الحمد لله رب العالمين .. فرض الصيام تزكية للنفوس وتطهيرا للأرواح وتقوية للأخلاق فقال تعالي ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة 183 .
وأشهـد أن لا إله إلا الله … وحده لا شريك له … له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير …ميز الأمة الإسلامية وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله فقال تعالي ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله …) آل عمران .(110) وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم …بين الأسس التي يبني عليها الإسلام (روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان”.). فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ………
أما بعـــــــــــــــــــــــــد : فيا أيها المؤمنون….
لقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة… نعمة عظيمة من الله عز وجل على كل أمة الإسلام.. ومن نعمته أيضاً – سبحانه وتعالى – أنه ألقى محبة شهر رمضان في قلوب المؤمنين جميعاً.. حتى في قلوب الأطفال مع أنهم لا يعرفون صياماً ولا قياماً ولا ثواباً ولا حسنات.. إنه حقاً الحدث الذي ينتظره الكبير والصغير.. وينتظره الرجل والمرأة.. وينتظره الغني والفقير.. إنه أعظم شهر في الميزان الإسلامي..
كيف وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحدث الجليل؟..
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب الجنة, وتغلق فيه أبواب الجحيم, وتغل فيه الشياطين, فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم”. فرمضان ليس مجرد شهر كباقي الشهور وإنما رمضان له دور كبير في بناء الأمة الإسلامية .
ولكن كيف يبني رمضان أمة الإسلام؟
هذا البناء الضخم يحتاج إلى مجهود عظيم وتفكير عميق وإمكانيات هائلة.. كما أنه يحتاج إلى أساس متين قوي يستطيع أن يحمل فوقه البناء الهائل.. والله عز وجل وضح لنا في شرعه كل شئ.. وضح لنا كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم.. صرح الإسلام..
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان”.
ها هو البناء يبنى على أساسات خمسة أو أعمدة خمس.. منها صوم رمضان.. وهذا أمر في غاية الأهمية.. أبواب الإسلام واسعة جداً جداً.. فهو دين شامل كامل متكامل.. لكن من كل هذه الأبواب الضخمة اختار الله عز وجل خمسة أمور فقط جعلها أعمدة الإسلام, والتي يبني عليها كل هذا الصرح الضخم..
من هذه الأعمدة : “رمضان”!..
تخيل أن هذا العمود غير موجود.. أو أن به خللاً في التصميم أو خللاً في التطبيق.. ماذا ستكون النتيجة ؟ لا شك أن البناء سينهار بالكلية!!..
تخيل لو أن صيام رمضان لم يكن بالطريقة التي أرادها الله عز وجل فقد ينهار البناء الضخم لأمة الإسلام بالكلية!!..
إذن الأمر في غاية الأهمية..
فنحن إذا كنا نريد بناءاً قوياً صلباً لهذه الأمة فلابد أن يكون أساسه متيناً.. ومن ثم لابد أن يكون صيام رمضان على أعلى درجات الإتقان حتى يحمل فوقه الصرح المهول: ألا وهو الإسلام.. بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطق نريد أن ندخل إلى رمضان.. كما نريد أن ينتهي رمضان وقد أصبحنا مؤهلين لحمل الصرح العظيم والأمانة الكبيرة.. فالقضية ليست فقط قضية صيام.. إنما القضية قضية بناء.. “بناء خير أمة”!!..
ولكن كيف يبني رمضان أمة الإسلام ؟
رمضان سيقوم بتنقية المجتمع المؤمن من الشوائب!..
والذي سيفشل في الامتحان لا تبني عليه حساباتك.. والذي يثبت في رمضان سيثبت – إن شاء الله – في غيره.. ولكي يكون الاختبار حقيقياً لابد أن يكون صعباً..
فما هي صعوبة رمضان؟!صعوبة رمضان ترجع إلى أمور عدة:ـ
1ـ منها أنه فرض.. وطبيعة الناس أن تنفر من الفروض والتكليفات..
2ـ ومنها أنه شهر كامل متصل.. والأعذار فيه محدودة.. وليس لك بديل عن الصيام إلا بعذر مقبول شرعاً.. وقد يأتي رمضان في الحر.. أو قد يأتي في وقت تزدحم فيه الأعمال عليك.. أو قد يأتي في وقت تكثر فيه مشاغلك وهمومك.. وفي كل هذا هو شهر كامل متصل لا يصلح الذي قبله ولا الذي بعده..
3ـ ومنها أنه خروج على المألوف.. فشهوة الطعام والشراب والجماع شهوات مزروعة في داخل كل إنسان.. وفي رمضان ستخرج خروجاً تاماً عن المألوف.. ستجوع.. ستعطش.. ستتعب.. ستنهك.. ولكن يجب أن تصبر..
4ـ ولكن أصعب من كل ذلك أن تصوم صياماً حقيقياً كما أراد الله عز وجل.. فليست المسألة مسألة طعام وشراب وشهوة فقط.. ولكن الأمر اكبر من ذلك.. والاختبار أصعب من ذلك.. فعلى سبيل المثال ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه شرابه”.. وفي رواية أيضاً في البخاري وأبي داود واحمد.. “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل (أي الجهل على الناس أو صفات الجهل بصورة عامة) فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”..
إذن لابد أن تدرك أنك في رمضان ستدخل في اختبار صعب.. إن نجحت فيه كنت مؤهلاً لحمل الأمانة ولبناء الأمة.. وإن فشلت فليس لك مكان في الصرح العظيم..
ومن هنا فليس من المعقول ـ أيها المسلمون ـ لفرد مسلم مؤمن يدخل في اختبار عظيم كاختبار رمضان ثم هو يقضي الساعات الطوال أمام التليفزيون مثلاً!!..
أو في حل الفوازير في الجرائد والمجلات!!..
أو حتى في الطعام والشراب في وقت الإفطار!!..
ليس من المعقول أن يقضي المسلم الواعي الأوقات الطويلة في لعب الكوتشينة والطاولة وما شابه بحجة أنه “يسلي” صيامه!!!..
ليس من المعقول أن يذهب الصائم إلى عمله متأخراً ويخرج منه مبكراً ويقضي نصف نهاره نائماً والسبب أنه “صائم”!!..
اعلم أخي المسلم أن رمضان اختبار لتنقية صف المسلمين..
ومن الذي يختبرك؟!
إنه الله عز وجل!! “وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه, سبحانه وتعالى عما يشركون”.. إذن رمضان اختبار يراقب الله عز وجل فيه أفعال العباد.. فينتقي الصالحين ويطرد الفاسدين وبذلك تحدث التنقية للصف المسلم.. والأمة التي تبني على أكتاف عناصر صالحة ستكون أمة قوية إن شاء الله.. فرمضان يربي فينا قيم إيمانية غالية !!
ماذا يربي رمضان فينا؟!
أولاً: رمضان يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر.. فالله عز وجل يحب من عبده أن ينصاع له دون جدل, وأن يطيعه دون تردد.. والله يظهر لنا في أحيان الحكمة من وراء الأمر, ولكنه في أحيان أخرى يخفيها, ومع ذلك فإنه في كل الحالات على المؤمنين أن يطيعوا..
“وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً “..
ـ لماذا فرض الصيام في رمضان بالذات وليس في رجب أو شعبان مثلاً؟!..
ـ لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب, وليس من الفجر إلى العصر أو إلى العشاء, أو من الشروق إلى الغروب؟!.
ـ لماذا كفارة الجماع في نهار رمضان ستين يوماً متصلة.. وليست ثلاثين أو خمسين أو تسعين؟!..
وهكذا أسئلة بلا إجابات.. ومقصود أن لا يكون لها إجابات..
والغرض: تربية المؤمنين على الطاعة لله عز وجل, ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. وحتى وإن ظهر لعيوننا القاصرة طرف من الحكمة فهي ليست كامل الحكمة, أو قد لا تكون الحكمة مطلقاً..
وربما يقول قائل : إنما شرع الصيام للشعور باحتياج الفقراء وجوعهم, وأنا أشعر باحتياجهم وأعطيهم فما الداعي لصيامي؟!..
ولذلك فأنا لا أصوم!!..
فهذا قصور كبير في الفهم, فهذا القائلولم يستفد بتربية رمضان.. وربما يقول قائل : الصيام يضعف الأفراد, ويقلل من الإنتاج,!!..
فهذا لم يدرك البعد التربوي العميق في صيام رمضان.. هذه واحدة من تربويات رمضان.. ومعنى ذلك أنه لا يستقيم بعد رمضان أن تسمع حكماً من أحكام الله ثم تجادل.. أو تسمع حكماً من أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تجادل.. “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ما قضيت, ويسلموا تسليماً”.. هذا التسليم هو الذي نتعلمه في رمضان..
ثانياً: رمضان يربي المسلمين على كبت شهواتهم, أو قل على “التحكم” في الشهوات إلى أن تصرف في المكان الصحيح.. تدريب عظيم على عمل نبيل..
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه : “من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه اضمن له الجنة”.. ما دور رمضان في هذا الأمر ؟ رمضان يدرب المؤمن تدريباً عظيماً على حفظ هذه الأشياء..
استمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام احمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه (لاحظ الصيام منع الطعام”ما بين لحييه”, ومنع الشهوات “ما بين رجليه”) ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه (أي قيام الليل) فيشفعان”.. تدريب عظيم على التحكم في الشهوات..
ونجد أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال.. ولكنها حرمت في نهار رمضان فقط, وهي حلال طوال العام, بل هي حلال حتى في ليل رمضان.. وذلك مثل الطعام بأنواعه, والشراب بأنواعه, والجماع مع الزوجة.. فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد عليها سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام والشراب الحرام والعلاقات المحرمة وهكذا..
ويبقى سؤال هام: ما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الأمة المجاهدة؟ وما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الفرد الصالح للانتصار وللتمكين؟ أو لماذا يحتاج الفرد المجاهد أن يتدرب جيداً في مدرسة الصيام؟ وما علاقة الجهاد بالصيام؟ لاحظوا الآتي:ـ
الجهاد مشقة كبيرة.. وستأتي على الأمة المجاهدة أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة, ومن كان معتاداً على الصيام فهو على الجهاد أقدر من غيره..
ـ في غزوة تبوك كان الطعام كل يوم لا يعدو حفنة تمر.. وانقطع عنهم الماء فترة طويلة جداً حتى كادوا أن يهلكوا..
ـ في غزوة ذات الرقاع تقطعت أحذيتهم من السير الطويل, وبدأوا يسيرون على الرمال الملتهبة, حتى اضطروا إلى ربط رقاع من الأقمشة على أقدامهم..
ـ في غزوة خيبر قل الطعام جداً في أيديهم حتى ذبحوا الحمر الأهلية, وطبخوها, وهموا بأكلها فعلاً, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك, وحرمها عليهم..
وهذه فتنة كبيرة لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء, فمن الله عليهم بالثبات في أيام الشدة..
ـ وكانوا يغيبون في الثغور بعيداً عن الزوجات مدداً طويلة تصل أحياناً إلى شهور بل وسنوات.. وبالرغم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حددها بعد ذلك بأربعة أشهر, إلا أن ذلك لا يتحقق إلا عندما يكون هناك جيش بديل.. فيستطيع أن يرسل هذا ويأتي بذاك.. وقد يحتاج الجهاد كل طاقة الجيش, فيمكثون في الثغور إلى ما شاء الله.. وقد حاصر المسلمون مدينة “تستر” الفارسية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدة ثمانية عشر شهراً متصلة!!!..
ولا شك أن كل هذا يحتاج إلى تدريب.. المؤمن في رمضان – والذي يشعر بهموم أمته – يستشعر هذه الأمور وهو صائم, فيصبح صيامه تدريباً عملياً على الجهاد, ويكون صادقاً في إعداد نفسه ليوم يعز الله فيه الإسلام.. وأيضاً الجهاد سيفتح بلاداً كثيرة، وستقع السلطة في أيدي المؤمنين وسيباشرون أمور الناس، وإن لم يكن المؤمن مؤهلاً تربوياً للتحكم في شهوته فسيقع في كثير من المحظورات لكون السلطة في يده, والغلبة في صفه.. فقد يعتدي على حرمات الغير في الطعام والشراب.. وقد يعتدي عل حرماتهم في النساء.. وهذا كثير الحدوث في الجيوش الغير مسلمة .
لكن المسلم المدرب في مدرسة الصيام على التحكم في شهوته يسيطر على هذه الأمور كما كان يسيطر عليها وهو صائم وباختياره، وهذا يساعد على أن يسير الفتح الإسلامي والتمكين الإسلامي في الطريق المشرق الذي رسمه رب العالمين سبحانه وتعالى، فنعطي القدوة الحسنة، ولا نظلم الناس شيئاً.. والصيام بصفة عامة سواء في رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي..
دور التدريب على التحكم في الشهوات.. ومن هنا نستطيع أن نفهم النصيحة النبوية الغالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامة الشباب.. وذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء”.. ومن أجل ذلك أيضاً حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين على كثرة الصيام طوال العام.. ولكن من رحمته لم يجعل ذلك فرضاً عليهم..
ومن ذلك: ـ صيام الاثنين والخميس..
ـ صيام الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر العربي.. ـ صيام عاشوراء وتاسوعاء..
ـ صيام التسع الأوائل من ذي الحجة وبالذات يوم عرفة..
ـ صيام ستة أيام من شوال..
وهكذا يصبح المؤمن مدرباً طوال العام على التحكم في شهوته, والتحكم في فطرته تحكماً سليماً.. وما أنفع ذلك في بناء الأمة الإسلامية..
ثالثاً: رمضان يربي المؤمنين على التحكم في الأعصاب, والقدرة على كظم الغيظ :. وهذا أمر من أعظم الأمور في بناء الأمة بناءاً سليماً.. لأن الفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمم..
ما هو دور رمضان في هذا الموضوع؟ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة.. (أي الصيام وقاية وحماية للإنسان), فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم, إني صائم”.
إذن الصيام يربي على التحكم في الأعصاب, وعلى عدم انفلات اللسان, وعلى كظم الغيظ, وعلى العفو عن الناس, وكلها صفات أساسية للأمة المجاهدة, وبالذات الأمة المجاهدة..
ففي مجال الحروب مثلاً.. كم من الأسرى سيأسرون؟.. الكثير.. ومع ذلك فإن المسلمين يجب أن يتعاملوا مع أسراهم بالسمت الإسلامي, وذلك على الرغم من العداوة بينهم.. لا سباب ولا تعذيب ولا إيذاء.. “ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً”..
بل إنهم في الحرب ذاتها لا يجب أن يتجاوزوا في قتالهم إلى قتال المدنيين والنساء والأطفال والمعاقين وغير ذلك.. كل هذا مع أنه لا شك أن في قلوبهم غضباً شديداً منهم, وحنقاً شديداً عليهم, فهم يحاربون دولة محاربة لهم.. ولكن الحرب في الإسلام لها ضوابط شرعية معروفة, ولن يقدر على هذه الضوابط إلا هادئ الأعصاب, الذي لا يتسرع في قرار, ولا ينتصر لشهوة داخلية.. فالإسلام – دين راق جداً.. يدرب جنوده على حسن معاملة الآخرين حتى في حال العداوة والكراهية.. “ولا يجرمنكم شنئان قوم (كراهيتهم) على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون”.. والصيام يقوم بهذا التدريب بصفة مستمرة.. فتستفيد الأمة من هذا حتى في أوقات السلم, وتخيل معي أمة أو شعباً يغلب عليه هدوء الأعصاب, والتحكم في اللسان, وكظم الغيظ.. وكل هذا من تربية الصيام..
رابعاً: رمضان يربي التقوى في قلوب المسلمين:ـ وهذا أمر هام جداً جداً..
فالتقوى هي لب الصيام.. وهي الغاية الرئيسية منه.. قال تعالي “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”..وما هي التقوى؟! التقوى هي وصية الله عز وجل إلى خلقه.. “ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله”.. التقوى هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، فيما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : “اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”.. التقوى هي أن تتقي غضب الله عز وجل في السر والعلن.. إذا كنت في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد.. وأنت صائم.. وبجوارك الطعام الشهي والماء العذب, وأنت جائع عطش, فلا تقرب الطعام ولا الشراب مخافة الله عز وجل, فهذه هي التقوى.. التقوى كما قال عمر بن العزيز رضي الله عنه ليست بقيام الليل أو بصيام النهار, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله..
عندماً تكون راجعاً من عملك وأنت متعب منهك, فتسمع آذان العصر فتنزل لتصلي في المسجد من أجل الحسنات المضاعفة, فهذه هي التقوى.. عندما يجهل عليك أو يسبك بل يقاتلك أحد في شغلك أو في بيتك أو في الشارع فتقابل جهله بالحلم, وتقابل أذاه بالعفو, وتقول إني صائم.. فهذه هي التقوى..
عندما تضبط المنبه قبل الفجر بساعة أو ساعتين لكي تقوم لتناجي ربك في جوف الليل حيث لا يراك أحد إلا الله ولا يسمع بك أحد إلا الله..
فهذه هي التقوى.. عندما تشعر بالفقراء والمساكين والمحتاجين فتخرج من جيبك إلى هذا وإلى ذاك وتخفي صدقتك, فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك.. تفعل ذلك رغبة في الجنة, وخوفاً من النار.. فهذه هي التقوى.. عندما تكون حريصاً كل الحرص على أن تعرف رأي الدين في أمر من الأمور, وتتبع كلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم دونما جدل لا تردد..
فهذه هي التقوى.. التقوى هي كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “تمام التقوى أن يتقي العبد الله عز وجل حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً”.. وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال لسائله: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم, قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه (تجنبته) أو جاوزته (قفزت من فوقه) أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر), قال أبو هريرة: ذاك التقوى.. الشوك – هو الذنوب والمعاصي.. وهو كل ما حرم الله عز وجل..
خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
ترى ماذا يحدث لو أن الأمة أصبحت أمة تقية؟!..
– ينجو الفرد وينجو المجتمع!.. “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب”.. هذا ليس للأفراد فقط بل للأمة جميعاً.. يجعل الله عز وجل للأمة مخرجاً من همومها ومشاكلها ومصاعبها.. يرزق الله الأمة من حيث لا تحتسب.. ترفع الأزمات الاقتصادية.. ويكثر الخير في أيدي الناس.. ويهابها أهل الأرض جميعاً.. “وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً”.. “إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون”..
وتخيل أمة يكون الله معها.. فمن يكون عليها؟! لا أحد!..
التقوى أيها المسلمون.. ثمرة من ثمرات رمضان.. أيها المؤمنون يجب أن نعلم أن رمضان فرصة حقيقية.. فرصة للأمة أن تبني نفسها من جديد.. فرصة للصالحين أن يزدادوا قرباً من الله.. فرصة للعصاة أن يعودوا إلى ربهم.. فرصة لرفع البلاء.. رمضان تميز للمسلمين وعزة بالهوية الإسلامية.. رمضان تربية.. وأي تربية!!.. أيها المسلمون .. هيا نقبل على شهر رمضان بنية تربية النفس, وإصلاح القلب, فصلاح الأفراد والأمم بصلاح قلوبها, ففي الحديث (..أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (متفق عليه).
وإن الله تعالى كتب علينا الصيام للوصول بالنفس إلى تقوى الله, والخوف منه سبحانه, وتعديل سلوك الناس إلى الأحسن, والتحلي بمكارم الأخلاق, قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
فالصوم جُنة وحصانة للصائم من الشرور والفتن, والصوم فيه مجاهدة لرغبات النفس والجسد, ويكسب صاحبه فضيلة الصبر والحلم, كما أنه يعود المسلم على الاهتمام بالأوقات والدقة في المواعيد, ويربي الجوارح ويهذبها شهرا كاملا حتى تخرج من رمضان شخصية إيمانية أخلاقية, تتعامل بمعاملات الإسلام وأحكامه هيا نغير من أنفسنا حتى يغير الله حالنا, قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (سورة الرعد: 11)
هيا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب ونعلن توبتنا إلى الله قبل أن نموت،
هيا نرد المظالم إلى أهلها, ونتصافي مع الخلق, قبل أن لا يكون, ونسعى لإصلاح ذات بيننا.
هيا نعلق قلوبنا بالمساجد, حتى يظلنا الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، نتواصى بالقصد والاعتدال, والبعد عن مظاهر الإسراف, والتبذير في كل شئون الحياة .
نسأل الله العظيم أن يتقبل منا الصيام ويجعل رمضان هذا تربية لنا وتزكية لنفوسنا وتهذيبا لأخلاقنا ونصرا لأمتنا وعزا لديننا . اللهم آمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق