6 مارس 2018

الجدية في حياة المسلم




الحمد لله  رب العالمين .. القوي المتين أمر المسلم بالجدية والعزم فقال تعالي ( يا يحي خذ الكتاب بقوة ) مريم . 12.  
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير . أمر الجميع بأخذ الأمور بقوة وترك الهزل .فقال تعالي ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) الأعراف 171. وقال تعالي (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) الأنعام 91. 
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم حثنا علي أخذ الأمور بجد وعزم فكان يستعيذ بالله من العجز والكسل فقال صلي الله عليه وسلم ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) .                                   
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . 
أما بعـد :ــ فيا أيها المؤمنون  
 فإن غاية الإسلام من أتباعه تكوين أمة صالحة تصلح للخلافة وإعمار الأرض ، لتحافظ علي كيانها ، وترتقي بنفسها إلي المعالي ، ولن يكون ذلك إلا بالتحلي بالجدية والإيجابية ، وأن يبدأ كل بنفسه ، منتقلا من مقعد النقد إلي موقع العمل محركا للأحداث آخذا بزمام الأمر مؤمنا بدوره في الحياة ومستعينا بربه دون أن يعبأ بالمعوقين أو يتأثر بالعوام . 
لذلك كان حديثنا عن الجدية في حياة المسلم من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية :ــ 
   1ـ تعريف الجدية .  
  2ـ الجدية في طلب العلم . 
  3ـ أهمية الجدية. 
  4ـ خطر الهزل . 
 5ـ مظاهر الجدية . 
 6ـ حقيقة الجدية في حياة النبي صلي الله عليه وسلم السلف الصالح . 
 العنصر الأول :ــ تعريف الجدية :ــ 
 ضد الهزل ، والتهاون والضعف والرخاوة . وهي " إنفاذ التكاليف الشرعية والدعوية توا مع المثابرة والدأب ، وتسخير كل الإمكانات المتاحة ومغالبة الأعذار والعراقيل التي تعترض سبيلها . 
لهذا فإنك ترى أن آيات القرآن تقول:" إنه لقول فصل* وما هو بالهزل"...لتؤكد مدى تغلغل الجدية في أوامر القرآن.. 
 العنصر الثاني: الجدية في طلب العلم:ـ  
  قال الإمام مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم، وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول: أثقل الساعات علي: ساعة آكل فيها. 
كان أحدهم ليحزن ويصيبه المرض إذا فاته شيء من العلم، فقد ذكروا لشعبة حديثا لم يسمعه، فجعل يقول: واحزناه! وكان يقول: إني لأذكر الحديث فيفوتني، فأمرض.
عن عبد الرحمن بن تيمية قال عن أبيه: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع ـ  وهذا الإمام  أبو يوسف القاضي، كان شديد الملازمة لشيخه أبى حنيفة ، لازم مجلسه أكثر من  17 سنة ، ما فاته صلاة الغداة معه ، ولا فارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض ، ( روى محمد  بن قدامة ، قال : سمعت شجاع بن مخلد ، قال : سمعت أبا يوسف يقول : مات ابن لي، فلم أحضر جهازه ولا دفنه وتركته على جيراني وأقربائي ، مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عنى ) .
وهذا الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالي يقول عن نفسه : " حفظت القرآن ولي سبع سنين ، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين ، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة ". 
ومما يدل على علو همته  وقوة تحصيله ما أخبر به عن نفسه قال : " جاءني يوماً رجل فسألني عن شيء في علم العروض ، ولم أكن نشطت له قبل ذلك ، فقلت له : إذا كان غداً فتعال إلىَّ " ، وطلب سِفْرَ العروض للخليل بن أحمد ، فجاءوا له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة ، يقول : " فأمسيت غير عروضي ، وأصبحت عروضياً . 
 العنصر الثالث: أهمية الجدية  :ـــ  
الجدية صفة أساسية وخلق لازم للمؤمنين الذين عاهدوا الله على أن يحيوا لدعوته، أو يموتُوا في سبيلها، حيث تطبع بصماتها وتتحلى مظاهرها في جُل المواقف والأحوال. ونلمس هذا المعنى من ذلك النداء الرباني في قوله تعالى:﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ (مريم: من الآية12) 
• يقول الإمام ابن كثير ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ أي: تعلم الكتاب بقوة، أي بجد وحرص واجتهاد. 
• ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: من الآية12) أي الفهم والعلم، والجد والعزم، والإقبال على الخير والإنكباب عليه، والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث. 
فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ والكتاب هو التوارة..  
وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونُودي ليحمل العبء، وينهض بالأمانة في قوة وعزم، ولا يضعف ولا يتهاون، ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة . 
• الجدية ضرورية لأن بها تؤدي التكاليف والواجبات. وتبلع الرسالات وتنتشر الدعوات ويتغلب على العقبات والمشقات وتتحقق أسمى الأهداف والغايات.. وبدون الجدية تبدد الجهود المبذولة.. وتذيل شجرة الدعوة، وتخبو رايتها ويتأخر الركب، ويتقدم الأعداء.. وتضيع الأمانة. 
 العنصر الرابع : خطر الهزل :ــ 
عدم الجدية يؤدي إلي الوقوع في المعصية والنفاق والعياذ بالله . فسبب المعصية الأولى هو النسيان وقلة العزم والجدية، وهذا يتقاسمه كل بني البشر، وهي المنافذ الأولى التي يخترقها الشيطان من الإنسان، (ولقد عهدنا إلي آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) . طه .75.  
لذا كان الرسل ودعواتهم على مستوى من الجدية بقدر ما يمنع عنهم الخطأ ويحقق العصمة، وتفاوت بعضهم في العزم حتى تميّزوا بـ"أولوا العزم من الرسل" ... 
ولو تأملنا آيات القرآن الكريم ونظرنا إلي أهم صفات المنافقين، وأول ملحظ تلحظه هو انعدام الجدية من حياة هؤلاء قال تعالي (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) التوبة ، وكذا عند معرض وصفه لعبادتهم :قال تعالي (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) النساء ، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم صفاتهم كذلك إذ يقول :" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر " متفق عليه .
ولقد اتفق العلماء قديما على أن المراد من النفاق هنا النفاق الأصغر لا الأكبر، ولكنهم أوّلوا الحديث على أن هذه الأفعال هي تهيئة ليصير الإنسان منافقا حقيقيا .
فحياة المنافقين إذن فوضى معلنة على كل ما هو رمز للجد والعزم، لذا فهو تربة خصبة لوساوس الشيطان بل جندي وفيّ له "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون"  
وفي المقابل، صفات المؤمنين : "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون … "الذين هم على صلاتهم دائمون …" والآيات في هذا الباب أكثر من أن تعد .. 
ومن السنة النبوية : قوله صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" ..فالإيمان بالله يستلزم منك استحضارا لخشية الله ومراقبة له وهو "التقوى"، وإيمانك باليوم الآخر يرفع من مستوى مسئوليتك العملية بالتالي يستدعي استنهاض الحس ويقظة الروح والتزام الجدية .. "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا"، فلا يقول كلاما قد يخرج به عن الجادة ويقع في المحظور "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار" رواه الترمذي .
العنصر الخامس : مظاهر الجدية  :ـــ 
للجدية مظاهر وعلامات نذكر أهمها، ليفتش كل امرئ عنها في نفسه، فإن وجدها فليحمد الله، وليستقم عليها، وإن غابت عنه، فليجاهد نفسه، ليتحلى بها، حتى يكون لبنة قوية سوية في البنيان . 
  لقد حرص النبي ( صلي الله عليه وسلم ) كل الحرص على أن تكون الجدية والمسئولية رمزا في حياة المسلم ... 
لذلك ربي المسلم علي هذه المظاهر :ـ 
1ــ أن يكون جديا في أمور دنياه، في معاملته مع أهله وجيرانه وأفراد مجتمعه "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، 
متحريا للمال الحلال ثم إيداعه في المكان الحلال "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه" رواه الترمذي، 
إنه استحضار لذلك الموقف العظيم يدفعه إلى الجدية وروح المسئولية .
3ـ الجدية في أمور دينه، في عباداته ونسكه، الجدية في العمل على تطبيق أحكام الله في أرضه . 
4ـ الحرص على الوقت، واغتنامه في طاعة الله، وخدمة دعوته، وتفقد إخوانه، وصلة أرحامه، وقضاء حوائج لناس....
5ـ التنفيذ الفوري للتكاليف، وعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد، فلا تراخِيَ، ولا تسويف حتى لا تتراكم الأعمال، ويقع ما لا تحمد عقباه. 
نراه على أكمل وجه عند تحريم الخمر، لما نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ (المائدة:90-91)، فما إن نزلت، وحملها الصحابة إلى إخوانهم وهم يشربون، حتى كفوا فورًا، واستجابوا لأمر الله، وقالوا: انتهينا... انتهينا!! 
ورأينا هذه الاستجابة الفورية كذلك في موقف نساء الأنصار من آيات الخمار، فما إن انقلب الرجال إلى البيوت يتلون كلام الله تعالى ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور: من الآية31)... حتى قُمْن لتوِّهِن إلى مروطهِنَّ لشقها والتلفح بها، حتى جئن في صلاة الفجر، وكأن على رؤوسهن الغربان، لم تتلكَّأْ واحدةٌ في امتثال الأمر، وفي سيرة هؤلاء العظماء من الرجال والنساء الكثير والكثير...!! 
6ـ مغالبة الأعذار والعراقيل :ـ  ومن أكبر المظاهر وأصدقها مغالبة الصعوبات والأعذار، فالمسلم الجاد لا يستسلم أمام المشقات، ولا يضعف أمام العقبات، بل يغالبها، ويبحث دائمًا عن مخارج، ويضاعف الجهد، ويحرص على المشاركة حتى آخر لحظة بأقصى ما يملك. 
نراها في الأخذ بالعزائم، والحرص على أداء الواجب والمشاركة فيه مهما كانت الظروف. 
فهذا عمرو بن الجموح- رضي الله عنه- يريد أن يخرج للجهاد، فيمنعه أبناؤه، لأنه أعرج قيصر.. فيخبره رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالرخصة، فيقول الصحابي: لعلي أطأ بعرجتي هذه الجنة، وقد كان. 
وهؤلاء أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستجيبون لندائه- صلى الله عليه وسلم- غداة يوم أُحد بالخروج إلى حمراء الأسد، فيلبُّون النداء على ما بهم من جراحات شديدة.. حتى كان يحمل الأقل جرحًا أخاه الأشد جرحًا، بعد فقد الظهر الذي كان يحمله.
وهذا الكهل الذي التحق بكتائب الجهاد وقد تدلَّى حاجباه وانحنَى صلبه، فقال له شاب: يا عمَّاه، قد وضع الله عنك وعن أضرابك الجهاد فردَّ الرجل باكيًا: يا بنيَّ، لم أجد اللهُ أعفَى أحدًا حين قال ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ (التوبة: من الآية41)
 فالمسلم الجاد لا تقعده الدنيا بزخارفها الفانية، ولا يلجأ إلى الأعذار التافهة؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.
7 ـ القوة والعزم :ـ  
رأيناها بجلاء في سيرة الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- وهم ينهضون بتكاليف هذا الدين.. فهذا عمر- رضي الله عنه- عند هجرته يقف متحديًا قريشًا قائلاً: (إني مهاجرٌ، فمن أراد أن تثكله أمه أوتتأيَّم امرأته أو يُيَتَّم ولده فليتبعني، فلم يجرؤ أن يراجعه أحد)، وهؤلاء الأبطال المغاوير من الصحابة- رضي الله عنهم- الذين خرجوا لغزو حمراء الأسد، وقد أثخنتهم الجراح، وفقدوا الظهر في "أُحد" منذ سويعات، فما وهنو لما أصابهم في سبيل الله، بل قاموا بقوة الأبطال وعزم الرجال لملاحقة المشركين، حتى كان الأخف جرحًا يحمل أخاه الأثقل إصابةً.. 
وهذا العملاق الفذ "جعفر بن أبي طالب"- رضي الله عنه- في عزوة مؤته تُقطع يُمناه التي تَحمل الراية فيرفعها بيُسراه فتلحق هي الأخرى بأختها فيحتضنها بعضدية حتى تظل خفاقة مرفرفة ما بقيت فيه عين تطرف- رضي الله عنهم أجمعين .
8ـ المثابرة والدأب
العمل المتصل بجدّ وتعب نراه على أكمل وجه في تبليغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لهذه الدعوة في السر والعلن، والعسر واليسر بلا كَلَلٍ ولا مَلَل.. ولما أراد قومه أن يثنوه بالترغيب والترهيب... قال كلمة أولى العزئم الماضية، والهمم العالية: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، وظل صحابته- رضوان الله عليهم- ما ضين على درب الحق في دأب ومثابرة وجدّ، فتركوا الأوطان والديار والأهل والولد والمال، وجاهدوا بالنفس والمال، وواجهوا مكائد المشركين والمنافقين واليهود والفرس والروم، وركبوا الصعاب وخاضوا المعامع، حتى مكَّن الله بهم لهذا الدين، فخفقت راياته في كل الأرجاء وعزَّ سلطانه، وعمَّ نفوذه ممالِكَ ذلك الزمان. 
والمثابرة في طلب العلم ، يقول بعض السلف : اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ الطفولة إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلى الأسواق ومعه المحبرة - الدواة التي فيها الحبر - وسنه كبيرة  فيُقال : لا تزال تحمل المحبرة ؟ فيقول : مع المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم. 
 وقيل لابن المبارك : إلي متي تطلب العلم قال حتي الممات إن شاء الله . 
وقد روي في الأثر " إذا أتي علي يوم لم أزد فيه علما يقربني من الله عز وجل فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم " ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا .. لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم. 
  وروي عن العالم البيروني يتعلم مسألة في الفرائض وهو في مرض موته !. 
9ـ وتسخير الإمكانات (من نفس ومال، وولد وأهل.. وكل ما يملك المرء) :ـ 
نجده بارزًا في سيرة خير القرون، فإن حياتهم كلها كانت جهادًا وتضحية في سبيل نصرة هذا الدين.  
فهذا الصديق- رضي الله عنه- يأتي بماله كلِّه، ويقول: تركت لهم الله ورسوله، وهذا عثمان- رضي الله عنه- يجهِّز جيشًا كاملاً في غزوة العسرة (تبوك). 
وهذه المرأة الصالحة التي لم تجد ما تقدمه لنصرة دينها، فتدفع بصبيها الصغير إلى ساحة القتال وتعطيه سيفًا، وتقول له: ادفع به الأذى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا يقوى على حمله فتربطه في ساعده ثم تقف تراقبه، وقد امتلأت فخرًا فإذا به يتلقَّى إصابةً تتفجر على أثرها دماؤه، فينظر إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائلاً لعلَّكِ جزعت فترد: لا والله يا رسول الله، كلُّ مصيبةٍ دونَك جَلَل (أي تهون) 
العنصر السادس :حقيقة الجدية في حياة النبي صلي الله عليه وسلم والسلف الصالح :ــ 
من أراد أن يعرف حقيقة الجدية، ويراها واقعًا عمليًا، فعَلَيه بسيرة السلف الصالح- رضي الله عنهم-. 
نسوق فيما يلي بعض المواقف العملية عسى أن تنفث روح الجدية في قلوب السائرين، فينطلقوا إلى تحقيق الأهداف:
1ـ لما نزل قول الله تعالى في بداية الدعوة: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً﴾ (المزمل:1-4) إذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم قيامًا طويلاً، حتى أشفقت عليه خديجة -رضي الله عنها- فدعته إلى أن يطمئن وينام فقال لها: "مضى عهد النوم يا خديجة".وظل هذا شأنه -صلى الله عليه وسلم- إلى أن لقى ربه.  
وتبعه في هذا الأمر أصحابه رضوان الله عليهم فشقوا على أنفسهم مشقة بالغة، وما خفف عنهم إلا قوله تعالى في آخر السورة: ﴿إِنَّ رَبّ يَعْلَمُ أَنك تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعك وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ (المزمل: من الآية  20 )  
2ـ وموقف مؤمن آل فرعون لما سمع بتآمر فرعون وجنده على قتل موسى عليه السلام، فتحرك على الفور وحاورهم قائلاً: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ (غافر: من الآية28) واستمر في الحوار حتى انفرد بالقيادة بعد تفوقه على عدوه، ثم أعلن صراحة موفقه بعد ذلك قائلاً الآية ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر:38) فانتقل من موقع النقاد إلى موقع العاملين، ولم يفته أن يبلغ موسى عليه السلام بالمؤامرة؛ ليأخذ حذره وقد كان ونجاه الله من فرعون وجنده الطغاة.  
3ـ ولما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق -رضى الله عنه- إلى الإسلام فأسلم، إذا بالصديق رضى الله عنه يستشعر المسئولية، ويجدُّ في الدعوة الفردية، فيسلم على يدية صفوة من خيار الصحابة: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكانوا نعم الأعمدة الشامخة لدعوة الله، ونصرة الإسلام. 
 سيدنا أبو بكر الصديق....النحيف..ضعيف الجسد..قوي الهمة والإرادة... كان يقول عن نفسه: (والله ما نمت فحلمت, ولا سهوت فغفلت, وإنني على الطريق ما زغت)... هذه الكلمات تعبر عن مدى تغلغل مفهوم الجدية في نفس أبي بكر فالعمر قصير والهدف سام...ولا وقت للهزل...فمن جد وجد.... 
 4ـ أثناء معركة القادسية  تقدم من سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه رجل كفيف..وهو عبدالله بن أم مكتوم وكان مؤذناً لرسول الله مع بلال...وانضم إلى الجيش رغم أن الجهاد رفع عنه لأنه كفيف..وطلب أن يمسك باللواء...فرفض سعد بشدة وقال له: كيف..؟ وأنت كفيف.. فقال له عبدالله..يا سعد إن المبصر إذا رأى الفرس فسيهرب..ولكنني لا أرى شيئاً فسأثبت مكاني... فقال سعد: صدقت...وأعطاه اللواء..وبعد المعركة وجدوه شهيداً و اللواء في يده... 
5ـ وهذا صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- القائد العظيم يسيطر عليه همّ الأقصى الأسير، فلا يمزح ولا يضحك ويقول: " إنى لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي الصليبين" فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه. 
ــ إن الجيل الأول الذي تربى في حضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدرك أن الإسلام جاء ليحرره من كل الأغلال والقيود لينطلق في ربوع الأرض بكل حزم وجد، ينشر هذه الدعوة لتحرير البشرية، ولا يتقاعس في سبيل ذلك لأنها ليست من سماته، بل يمضي قُدما في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل، فيقوم صحابي جليل ،واعٍ لرسالته، قد عقد العزم ألا يكون من المتخاذلين، قام هذا الصحابي وهو ربعي بن عامر – رضي الله عنه- في وجه كسرى ملك الفرس ليجيبه بكل ثقة وصدق وعزم : "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ..."
يا له من خطاب حضاري رائق .. قاله ذاك المسلم الواعي منذ 14 قرنا من الزمان ..  
6ـ ميسون امرأة أحيت أمه
– المرأة: اسمها ميسون.
– المكان: دمشق .
– الزمان: يوم من أيام سنة 607 هـ .
–   المحنة: هجوم الصليبين الغزاة كالطوفان يُدمِّر كلَّ مَن يقف أمامه .
ومحنتها: استشهاد إخوتها الأربعة في جهاد المقدس .
– ماذا يمكن أن تفعل امرأة عزلاء في مواجهة هذه الحجافل؟
نعم.. امرأة وحدها لا تقوى على عمل شيء لكنها امرأة صاغها الإيمان خلقًا آخر، فقلبت الموازين وأدارت دفة الأمور وغيرت مجرى الأحداث، نزل الإيمان قلبها فإذا بها تحس أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزًّا وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل والمدد الذي لا ينقطع والبأس الذي يفل الحديد ويدك الحصون.
تلك المرأة جمعت النساء اللاتي حضرن يواسينها ويعزينها، وقالت لهن: إننا لم نخلق رجالاً نحمل السيوف، ولكن إذا عجز الرجال لم نعجز نحن عن العمل، وهذا والله شعري أثمن ما أملك، أنزل عنه اجعله قيدًا لفرس تقاتل في سبيل الله لعلي أحرك به هؤلاءالأموات.. وأخذت المقص فجزَّت شعرها وصنعت النساء صنيعها، ثم جلسن يضفرن لجمًا وقيودًا لخيل المعركة الفاصلة، لا يضفر ليوم زفاف أو ليلة عرس وأرسلت هذه اللجم والقيود إلى خطيب الجامع الأموي الإمام (سبط بن الجوزي) فحمله إلى الجامع يوم الجمعة، وقعد في المقصورة (المنبر) وحبس هذه اللجم والقيود بين يديه والدمع يترقرق من عينيه ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله وينظر بعضهم إلى بعض، حتى قام وخطب خطبة حروفها من نار تلدغ أكباد من يسمعها وكلماتها سحر.  
ومما قام الإمام(سبط بن الجوزي) – يا مَن أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم ويهدوا البشر إلى دينهم فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم في دينهم. 
– يا مَن باع أجدادهم نفوسهم لله بأن لهم الجنة وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة. 
يا أيها الناس:ـ ما لكم نسيتم دينكم وتركتم عزتكم وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين. 
– أما يهز قلوبكم ويزيد حماستكم إخوان لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف؟!!.
– أما في البلد عربي؟! أما في البلد مسلم؟! أما في البلد إنسان؟!. 
– أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يسربلون باللهب ويخوضون النار ويتألمون على الجمر؟!. 
 – مَن لم يهب لنصرة فلسطين فلن يكون عربيًّا ولا مسلمًا ولا إنسانًا. 
يا أيها الناس: إنها قد دارت رحى الحرب ونادى منادي الجهاد وفُتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، وخذوا أنتم المجامر والمكاحل.. فإلى الخيول وهاكم لجمها وقيودها.. 
يا ناس أتدرون مم صُنعت هذه اللجم والقفيد؟!.. لقد صنعتها النساء من شعورهن؛ لأنهن لا يملكن شيئًا غيرها يساعدن به فلسطين، هذه والله ضفائر النساء التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظًا قطعنها؛ لأن تاريخ الحب قد انتهى، وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة الحرب في سبيل الله والأرض والعروبة.  
فإذا لم تقدروا على الخيول تقيدونها بها فخذوها واجعلوها لكم ذوائب وضفائر، فإنها من شعور النساء..
ألم يبق في نفوسكم شعور؟!. 
وألقاها من فوقِ المنبر على رءوس الناس وصرخ: تصدعي يا قبة النسر، ميدي يا عُمد المسجد، وانقضى يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم. 
فصاح الناس صيحةً ما سُمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت.. فجاء النصر المبين على يد امرأة واحدة أيقظت أمةً نائمة . 
إن الجيل الأول قد تربى على حياة الجد والعزم، فحطّم الأصنام الطينية والخشبية ثم انتقل إلى تحطيم الأصنام البشرية، فعاشت البشرية جمعاء على اختلاف أديانها ومعتقداتها في جو لم تشهد ولن تشهد مثله إلا تحت ظل الإسلام ورايته : 
 جو سادته الحرية والعدل والاحترام والتعاون والتكافل ...
إني تذكرت والذكرى مؤرقة                مجداً تليداً بأيدينا أضعناه 
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد           تجده كالطير مقصوصاً جناحاه 
كم صرفتنا يد كنا نصرفها             وبات يحكمنا شعب ملكناه 
 استرشد الغرب بالماضي فأرشده              ونحن كان لنا ماض نسيناه 
 إنا مشينا وراء الغرب نقتبس              من ضيائه فأصابتنا شظاياه 
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب             بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا 
وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها                عمن بناه لعل الصخر ينعاه 
كنا أسوداً ملوك الأرض ترهبنا               والآن أصبح فأر الدار نخشاه 
يا من رأى عمر تكسوه بردته                    والزيت أدم له والكوخ مأواه 
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً              من بأسه وملوك الروم تخشاه
* هذا، وليعلم المسلم أنه (لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها)، فيجتهد كل امرئ أن يرى الله من نفسه خيرًا، وليكن وثيق الصلة بالله حتى يكون ربانيًا، وليكن نشيطًا في العمل من أجل إرضاء الله تعالي فرديا وجماعيا . 
إننا مدعوُّون اليوم للنهوض بهذه الأمة إلى مستوى الجدية والمسئولية اللازمة حتى تسترجع مشعل القيادة من جديد كما حمله أسلافها من قبل .. 
فاللهم إنا نعوذ بك من الكسل والعجز والهرم .. إنك ولي ذلك والقادر عليه .                                   
رابط الموضوع :ـ

ليست هناك تعليقات: