تعالى نبيَّه الكريم على بعض المشاهد الاجتماعية التي تصيب المجتمعات فتقتلها وتبيدها تماما .
رأي أصنافاَ من الناس يواجهون عواقب ما عملوا في الدنيا، ليكون في ذلك موعظة لمن يبلِّغهم الرسالة حتي يتعفف الناس عن فعل هذه الأشياء المدمرة من هذه المشاهد
رأي آكل الربا :
أخرج ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسري بي رأيت رجلاً يَسْبَحُ في نهر يُلقَم الحجارة فسألت: من هذا؟ فقيل لي: هذا آكل الربا». ورأي أهل الغيبة والنميمة :ــ أخرج أحمد وأبو داود أن رسول الله (ﷺ) قال: }لمَّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون في وجوههم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الَّذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (أي يغتابونهم).
ورأي آكل أموال اليتامى :
مر النبي صلي الله عليه وسلم بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، فتفتح أفواههم ويلقمون
 حجرا، وفي رواية: يجعل في أفواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم،
فسمعهم يضجون إلى الله تعالى. فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء }الذين
 يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا).
ورأي الزناة :
 رأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين‏.‏ ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن‏.‏ فهذه القضايا لو تفشت في مجتمعنا لدمرته ، لذلك نحن في أمس الحاجة لأن نتعفف عن الكلمة الحرام وعن النظرة الحرام وعن اللقمة الحرام وعن المال الحرام وعن المرأة الحرام . لذلك كان حديثنا عن (حاجة المجتمع إلي العفة) ، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية:ـ
 1ـ مفهوم العفة .
 2ـ مظاهر العفة .
 3ـ ثمرات العفة . 
4 ـ أسباب ضياع العفة.
 5 ـ عوامل تحقيق العفة .
العنصر الأول : مفهوم العفة :
هي كف النفس عن المحارم وعما لا يجمل بالإنسان فعله ، ومنها العفة عن اقتراف الشهوة المحرمة ، وعن أكل المال الحرام ، وعن ممارسة ما لا يليق بالإنسان أن يفعله مما لا يتناسب مع مكانته الاجتماعية ، وممال يراه الناس من الدناءات ، كالجشع في الولائم والتسابق علي أطايب الطعام ، وكالجشع في التجارة ومزاحمة صغار الكسبة في مجالاتهم الحقيرة قليلة الموارد والأرباح . 
ويأتي في مقابل العفة الدناءة والخسة في كثير من . والعفة من مكارم الأخلاق والدناءة والخسة وكل ما ينافي العفة من رذائل الأخلاق . 
ولقد حثّ عليها الإسلام بقول الله تعالى بالقرآن الكريم }وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ (6){ ]النساء[
وقوله (ﷺ) } بروا آباكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم { [رواه الطبراني بإسناد حسن] قول رسول الله (ﷺ):}ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخره عنكم ، ومن يستعففْ يُعِفّه اللهُ{ ]صحيح البخاري[
وكان من دعاء النبي (ﷺ): (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى).
العنصر الثاني: مظاهر العفة :
أولا: عفة الجوارح: المسلم يعف يده ورجله وعينه وأذنه وفرجه عن الحرام فلا تغلبه شهواته، وقد أمر الله كل مسلم أن يعف نفسه ،وتكون العفة كالتالي :
1ـ غض البصر وحفظه عن كل ما حرَّم الله، وعن كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله، وما أكثر ما يلهي ويصد عن ذكر الله في تلك الحياة التي أخذ الشيطانُ فيها على عاتقه أن يضل عباد الله ويمنيهم بالأماني الكاذبة حتى لا يوجد أكثرهم وهم شاكرون.
2ـ حفظ اللسان: عن الهذيان والفحش والجفاء والمراء، والخصومات ولغو الكلام، وإلزامه السكوت إلا عن ذكر الله والكلمة الطيبة، وتلاوة القرآن والنصح لكل مسلم، وأن ينشغل بكل نافع حتى يكون غرسه الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، حتى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
3ـ كف السمع عن الإصغاء لكل ما هو مكروه؛ لأن كل ما حرُم قوله حرُم الاستماع إليه، ولقد سوّى الله تعالى بين المستمع للحرام والآكل له؛ فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ(42)} [المائدة]
ونهانا أن نقعد مع الذين يخوضون في آيات الله ويستهزئون بها حتى لا نكون مثلهم فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(140)} [النساء].
 كف بقية الجوارح عن الآثام وعن المكاره، وكف البطن والفرج عن الحرام؛ فقال تعالى:} وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ(33){
 ]النور[
إذ إن هذه الأعضاء هي ودائعُ الله الغالية التي استودعها الله عند العبد، ومقتضى الحياء من الله تعالى أن يستخدمها العبدُ فيما خلقت من أجله، وهى ما خلقت إلا للعبادة ؛ كما روي عن رسول الله (ﷺ) }استحيُوا من الله حقَّ الحياء، قلنا: إنا نستحيي من الله يا رسول الله والحمد لله قال: ليس ذلك، الاستحياءُ من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء{ ]رواه الترمذي[
عباد الله من تمام العفة ما قاله ابن القيم رحمه الله: ولا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اللسان والسمع والبصر (الجوارح)
- فعفة اللسان تشمل عدم السخرية: }لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ(11){ [الحجرات]،
وعفة اللسان تشمل: عدم التجسس، وعدم الغيبة، والنميمة، والهمز، والتنابز بالألقاب.
وعفة البصر تشمل: عدم مد البصر إلى المحارم، وزينة الحياة الدنيا.
وعفة السمع تشمل: عدم سماع كل ما هو قبيح ومحرم من المسموعات. إذاً: الذي يجلس ويسمع ما يغضب الله لا نستطيع أن نصفه بأنه عفيف. وعفة اللسان وعفة الأذن وعفة البصر من تمام العفة.
وجماع العفة: أن تحفظ الجوارح، ولا يطلقها صاحبها في شيء يغضب الله عز وجل.
وهذه بعض النماذج في العفة عن الحرام..
 فها هو موسى عليه السلام لما سقى لابنتي الرجل الصالح جلس في الظل:} فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ(25){ ]القصص[ ، تمشى على استحياء ؛ على استحياء قالت ؛ يعنى حياؤها في مشيتها وفى كلامها وكان موسى عليه السلام قدوة في العفاف فطلب منها أن تسير وراءه وتشير إليه يمينا أو يسارا حتى لا ينظر إليها أو يطير الهواء ملابسها أو يلتصق بجسدها إن هو سار وراءها .
ـ وها هو يوسف عليه السلام الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ومع هذا فقد بيع في سوق العبيد كما يباع العبيد فاشتراه عزيز مصر فلما رأى فيه كرم الأصل وجمال الوجه طلب من امرأته أن تكرمه ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) وكبر يوسف في بيت العزيز وصار شابا قويا جميلا فأعجبت به امرأة العزيز ووسوس لها الشيطان وجاء اليوم الذي أغلقت فيه الأبواب وصرفت الخدم وقالت ليوسف هيت لك تهيأت لك لكنه أجاب بكل عفة وطهارة }معاذ الله إنه ربى أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون(23){ ]يوسف[ معاذ الله أي أستعيذ بالله وألجأ إليه .
ـ وها هو سيد البشر (ﷺ) جاءته صفية بنت حيي تحدثه وكان معتكفا بالمسجد فقام إليها يوصلها إلى بيتها فرآهما شابان فأسرعا فقال النبي على رسلكما ِإنها صفية فقالا سبحان الله يا رسول الله أنت أعظم وأجل من أن نقول شيئا عنك فقال إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم – فخاف النبي (ﷺ) عليهما من وسوسة الشيطان فالإنسان العفيف لا يضع نفسه موضع شبهة ، ولم يمد يده ليصافح امرأة قط ، فيجب على المسلم ألا يضع نفسه موضع شبهة فيقف مثلا في الظلام يكلم امرأة أو يكلم امرأة بصوت منخفض لا يسمعه أحد أو يخلو بامرأة ، وكذا المسلمة العفيفة لا يجوز لها الوقوف مع رجل بالشارع أو تتكلم معه بصوت منخفض .
عفة جريج العابد : نموذج آخر في العفة عما حرم الله، وهو جريج العابد؛ تتعرض له بغي من بغايا بني إسرائيل، فيعفُّ نفسه ولا يلتفت إليها، فتحاول أن تنتقم منه لامتناعه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه ((… تذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم -قال- فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي -قال- فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا أعيدوها من طين كما كانت)) .
ثانيا : العفة في كسب المال :
 فالمسلم يترفع عن أموال الصدقات ،مرّ النبي (ﷺ) بتمرة في الطريق قال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» اجتناب الكسب الحرام .
عفة بيت النبوة :
وهذا حال النبي (ﷺ) مع المال فقال (ﷺ) «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من صدقة فألقيها» [رواه البخاري]
 وأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله (ﷺ): «كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» [رواه البخاري]
عفة سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه : ها هو أبو بكر رضي الله عنه عندما صار خليفة رسول الله وكان تاجرا وجده الصحابة في السوق يبيع ويشترى فقالوا له لا تعمل ونعطيك راتبا وعند الموت تبقى في بيته بضعة دنانير فأرسل إلى عائشة قائلا هذه الدنانير أعطيها لعمر تبقت من راتب هذا الشهر ولم أعمل بها فهل رأيتم مثل هذا .
عفة الفاروق عمر رضي الله عنه : وجاء الفاروق الذي تعلم من سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وكان وزير أبى بكر الأول فلما صار أميرا للمؤمنين كان ينظر إلى بيت مال المسلمين كمال اليتيم وهو الولي عليه فيقول إن استغنيت استعففت وِإن افتقرت أكلت بالمعروف فكان إذا لم يجد في بيته مالا يأخذ من بيت مال المسلمين إلا أقل القليل لقوله تعالى ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) النساء 6 . ويوما مرض رضي الله عنه فقال له الطبيب عليك بالعسل فإنه دواؤك ووجد عكة فيها عسل في بيت مال المسلمين فقيل له خذها فلم يرضى وذهب إلى المسجد وبعد أن صلى بالناس قال لهم توجد عكة عسل وأنا أريدها علاجا لي أتأذنون فقالوا نأذن لك . 
في عهده فتحت الفتوح وازدادت الرقعة الإسلامية وجاء المال من كل البلاد ومع ذلك ظل على عادته زاهدا متقشفا حتى شكاه الصحابة إلى ابنته حفصة فجاءته تقول يا أبت قد أوسع الله الرزق فكل طعاما ألين مما تأكل والبس لباسا ألين مما تلبس ، فظل يذكرها بطعام رسول الله الخشن والقمح غير المنخول ويذكرها بالأيام التي قضتها مع رسول الله وأنه كان يعيش أياما على التمر والماء وكيف أنه كان يمر الهلال تلو الهلال ولا يوقد في بيته عليه الصلاة والسلام نار ، وكيف كان ينام على حصير من ليف كان له اثر في جنبه الشريف وظل بها هكذا حتى بكت رضي الله عنها وتركته وكان آخر ما قاله أريد أن الحق بصاحبي ( رسول الله وأبى بكر ) على ما تركوني عليه وأموت على مثل ما ماتا .
ثالثا : القناعة والترفع عمّا في أيدي الناس:
قال تعالي لنبيه (ﷺ) {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} سورة الحجر(88)، وقال في آية أخرى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طـه. 
وقد جاء في الحديث أن النبي (ﷺ) لما سأله سائل عن عمل إذا فعله أحبه الناس، فقال له: (وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). وثبت من حديث سهل بن سعد مرفوعاً: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
 وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن رسول الله (ﷺ)  قال وهو على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: (اليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة). 
وقال الحسن: "لا تزال كريما على الناس ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك".
وقال أيوب السختياني: "لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم".
 قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم.
 وقد مدح الله تعالى قومًا اتصفوا بالعفة في مظهرهم، مع فقرهم وحاجتهم، فقال : }لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا (273){ [البقرة[
 وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله (ﷺ)  قال : }.. ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله{ ( أخرجه الشيخان ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي) . 
وهذه عفة سالم بن عبد الله بن عمر:قال ابن عيينة : (دخل هشام الكعبة، فإذا هو
 بسالم بن عبد الله، فقال: سلني حاجة. قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره. فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجة. فقال له سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا.
 قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟) . وسبحان الله في نفس المجتمع الذي يحدث فيه هذا تجد أناسا قال الله فيهم ( لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ) البقرة فقير عفيف يغلق عليه بابه ولا يسأل الناس فهذا هو الذي يجب أن نبحث عنه ونعطيه.
وهذه عفة الربيع بن خُثيم: عن سعدان قال: (أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خُثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيَّبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيَّرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة فسقطت مغشيًّا عليها. فوالله لقد أفاقت، وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق).
العنصر الثالث :  ثمرات العفة :
1. تحقيق المروءة التي ينال بها الحمد والمجد والشرف في الدنيا والآخرة التي تقود إلى الارتقاء في سماء الفضيلة، والبعد عن حضيض الرذيلة، والوقوف بالشهوات عند الحد الذي خلقت من أجله، وفق المنظور الشرعي، والمفهوم الأخلاقي.
2. نقاء المجتمع وطهارته من المفاسد والمآثم والرزايا والمصائب والعقوبات الربانية وسلامته من أضرار الخبث الفواحش.
3. الفلاح بثناء الله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون: 1-7] 
4. الفوز بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون: 10-11]
 5. حفظ الفروج عن الفواحش مما تزكو به النفوس، وتسلم به المجتمعات، ويحفظ به الأمن، وتصان به الأعراض}من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة{[رواه أحمد]
 6. السلامة والنجاة من نار السموم قال رسول الله (ﷺ) «ثلاثة لا ترى أعينهم النار عين حرست في سبيل الله وعين بكت من خشية الله وعين كفت عن محارم الله» [ رواه الطبراني ]
 7. قوة القلب ونعيمه وطيب النفس وانشراح الصدر فصاحبها مستريح النفس مطمأن البال قال تعالي { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]
 8. وفرة العقل ونزاهة النفس وكمالها وعزها وقلة الهم والحزن والغم.
9. صون الأعراض وصيانتها عن الحرام والرذيلة ومواضع الآثام قال تعالي { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [النور: 30]
 10. تنمية روح الغيرة في النفس والتي هي سياج منيع لحماية المجتمع من التردي في مهاوي الرذيلة والفاحشة والتبرج والسفور والاختلاط المحرم.
11 ـ ضمان الرسول عليه الصلاة والسلام للعفيف دخول الجنة . عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله (ﷺ): }أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رفيق القلب لكل مسلم، وعفيف متعفف ذو عيال..{ (من حديث طويل أخرجه مسلم) .
العنصر الرابع : أسباب ضياع العفة:
1. تسخير الإعلام بأنواعه من مقروء ومسموع ومشاهد لبث ما يثير مكامن الشهوة ويخمر العقل ويفسد الروح مما يفسد على الناس عفتهم ويضعفها.
2. الإعجاب بنظم الغرب وتقاليده، والانبهار بحضارته ومدنيته، مما يدفع بكثير من الناس إلى السفر إلى مواقع تتجلى فيها إشاعة الفاحشة ونشر بواعثها ومثيراتها من نشر للأغاني الساقطة والأفلام الآثمة والمشاهد الفاضحة والمجلات الهابطة والروايات الساقطة.
3. تعرية المرأة وتحريرها واستعبادها وإخراجها من بيتها للتمثيل والإبداع في مسابقات الجمال وعروض الأزياء والفنون الجميلة وغيرها مما يجلب الفساد والإفساد للمجتمعات.
4. تيسير المحرم وتكثير سبل الغواية وطرق الفاحشة وتنوعها في الأسواق والطرقات والمحلات والمراكز الضخمة والشركات الهائلة إلى غير ذلك..
5. التساهل من المسلمين في إدخال الرجال والخدم في البيوت واختلاطهم في المراكب والمساكن وأماكن الترفيه مع النساء والفتيات وضعاف النفوس.
6. الأسواق العامة وما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة من كشف للوجه وتجميل له وإبداء لمفاتن الجسد.
7. الدعوة لحرية الفن والترويج له وكسر القيود أمامه وصرف طاقات وشباب وعقول الأمة لهذا العفن.
8. وسائل ومنتديات الترفيه غير البريء كحفلات الموسيقى والرقص والغثاء والمسارح الهابطة والنوادي المشبوهة ودور السينما الرديئة.
9. غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتساهل فيه وعدم الاهتمام به والرفع من شأنه وأنه صمام المجتمع.
10. معوقات الزواج من مغالاة في المهور واشتراط التكاليف الباهظة للحياة الزوجية والمبالغة في اشتراط المؤهلات العلمية والمكانة الاجتماعية العالية للشباب مع اشتراط بعض الأسر الزواج لبناتهن حسب تسلسل أعمارهن. إظلال الله لمن عفّ عن الفاحشة في ظل عرشه يوم القيامة .
11 . عفة المرء سبب في عفة أهله ومحارمه وحفظ الله لهم .لقول النبي (ﷺ)  « بروا آباكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم » [رواه الطبراني بإسناد حسن]
 12 . العفة سبب لسلامة المجتمع من الشرور والآفات والفساد .
13 . العفة سبب للبعد عن سخط الله عز وجل وعقابه العام والخاص.
 العنصر الخامس : عوامل تحقيق العفة :
1ـ تحقيق الإيمان الذي ينشئ مملكة الضمير في نفس المؤمن فيستحضر الخوف والحياء وتذكّر الآخرة واستشعار عظمة الله ويكون باعثاً على قمع الشهوة في النفس ودرءها عن تجاوز الحد {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ(23)} [يوسف] 
2ـ التربية الروحية من صبر ومجاهدة في ذات الله جل وعلا، بدوام الصلة بالله تعالى من ذكر ودعاء وتضرع وتبتل والتجاء إليه، وقراءة للقرآن الكريم بتدبر وتأمل مع الفهم لمعانيه والتعقّل لأسراره وحكمه.
3ـ تربية النفس بالصوم فإنه مما يعين على زكاة القلب، وطهارة النفس، وبه تنحصر وتضييق مجاري الشيطان « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »
4ـ توعية الجيل المسلم بتعزيز المنافع والمصالح التي تنشئ العفة والتزام أمر الله عز وجل في الحياة اليومية، مع بيان الآثار السلبية النفسية والاجتماعية والعقلية والروحية للنشء لكل من سلك طريقاً غير طريق العفة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً(124)} [طه]
5ـ التقرب إلى الله سبحانه بالنوافل بعد الحرص العظيم على الالتزام بالواجبات والوقوف الجازم عند الحدود والفرائض (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه .) [رواه البخاري] 
6ـ أن يطالع القلب أسماءَ الله وصفاته وأفعاله التي يشهدها ويعرفها ويتقلّب في رياضها، فمن عرف الله وحده بأفعاله وصفاته باعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ومن بعدهم من سلف الأمة الأخيار من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه هداه وأعانه وسدد على الخير خطاه.
7ـ انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى والتذلل له سبحانه والخشوع لعظمته بالقول والبدن والالتجاء إلى الله عز وجل عما يصون النفس عن كل حرَّم الله مع تقوية عزمه في مواجهة هذه المغريات والمثيرات في زمن يُسِرِّت فيه سبل الغواية، و كثرت فيه طرق الفاحشة وتنوعت قال (ﷺ) } ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله { [ رواه البخاري ]
 8ـ التوسع على النفس وأخذ المباح، فالنفس بطبيعتها مجبولة على ما أودع الله فيها من فِطَر وغرائز فتصريفها فيما أحل الله عز وجل باب عظيم لسد أبواب من الشر، وغلق مفاتيح الفتنة ونزوات الشهوة.
9ـ تحيّن وقف النزول الإلهي لمناجاته جل وعلى ودعائه بالثبات على هذا الدين ولزوم الصراط المستقيم، مع تلاوة كلامه والتأدب بآداب العبودية بين يديه، ثم ختْم ذلك بالاستغفار والتوبة النصوح فالله جل وعلا يقول { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)} [السجدة]
 10ـ البعد كل البعد عن كل طريق يحول بين القلب وبين الله تعالى وذلك لا يتحقق ولا يكون إلا بالبعد عن أنواع السيئات وألوان المحرمات وصور الموبقات، فالقلوب إذا فسدت فلن تجد فائدة فيما يصلحها من شؤون دنياها ولن تجد نفعاً أو كسباً في أخراها {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(88)}[الشعراء]
 11ـ التربية الفكرية من غرس المفاهيم والموازين الشرعية ذات العلاقة بالاستعفاف كالعلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالجانب الأخلاقي في المجتمع المسلم والتعرف على بواعث وأسباب الانحراف الخلقي وآثار ذلك الانحراف على الفرد والمجتمع والتعرف على وسائل الإصلاح الذاتي والاجتماعي ومنهج التربية الاسلامية ووسائل الاستعفاف وإدراك دور المفسدين وأعداء الإسلام في إفساد المجتمع المسلم ومعرفة مكائدهم وخططهم في هذا المجال.
وأخيرا .. ليس الظريف بكامل في ظرفه حتى يكون عن الحرام عفيفا فإذا تعفف عن معاصي ربــــه فهناك يُدعــى في الأنام عفيفا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالي :ـ
عِفُّوا تعِفَّ نساؤكم في المحرمِ        وتجنَّبُوا ما لا يليقُ بمسلمِ
إنَّ الزِّنا دَينٌ إذا أقرضتًه         كان الوفا مِن أهلِ بيتِك فاعلمِ
يا هاتكًا حُرمَ الرجالِ وقاطعًا      سُبلَ المودةِ عشتَ غيرَ مُكرَّمِ
لو كنتَ حرًّا مِن سُلالةِ ماجدٍ      ما كنتَ هتَّاكًا لحرمةِ مُسلمِ
من يزنِ يُزنَ به ولو بجدارِه                   إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافهمِ.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا اللهم من الراشدين.

اللهم آمين.

 رابط  pdf

https://www.raed.net/file?id=617067 

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=617069


 



ليست هناك تعليقات: