المقدمــة
الحمد لله رب العالمين. يحي الموتى ويكتب ما قدموا وآثارهم فقال تعالى }إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ (12){ ] يس[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير .. أمر بالعمل والإيجابية فقال تعالى }وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (105){ ] التوبة[.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ).. أوصى أتباعه بأن يترك كل واحد فيهم أثر لنفسه بعد مماته ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله (ﷺ): }إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له{ [أخرجه مسلم]
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد : فيا أيها المؤمنون .
إِنَّ مِنَ الْحِرْمَانِ الْعَظِيمِ وَالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ مُجَرَّدَ رَقْمٍ فِي قَائِمَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الْبَشَرِ، لَيْسَ لَهُمْ وَزْنٌ فِي قِيَمِ الْأَخْلَاقِ وَلَا يُشَكِّلُونَ ثِقَلًا فِي مَسِيرَةِ السُّلُوكِ.
فمن أعظم نِعَم الله تعالى على عباده أن هيأ لهم الفرصة لتخليد ذكراهم وكسب الحسنات بعد الممات ، قال الله تعالى: }إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ (12){ ] يس[
لذلك كان حديثنا عن الأثر بعنوان } كن ذا أثر{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ تعريف الأثر .
2ـ أهمية صناعة الأثر الحسن .
3ـ مجالات صناعة الأثر .
4ـ سمات صاحب الأثر الحسن.
5ـ هل يستوي الأثر الحسن والأثر السيئ.
6ـ الخاتمة .
=======
العنصر الأول : تعريف الأثر:
الأثر في اللغة هو: بقية الشيء، وهو العلامة الفرعية التي تدل على أصل الشيء فالأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فلو وجدت بعراً في
طريق فإنك تعرف أنه قد مر من هذا الطريق بعير.
والأثر هو: طول العمر كما ورد في الحديث الشريف ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ{. ]أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ[.
والأثر : هو ما يتركه الإنسان من أعمال بعد مماته سواء صالحة أو غير صالحة.
العنصر الثاني : أهمية صناعة الأثر الحسن :
أيها المؤمنون .. الْجَمِيعُ سَيُغَادِرُ الدنيا ومن فيها ، وسيفارق الأهل والدار، وَمِنْ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَى تَحْتِهَا، ثُمَّ إِلَى الدَّارِ الْأُخْرَى؛ قال تعالى }ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8){[الْجُمُعَةِ] ، وكل هذا معلوم للجميع وليس فيه شك ، ولكن مَا يَجِبُ السُّؤَالُ عَنْهُ هُوَ: عَلَى مَاذَا سَيَكُونُ رَحِيلُكَ؟
وَمَا الَّذِي خَلَّفْتَهُ وَرَاءَكَ؟!
هَلْ تَرَكْتَ ثَمَرًا يَدُومُ عَطَاؤُهُ وَذِكْرًا حَسَنًا، أَمْ شَوْكًا يَسْتَمِرُّ وَخْزُهُ ، وذِكْرًا سَيِّئًا؟!
إذا مات العبد وفاضَتْ روحُه إلى باريها، وانتقل إلى ربه، فلن يكون معه بعد موته إلا ما قدَّمه في حياته مِن أعمال، إن كانت صالحة فهنيئًا له؛ فلقد فاز بالخير العظيم، وإن كانت سيئةً فوا حسرتاه ؛ فلقد خاب وخسِر، وضيع نفسه.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله (ﷺ):}يتبع الميتَ ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد؛ يتبعه: أهله، وماله، وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله{ ]البخاري ومسلم[.
إِنَّ السِّيرَةَ الْحَسَنَةَ قَوْلًا وَسُلُوكًا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ هِيَ عُمْرٌ ثَانٍ، وَآثَارُهُ الطَّيِّبَةُ تُشَكِّلُ تَارِيخًا جَدِيدًا تَخْلُقُ لَدَى الْآخَرِينَ رَغْبَةً فِي الاقتداء به ِ، وَتَبْعَثُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حُبًّا فِي الِاتِّصَافِ بِهِ؛ نَاهِيكَ عَنِ التَّرَحُّمِ عَلَى صَاحِبِ تِلْكَ الْآثَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَصَدَقَ شَوْقِي يَوْمَ قَالَ:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي
وَفِي الْحِكْمَةِ: "لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ أَنْ تُضِيفَ سَنَوَاتٍ إِلَى حَيَاتِكَ، وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ أَنْ تُضِيفَ حَيَاةً إِلَى سَنَوَاتِكَ".
رسخ النبي (ﷺ) لصناعة الأثر، لتستمر الحياة على الأرض ،لذلك أمر الإنسان بالعمل والإنتاج حتى آخر لحظة في حياته ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه
قال: قال (ﷺ): }إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها{.]صحيح على شرط مسلم[
اعلم أن العمل الذي يقوم به الإنسان نوعان:
1- عمل لازمٌ:
وهو ما كان نافعًا للعامل فقط، فأجرُه له؛ كالأذكار، والصلاة مثلاً، وينتهي بموت الإنسان ، ومن أهمية هذا العمل اللازم أنه وقود للعمل المتعدي.
۲- عملٌ مُتَعَدٍّ وهو ما يسمى عند أهل السلوك (ترك الأثر):
وهو ما كان نفعُه للعامل ولغيره ؛ كالدلالة على فعل الخير، فهو أوسعُ في الانتفاع، وربما أعظمُ في الأجر، وهو باب واسعٌ لاستمرار الحسنات، وذلك للجوانب التالية:
(أ) أن العمل المتعدي هو جانب كبير من جوانب الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(ب) أنه تنمية للإيجابية النافعة للآخرين لدى الإنسان.
(ج) أنه بمثابة الصدقة الجارية التي يستمرُّ نفعُها لك.
(د) أنه نشر للعلم وبيان للشريعة.
ولهذه الأسباب وأمثالِها، صار العمل المتعدي أحيانًا أفضلَ من العمل اللازم، فحاوِل جاهدًا ألَّا تحضر مكانًا إلا ويكونُ لك فيه أثر إيجابي، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، واجعل هذا سجيةً لك، فلا تستقل شيئًا من ذلك، قال تعالى }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7){[الزلزلة]
لا يستصغرن المرء أثراً يتركه مهما صغُر, فإنه ربما يبارك له فيه فيصير عند الله عظيماً, وربما تعظم فائدته للناس على صغره فيظلون يدعون له ويذكرونه بخير ما بقي أثره على الأرض ، حيث يَجْرِي لك أجرُه في حياتك، وبعد مماتك.
العنصر الثالث : مجالات صناعة الأثر الحسن:
قال تعالى : }إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ (12){ ] يس[
قال الإمام ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى: }وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ {: أي من الأعمال ، وفي قوله: }وَءَاثَٰرَهُمۡۚ{ قولان: أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم, وآثارهم التي أثروها من بعدهم فيجزيهم على ذلك أيضاً, إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.
والمراد آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : }خَلَتِ البِقَاعُ حَوْلَ المَسْجِدِ، فأرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إلى قُرْبِ المَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذلكَ رَسولَ اللهِ (ﷺ)، فَقالَ لهمْ: إنَّه بَلَغَنِي أنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المَسْجِدِ، قالوا: نَعَمْ يا رَسولَ اللهِ، قدْ أَرَدْنَا ذلكَ، فَقالَ: يا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ{ ] مسلم[. أي الْزَموا دِيارَكم واثْبُتوا فيها، ولا تَنْتَقِلوا عنها، «تُكْتَبْ آثارُكم»، أي: تُكتَبْ لكم خُطاكم إلى المسجِدِ؛ فإنَّ ما تَخْطونَهُ إلى المسجِدِ يُكْتَبُ لكم به أَجْرٌ.
ولقد أعطى النبي (ﷺ)القدوة من نفسه من أول يوم نزول الوحي عليه عندما قال لأمنا خديجة رضي الله عنها (لقد خشيت على نفسي)؛ فقالت له: }كلا والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق{.
إن الأعمار مضروبةٌ، والآجال مقسومة، وكل واحدٍ قد كُتِب له حظُّه في هذه الحياة، وأنت أيها الإنسان منذ خرجتَ إلى الدنيا وأنت تهدم في عمرك، وتنقص من أجلك، وتبني في قبرك، فهَبْ أنك متَّ الآن؟ فما آثارك بعد الموت؟
ما الأعمال المباركة التي تُنسَب إليك بعد موتك، وتنال عليها أجرًا؟
قد مات قومٌ وما ماتَتْ مكارمُهم *** وعاش قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ
إن آثار الإنسان التي تبقى وتُذكَر بعده من خير أو شر يجازى عليها؛
فالله تعالى يكتُبُ آثار الخير وآثار الشر التي كان هؤلاء سببًا في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، يكتُب الله الأعمالَ التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خيرٍ يعمله بشرٌ؛ مِن نشرِ علم نافع، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر ، يكتبه الله تعالى.
فمن كرم الله تعالى علينا ورحمته بأن جعل مجالات صناعة الأثر متنوعة حتى يتمكن كل فرد أن يصنع له أثراً بعد مماته ، فيختار كل فرد ما يلائم إمكاناته وما يتوافق مع قدراته ومواهبه كما كان صحابة رسول الله (ﷺ) الذين تركوا أثراً فاعلاً في شتى مجالات الحياة؛ فكل نفع متعد يغرس خيراً وتصلح به الحياة يُعَد أثراً طيباً؛ فأفضل العبادات أكثرها نفعاً ، لقد كان مِن دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام: }وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84){[الشعراء]، يا رب اجعل لي ذكرًا جميلًا بين عبادك المؤمنين، واجعل لي أثرًا حسنًا فيمَن يأتي مِن بعدي.
إن مِن عظيم نِعَمِ الله تعالى على عبادِه المؤمنين أنْ هيَّأ لهم أبوابًا مِن البر والخير، يقوم بها العبد في هذه الحياة، ويجري ثوابُها عليه بعد موته، من هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر ...
١- الدعوة إلى الله وسَنُّ سُنة حسنة:
إن مِن أعظم الأعمال أجرًا وثوابًا بعد الموت الدعوةَ إلى طريق ربِّ العالَمين، وإرشاد الحائرين، وهداية الضالِّين، ولأجل هذا قال النبيُّ (ﷺ) لعليٍّ رضي الله عنه:}والله لأَنْ يُهدَى بك رجل واحدٌ، خيرٌ لك مِن حُمْر النَّعَم{ ]متفق عليه[.
إنها لتجارةٌ رابحة أن تأخذَ أجرًا على ما لم تعمل يدُك، لقد كنت سببًا في هداية
غيرك، فكلُّ ما يعمله مِن خير يُكتَب لك مِن الأجر مثلُ ما يكتب له، فهنيئًا لكم يا
دعاة الهُدى!
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله (ﷺ)، قال:} مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجر مثلُ أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مِن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا{ ]أخرجه مسلم[.
وقال رسول الله (ﷺ):} مَن دل على خيرٍ، فله مثلُ أجرِ فاعله{؛ ]مسلم[.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال (ﷺ): }مَن سنَّ في الإسلام سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومَن سنّ في الإسلام سُنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده من غير أن يُنقص من أوزارهم شيئاً{ [ رواه مسلم ].
لن تخسرَ شيئًا إذا دعوتَ غيرَك إلى طريق الحق، بل إنك تربحُ ثوابًا عظيمًا بدلالتِك الناس على الخير، فإن تبليغ دعوةِ الإسلام واجبُ المسلمين جميعًا، كلٌّ حسَبَ قدرته، وفي الحديث عن عبدالله بن عمرو، أن النبي (ﷺ)قال: }بلِّغوا عني ولو آية{ ]البخاري[.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }نضَّر اللهُ امرأً سمِع مقالتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها{ ]أحمد، والترمذي، وابن ماجه، بسند حسن[.
٢- نشر العلم النافع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله (ﷺ)قال:}إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملُه إلا مِن ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له{ ]مسلمٌ[.
فانشُرْ علمًا نافعًا تنعَمْ في قبرك ويَزِدِ اللهُ في أجرك، وانظُرْ كم انتفع خلقٌ لا يحصيهم إلا الله تعالى بكتابٍ مثلِ صحيح البخاري، ولا ريب أن كل قارئٍ حديثًا
أخرجه البخاريُّ للبخاري رحمه الله فيه مِن الأجر والثواب الحظُّ الكبير.
بآثارهم اقتدي إنهم رجال آثروا ترك بصماتهم في الحياة، فخلَّد التاريخ ذكرهم، صنَعوا حضارة أُمَّتِهم، فكانت نهضتهم خيرًا ونورًا على العالمين، وكانوا المصابيح التي استضاء بها الغرب في ظلمته الظلماء، فإليك طرفًا من أخبارهم:
كرِّر عليَّ حديثهم يا حادي *** فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي
وهذا هو الحسن وعِلمه الحسن: إنه الحسن بن الهيثم، وُلِدَ في مدينة البصرة بالعراق، درس الطب والفلك، والهندسة والرياضة، والطبيعة. أهم مؤلفاته في البصريات كتاب (المناظر)، درس فيه نظرية انكسار الضوء وانعكاسه في البيئات الشفَّافة كالماء والهواء الذي بقي مرجِعًا لهذا العِلم في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر، والذي كاد فيه أن يتوصل إلى المبدأ الطبيعي الذي يقوم عليه
المجهر والمرصد (المنظار المكبِّر والمنظار المقرِّب). له مؤلفات في المكتبة الأهلية في باريس ومخطوطات يُعالِج فيها فروعًا للهندسة، وله مخطوطات في مكتبتي ليدن وبودلي في أكسفورد، وله 43 كتابًا في الفلسفة والطبيعة، و25 كتابًا في العلوم الرياضية و21 كتابًا في الهندسة، و20 كتابًا في الفلك والحساب.
وقد ذكر أن مجموع ما وصل إلينا من كتبه قد بلغ مائتي كتاب، وكان في كل كتبه رحمه الله يفتتحها بهذه الجملة الرائعة: "أنا ما دامت لي الحياة فإني باذل جهدي وعقلي مستفرغ طاقتي في العلم لثلاثة أمور:
1- إفادة من يطلب العلم في حياتي وبعد مماتي.
2- ذخيرة لي في قبري ويوم حسابي.
3- رفعة لسلطان المسلمين".
٣- الصدقة:
قال الله تعالى: } مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245){[البقرة]، وقال سبحانه: }مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261){ [البقرة].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله (ﷺ):} مَن تصدَّق بعدل تمرةٍ مِن كَسْبٍ طيِّب، ولا يقبَلُ الله إلا الطيِّب، وإن الله يتقبَّلُها بيمينِه، ثم يُربِّيها لصاحبه كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه، حتى تكون مثلَ الجبل{ ]البخاري[.
إن من أكثر الأعمال نماءً، وأعظمها أجرًا وثوابًا: الصدقةَ والإنفاق في سبيل الله تعالى.
٤- الصدقة الجارية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله (ﷺ): }إن مما يلحق المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمه ونشَرَه، أو ولدًا صالحًا تركه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا كَرَاهُ، أو صدقةً أخرجها مِن ماله في صحته وحياته، تلحَقُه مِن بعد موته{ ]أخرجه ابن ماجه، بسند حسن في الشواهد[
إن الإنسان العاقل يحرِصُ على أفضلِ الأعمال، وأعظمها ثوابًا، وأجذلها عطاءً؛ فهو إذا جاء يتصدَّق، بَحَثَ عن صدقةٍ يجري عليه ثواُبها بعد موته، ولا تموت بموته أو بصرفها.
ولقد كان في تاريخنا الإسلاميِّ أوقافٌ وقفها رجال صالحون، فماتوا وبقِيَت أوقافهم ينتفع بها المسلمون أزمنة مديدة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ (ﷺ) يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أُصِبْ مالًا قط هو أنفَسُ عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:}إن شئتَ حبستَ أصلها، وتصدقت بها، قال: فتصدَّق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير مُتموِّلٍ فيه{ ]أخرجه مسلم[.
وجهز عثمان جيش العسرة (تبوك) رجب 9هـ
واشترى بئر رومة للمسلمين : هذه البئر هي أولُ سبيلٍ لسقي الماء في الإسلام، وثاني وقف خيرٍ بعد أرضِ المسجد النبوي، وقد أثمرت هذه البئرُ أشجارًا ومزارع ومباني وحدائق، بل أصبحت حيًّا كاملًا مِن أراضي أحياء المدينة المنورة، وما زال الناس يتمتعون بخيراتها، وقام على توسيع المسجد الحرام ،
وتوسيع المسجد النبوي ، وإنشاء أول أسطول بحري إسلامي ، وجمع القرآن الكريم بلغة قريش .
كل هذه الأعمال تُوضع في صحيفة سيدنا عثمان ابن عفان .
لأنه قام بسد ثغرات كبيرة أرهقت المسلمين وكادت أن تُجلب لهم الأذى والعَنَت, والذل والهوان ، فرحم الله عثمان ذي النورين رضي الله عنه .
٥- غرس الغرس:
أكد النبي (ﷺ) أن الإنسان لو لم يُجني في حياته ثمرة أثره؛ يُعد أثراً يبقى له وللأجيال من بعده، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة{ ] البخاري ومسلم[.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):}ما من مسلم يغرِسُ غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سُرِق منه له صدقة، وما أكل السَّبُع منه فهو له صدقة، وما أكلتِ الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة{ ] مسلم[.
وحكي أن كسرى خرج يومًا يتصيد فوجد شيخًا كبيراً يغرس شجر الزيتون فوقف عليه وقال له: يا هذا، أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه؟! فقال: أيها الملك، زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل، فقال له كسرى: زه وكانت عادة ملوك الفرس إذا قال الملك منهم هذه اللفظة أعطى ألف دينار ،فأعطاها الرجل فقال له: أيها الملك، شجر الزيتون لا يثمر إلا في نحو ثلاثين سنة، وهذه الزيتونة قد أثمرت في وقت غراسها، فقال
كسرى: زه، فأعطى ألف دينار، فقال له: أيها الملك، شجر الزيتون لا يثمر إلا في العام مرة، وهذه قد أثمرت في وقت واحد مرتين! فقال له: زه، فأعطى ألف
دينار أخرى، وساق جواده مسرعًا وقال: إن أطلنا الوقوف عنده نفد ما في خزائننا" ] فيض القدير[
٦- تربية الولد الصالح:
سبق في الحديث الصحيح: }إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا مِن ثلاث: ... - ومنها - ولد صالح يدعو له{.
وفي الحديث:}إن مما يلحق المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعد موته: ولدًا صالحًا تركه{.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله (ﷺ):}إنَّ أطيبَ ما أكل الرجل مِن كسبه، وإن ولدَه مِن كسبه{؛ ]أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وإسنادُه ضعيفٌ، لكن له شواهد يحسُنُ بها[.
إن الولد الصالح مما ينفع والده نفعًا عظيمًا بعد موته..
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ:}إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ{ ]رواه ابن ماجه وحسّنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة[
وروي الطبراني عن النبي (ﷺ) "يتبع الرجل يوم القيامة أمثال الجبال من الحسنات فيقول: يا رب أني هذا ؟ فيقول باستغفار ولدك لك "
يقولُ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن أمّه : حفَّظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنين، وكانت توقظني قبل صلاة الفجر، وتُحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة، وتُلبسني ملابسي ثم تتخمر وتتغطى بحجابها، وتذهب معي إلى المسجد لبعد بيتنا عن المسجد ولظلمة الطريق، وكانت تقوم بتربيته التربية الصالحة حتى صار إمام لأهل السنة فكل ما قدمه الإمام أحمد من أثر أمه رحمها الله تعالى .
وهذا نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين) والخاتون عصمة الدين (والدة صلاح الدين )..
قال نجم الدين أيوب.. أريد أن أتزوج امرأة تتّق الله، يكون لي منها ولد, تحسن تربيته، حتى يكون فارسا يفتح الله على يديه بيت المقدس! فكان مرة جالسا في قصر الملك، فإذا به يسمع امرأة تحدّث الملك من وراء حجاب، يقول لها الملك، عندما تقدم لها رجل للزواج، ورفضت: لما لم تقبليه زوجا؟ فأجابت: إني لا أريده؛ إنما أريد رجلا يتق الله، يكون لي منه ولد, يحسن تربيته, حتى يكون فارسا يفتح الله على يديه بيت المقدس! فتعجّب نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين) ممّا سمع، فهو نفس كلامه الذي يحلم بتحقيقه, مع أنه لم يرها ولم يقابلها أبدا في حياته!
إنما حقّق الله له هدفه...(فتأمل أخي عندما يضع الإنسان هدفا أمامه و يثق بالله!)
عندها طلب نجم الدين من الملك أن يزوجه تلك المرأة، وفعلا تمّ ذلك.. وأنجبا
صلاح الدين..
صلاح الدين الأيوبي الذي كان يقول (لولا أنّ الموت أتاني لجعلت جميع الدول الأوروبيّة إسلامية)
أن كل ما يعمَلُه الابن مِن عمل صالح يكون في ميزانِ والده، إذا كان والده مسلمًا،
إن كثيرًا من الآباء يحرِصون على تعليم أبنائهم ليحصُلوا على أفضل الوظائف والمناصب، ويغفُلون كثيرًا عن تعليمهم العلمَ الذي يُقرِّبُهم من الله تعالى، بل لا يُكلِّف بعضهم نفسه عناءَ سؤال ولده: يا بُنيَّ، هل صليتَ ؟ هل حفِظتَ شيئًا مِن كتاب الله؟ هل قلتَ أذكار الصباح والمساء ؟ إلى غير ذلك من هذه الأشياء...
٧- الموت في الرباط في سبيل الله:
وعن سلمانَ رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله (ﷺ) يقول: }رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ مِن صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي
كان يعمَلُه، وأُجرِي عليه رزقه، وأَمِنَ الفتَّان{ ]أخرجه مسلم[.
وعن فَضالةَ بنِ عُبَيد رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله (ﷺ) يقول:}كلُّ ميت يُختَم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه ينمو عملُه إلى يوم القيامة، ويأمن فتنةَ القبر{ ]أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، بسند صحيح[.
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى :
إذا مات ابنُ آدمَ ليس يجري عليه مِن فعالٍ غيرُ عشرِ ...
علومٌ بثَّها، ودعاءُ نجلٍ ، وغرسُ النخلِ والصَّدَقاتُ تَجْري ،وراثةُ مصحفٍ، ورِباطُ ثغرٍ ، وحفرُ البئرِ، أو إجراءُ نهرِ، وبيتٌ للغريبِ بناه يأوي إليه،
أو بناه محلَّ ذكرِ، وتعليمٌ لقرآنٍ كريمٍ ، فخُذْها مِن أحاديثٍ بحصرِ.
وَهَكَذَا مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا أَوْ أَوْقَفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقْفًا، وَمَنْ أَجْرَى نَهْرًا أَوْ كَفَلَ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ نَشَرَ عِلْمًا أَوْ طَبَّقَ سُنَّةً وَعَلَّمَهَا أَوِ امْتَثَلَ سُلُوكًا وَنَشَرَهُ؛
فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا آثَارٌ طَيِّبَةٌ وَذِكْرَى حَسَنَةٌ يَجْرِي لِصَاحِبِهَا ثَوَابٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ.
العنصر الرابع : أهم سمات صاحب الأثر الحسن :
1ـ أنه يبني باطنه وظاهره ، لذلك يجعل الآخرة نصب عينيه ومبادئه وقيمه راسخة .قال تعالى } وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا (19){ ] الإسراء[
2ـ يعلم جيداً أن هذا من توفيق الله له ويكون حاله كحال أهل الجنة كما قالوا }وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ (43) { ] الأعراف[ ، ويوقن أن الله تعالى إذا فتح أبواب رحمته لعبده وفّقه لعمل له أثر
طيب ، وبارك له فيه ، وضاعف نفعه وفضله، قال (ﷺ)}سَبَق درهم مائة ألف درهم{.
3ـ صاحب هدف عظيم يسعى إليه : همه رضا الله تعالى وفقط ، لذلك كان قصده من وراء ذلك هو ابتغاء مرضاة الله، وأنه لا ينتظر ثناءً ولا مدحاً من أحد .
ومن روائع التاريخ قصة صاحب النقب، كان مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش للمسلمين يحاصرون قلعة عظيمة للروم، ولكن القلعة استعصت على جيش المسلمين لارتفاع أسوارها ولإغلاق جميع المنافذ إليها، الأمر الذي ساعد جنود الروم، فأخذوا يقذفون جيش المسلمين من أعلاها، فازداد تعب وانهاك جنود المسلمين ، وفي الليل قام أحد جنود المسلمين بفكرة عظيمة، إذ أنه تخفى بمفرده إلى أن وصل باب القلعة وظل ينقب فيه وينقب ،حتى استطاع أن يُحدث به نقباً
ثم رجع دون أن يُخبر أحداً، وعند الغد تأهب المسلمون للقتال كعادتهم، فدخل هذا البطل من النقب ، وقام بفتح الباب فتدافع المسلمون وتسلقوا أسوار القلعة، وما هي إلا لحظات حتى سمع الروم أصوات تكبيرات المسلمين على أسوار قلعتهم وداخل ساحتها فتحقق لهم النصر ، وبعد المعركة جمع القائد مسلمة بن عبدالملك الجيش، ونادى بأعلى صوته مَن أحدث النقب في باب القلعة فليخرج لنُكافئه ، فلم يخرج أحد ، فعاد وقالها مرة أخرى : من أحدث النقب فليخرج ، فلم يخرج أحد، ثم وقف من الغد وأعاد ما قاله بالأمس، فلم يخرج أحد، وفي اليوم الثالث، وقف وقال : أقسمتُ على من أحدث النقب أن يأتيني أي وقت يشاء من ليل أو نهار،
وعند حلول الليل والقائد يجلس في خيمته، دخل عليه رجلٌ ملثم، فقال مسلمة :
هل أنت صاحب النقب؟! فقال الرجل : إنَّ صاحب النقب يريد أن يبر قسم أميره ولكن لديه ثلاثة شروط حتى يلبيَ الطلب ، فقال مسلمة : وماهي؟!
قال الرجل :
1- ألا تسودوا اسمه في صحيفة.
2- ولا ترسلوا اسمه إلى الخليفة .
3- ولا تأمروا له بعطاء.
فقال مسلمة : له ما طلب ، فخرج صاحب النقب واختفى بين الجند لا يُعرف له حال ولا يُعلم له صفة، وكان مسلمة رحمه الله كلما صلى في صلاته وسجد وكان قريباً من ربه بدأ يدعو: اللهم اجعلني مع صاحب النقب، اللهم اجعلني مع صاحب النقب، اللهم اجعلني مع صاحب النقب؛ لأن هذا الرجل لا يريد بعمله جزاءً ولا شكوراًً، وإنما يريد الجزاء الأوفى عند الله سبحانه وتعالى ". ] عيون الأخبار لابن قتيبة[
فجهل الناس بجهده وسعيه لا يُضيره؛ لأن علم الله يحيط بكل خفي وجلي، قال جل من قائل: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ (20)}.] المزمل[
وَقَوْلُهُ تَعَالَى }إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9){[الْإِنْسَانِ].
ومن أروع ما أُثر عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى "وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَعَلَّمُوا هَذِهِ الْكُتُبَ، وَلَمْ يَنْسُبُوهَا إِلَيَّ "
وأوضح الإسلام أن ظهور أثر المسلم في حياته وبعد مماته من عاجل البشارة بالتوفيق والقبول من الله تعالى، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قيل لرسول الله (ﷺ): }أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟ قالَ: تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ. وفي روايةٍ: وَيُحِبُّهُ النَّاسُ عليه.] { صحيح مسلم[
4ـ هو النموذج المثمر، حيثما حل نفع فسلوكه قدوة وسيرته منارة إشعاع.
5ـ هو كالغيث إذا أقبل استبشر به الناس، وإذا حَطَّ نفعهم، وإن رحل ظَلّ أثره فيهم.
6ـ عظيم الهمة لا يقنع بملء أوقاته بالطاعات وإنما يفكر ألا تموت حسناته بموته.
7ـ وهو الحيُّ بأعماله بين الناس حتى وإن نُقل إلى منازل الأموات.
8ـ يعيش في معية الله وحفظه : الأثر الطيب الذي يصنعه الإنسان في مسيرة حياته يورث معية الله وحفظه.
9ـ أثره يثمر في ذريته : العبد كلما أصلح قلبه واقترب من ربه أثمر أثره؛ يقول الله تعالى { وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا (82)}] الكهف[.
10ـ صاحب الأثر تبكي عليه السماء والأرض: صاحب الأثر الطيب يبكي عليه موضعان : موضع في الأرض وموضع في السماء ، أما الموضع الذي في الأرض قال تعالى عن فرعون } فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29){ ] الدخان[ ، وأما الموضع الذي في السماء قال تعالى { إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُ}] فاطر[
وعن قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: }مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: "الْعَبْدُ
الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ{ ]الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ[.
11ـ عالي الهمة يدرك قيمة ما يقدم : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل فهو يطلب الجنة وظل عرش الرحمن يوم القيامة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ: }سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ{ ]رواه البخاري ومسلم[
العنصر الخامس : هل يستوي الأثر الحسن والأثر السيء ؟
قال تعالى } قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ ٱلۡخَبِيثِۚ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (100){ ] المائدة[
كما أن صاحب الأثر الحسن يجني ثمرة عمله في الدنيا والآخرة ، كذلك صاحب السيئ يجني وزر أثره في الدنيا والآخرة ، قال تعالى }لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25) {[النَّحْلِ]
وَقَال تعالى:}وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13){ [الْعَنْكَبُوتِ].
فمثلاً جَرِيمَةُ الْقَتْلِ لها أثر سيئ على البشرية جمعاء ، يجني أَثَرها ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ (قَابِيلَ)؛ فَهُوَ أَوَّلُ مُبَاشِرٍ لَهُ، وَعَنْهُ أَخَذَتِ الْبَشَرِيَّةُ، وَمِنْ حِينِهَا يَجْنِي عَوَاقِبَ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَتِلْكَ الْجَرِيمَةِ، وَيَحْمِلُ وِزْرَهَا وَوِزْرَ مَنْ قَارَفَهَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: }لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ{ ]الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ النَّسَائِيِّ [
هَلْ يَسْتَوِي صاحب هذا الأثر مَعَ مَنْ أَمْضَى عُمْرَهُ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ وَفَكِّهَا وَصَوْنِ الْأَنْفُسِ وَرِعَايَتِهَا ، وَإِطْعَامِ الْبُطُونِ وَرَيِّهَا، وَكُسْوَةِ الْأَجْسَادِ وَسَتْرِهَا؟!
لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أبداً.
وَأيضاً عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيِّ أول من جَلَبَ الْأَصْنَامُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ فَكُلُّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَانَ لِجَالِبِهَا أَوْفَرُ الْإِثْمِ وَالنَّصِيبِ، رآه النبي عليه الصلاة والسلام في النار يجر أمعاءه ويدور فيها كما يدور الحمار حول الرحى. قال تعالى } بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (٢٣){ ] الزخرف[
هَلْ يَسْتَوِي الْخُزَاعِيُّ وَمَنْ أَوْقَفَ حَيَاتَهُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْحِيحِ عَقَائِدِ النَّاسِ لِرَبِّهِمْ سبحانه وتعالى؟! لَا يَسْتَوُونَ مَثَلًا.
وَكذلك صَاحِبُ الْأَغَانِي الْمَاجِنَةِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ الْهَابِطَةِ وَالصُّوَرِ الْخَلِيعَةِ ، والأفكار الهدامة وَانْتِشَارِهَا بين الناس ، فَهِيَ أَثَرٌ سَيِّءٌ يُلَاحِقُ صاحبها بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَجْلِبُ عَلَيْه وِزْرَ مَنْ سَمِعَهَا وَشَاهَدَهَا !
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ أَمْضَى عُمْرَهُ فِي تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَسَاهَمَ فِي تَعْلِيمِهَا وَنَشْرِهَا فَيَجْرِي أَجْرُهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا؟! لَا يَسْتَوُونَ أَبَدًا.
الخاتمة..
اعْلَمْ أخي المسلم ...
أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَصْمَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ عُمْرِكَ، وَاللَّوْحَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ حَيَاتِكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ زَوَالِهَا.
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ *** وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ *** وَإِنْ أَسَاؤُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا
لَيْسَ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ قِيمَةٌ إِذَا رَضِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَيْشَ فِي غَيَاهِبِ السُّكُونِ؛ فَإِذَا لَمْ تَزِدْ شَيْئًا عَلَى الْحَيَاةِ كُنْتَ زَائِدًا عَلَيْهَا، وكان الرافعي رحمه الله يقول: "إذا لم تزد شيئًا على الحياة، كنت زائدًا عليها".
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ أَثَرًا قَبْلَ مَمَاتِهِ دُفِنَ وَلَا شَيْءَ يُذْكَرُ وَرَاءَهُ؛ دُونَ أَنْ يُسَجِّلَ عَنْهُ التَّارِيخُ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَاتَ؛ بِخِلَافِ النَّاجِحِ فِي الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ كَيْفَ يَصْنَعُ لَهُ مَجْدًا تَلِيدًا وَتَارِيخًا زَاخِرًا.
إن الْمُصِيبَةَ التي تقع بالإنسان أَنْ يُغَادِرَ الدنيا دُونَ أَيِّ أَثَرٍ طَيِّبٍ يُشْكَرُ عَلَيْهِ، وَلَا مَعْرُوفٍ جَمِيلٍ يُقْتَدَى بِهِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، والمصيبة الأكبر من ذلك أن يترك أثراً سيئاً يُذَمُّ عَلَيْه بين الناس في الدنيا ويحاسب عليه يوم يَقُومَ الناس لرب العالمين، فيكون حاله بين يدي الله كما قال الله تعالى }حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ.. (100){ [الْمُؤْمِنُونَ].
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقنا لِمَرْضَاتِهِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا لِمَا فِيهِ الخَيْر إنه ولي ذلك والقادر عليه .
==============================================
رابط doc
https://top4top.io/downloadf-2672kfwlh2-docx.html
رابط pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق