11 مارس 2018

تأملات إيمانية في سورة البروج


الحمد لله رب العالمين .. جعل البلاء لاختبار الإيمان ، وتمحيص المؤمنين من الكافرين،واتخاذ الشهداء  فقال تعالي } إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) {آل عمران.                                        

   وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير ...جعل في قصص السابقين العبرة والعظة لأصحاب العقول والقلوب فقال تعالي } لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111){ يوسف. 

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. بين أن أكمل الناس إيمانا أشدهم إبتلاء فقال صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة). أخرجه الإمام أحمد وغيره.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .. 

  أما : بعــــد ..فيا أيها المؤمنون..   

فإن الله تعالي أنزل القرآن ليربي فينا الإيمان ، وكان الرسول صلي الله عليه وسلم  يعلمنا الإيمان قبل أن تنزل السورة من القرآن ، فنعيش اليوم مع سورة من القرآن الكريم ،والتي لها وظيفة واحدة وهي تربي فينا العقيدة السليمة ، والثبات عليها، والتضحية بالنفس والمال في سبيل العقيدة والإستسلام لقدرة الله تعالي وتردنا إلي حقيقة الإيمان بالله تعالي .هذه السورة هي سورة البروج . فنقف اليوم بمشيئته تعالي مع تأملات إيمانية في سورة البروج . وذلك من خلال هذه العناصر التالية .
1ـ التعريف بالسورة .
2ـ نظرة علي قصة أصحاب الأخدود.
3ـ الفوائد من قصة أصحاب الأخدود .
  المعينات علي الثبات أم الفتن والإبتلاءات .

العنصر الأول : التعريف بالسورة :ـ

سورة البروج مكية تعالج مسألة العقيدة ، تبدأ السورة بقسم: والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود..                            
فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة، واليوم الموعود وأحداثه الضخام، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه.. تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة.
وتتناول آياتها قصة أصحاب الأخدود وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإيمان. وقد ابتدأت السورة بالقسم بالسماء وما فيها من نجوم هائلة ومدارات ضخمة وبيوم القيامة وبالرسل (والسماء ذات البروج..) على دمار المجرمين (قتل أصحاب الأخدود..) ثم تأتي الآيات بالوعيد للفجار على ما فعلوه بالمؤمنين (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).
وتنتقل الآيات للحديث عن قدرة الله تعالى على الإنتقام من أعدائه (إن بطش ربك لشديد) ثم تختم السورة بقصة فرعون الطاغية الجبّار وما أصابه وقومه من هلاك ودمار بسبب بغيه وطغيانه وهذة القصة تناسب سياق الآيات من الحديث عن أصحاب الأخدود (هل أتاك حديث الجنود..)
وتختم السورة بآيات عن القرآن الكريم الذي حفظه الله تعالى في اللوح المحفوظ (بل هو قرآن مجيد* في لوح محفوظ) فهما كذب به المكذبون الكفار الفجرة فإنه يبقى محفوظاً من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل بقدرة الله تعالى فهو كتاب عظيم شريف يسمو على سائر الكتب السماوية بحفظ الله تعالى له.

العنصر الثاني : نظرة علي قصة أصحاب الأخدود :ـ

ما أبلغ أثر القصص القرآني والقصص النبوي ، وما أكثر العبر والعظات التي نستخلصها منها. إنها قصة أصحاب الأخدود، ذكرها الله في القرآن مختصرة فقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم : ((وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَـهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَـبُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَـاواَتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ))
وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من التفصيل : فأخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كَانَ مَلِكٌ فيِمَنْ كَانَ قبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابعَثْ إِلَيَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يعَلِّمُهُ، وَكَانَ في طَريقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمهُ فأَعْجَبهُ، – جاء في رواية الترمذي أَنَّهُ كَانَ يَقَرأ الإنْجِيل - وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِب وَقَعَدَ إِلَيْه، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فقال: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِر فَقُلْ: حبَسَنِي أَهْلي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحرُ. فَبيْنَمَا هُو عَلَى ذَلِكَ إذْ أتَى عَلَى دابَّةٍ عظِيمَة قدْ حَبَسَت النَّاس فقال: اليوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَل أم الرَّاهبُ أفْضلَ، فأخَذَ حجَرًا فقالَ: اللهُمَّ إنْ كان أمْرُ الرَّاهب أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هَذِهِ الدَّابَّة حتَّى يمْضِيَ النَّاسُ، فرَماها فقتَلَها ومَضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهب فأخبَرهُ، فقال لهُ الرَّاهبُ: أي بُنيَّ، أَنْتَ اليوْمَ أفْضلُ منِّي، قدْ بلَغَ مِنْ أمْركَ مَا أَرَى، وإِنَّكَ ستُبْتَلَى، فإنِ ابْتُليتَ فَلاَ تدُلَّ عليَّ، وكانَ الغُلامُ يبْرئُ الأكْمةَ والأبرصَ، ويدَاوي النَّاس مِنْ سائِرِ الأدوَاءِ.
 فَسَمعَ جلِيسٌ للملِكِ كانَ قدْ عمِي، فأتَاهُ بهداياَ كثيرَةٍ فقال: ما ها هنا لك أجْمَعُ إنْ أنْتَ شفَيْتني، فقال إنِّي لا أشفِي أحَدًا، إِنَّمَا يشْفِي الله تعَالى، فإنْ آمنْتَ بِاللَّهِ تعَالَى دعوْتُ الله فشَفاكَ، فآمَنَ باللَّه تعَالى فشفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليْهِ كما كانَ يجْلِسُ فقالَ لَهُ المَلكُ: منْ ردَّ علَيْك بصَرك؟ قال: ربِّي، قَالَ: ولكَ ربٌّ غيْرِي؟!
قَالَ: رَبِّي وربُّكَ الله، فأَخَذَهُ فلَمْ يزلْ يُعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الغُلاَمِ فجيءَ بِالغُلاَمِ، فقال لهُ المَلكُ: أي بُنَيَّ، قدْ بَلَغَ منْ سِحْرِك مَا تبْرئُ الأكمَهَ والأبرَصَ وتَفْعلُ وَتفْعَلُ فقالَ: إِنَّي لا أشْفي أَحَدًا، إنَّما يشْفي الله تَعَالَى، فأخَذَهُ فَلَمْ يزَلْ يعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهبِ، فجِيء بالرَّاهِبِ فقيل لَهُ: ارجَعْ عنْ دِينكَ، فأبَى، فدَعا بالمنْشَار فوُضِع المنْشَارُ في مفْرقِ رأْسِهِ، فشقَّهُ حتَّى وقَعَ شقَّاهُ، ثُمَّ جِيء بجَلِيسِ المَلكِ فقِيلَ لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ فأبَى، فوُضِعَ المنْشَارُ في مفْرِقِ رَأسِهِ، فشقَّهُ به حتَّى وقَع شقَّاهُ، ثُمَّ جيء بالغُلامِ فقِيل لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ، فأبَى، فدَفعَهُ إِلَى نَفَرٍ منْ أصْحابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ إِلَى جبَلِ كَذَا وكذَا فاصعدُوا بِهِ الجبلَ، فإذَا بلغتُمْ ذروتهُ فإنْ رجعَ عنْ دينِهِ وإِلاَّ فاطرَحوهُ، فذهبُوا به فصعدُوا بهِ الجَبَل فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شئْت، فرجَف بِهمُ الجَبَلُ فسَقطُوا، وجَاءَ يمْشي إِلَى المَلِكِ، فقالَ لَهُ المَلكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقالَ: كفانيهِمُ الله تعالَى، فدفعَهُ إِلَى نَفَرَ منْ أصْحَابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ فاحملُوه في قُرقُور وَتَوسَّطُوا بِهِ البحْرَ، فإنْ رَجَعَ عنْ دينِهِ وإلاَّ فَاقْذفُوهُ، فذَهبُوا بِهِ فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شِئْت، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينةُ فغرِقوا، وجَاءَ يمْشِي إِلَى المَلِك، فقالَ لَهُ الملِكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقال: كفانِيهمُ الله تعالَى، فقالَ للمَلِكِ إنَّك لسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تفْعلَ ما آمُركَ بِهِ، قال: ما هُوَ؟ قال: تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ خُذ سهْمًا مِنْ كنَانتِي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل: بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارمِنِي، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي. فجَمَع النَّاس في صَعيدٍ واحِدٍ، وصلَبَهُ عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سهْمًا منْ كنَانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ - ما بين عينه وأذنه- فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ، فقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، فَأُتِيَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ: أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر قَدْ وَاللَّه نَزَلَ بِك حَذرُكَ، قدْ آمنَ النَّاسُ، فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ، وَأضْرِمَ فِيها النيرانُ، وقالَ: مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا أوْ قيلَ لَهُ: اقْتَحمْ، ففعَلُوا حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا، فقال لَهَا الغُلاَمُ: يا أمَّاهْ، اصبرِي فَإِنَّكَ عَلَى الحَقِّ )) ورواه الإمام أحمد ، والترمذي في باب سورة البروج .

قال أهل التفسير: إن هذه القصة حدثت في الفترة ما بين عيسى عليه السلام وبعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، حدثت للمؤمنين من نصارى نجران . وقال بعض المفسرين إن قصة الأخدود تعدد وقوعها فوقعت لمؤمنين في بلاد فارس ولمؤمنين في بلاد الشام وعلى مؤمنين في نجران وهي التي ذكرها الله في القرآن . نستلهم العبر من القصة

العنصر الثالث :الفوائد من قصة أصحاب الأخدود :ـ

1ـ الصراع بين الحق والباطل مستمر إلي يوم القيامة :ـ  

حرص أهل الباطل علي توريث باطهلم حيث طلب الساحر من الملك أن يرسل إليه غلاما يعلمه السحر وكانت هذه عقيدتهم السائدة فخشي أن تندثر ، فمن باب أولي أن يحرص أهل الحق علي توريث حقهم ،فالأطفال اليوم وإن كانوا أطفالاً, فهم في الغد رجال, سيحملون ما يحملون من أفكار، وربما مجدد العصر يكون بين هذه الأطفال.
إن علاقتنا مع أطفالنا علاقة عضوية فقط, علاقة طعام وشراب ونسب. أما علاقة التربية فهي منقطعة، فالتربية هي: عملية بناء الطفل شيئًا فشيئًا إلى حد التمام والكمال.
والتربية مأمور بها الإنسان المسلم لأولاده: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6], "ما من مولود يُولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه".
 2ـ تأسي بأهل البلاء :ـ

أن فيها تسلية للمؤمنين المعذبين في مكة وتأنيس وتثبيت لقلوبهم حيث ذكرهم ربهم بما كان يلقاه من وحَّد الله قبلهم من الشدائد ، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به ، ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... )) وهو درس لأهل الإيمان في كل الأزمان فيما ينالهم من ظلم أهل البغي والطغيان .
3ـ دينك دينك لحمك دمك .. (عظمة العقيدة)

أن الدين والعقيدة والإيمان هو الذي تبذل من أجله النفوس ، ويصبر من أجله على الصعاب ، ولو كان ذلك على حساب الدنيا ، فالغلام إنما بذل نفسه من أجل التوحيد ومن أجل إظهار الدعوة للإيمان بالله ، ودخول الناس في دين الله ، مع صغر سنه ، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار وكذلك جليس الملك ، وكذلك من آمن وصبر على الإلقاء في النار .
وهذا ما يجب على أهل الإيمان : أن يكون غضبهم من أجل الدين ، وجهادهم لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل الدنيا ، هذا ما يجب أن تكون عليه الراية في جهاد الطلب ف(( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) لا من قاتل لتكون كلمة الشعب وإرادتهم هي العليا كما يعبرون .
أما قتال الدفع فدائرته أوسع فإن من قتل دون عرضه ودون ماله ودون نفسه فهو شهيد .
فالإيمان إذا خالطت بشاشته وحلاوته القلوب هانت معه الدنيا بأسرها وأنست هذه الحلاوة كل ألم يلقاه العبد .
فتأملوا كيف صبر المؤمنون على النشر بالمنشار وعلى الإحراق بالنار ، فلولا أنهم ذاقوا حلاوة الإيمان لما ثبتوا ولما آثروا الإلقاء في النار على الرجوع عن الإيمان ، ومن قبلهم قص الله علينا صبر السحرة على التصليب وقطع الأيدي والأرجل على يد فرعون لما ذاقوا حلاوة الإيمان، وفي هذا دعوة للمؤمنين أن سعوا إلى تقوية إيمانهم ليصلوا إلى تذوق هذه البشاشة والحلاوة .                                                                  

  4ـ الإصرار على نشر الدعوة:ـ  

 لابد أن تكون صاحب رسالة، ولا تحيا لكي تأكل،وتشرب، وتتزوج، وتنجب، وتموت فقط، هذه ليست حياة لإنسان يريد أن يحمل رسالة.
عش بالحق وضَحي من أجل الحق ولو بحياتك، وواجه الظلم ولكن بحكمة،وبدون عنف، واكشف الباطل بحكمة أيضًا.
عش من أجل الناس وخدمتهم، ولا تخدم الظالمين.
فالحياة قصيرة، لذلك إياك أن تهين نفسك من أجل الظلم، أو من أجل لقمة العيش، لأن الحياة لا تساوي شيئًا. 

  ولقد رأينا إصرار الغلام علي نشر الرسالة وتبليغها للناس ،وهذا يؤخذ من هذا المشهد الذي تكرر مرتين في الحديث "وجاء يمشي للملك". فلماذا بعدما نجا في المرة الأولى وفي المرة الثانية لم يهرب بل عاد إلى الملك الظالم؟
أيقن أن في عنقه رسالة لا بُدَّ أنه مؤديها؛ لذلك عاد مرة تلو المرة.. إنه يعطي درسًا عظيمًا للدعاة في الإصرار على الدعوة، وفي الإصرار على إظهار الحق وتحديه للباطل.
وعلم أنه لابد أن يكون للحق قوة عريضة من الأمة  حيث طلب هذا الغلام من الملك أن يجمع له الناس على صعيد واحد..
ولو سألنا أنفسنا لماذا طلب الغلام هذا الطلب، يتبين لنا أن المبدأ السليم والفكر الصحيح إذا استفاض واعتنقه عامة الناس، لم يقف أمامه طغيان طاغٍ أو ظلم ظالم.
لذلك طلب موسى أن يجتمع الناس في وقت متميز هو يوم عـيد، وفي ساعة متميزة هي وقت الضحى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59].
وإن أغلب الأفكار إذا لم يتبناها عامة الناس تضيع، أو ربما تؤجل. وعلى هذا فإن الإسلام لن ينتشر بالنُّخبة أو الطبقة المثقفة وحدها، فلا بد أن تتبناه عامة الناس في بيوتهم وفي معاملتهم.

5ـ الكفر كله ملة واحدة :ـ

 إن أهل الكفر والطغيان تتشابه قلوبهم ومواقفهم تجاه أهل الإيمان في كل الأزمان، فتأملوا كيف أشار الله إلى جفاء أصحاب الأخدود وغلظة قلوبهم وقسوتها وهم يباشرون إلقاء أهل الإيمان في النار، بنسائهم وأطفالهم وشيوخهم ((النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)) قاعدون أمام النار والأخدود يشهدون عذاب المؤمنين ((وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)) هذه جريرة أهل الإيمان : أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد .

6ـ وما ربك بغافل عما يعملون :ـ

فالله تعالي هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود . . وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين , وتهدد العتاة المتجبرين . فالله كان شهيدا . وكفى بالله شهيدا .
فلا يظنن ظآن من أهل الإيمان أن ما يفعله أهل الظلم والطغيان غائب عن نظر العظيم الدّيّان الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرّماً ، فقد قال الله في معرض الآيات ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَـاواَتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ)) ما يقع يقع في ملك الله الذي له ملك السموات والأرض وهو شهيد على كل شيء ((وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ...))إبراهيم .

7ـ  تحديد مفهوم النصر:ـ

حيث قام هذا الغلام -الذي هو أفضل بكثير من رجال في هذه الأمة- بتوضيح مفهوم النصر..
وليس مفهوم النصر أن ينتصر الغلام، إنما المفهوم الحقيقي للنصر هو انتصار المبدأ السليم والفكر الصحيح.
وهذا واضح من خلال دلالة هذا الغلام الملك على طريقة قتله، فلو كان مفهوم النصر نصرًا للأفراد والأشخاص وليس للمبدأ، لم يدله على هذه الطريقة، وإنما بيَّن للناس جميعًا أن المفهوم الحقيقي للنصر هو انتصار المبدأ لا انتصار الأفراد والأشخاص.
وتتمثل في الثبات على مبدأ الحق الذي سطع، وذلك من خلال الفقرة التي مثلت صورة الأم مع طفلها وقول الطفل: "يا أماه اصبري، فإنك على حق".

ولقد انتصر الغلام  انتصارات متعددة منها :ـ
1. انتصر الغلام بإخضاع الملك لإرادته بأنه لم يتنازل عن مبدأه.
2. انتصر الغلام والناس بكسبهم الجنة، فالشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.
3. انتصر الغلام والناس بذكرهم في التاريخ.
4. انتصر الغلام حين نجح في إحداث التغيير لكن دون عنف.
5. انتصر الغلام حين نجح في أن يجعل من دائرة تأثيره أكبروأكبر حتى أصبحت أوسع من دائرة الملك وأصبح هو المؤثر. وأصبح الملك ملكا بدون شعب .
6. انتصروا حينما علموناأن الحياة قصيرة.

إذن فلماذا لا ينتصر الله للمؤمنين ؟ لماذا لا ينتصر الله عاجلا للمظلومين ؟

إنه يجب علينا كمؤمنين أن نعتقد جازمين بأن أفعال الرب جل جلاله تصدر عن حكمة بالغة، ووفق سنن كونية وشرعية لا يعلم تحققها إلا هو سبحانه فالنصر والإستخلاف والتمكين والنصرة لها أسباب وشروط وموانع وحِكَم ((وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ... )) فإذا أملى له الرب تبارك وتعالى في الدنيا ولم يعاقبه فلا ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ )) فالدنيا أحقر عند الله من جناح البعوضة ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ .... إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)).
العنصر الرابع :ـ المعينات علي الثنات أمام الفتن والإنتلاءات :ـ

 ـ صدق الالتجاء إلى الله تعالى مع صدق الإيمان هو طريق النجاة والسلامة من طغيان الطغاة ، فقد كفى الله الغلام شر أصحاب الملك مرتين بصدق التجائه إلى الله وامتلاء قلبه باليقين بالله ، ولم يكن له حول ولا قوة بهم فقال ملتجئاً : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) فكفاه الله فأهلكهم وأنجاه .

ـ معايشة أسماء الله الحسني }إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16){ البروج.
ـ فعال لما يريد . . فهو مطلق الإرادة , يختار ما يشاء ; ويفعل ما يريده ويختاره , دائما أبدا , فتلك صفته سبحانه .
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها . ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها . . يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض . ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود . . لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك , في قدره المرسوم . .

وأن ما ينزل بالمؤمنين من المصائب والشدائد ليس ضربات تقع هكذا ضربة لازب، ولا هي خبط عشواء، ولكنّه يصبهم وفق قدر الله المعلوم، وقضائه المرسوم، ووفق حكمته وكتابته: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان:2 (سُنَّةَ اللَّهِ فـي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الأحزاب:38، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُورا) الأحزاب: من الآية38، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)القمر:49، فآمن المؤمنون الصادقون بأنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم...(ما أصاب من مصيبة فـي الأرض ولا فـي أنفسكم إلا فـي كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) الحديد: 22 .وعرفوا أن من صفة الله تعالى أن يقدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه الله تعالى عن قدره فذلك لقصور نظره (إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم) يوسف: 100.
وعرفوا من لطف ربهم تعالى أنّ هذه الشدائد دروس قيمة لهم، وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم، تنضح نفوسهم، وتصقل إيمانهم، وتذهب صدأ قلوبهم قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: 'إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك أو الحمى كمثل حديدة تدخل النار فـيذهب خبثها، ويبقى طيبها'. وما أبلغ ما قال الرافعي 'ما أشبه النّكبة بالبيضة، تحسب سجناً لما فـيها وهي تحوطه، وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلّا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة، فـيخرج خلق آخر.وما المؤمن فـي دنياه إلاّ كالفرخ فـي بيضته: عمله أن يتكون فـيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فـيخرج إلى عالمه الكامل'.

ـ الثبات علي المبدأ من أهم صفات المؤمنين .. ولعل صفة الثبات على المبدأ من أهم الصفات التي يجب أن يتمتع بها الإنسان المسلم في عصرنا هذا وفي كل العصور، ولا سيما ونحن نرى سرعة تخلي الإنسان عن مبدئه مقابل عَرَضٍ من الحياة الدنيا، وصدق رسول الله : "يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا".

ـ التقرب إلى الله والإقبال على القرآن:

فلا بد لنا أثناء المحن والشدائد من أن نحسن صلتنا وعلاقتنا بالله فله سبحانه ومن أجله يقف الدعاة المواقف التي تُعرِّضهم للمحن، والله وحده المعين والرابط على القلوبِ والمثبت لها، ووسائل التقرب والالتجاء إلى الله كثيرة ولا نستطيع أن نُحصيها هنا، ولكن كل واحد منا أدرى بنفسه وبعيوبها وبما يُصلحها فيجب عليه الإكثار من الوسائل المعينة له على القربِ من الله.
القرآن العظيم الوسيلة الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسَّك به عصمه الله ومَن اتبعه أنجاه الله، ومَن دعا إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيم.
نصَّ الله على أنَّ وظيفةَ هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجَّمًا مفصلاً هي التثبيت، فقال- تعالى- في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)﴾ (الفرقان).
فالقرآن مصدرٌ للتثبيت والعون في المحنة لأنه يزرع الإيمان ويُزكي النفس بالصلة بالله، كما أنَّ تلك الآيات تنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله؛ ولأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوِّم الأوضاعَ من حوله، وكذا الموازين التي تُهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلافِ الأحداث والأشخاص، كما أنه يرد على الشبهات التي يُثيرها أعداء الإسلام من الكفارِ والمنافقين كالأمثلةِ الحية التي عاشها الصدر الأول.

ـ معرفة حقيقة الباطل ومخططاته وعدم الاغترار به مهما تجبّر وتكبّر:

قال الله عز وجل:( لا يغرنّك تقلب الذين كفروا فـي البلاد ) آل عمران:196، تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم.وقوله عز وجل:( فأما الزبد فـيذهب جفاء) الرعد:17،عبرة لأولي الألباب فـي عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) الأنعام:55،حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام. وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت، ودعاة زلت أقدامهم، فتساقطوا وفقدوا الثبات لمّا أتوا- بسبب جهلهم بأعدائهم-من حيث لم يحتسبوا.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا علي الحق وأن يعلي بنا راية الحق ، وأن يعز الإسلام والمسلمين بحولك وقوتك يارب العالمين .
اللهم آمين



ليست هناك تعليقات: