14 مارس 2018

الأمل والعمل



الحمد لله رب العالمين الذي هدانا للإيمان، وأكرمنا بالإسلام، ووفقنا للطاعات، وجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، وجعل من بعد العسر يسرًا، ومن بعد الشدة فرجًا، 
فقال تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].

فنَحمَد سبحانه وتعالى على عظيم نِعمه، وتوالي مِننه، ودوام بره، وعظيم لُطفه، هو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، نَحمَده سبحانه وتعالى على آلائه ونِعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمدًا كما يحب ربُّنا ويرضى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك والحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، حرَّم اليأس وندَّد بالقنوط، فقال على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وقال تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾  [الحجر: 56].

وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أمرنا بالتيسير والتبشير، فرُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)).

فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحْبه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فيا أيها المؤمنون، فنحن في هذه الأيام في مسيس الحاجة إلى أن نعيش الحياة وكلنا أملٌ في الله عز وجل؛ حتى نوفَّق للعمل من أجل مرضاة الله تعالى.

لَقدْ جعلَ اللهُ - تعالَى- الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّبِ لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وصلاحٌ وفسادٌ، وسُرورٌ وحُزْنٌ، وأملٌ ويأْسٌ، ويأتِي الأملُ والتفاؤلُ كشُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دياجِيرَ الظلامِ، ويشقَّانِ دُروبَ الحياةِ للأنامِ، ويَبْعَثان في النَّفْسِ البشريَّةِ الجِدَّ والمثُابَرةَ، ويلقِّنانِها الجَلَدَ والمصُابَرَةَ، فإنَّ الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطرةِ: أَمَلُهُ في الأرباحِ، والذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ: أملُهُ في النجاحِ، والذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ أملُهُ في النصرِ، والذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ: أملُهُ في الشِّفاءِ والطُّهْرِ، والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم يَيْئَسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ تَعلُّقًا وأملًا بقولِ اللهِ تعالىَ: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

فالأمل إذًا هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومُخفف وَيْلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! والأمل - قبل ذلك كله - شيء حلو المذاق، جميل المحيَّا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق، فالموضوع ينقسم إلى عناصر:

1 - حرمة اليأس والتنديد باليائسين.
2 - أهمية الأمل في الحياة.
3 - مصادر الأمل عند المسلم.
4- الخاتمة.

العنصر الأول: حرمة اليأس والتنديد باليائسين:
لقد حرم الله تعالى اليأس واعتبره قرين الكفر، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

وندَّد بالقنوط واعتبره قرين الضلال، فقال تعالى: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56].

وأجمع العلماء أنهما من الكبائر، بل أشد تحريمًا، وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب؛ قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأْس من رَوح الله، والأمن مِن مكر الله).

وقال العدوي: (الإياس من الكبائر).

واليأْس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].

واليأس سبب لفساد القلب؛ قال ابن القيم وهو يعدِّد الكبائر: (الكبائر:.. القنوط من رحمة الله، واليأْس من َروح الله..، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن).

ولقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم على الذين ينفِّرون الناس، ويضعون الناس في موقع الدونية والهزيمة النفسية، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا قال الرجل: هلَك الناس، فهو أهلكهم)).

العنصر الثاني: أهمية الأمل في الحياة:
الأمل لا بد منه لتقدُّم العلوم، فلو وقف عباقرة العلم والاختراع عند مقررات زمنهم، ولم ينظروا إلا إلى مواضع أقدامهم، ولم يمدهم الأمل بروحه في كشف المجهول، واكتساب الجديد من الحقائق والمعارف، ما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام، ووصل بالإنسان إلى القمر.

والأمل لا بد منه لنجاح الرسالات والنهضات، وإذا فقد المصلح أمله، فقد دخل المعركة بلا سلاح يقاتل به، وبلا يد تمسك بالسلاح، فأَنَّى يرتقب له انتصار وفلاح؟

وإذا استصحب الأمل، فإن الصعب سيهون، والبعيد سيدنو، والأيام تقرب البعيد، والزمن جزء من العلاج، والمثل الأعلى للمصلحين سيدنا رسول الله صلوات الله عليه، فقد ظل في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو قومه إلى الإسلام، فيَلْقَوْن دعوته بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وحججه بالأكاذيب، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل. وقد اشتد أذى المشركين لأصحابه، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم في ثقة ويقين: ((تفرقوا في الأرض، وإن الله سيجمعكم)).

وجاءه أحد أصحابه "خباب بن الأرت"، وكانت مولاته تكوي ظهره بالحديد الْمُحمَّى، فضاق بهذا العذاب المتكرر ذرعًا، وقال للرسول في ألم: ألا تدعو لنا؟ كأنه يستبطئ سير الزمن ويستحث خطاه، ويريد حسم الموقف بين الإيمان والشرك بدعوة محمدية تهتز لها قوائم العرش، فينزل الله بأسه بالقوم المجرمين، كما أنزله بعاد وثمود والذين من بعدهم.

وغضب النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العجلة من صاحبه، وألقى عليه درسًا في الصبر على بأساء اليوم، والأمل في نصر الغد، فقال: ((إن الرجل قبلكم كان يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، وينشر بالمنشار فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده، ليظهرنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه … ولكنكم تستعجلون)).

وفي الهجرة من مكة والنبي خارج من بلده خروج المطارد المضطهد الذي يغيِّر الطريق، ويأوي إلى الغار، ويسير بالليل، ويختفي بالنهار، وانظر إليه حينما يلجأ إلى غار ثور في هجرته مع صاحبه الصديق، ويقتفي المشركون آثار قدميه، ويقول قائفهم: لم يعد محمد هذا الموضع، فإما أن يكون قد صعد إلى السماء من هنا، وإما أن يكون قد هبط إلى الأرض من هنا.

ويشتد خوف الصديق على صاحب الدعوة وخاتم النبيين، فيبكي ويقول: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له النبي: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، وكانت العاقبة ما ذكره القرآن: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

وفي الطريق يلحقه الفارس المغامر سراقة بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم - جائزة قريش لمن يأتي برأس محمد حيًّا أو ميتًا - ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول، ويكشف الله له عن الغيب المستور لدينه، فيقول له: ((يا سراقة، كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟))، فيعجب الرجل ويبهت، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: "نعم".

ويذهب الرسول إلى المدينة، ويبدأ في كفاح دام مرير مع طواغيت الشرك، وأعوان الضلال، وتسير الحرب - كما هي سنة الله - سجالاً.

حتى تأتي غزوة الأحزاب، فيتألَّب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه: قريش وغطفان، ومن يحطب في حبلهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل، موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

في هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة ... في هذه اللحظات والنبي يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة، يُحدِّث النبي أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق، فقالوا في ضيق وحنق: إن محمدًا يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده! أو كما قال القرآن: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].

ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة، فينير الطريق ويبدد الظلام؟ إنه الأمل، وإن شئت فهو الإيمان بنصر الله: ﴿ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم:5، 6].

وهَذا إبراهيمُ عليهِ السلامُ، قَدْ صارَ شَيْخًا كبيرًا ولَمْ يُرْزَقْ بَعْدُ بِوَلَدٍ، فيدفَعُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بربِّهِ أنْ يَدْعُوَهُ: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، فاستجابَ له ربُّهُ ووَهَبَ لهُ إسماعيلَ وإسحاقَ عليهما السلامُ.

وموسى حين يسري بقومه لينجو بهم من فرعون وجنوده، فيعلمون بسراه، ويحشدون الحشود ليدركوه: ﴿ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء:60، 61].

وأي إدراك أكثر من هذا؟ البحر من أمامهم والعدو من ورائهم! بيد أن موسى لم يفزع ولم يَيْئَس، بل قال: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].

ولم يضيع أمله سُدى؛ ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 63 - 67].

ونبيُّ اللهِ يعقوبُ عليهِ السلامُ، فَقَدَ ابنَهُ يوسفَ - عليهِ السلامُ - ثُمَّ أخاه، ولكنَّه لم يتسرَّبْ إلى قلبِهِ اليأسُ ولا سَرَى في عُروقِهِ القُنوطُ، بَلْ أمَّلَ ورَجا، وقالَ: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83].

وما أجَملَهُ مِنْ أَمَلٍ تُعَزِّزُهُ الثِّقَةُ باللهِ سبحانه وتعالى حينَ قالَ: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

وهذا سيدنا زكريا عليه السلام قال تعالى: ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 2 - 6].

فاستجابت له السماء: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7].

وأيوبُ عليهِ السلامُ ابتلاهُ ربُّه بِذَهابِ المالِ والوَلَدِ والعافِيَةِ، ثُمَّ ماذا؟ قالَ اللهُ تعالىَ: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].

ويونس قد ابتلعه الحوت: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].

وانظر أخي الكريم إلى سورة الشرح التي كانت تتضمن اليسر والأمل والتفاؤل للنبي صلى الله عليه وسلم، وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعم الله عليه، ثم اليسر بعد العسر، والطريق لهذا اليسر هو النَّصَب والطاعة لله عز وجل، والرغبة والأمل في موعود الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 1 - 8].

فلقَدْ كانَ رسولُنا صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الفأْلُ؛ لأنَّه حُسْنُ ظَنٍّ باللهِ سبحانه وتعالى، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أنسٍ رضي الله عنه أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ويُعجِبُنِي الفأْلُ: الكَلِمَةُ الحسَنَةُ، الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ))، فبالأملِ يذوقُ الإنسانُ طَعْمَ السعادَةِ، وبالتفاؤُلِ يحِسُّ بِبَهْجَةِ الحياةِ.

والإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه، وتمنحه دافعًا قويًّا للعمل، بينما التنفير يعزز مشاعر الإحباط واليأس لديه، ويُصيبه بالعزوف عن القيام بدوره في الحياة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا)).

وقَدْ بشَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بانتصارِ الإسلامِ وظُهورِهِ مَهْما تكالبَتْ عليهِ الأعداءُ وتألَّبَتْ عليهِ الخُصومُ؛ فعن تَمِيمِ الدَّارِيِّ رضي الله عنه، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يَتْركُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخَلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذُلًا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفرَ))؛ أخرجَه أحمدُ.

العنصر الثالث: مصادر الأمل عند المسلم:
إن هناك أركانًا أربعة لإحياء الأمل الكبير:
1- قوة الله التي لا تقهر.
2- قوة المنهج الذي لا يتغير.
3- التاريخ الحافل.
4- الواقع الماثل.

1 - قوة الله التي لا تقهر:
إننا بحاجة ماسة إلى تغذية الإيمان بالله تعالى على أساس واضح من الثقة الكاملة في قوة الله التي لا تُقهر؛ فالله وحده هو الخالق: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17]، والله وحده هو المالك لهذا الكون: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

والله وحده هو القاهر: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18].

والله وحده هو النافع الضار: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].

والله وحده هو المعز المذل: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].

فهل يليق بمسلم يرى الطائرات والبواخر العملاقة والصواريخ الفتاكة، ثم يضعف بصره عن رؤية الليل والنهار، البحار والأنهار، الماء والريح، الشمس والقمر، النور والظلمة، الحر والبرد؟! من الذي يحرك كل هذا؟ إن الله يجيب في وضوح وجلاء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر: 41].

هل قرأنا القرآن حقًّا، وأيقنا أن الماء الذي هو سر الحياة هو الذي أغرق فرعون وقوم نوح، وأن الرياح اللواقح تحوَّلت مع قوم عاد إلى لوافح: ﴿ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 42]، وأن الحجارة التي تُبنى بها البيوت والعمارات، تحوَّلت إلى هلاك لقوم لوط، فهل نوقن أن هناك جنودًا لا تُرى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31].

مثل الفيروسات والميكروبات، والإيدز والسرطان والقلق النفسي...؟! هل كان يتصور أحد أن يزول ملك فرعون على يد رجل تربى في بيته؟ وأن يتحول المستضعفون في مكة إلى ملوك الأرض في المدينة والشام ومصر، والهند والسند والمغرب العربي؟!

2 - قوة المنهج الذي لا يتغير:
إن قوة المنهج جزء من قوة الملك الذي أنزل الكتاب وأجرى السحاب وهزم الأحزاب، إنه القرآن العظيم والسنة المطهرة: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]، ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت: 42]، ولا تستطيع قوى الإنس والجن لو اجتمعت أن تأتي مثله، ولا تستطيع حضارة اليوم أن تواجه تحدي القرآن في إعجازه اللغوي والتشريعي والتاريخي والعلمي: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾ [الحج: 73]، ولذا حاول أعداء الإسلام أن يُحرفوا القرآن ويهاجموا السنة، وأن يَحطوا من شأن هذا الدين، والله تعالى في عليائه يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ﴾ [فصلت: 40].

لقد ظل الملايين في العالم يحفظون القرآن ويقرؤونه، وبقي الكتاب الأول المحفوظ في الصدور المتلو في المساجد والدور، المقروء من المؤمنين وغيرهم في المدن والقرى والكفور..، لقد بقي كالشمس الساطعة على العالم رغم أنفه، والقمر المضيء على الكون رغم ظلمته، إنه النور الذي لا يُطفأ: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ  [التوبة: 32].

فالمعركة مع القرآن مآلها الخسران، هذا وعد الرحمن للمؤمنين ووعيده للكافرين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].

لقد سبقت بريطانيا وفرنسا إلى الحرب على القرآن والسنة، وقال اللورد كرومر عندما جاء إلى مصر، جئت لأهدم ثلاثة: القرآن، والكعبة، والأزهر، وهلك دون مراده.

أيها الناس، ثِقوا في قوة القرآن والسنة، ثِقوا أن معكم أقوى سلاح على وجه الأرض؛ لأنه سلاح تعمير الأرض لا تخريبها، إحياء الموتى لا قتل الأبرياء، الحكم بالعدل وليس إشاعة الظلم، التحلي بالعفة لا التدني بالخسة، التكافل بين الأغنياء والفقراء، ليس الحقد والسرقة والاعتداء، الأمن لا الخوف، البر لا الظلم، الإحسان لا الطغيان، السكينة لا الضغينة، التواضع لا الكبر والخُيلاء، وحق لمنهج هذه بعض معالمه أن يقود وأن يسود، وأن نتحرك به في هذا الوجود؛ حتى يسطع نوره على أهل الأرض جميعًا.

3 - شهادة التاريخ تُحيي فينا الأمل:
إن التاريخ كله يعطي رسالة واضحة: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]، دوام الحال من المحال: "دولة الإسلام مع الظلم تزول، ودولة الكفر مع العدل تطول"، فكيف إذا اجتمع الكفر والظلم؟! إننا بحاجة أن نتدبر آيات واضحات: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59]،

﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58]، ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾ [النمل: 52]، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 6 - 14].

إذا كانت هذه نصوص القرآن، فهل يستطيع مَن لا يؤمن به أن يكذب التاريخ العالمي الذي يؤكد حقائق القرآن؟ أين أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان؟ أين عمالقة الهند والصين؟ أين هولاكو ولويس التاسع؟ أين نابليون بونابرت؟ أين كارل ماركس ولينين وستالين؟ أين ماركوس وتشاوتشيسكو وشاه إيران؟

﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ [القمر: 43 - 46].

وانظر أخي المسلم إلى التاريخ، فإنه خير مُصدِّقٍ لهذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم، ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتَّاكة التي ما تركت أخضر ولا يابسًا، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟ ألم تقرأ عن دخول التتار بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟

قال ابن كثير في تاريخه: إن عدة مَن قُتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون عن ألف ألف؛ أي: عن مليون، قال: قُتِلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يومًا يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين، ثم ماذا بعد ذلك أيها الإخوة؟! بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة، كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحَّدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت، لتكون نصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين، ودحرًا وكسرًا للتتار المعتدين.

ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجًا وصاروا مسلمين، وبمقياس العقل والمادة لا يمكن لأمة هُزِمت مثل هذه الهزيمة، وحلَّت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان.

4 - الواقع يبعث فينا الأمل:
دخل الاسلام وما زال ينتشر في كل دول العالم، وكل يوم نسمع عن أناس يعتنقون الإسلام برغم حملات التنصير الموجهة إلى الدول الفقيرة، ولا تزال المساجد مَلأَى، والقرآن يتلى يبعث في الأمة الأمل والعمل لإحياء مجدهم.

 موجة الحجاب بين النساء تطارد هذا العَهْر والعري العالمي؛ ليقف الطهر والنقاء في مواجهة العهر والبغاء.

 لا يزال القرآن الكريم والسنة النبوية وكتب الفكر الإسلامي - هي أكثر الكتب شراءً وانتشارًا في العالم، صفحة واحدة على الإنترنت - مثل إسلام أون لاين - يدخلها يوميًّا ثلاثة مليون مسلم وغير مسلم.

فهل بعد هذا نَيْئس؟ هل يتضاءل الأمل أم يتضاعف؟ هل تنهار أمام الباطل نوازعنا أو تقوى في الحق عزائمنا؟ هل نذوب مع العهر والتحلل والإسفاف؟ أم نتحلى بالطهر والصون والعفاف؟ هل نخاف من ظلم العباد وننسى انتقام رب الأرض والسموات؟ فإلى العمل بعد تحقيق الأمل.

العنصر الرابع: الخاتمة:
بعد هذا العرض لقضية الأمل، يبقى لنا أن ننتقل من الأماني الفارغة إلى العمل الجاد، فالأماني الفارغة لا تُغير من الواقع شيئًا، فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى وليس علينا تحقيق النتائج، وأنكر القرآن الكريم على أهل الكتاب تعلُّقهم بالأماني في دخول الجنة بغير أسبابها ومُوجباتها من العمل والإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111، 112].

وكان الإنكار على المسلمين أيضًا! فلا التسمي بالإسلام أو مجرد الانتساب إليه، يُنجِّي المسلم عند الله! قال تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123، 124].

لذا نحن مأمورون من الله بالعمل والحركة والأخذ بالأسباب، فقد أمر الله تعالى السيدة مريم وهي في شهرها الأخير من الحمل أن تأخذ بالأسباب، فقال تعالى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25].

وهنا أمر الله تعالى مريم بأن تهز النخلة ليتساقط لها الرطب، مع قدرته سبحانه على إنزال الرطب إليها من غير هز أو تحريك، ورحم الله القائل:
ألم تر أنَّ اللهَ قال لمريمَ 

وهُزِّي إليك الجذْع يَسَّاقطِ الرُّطَب
ولو شاء أن تَجنيه من غير هزِّه 

جَنَتْه ولكن كل شيء له سَببْ 

وإن مما يدل على فضل العمل والإنتاج النافع بأشكاله المباحة، ما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضله، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ)).

ولعِظَم العمل، أمرنا النبي صلي الله عليه وسلم بالعمل حتى في آخر لحظة، فقد أخرج أحمد وصححه الألباني عن أنسٍ أن النبيَ صلى الله عليه وسلم قال: ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها)).

فالعمل والحركة من سنن الله تعالى التي أخبرنا القرآن أنها لا تتبدل ولا تتحول، ولا تسمح لفارغ أو قاعد أو كسول أن يظفر بما يريد، أو يحقق ما يأمُل، بل إن سنن الله في الدنيا لا تفرق في الجزاء على العمل بين مؤمن وكافر...، فمن عمل أُجِر، ومن قعد حُرِم، مهما كان دينه أو اعتقاده، وبهذا يندفع المؤمن إلى العمل دائمًا؛ حتى لا يُصادم سننَ الله في الكون، فتَصدمه، فيكون من الهالكين.

فاللهم آمِّنَّا في أوطاننا، وأبْرِم لأمة الإسلام أمر رشد؛ يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدى فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.


ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم! اللهم آمين!


ليست هناك تعليقات: