13 يوليو 2024

الأخوة حقوق وواجبات

 



الحمد لله رب العالمين .. غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولا وامتنانا ، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء و أخدانا  ، وفي الآخرة رفقاء وخلانا ، فقال تعالي {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}[الأنفال].
فنحمده تعالي علي نعمة الإسلام ونشكره أن هدانا للقرآن ونتوب إليه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير ..  ربط بين قلوب العباد بالحب والإيمان به عز وجل ، وجعل الحب نعمة من النعم التي يجب الشكر عليها فقال تعالي {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (103)}[آل عمران ].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) أقام المجتمع الإسلامي علي الحب في الله والأخوة الإسلامية فقال(ﷺ) {أوثق عري الإيمان الحب في الله والبغض في الله }
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله  وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعـد ... فيا أيها المؤمنون ..
لقد أصبحت الأمـة اليوم كما تعلمون غثاءً كغثاء السيل، لقد تمـزق شملها وتشتت صفها، وطمع في الأمـة الضعيف قبل القوى، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة كما ترون لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخـوان القردة والخنازير، والسبب الرئيس أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء، والأمة أصبحت ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف، والخذلان، والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها ألا وهو (الأخوة في الله) بالمعنى الذي جاء به رسول الله فمحال محال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقي إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم .
نعيش في هذه الأيام تحديات شتَّى لعل أبرزها سيادة المادة في العلاقات الإنسانية، الأمر الذي يتطلب أن نجدد معه  "فقه الأخوة الإسلامية" لنعرفه، ونعمل به على مستوياتِ العمل كلها، باعتباره الوقود الدافع لسفينة العمل الإسلامي، والروح التي لن نستطيع الصمودَ بغيرها أمام تحدياتِ العصر الراهنة.
فإن رابطة الأخوة الإسلامية هي إشراقة إلهية سامية ، وهي الحبل الذي يجمع القلوب ويعقدها ببعضها ، وهي النور الذي يسري بين أرواح المؤمنين .
وتعتبر الأخوة من أهم ركائز المجتمع المسلم ودعامة من أهم دعائم الدولة الإسلامية لذلك حرص النبي (ﷺ) علي بناء المجتمع المسلم علي ركيزة الأخوة من أول يوم وصل للمدينة بعد الهجرة وبناء المسجد  فآخي بين المهاجرين والأنصار ليقوي علاقة المسلم بأخيه المسلم .
لذلك كان حديثنا يتناول عدة عناصر :ــ
العنصر الأول :  حقيقة  الأخوة .
العنصر الثاني : مقياس الأخوة .
العنصر الثالث :  شروط الأخوة.
العنصر الرابع :  فضل الأخوة .
العنصر الخامس :  حقوق الأخـوة .
العنصر السادس : وسائل تعميق الأخوة  .
=================
العنصر الأول : حقيقة الأخوة
هي منحة قدسية وإشراقه ربانية ونعمة إلهية يقذفها الله عز وجل في قلوب المخلصين من عباده والأصفياء من أوليائه والأتقياء من خلقه.
قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}[الأنفال].  
إن الأخوة في الله هي طريق إسعاد البشرية بوجه عام لذلك لا يتصور للجماعة المسلمة أن تقوم أو يشتد عودها بدونها: فبالأخوة يصبح أفراد الجماعة المسلمة كأغصان الشجرة الواحدة لا تكاد تؤثر فيها عواصف الأعداء،
والأخوة لكي تؤدي ثمارها المرجوة لابد أن تنطلق من رياح الإيمان بالله تعالي .
إن نعمة الأخوة هي أثمن منحة ربانية للعبد من بعد نعمة الإسلام، قال تعالى {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا  (103)}[آل عمران ].
والأخوَّة هي رُوح الإيمان الحي، ولُبَاب المشاعر الرقيقة، التي يكنَّها المسلم لإخوانه؛ حتى إنه ليحيا بهم ويحيا لهم، حتى كأنهم رُوح واحد حلَّ في أجسام متعدِّدة ...
الحب هو روح الوجود، وإكسير القلوب، وصمام الأمان لبني الإنسان.
إذا كان قانون الجاذبية يمسك الأرض والكواكب والأفلاك أن تصطدم فتتساقط أوتحترق وتزول، فقانون الحب هو الذي يمسك العلاقات الإنسانية أن تتصادم فتحترق، وتستحيل إلى دماء.
هذا هو الحب الذي عرف الناس قيمته في القديم والحديث.
وقالوا: لو ساد الحب ما احتاج الناس إلى العدل ولا إلى القانون.
العنصر الثاني :  مقياس الأخـــوة
الأخوة والحب في الله :ـ
هو أن يحب  كل منا في الآخر  ما يحبه الله فيه فلا يحب أحدنا الآخر لذاته بل لما فيه من صفات يحبها الله عز وجل فالذي يستحق أن يحب لذاته هو الله عز وجل وأي حب آخر ينبغي أن يكون تابعا له .
فنحن نحب الرسول (ﷺ) لأن الله يحبه وأمرنا بحبه ونحب المسلمين ونكره الكافرين لذاك أيضا ..
بل إننا نحب المسلم الملتزم بأوامر الله أكثر من المسلم العاصي المقصر في جنب الله ، ونحب المؤمن القوي أكثر من المؤمن الضعيف لأن الله يحب فيه القوة ، ونحب أهل المساجد المحافظين علي الجمع والجماعات وسنة الرسول (ﷺ) أكثر ممن لا يحافظون علي ذلك .       
فإذا تبين ذلك ، فلا  يجوز لنا أن نفضل إنسانا عن آخر إلا بهذا المقياس فلا نفضل ولا نقرب شخصا ما علي آخر لأن نفوسنا تميل إليه أكثر ، وكذلك لا نبتعد عن شخص ما إلا بمقدار ما فيه من صفات يبغضها الله عز وجل .
فكما يقول ابن تيمية رحمه الله : وليس للخلق محبة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم ، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله  تعالي ، وكل ما يحب سواه فمحبته تبعا لحبه ، فإن الرسول (ﷺ)إنما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ، ويتبع لأجل الله كما قال تعالي{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران ] .
وفي الحديث ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي ) رواه مسلم .
ولقد أمرنا الإسلام بحسن اختيار الصاحب :
جليسك الصالح يشعر بشعورك ويعتني بشئونك ويهتم بأمورك يفرح لفرحك ويحزن لحزنك ويسر بسرورك، ويحب لك ما يحب لنفسه ويكره لك ما يكره لنفسه، وينصح لك في مشهدك ومغيبك، يأمرك بالخير وينهاك عن الشر ويسمعك العلم النافع والقول الصادق والحكمة البالغة ويحثك على العمل الصالح المثمر ويذكرك نعم الله عليك لكي تشكرها ويعرفك عيوب نفسك لكي تجتنبها ويشغلك عما لا يعنيك.
وهكذا أستاذك الصالح يجهد نفسه في تعليمك وتفهيمك وإصلاحك وتقويمك يطالبك بالعمل وينتظر من ظاهرك ثمرة ما يغرس في باطنك إذا غفلت ذكرك، وإذا أهملت أو مللت بشرك وأنذرك وليس في الجلساء من ينفعك خيره ويضرك شره كالأستاذ الذي يعد لك أبا ثانيا وكما يكون هو تكون أنت والجليس الصالح يسد خلتك ويغفر زلتك ويقيل عثرتك ويستر عورتك وإذا اتجهت إلى الخير حثك عليه ورغبك فيه وبشرك بعاقبة المتقين وأجر العاملين وقام فيه معك وكان لك عونًا عليه.
وإذا تكلمت بسوء أو فعلت قبيحا زجرك عنه ومنعك منه وحال بينك وبين ما تريد، جليسك الصالح لا يمل قربك ولا ينساك على البعد، وإن حصل لك خير هنأك وإن أصابتك مصيبة عزاك يسرك إذا حضرت بحديثه ويرضيك بأفعاله ويحضر بك مجالس العلم وحلق الذكر وبيوت العبادة ويزين لك الطاعة بالصلاة والصيام والإنفاق في سبيل الله وكف الأذى واحتمال المشقة وحسن الجوار وجميل المعاشرة.
ويقبح لك المعصية ويذكرك ما يعود به الفساد عليك من الويل والشقاء في عاجل الأمر وآجله، وما زال ينفعك ويرفعك ويزجرك ويودعك حتى يكون كبائع المسك وأنت المشتري ولصلاحه ونصحه لا يبيع عليك إلا طيبًا ولا يعطيك إلا جيدًا وإن أبيت الشراء طيبك وصب عليك العطر فلا تمر بشارع ولا تسلك طريقًا إلا وعبق منك الطيب وملأت به الأنوف وأولئك هم القوم لا يشقى بهم جليسهم تنزل عليهم الرحمة فيشاركهم فيها ويهم بالسوء فلا يقوله ولا يستطيع فعله إما مخافة من الله وإما حياء من الناس.
فالخير الذي تصيبه من جليسك الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك أو يهدي لك نصيحة أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى ضده وفي الحديث: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
وفي الحكمة المشهورة: «لا تسأل عن المرء واسأل عن قرينه».
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح أن تنكف بسببه عن السيئات والمعاصي رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى .
وحسب المرء أن يعتبر بقرينة وأن يكون على دين خليله، وأما قرين السوء فهو بضد ذلك كله فإنك إن لم تشاركه إساءته أخذت بنصيب وافر من الرضى بما يصنع والسكوت على شر تخاف منه وتحذره وتحتاط لحفظ كرامتك من أن يمزقها أو أن يسمعك عن نفسك أو عن الآخرين ما لا تحب فهو كنافخ الكير وأنت جليسه القريب منه يحرق بدنك وثيابك ويملأ أنفك  بالروائح الكريهة وأنت وإياه في الإثم سواء ومن أعان على معصية ولو بشطر كلمة فهو كالفاعل وكل كلام لا يحل فهو من اللغو الذي مدح الله تاركيه بقوله تعالي: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ(55)} [القصص] .
وقد يكون جليس السوء قويًّا لا تستطيع مقاومته ولا الإنكار عليه فخير لك الابتعاد عنه لئلا تقع في معصيتين السكوت على الباطل وموافقة أهله .
وفي مجالس الشر تقع في الغيبة والنميمة والكذب واللعن وكل كلام فاحش ويقع اللهو والطرب وممالأة الفساق ومجاراتهم على الإسراف في الإنفاق والخوض في الباطل .قال تعالي {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام].
وإن أعظم مثل يصور لنا خطر جليس السوء ما حصل لأبي طالب عم النبي (ﷺ)عند وفاته جاء إليه النبي (ﷺ) حين احتضاره وهو يلفظ آخر أنفاسه فقال له رغبة في إسلامه: يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله.
فقال أبو جهل وكان جالسًا عنده: أترغب عن ملة عبد المطلب، فرسول الله (ﷺ) يلقنه الإسلام وأبو جهل يلقنه الكفر إلى أن مات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله الحديث في قصة وفاة أبي طالب مخرج في الصحيحين. بسبب جليس السوء فمصاحبة الأشرار ومجالستهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم وشر على من خالطهم فكم هلك بسببهم أقوام؟ وكم قادوا أصحابهم في المهالك؟ وقد قال الله تعالى مخبرًا عن عاقبة الظالمين وتمنيهم سلوك طريق المؤمنين وندمهم على مصاحبة الضالين: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً (29)}[الفرقان] .
وقال النبي (ﷺ): «لا تصحب إلا مؤمنا» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم ورمز السيوطي لصحته.
ويقول الشاعر:
إن القرين بالقرين يقتدي          واختر من الأصحاب كل مرشد
تزيد في القلب السقيم السقا         وصحبة الأشرار داء وعمى
فاجتنبن قرناء السوء                  فإن تبعت سنة النبي
وقال (ﷺ) «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل
المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا ونافخ الكير إما
أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» رواه البخاري ومسلم.
صدق رسول الله (ﷺ) فما أروعه من مثل يصور لنا حقيقة الجليس وما ينتج عنه من نفع أو ضر وخير أو شر وطيب أو خبث وصدق الله العظيم إذ يقول: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [المائدة]
ويقول علي ابن أبي طالب :
فلا تصحب أخا الجهل                  وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى                     حليماً حين آخاه
يُقاسُ المَرْءُ بالمَرْءِ                      إذا ما هُوَ ماشاهُ
وللقلب على القلبِ                         دَلِيْلٌ حِيْنَ يَلْقَاهُ
وللشيء من الشيء                      مقاييسٌ وأشباه .
لقد حدد الله عز وجل هذا المقياس علي لسان موسي عليه السلام :{ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)}[طه]
 لقد حدد موسي عليه السلام الغاية من الأخوة التي ينشدها ، فهو يريد من أخيه هارون أن يكون سندا له ينشد عضده ويعينه علي نوائب الحياة ، وهو يريده شريكا في أمره يقاسمه بؤسه ونعيمه وإياه الرأي حياله ، ثم هو يريده أخا يعينه علي ذكر الله وتسبيحه .
فهذه الصفات الثلاث :ــ
التعاون علي الحياة ، والمشاركة في الأمر ، والإعانة علي ذكر الله هي المقياس الذي ينبغي أن نقيس به من نريد مؤاخاتهم في الله .. هذه الصفات هي المثل الأعلى الذي تنشده الأخوة في الله ...
ولكن هذه الصفات لا توجد في المرء دفعة واحدة وإنما تتكامل علي مر الأيام ...
فالأخ الذي تبحث عنه ليعينك إنما يبحث عنك لتعينه ، فمثل الأخوين إذا التقيا كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى كذلك الإخوان في الله في كل منهما عيوب تزول بالتذكير والتنبيه والتناصح والتواصي بالحق .
وقد أوجز الآداب في اختيار الأصحاب أحد الصالحين فقال يوصي ابنه : " يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك ، وإن صحبته زانك ، وإن قعدت بك مؤونة مانك ، واصحب من إذا مددت يدك بخير
 مدها ، وإن رأى منك حسنة عدها ، وإن رأى سيئة سدها .
 اصحب من إذا سألته أعطاك ، وإن سكت ابتداك ، وإن نزلت بك نازلة واساك ، اصحب من إذا قلت صدق قولك ، وإن حاولت أمرا آمرك ، وإن تنازعتما آثرك .
العنصر الثالث: شروط الأخوة
للأخوة في الله شروط أساسية لا ينتظم عقدها إلا بها ولا يمكن أن تكون مقبولة  عند الله عز وجل إلا أن ينتهج المسلمون سبيلها ويأخذوا بأحسنها.
وإليكم أيها الإخوة المسلمون أهم شرائطها وأظهر أساسياتها لعلها أن تكون ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وهي:
1ـ أن تكون الأخوة خالصة لله :
وذلك أن يتنزه المتآخون من كل مصلحة ذاتية ويتجردوا من كل منفعة شخصية ،عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ (ﷺ): أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ : لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ)[رواه مسلم] .
2- أن تكون الأخوة في الله مقرونة بالإيمان والتقوى...
وذلك بأن ينتقي المسلم من الأصحاب نؤمنهم ، وأن يختار من الأصدقاء أتقاهم وأحسنهم أخلاقا . يقول تعالي {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67)} [الزخرف ].
3- أن تكون الأخوة ملتزمة منهج الإسلام بإتباع الكتاب والسنة والبعد عن الخرافة والبدعة ،إلي هذا أشار النبي  (ﷺ) {ورجلان تحابا  في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه }.
 ومن أجل هذا ... وفي ظلال هذه الأخوة والحب في الله كان الرجلان من أصحاب رسول الله (ﷺ)إذا التقيا لم يتفرقا حتي يقرأ أحدهما علي الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما علي الآخر ، فكانا يتعاهدان علي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
4- أن تكون الأخوة قائمة على النصح لله ولعباده :ـ
قال رسول الله (ﷺ) :{الدين النصيحة: قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم} رواه مسلم.
العنصر الرابع : فضل الأخوة :
لما كانت الأخوة في الله ملازمة الإيمان مقرونة مع التقوى فقد جعل الله لها من الكرامة والفضل وعلو المنزلة والأجر ما يدفع أبناء الإسلام إلى التحقق بها والحرص عليها عسى أن يكونوا من المؤمنين الأطهار والمتقين الأبرار والأصفياء الأخيار ومن فضائل الأخوة في الله أن المتحابين في الله:
  محبة الله تعالى :
عن معاذ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : "قال الله تبارك و تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، و المتجالسين فيّ و المتزاورين فيّ ، و المتباذلين فيّ " (رواه مالك و غيره )
و قول الملك للرجل الذي زار أخا له في الله :"إني رسول الله إليك بأنّ الله قد أحبّك كما أحببته فيه" 
2 ـ أحبهما إلى الله أشدّهما حبا لصاحبه :
عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال :" ما من رجلين تحابا في الله إلا كان أحبّهما إلى الله أشدّهما حبا لصاحبه " (رواه الطبراني (
3 ـ الكرامة من الله :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " ما من عبد أحبّ عبدا لله إلا أكرمه الله عز وجل "(أخرجه أحمد بسند جيّد)
وإكرام الله للمرء يشمل إكرامه له بالإيمان ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، و سائر صنوف النِّعم .
4  ـ  الاستظلال في ظلّ عرش الرحمن :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي ( رواه مسلم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " :" فقوله : أين المتحابون بجلال الله ؟ تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله و تعظيمه مع التحاب فيه ، و بذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم " .
وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) سبعة يظلهم الله تعالى يوم لا ظلّ إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ( متفق عليه)
5 ـ  وجد طعم الإيمان :
قال رسول (ﷺ): " من أحبّ أن يجد طعم الإيمان فليحبّ المرء لا يحبه إلا لله" ( رواه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و لم يخرجاه و أقرّه الذهبي)
6 ـ وجد حلاوة الإيمان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " من سرّه أن يجد حلاوة الإيمان، فليحبّ المرء لا يحبه إلا لله" ( رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي ).
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحبّ إليه مما سواهما ، و أن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أ يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار" (متفق عليه).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى":" أخبر النبي (ﷺ) أنّ هذه الثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان ، لأنّ وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له ، فمن أحبّ شيئا أو اشتهاه ، إذا حصل له مراده، فإنه يجد الحلاوة و اللذة و السرور بذلك و اللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى …
فحلاوة الإيمان ، تتبع كمال محبة العبد لله ، و ذلك بثلاثة أمور : تكميل هذه المحبة ، و تفريعها ، و دفع ضدها "فتكميلها" أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما ، فإن محبة الله و رسوله لا يكتفى فيها بأصل الحبّ ، بل لا بدّ أن يكون الله و رسوله أحبّ إليه مما سواهما و " تفريعها" أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و "دفع ضدها " أن يكره ضدّ الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار " .
7 ـ استكمال الإيمان :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " من أحبّ لله ، و أبغض لله ، و أعطى لله ، و منع لله ، فقد استكمل الإيمان " (رواه أبو داود بسند حسن).
8 ـ دخول الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " (رواه مسلم)
9 ـ قربهم من الله تعالى و مجلسهم منه يوم القيامة :
عن أبي مالك الأشعري قال : " كنت عند النبي (ﷺ) فنزلت عليه هذه الآية :" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" (المائدة 101).
 قال : فنحن نسأله إذ قال : (ﷺ)  "إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء و لا شهداء ، يغبطهم النبيون و الشهداء بقربهم و مقعدهم من الله يوم القيامة ، قال : و في ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه و رمى بيديه ، ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم من هم ؟ قال : فرأيت في وجه النبي (ﷺ) البِشر ، فقال النبي (ﷺ): " هم عباد من عباد الله من بلدان شتى ، وقبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، و لا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح الله ، يجعل الله وجوههم نورا و يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس ، و لا يفزعون ، و يخاف الناس و لا يخافون " (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي )
10 ـ وجوههم نورا يوم القيامة :
من الحديث السابق في قوله :" يجعل الله وجوههم نورا"
11 ـ  لهم منابر من لؤلؤ:
نفس الحديث السابق في قوله :" يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس "
12 ــ لهم منابر من نور :
و في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ): " إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء و لا شهداء يغبطهم الشهداء و النبيون يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ، و مجلسهم منه " ، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال : يا رسول الله صفهم لنا و جلِّهم لنا ؟قال:" قوم من أقناء الناس من نزّاع القبائل ، تصادقوا في الله و تحابّوا فيه ، يضع الله عزّ و جلّ لهم يوم القيامة منابر من نور ، يخاف الناس و لا يخافون ، هم أولياء الله عزّ و جلّ الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون " ( أخرجه الحاكم و صححه الذهبي.
13 ـ  يغبطهم الأنبياء و الشهداء يوم القيامة:
من الحديثين السابقين : حديث الأشعري و ابن عمر رضي الله عنهم في قوله (ﷺ):" يغبطهم الشهداء و النبيون يوم القيامة لقربهم من الله تعالى ،و مجلسهم منه "
14 ـ  تسميتهم بأولياء الله :
من حديث ابن عمر السابق في قوله (ﷺ):" هم أولياء الله عز و جل " 
15 ـ انتفاء الخوف و الحزن عنهم يوم القيامة :
من الحديثين السابقين : حديث الأشعري و ابن عمر رضي الله عنهم : " لا خوف عليهم و لا هم يحزنون " و قوله " و لا يفزعون ، و يخاف الناس و لا يخافون " .
16 ـ أنّ المرء بمحبته لأهل الخير لصلاحهم و استقامتهم يلتحق بهم و يصل إلى مراتبهم ، و إن لم يكن عمله بالغ مبلغهم : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله (ﷺ) فقال: يا رسول الله ،كيف تقول في رجل أحبّ قوما ولم يلحق بهم ؟  قال : "المرء مع من أحبّ" (الصحيحان)
و في الصحيحين أيضا عن أنس رضي الله عنه أنّ رجلا سأل النبي (ﷺ) متى الساعة ؟ قال : " ما أعددت لها ؟ " قال : ما أعددت لها من كثير صلاة و لا صوم و لا صدقة ، و لكني أحبّ الله و رسوله، قال :" أنت مع من أحببت" ، قال أنس : فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه و سلم :"أنت مع من أحببت" فأنا أحب النبي (ﷺ) و أبا بكر و عمر ، و أرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، و إن لم أعمل بمثل أعمالهم وعن علي رضي الله عنه مرفوعا: "لا يحب رجل قوما إلا حشر معهم"( الطبراني في الصغير) .
 العنصر الخامس : حقوق الأخوة :
لكل مسلم على أخيه المسلم حقوقا ، و هذه الحقوق أوجبها عقد الإسلام ، و صارت لكل مسلم بهذا العقد حرمة ، لا يحل لأحد أن ينتهكها ، وقد أتت جملة من هذه الحقوق ، وبيان لهذه الحرمة من كلام النبي (ﷺ) ، فمن ذلك قوله (ﷺ)  : " حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه " (متفق عليه).
و في بيان حرمة المسلم ، و ما لا يجوز للمسلم أن يقع فيه مع سائر المسلمين قوله (ﷺ):" إياكم و الظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، ولا تحسّسوا ، ولا تجسّسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا … و يشير إلى صدره ، بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه و عرضه و ماله " (رواه الشيخان)
إنّ عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين ، و يترتب على هذا العقد حقوق المال والبدن واللسان
والقلب ، وبمراعاة هذه الحقوق تدوم المودة وتزداد الألفة ، ويدخل المتعاقدين في زمرة المتحابين في الله ، وينالان من الأجر والثواب ما أسلفناه .
  حقوق الأخوة في المال :
فمن حقوق المال الواجبة إنظاره إلى ميسرة إن كان غريما ، قال تعالى :" و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (280)}[البقرة ].
وقال (ﷺ):" من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا و الآخرة" ( مسلم وغيره)
ومن حقوق الأخوة المواساة بالمال : و هي كما قال العلماء على ثلاث مراتب :
1 ـ  أدناها أن تقوم بحاجته من فضل مالك، فإذا سنحت له حاجة، وكان عندك فضل، أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال، فإن أحوجته إلى السؤال، فهو غاية التقصير في حقّ الأخوة.
2 ـ الثانية: أن تنزله منزلة نفسك ، و ترضى بمشاركته إياك في مالك:
قال الحسن : كان أحدهم يشقّ إزاره بينه و بين أخيه ، و جاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه وقال : إني أريد أن
أوأخيك في الله ، فقال : أتدري ما حق الإخاء ؟
قال : عرّفني ، قال أن لا تكون أحقّ بدينارك و درهمك مني ، قال : لم أبلغ هذه المنزلة بعد ، قال اذهب عني .
وقال علي بن الحسين لرجل : هل يُدخل أحدكم يده في كمّ أخيه أو كيسه ، فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه ؟
قال : لا ، قال : فلستم بإخوان.
3 ـ  الثالثة : و هي العليا ، أن تؤثره على نفسك ، و تقدّم حاجته على حاجتك ،
وهذه رتبة الصديقين ، و منتهى درجات المحبين ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : أهدى لرجل من أصحاب رسول الله (ﷺ) رأس شاة ، فقال : أخي فلان أحوج مني إليه ، فبعث به إليه ، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول ، بعد أن تداوله سبعة .
فكانت هذه المرتبة العليا من الإيثار ، هي مرتبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم .
عن حميد قال : سمعت أنسا رضي الله عنه قال : لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار ، فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد ابن الربيع ، فقال : أقاسمك مالي ، و أنزل لك عن إحدى امرأتي ، قال : بارك الله لك في أهلك و مالك ، فآثره بما آثره به ، و كأنه قبله ثم آثره به
و قد مدحهم الله عزّ و جلّ بقوله تعالي : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [لحشر].
قال أبو سليمان الداراني : كان لي أخ بالعراق ، فكنت أجيئه في النوائب ، فأقول : أعطني من مالك شيئا ، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد ، فجئته ذات يوم فقلت : أحتاج إلى شيء فقال : كم تريد ؟
فخرجت حلاوة إخائه من قلبي و قال آخر: إذا طلبت من أخيك مالا فقال: ماذا تصنع به فقد ترك حقّ الإخاء .
فهذه مراتب المواساة بالمال ، فإن لم توافق نفسك رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أنّ عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن .
وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل و الدين .
وقال ميمون بن مهران : "من رضي من الإخوان بترك الأفضال ، فليؤاخ أهل القبور "
2 ـ حقوق الأخوة في البدن :
و يقصد بها الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات ، و القيام بها قبل السؤال ، و تقديمها على الحاجات الخاصة ، و هذه أيضا لها درجات كالمواساة بالمال .
1 ـ أدناها القيام بالحاجة عند السؤال و القدرة مع البشاشة و الاستبشار و إظهارالفرح و قبول المنة :
قال النبي (ﷺ):"من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ،ومن يسّر على معسّر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ،و من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة ،و الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
أرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم ، و قال : مروا بثابت البناني فخذوه معكم ، فمروا بثابت فقال : أنا معتكف ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال لهم : قولوا له يا أعمش أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجّة بعد حجة ، فرجعوا إلى ثابت فأخبروه ، فترك اعتكافه و خرج معهم.
2 ـ الدرجة الثانية : أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك :
كان بعض السلف يتفقّد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة ، يقوم بحاجتهم ، و يتردّد كل يوم إليهم و يمونهم من ماله ، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه
3 ـ أن تقدّم حاجة أخيك على حاجتك ، و تبادر إلى قضائها و لو تأخرت حاجتك
قضى ابن شبرمة لبعض إخوانه حاجة كبيرة ، فجاء بهدية ، قال : ما هذا؟ قال : لما أسديته إليّ ، قال : خذ مالك عافاك الله ، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها ، فتوضأ للصلاة و كبّر عليه أربع تكبيرات ، و عدّه من الموتى .
وكان الحسن يقول: إخواننا أحبّ إلينا من أهلنا و أولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، و إخواننا يذكرون بالآخرة .
ويدخل في حق المسلم على أخيه المسلم زيارته له في الله عزّ و جلّ ، قال رسول الله (ﷺ):"ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة ، و الشهيد في الجنة ، و الصديق في الجنة ، و الرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة."
ومن الصور المشرقة للزيارة في الله عزّ و جلّ ، و ما ينبغي أن تشتمل عليه من الأخلاق و الآداب ، ما كان بين أبي عبيد القاسم ابن سلام و أحمد بن حنبل رحمهما الله ، قال أبو عبيد : "زرت أحمد بن حنبل في بيته فأجلسني في صدر داره ،
وجلس دوني ، فقلت : يا أبا عبد الله ، أليس يقال : صاحب البيت أحقّ بصدر بيته؟
فقال : نعم ، يقعد و يُقعِد من يريد ، قال : فقلت في نفسي : خذ إليك يا أبا عبيد فائدة ، قال : ثم قلت له : يا أبا عبد الله ، لو كنت آتيك على نحو ما تستحقّ لأتيتك كلّ يوم ، فقال : لا تقل ، إن لي إخوانا لا ألقاهم إلا في كلّ سنة مرة ، أنا أوثق بمودّتهم ممن ألقى كل يوم ، قال : قلت : هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت أن أقوم قام معي فقلت : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار ، و تأخذ بركابه قال : فقلت يا أبا عبيد هذه ثالثة ، قال : فمشى معي إلى باب الدار و أخذ بركابي .
ومن هذه الصور المشرقة لزيارة السلف بعضهم لبعض و فرحهم بهذه اللقاءات الداعية لمزيد من الإيمان والحبّ في الله عزّ وجلّ ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه" عن النقاش أنه قال : " بلغني أنّ بعض أصحاب محمد بن غالب أبي جعفر المقرئ جاءه في يوم وحلٍ وطين ، فقال له : متى أشكر هاتين الرجلين اللتين نعبتا إليّ، في مثل هذا اليوم لتكسباني في الثواب؟
ثم قام بنفسه فاستسقى له الماء، وغسل رجليه " .
ومن الصور المشرقة لأصحاب الرسول (ﷺ) سيدنا عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما يروى أنه كان معتكفًا في مسجد الرسول (، فأتاه رجل على وجهه علامات الحزن والأسى، فسأله عن سبب حزنه؛ فقال له: يا ابن عم رسول الله، لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر (أي قبر الرسول (ﷺ) ما أقدر عليه؛ فقال له: أفلا أكلمه فيك؟ فقال الرجل: إن أحببت؛ فقام ابن عباس، فلبس نعله، ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟‍! (أي أنك معتكف ولا يصح لك الخروج من المسجد).
فرد عليه قائلاً: لا، ولكن سمعت صاحب هذا القبر ( والعهد به قريب -فدمعت عيناه- وهو يقول: (من مشى في حاجة أخيه، وبلغ فيها كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى، جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين (المشرق والمغرب) (لطبراني والبيهقي والحاكم).
3 ـ حقوق الأخوة في اللسان :
1 ـ أن لا يذكر عيوبه
فمن حق الأخ على أخيه، أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه أما ذكر عيوبه و مساويه في غيبته فهو من الغيبة المحرمة ، و ذلك حرام في حق كل مسلم ، و يزجرك عنه أمران بالإضافة إلى زجر الشرع : أحدهما : أن تطالع أحوال نفسك ، فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما ، فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك ، وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة، كما أنت عاجز عما أنت مبتلى به .
والأمر الثاني : أنك تعلم أنك لو طلبت منزها عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ، و لم تجد من تصاحبه أصلا
كما قال النابغة الذبياني :
و لست بمستبق أخا لا تلُمُّه *** على شعث أيّ الرجال المهذّب
فما من أحد من الناس إلا و له محاسن و مساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية ، و المؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والودّ و الاحترام ، وأما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ والعيوب، قال ابن المبارك : المؤمن يطلب المعاذير ، والمنافق يطلب العثرات
وقال الفضيل : الفتوة العفو عن زلات الإخوان ..
ومما ورد في ستر المسلم وعدم التشهير به قصة النبي (ﷺ) مع خوات ابن جبير ..
( يحكي خوات بن جبير عن نفسه فيقول ‏:‏ نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران‏.‏
قال‏:‏ فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله (ﷺ) من قبة، فلما رأيت رسول الله (ﷺ) هبته واختلطت، وقلت‏:‏ يا رسول الله، جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً‏.‏ ومضى فاتبعته فألقى إلي رداءه، ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل على صدره من لحيته‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أبا عبد الله، ما فعل ذلك الجمل‏"‏‏؟‏
وارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال‏:‏ ‏"‏السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل‏"‏‏؟‏
فلما طال ذلك علي أتيت المسجد، فقمت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره‏.‏ فجاء فصلى ركعتين، فطولت رجاء أن يذهب ويدعني‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أبا عبد الله، طول ما شئت أن تطول، فلست بمنصرف حتى تنصرف‏"‏‏.‏ فقلت في نفسي‏:‏ والله لأعتذرن إلى رسول الله (ﷺ) ولأبرئن صدره‏.‏ فلما انصرفت قال‏:‏ ‏"‏السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل‏"‏‏؟‏
قلت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يرحمك الله‏"‏، ثلاثاً، ثم لم يعد لشيء مما كان‏.‏
2 ـ أن لا يفشي أسراره :
و من ذلك أن يسكت عن إفشاء أسراره و لا إلى أخصّ أصدقائه ، و لو بعد القطيعة و الوحشة ، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث النفس ، قيل لبعض الأدباء : كيف حفظك للسر؟ قال : أنا قبره .
وأفشى بعضهم سرا إلى أخيه ثم قال له حفظت ، قال : بل نسيت .
وقالوا : قلوب الأحرار قبور الأسرار .
كان أبو سعيد الثوري يقول : إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك فإن قال خيرا وكتم سرا فاصحبه .  
3 ـ أن لا يجادله و لا يماريه :
و من ذلك أن يسكت عن مماراته و جداله :
قال بعض السلف : من لاحى الإخوان و ماراهم ، قلّت مروءته ، و ذهبي كرامته
و قال عبد الله بن الحسن: إياك و مماراة الرجال، إنك لن تعدم مكر حليم ، أو مفاجأة لئيم ،وبالجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميّز بمزيد العقل و الفضل ، واحتقار المردود عليه بإظهار جهله و بالغ بعضهم في ترك المراء و الجدال فقال : إذا قلت لأخيك قم ، فقال : إلى أين؟ فلا تصحبه ، بل ينبغي أن يقوم و لا يسأل .
والمراء يفتن القلب وينبت الضغينة و يجفي القلب و يقسيه ويرقق الورع في المنطق والفعل .
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :" قال رسول الله (ﷺ): "من ترك المراء و هو مبطل بنى له بيت في ربض الجنة ، و من تركه و هو محقّ بنى له في وسطها ، و من حسن خلقه بنى له في أعلاها" (رواه أبو داود و غيره)
قال خالد بن يزيد بن معاوية الأموي :"إذا كان الرجل مماريا لجوجا معجبا برأيه فقد تمت خسارته "
قال الحسن البصري :"إياكم و المراء ، فإنه ساعة جهل العالم ، و بها يبتغي الشيطان زلّته-
4 ـ الذّبّ عنه في غيبته :
وكما تقتضي الأخوة السكوت عن المكاره ، تقتضي أيضا النطق بالمحاب ، بل هو أخص بالأخوة ، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور، وأعظم من ذلك تأثيرا في جلب المحبة ، الذبّ عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرّض لعرضه بكلام صريح ، أو تعريض ، فحق الأخوة التشمير في الحماية و النصرة و تبكيت المتعنت و تغليظ القول عليه ، والسكوت عن ذلك موغر للصدر و منفر للقلب ، و تقصير في حق الأخوة
قال رسول الله (ﷺ): " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه و لا يحرمه و لا يخذله " (رواه مسلم).
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) لأَصْحَابِهِ : أَخْبِرُونِي مَا أَرْبَى الرِّبَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : " فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، اسْتِحْلالُ عِرْضِ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ قَرَأَ تعالي: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(58)}[الأحزاب ].
وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ : {الربا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا استحلال عرض الرجل المسلم }
5ـ نصرته وعدم خذلانه :    
نصرة المؤمنين أمارة دالة على صدق الإيمان  عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله (ﷺ): «مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى» [متفق عليه)     
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):«الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ » [أحمد وأبو داود].
وقوله : «وهم يد»؛ هم : ضمير منفصل يدل على الجمع، ويد : لفظ مفرد، فهذه جملة تدل على التماسك العظيم الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون.
فعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ وأبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنهم جميعاً، قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ» [أحمد وأبو داود). 
6 ــ عدم إيذائه  بأي لوم من ألوان الأذى :
عن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: صعِدَ النبيُّ (ﷺ) المنبرَ فنادَى بصوتٍ رفِيع، فقال:{يا معشرَ مَنْ أسلَمَ بلسانِهِ ولمْ يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تُؤذُوا المسلمِينَ ولا تُعيِّرُوهُمْ ولا تتَّبِعُوا عورَاتِهِم؛ فإنَّه مَنْ تتبَّعَ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبَّعَ اللهُ عورتَه، ومنْ تتبَّعَ الله عورتَه يفضَحْهُ ولو في جوفِ رَحلِه}.
قال: ونظر ابن عمرَ يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمَك! وما أعظم حرمتَك! والمؤمنُ أعظم حرمةً منكِ) رواه الترمذيّ بإسناد صحيح.
بل ورد في صحيحِ مسلمٍ من حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه: أنّ من أغضَب مسلمًا فقد أغضب ربَّه، وأنه على خطر من عقوبتِه وانتقامِه حتى وإن كان المؤذِي من أفاضلِ الناس وخيارِهم.
إنَّ أذيةَ المؤمن ظلم، ودعوة المظلومٍ ليس بينها وبين الله حِجاب، والصبرُ على أذى الخلق أفضلُ من الدعاء عليهم، {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ(126)} [النحل].
وإنَّ من الأذى ما لا تكفِّره الصلاةُ ولا الصدقةُ ولا الصومُ، بل لا يُغفَر للظالم حتى يَغفِر له المظلومُ، وهيهات أن يعفوَ المظلومُ يومَ تتطاير الصحُف وتعزّ الحسنات! قال رسول الله (ﷺ) : ((أتدرونَ مَنْ المفلِس؟)) قالوا: المفلسُ فينا مَنْ لا درهمَ لهُ ولا متاع، فقال: ((إنَّ المفلسَ مِنْ أمّتي مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتمَ هذا وقذفَ هذا وأكلَ مالَ هذا وسفكَ دمَ هذا وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِهِ وهذا من حسناته، فإن فنِيَتْ حسناتُهُ قبلَ أنْ يُقضَى ما عليه أُخذَ منْ خطاياهُم فطُرِحَتْ عليه ثُمَّ طُرِحَ في النار)) رواه مسلم.               
ويعظُمُ الإيذاءُ ويتضاعف الإثم وتشتدّ العقوبة كلّما عظُمت حرمةُ الشخص أو الزمان أوالمكان أو المناسَبة، ولئن كان الاستهزاءُ بالناس أذيّةً وبليّة فإنّ الاستهزاءَ بالصالحين والعُبَّادِ والمحتسِبين أشدُّ إثما وأكثر خطرًا، وهذا الهمز واللمزُ هو أوّل سلاحٍ أُشهِر أمامَ الأنبياء والرسل.
5 ـ التعليم و النصيحة :
قال رسول الله (ﷺ):{الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله ، قال : " لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم} [رواه مسلم].
وبخاصة إذا استنصح الأخ أخاه وجب عليه أن يخلص له النصيحة ، كما سلف في الحقوق العامة للمسلمين ، و ينبغي أن تكون النصيحة في سرّ لا يطلع عليه أحد فما كان على الملإ فهو توبيخ و فضيحة ، و ما كان في السر ، فهو شفقة ونصيحة، قال الشافعي رحمه الله : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه و زانه ، و من وعظه علانية فقد فضحه و شانه و قال رحمه الله :
تعمّدني بنصحك في انفرادي *** و جنّبني النصيحة في الجماعة
فإنّ النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
و إن خالفتني و عصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
وتتأكد النصيحة كذلك إذا تغيّر أخوك عما كان عليه من العمل الصالح .
قال أبو الدرداء : إذا تغيّر أخوك ، وحال عما كان عليه ، فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة و يستقيم مرة.
وحكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة ، فقيل لأخيه : ألا تقطعه و تهجره؟
فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده ،وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه .
والأخوة عقد ينزل منزلة القرابة ، فإذا انعقد تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد .
ومن الوفاء به أن لا يهمل أخاه أيام حاجته وفقره ، وفقر الدين أشدّ من فقر المال ، والأخوة عند النائبات وحوادث الزمان ، وهذا من أشدّ النوائب، والقريب ينبغي أن لا يهجر من أجل معصيته ، حتى يقام له بواجب النصيحة ، و ذلك لأجل قرابته ، قال الله تعالى لنبيه (ﷺ) في عشيرته { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216)}[الشعراء ]. 
ولم يقل : إني برئ منكم ، مراعاة لحق القرابة و لحمة النسب ، و لهذا أشار أبو الدرداء لما قيل له : ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟
فقال : إنما أبغض عمله و إلا فهو أخي  وكذا التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان ، كما أن مقارفة العصيان من محابه .
 فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه ، فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني .
4 ــ حقوق الأخوة في القلب :
من حق المسلم على أخيه في الله عز وجل الوفاء والإخلاص في محبته و صحبته ، وعلامة ذلك أن تدوم المحبة ، وأن يجزع من الفراق ، ومن حقه أن تحسن به الظن ، وأن تحمل كلامه وتصرفاته على أطيب ما يكون ، ومن ذلك أن لا يكلف أخاه التواضع له ، والتفقد لأحواله ، والقيام بحقوقه .
1 ــ الوفاء و الإخلاص :
ومعنى الوفاء الثبات على الحب و إدامته إلى الموت معه ، و بعد الموت مع أولاده و أصدقائه ، فإنّ الحبّ في الله إنما يراد به ما عند الله عزّ و جلّ ، فلا ينتهي بموت أخيه .
قال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة ، خير من كثيره في حال الحياة ..
وقد جاء أنّ رسول الله (ﷺ) أكرم عجوزا أدخلت عليه فقيل له في ذلك ، فقال :"إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، و إنّ حسن العهد من الإيمان"(صححه الحاكم و الذهبي و حسنه الألباني في الضعيفة).
 - ومن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به.
ـ ومن الوفاء: أن لا يتغيّر حاله مع أخيه ، وإن ارتفع شأنه واتّسعت ولايته وعظم جاهه .
قال بعضهم :
إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن
وأوصى بعض السلف ابنه فقال له : يا بنيّ لا تصحب من الناس ، إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك ، و إذا استغنيت عنه لم يطمع فيك ، وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك ومهما انقطع الوفاء بدوام المحبة ، شمت به الشيطان ، فإنه لا يحسد متعاونين على بر ،كما يحسد متواخيين في الله و متحابين فيه ، فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما ، قال تعالى :{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}[الإسراء].
قال بعضهم : ما تواخى اثنان في الله فتفرّق بينهما ، إلا بذنب يرتكبه أحدهما .
وكان بشر يقول : إذا قصر العبد في طاعة الله ، سلبه الله من يؤنسه ، و ذلك لأنّ الإخوان مسلاة الهموم و عون على الدين، ولذلك قال ابن المبارك : ألذّ الأشياء مجالسة الإخوان ، و الانقلاب إلى كفاية .
ومن آثار الصدق و الإخلاص و تمام الوفاء ، أن تكون شديد الجزع من المفارقة ، نفور الطبع عن أسبابها ، كما قيل:
وجدت مصيبات الزمان جميعها *** سوى فرقةِ الأحبابِ هيّنةَ الخَطْب
وأنشد ابن عُيينة هذا البيت و قال : لقد عهدت أقواما فارقتهم منذ ثلاثين سنة ، ما يخيّل إليّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي.
-  ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات عن صديقه.
 - ومن الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه : قال الشافعي رحمه الله : إذا أطاع صديقك عدوك ، فقد اشتركا في عداوتك .
2 ــ العفو عن الزلات، والتغاضي عن الهفوات، وستر العيوب، حسن الظنّ :
و من حقوق الأخوة حسن الظنّ بأخيه : قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ فإنّ بعد الظنّ إثم" (الحجرات 12) .
وقال النبي (ﷺ): "إياكم و الظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث " ( رواه الشيخان).
العفو عن زلاته، والتغاضي عن هفواته، يستر عيوبه، ويحسن به ظنونه، وإن ارتكب معصية سرًّا أوعلانية فلا يقطع مودته، ولا يهمل أخوته، بل ينتظر توبته وأوبته، فإن أصر فله صرمه وقطعه، أو الإبقاء على أخوته مع إسداء النصيحة، ومواصلة الموعظة رجاء أن يتوب فيتوب الله عليه.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «إذا تغير أخوك، وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى».
وإذا كان هذا مطلوب في المسلمين عامة ، فيتأكّد ذلك بين المتآخين في الله عزّ و جلّ ومن مناقب الإمام الشافعي ما قاله أحد تلامذته عنه الربيع بن سليمان قال : " دخلت على الشافعي وهو مريض فقلت له : قوى الله ضعفك ، فقال : لو قوى ضعفي قتلني ، فقلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير "
فينبغي أن يحمل كلام الإخوان على أحسن معانيه ، وأن لا يظن بالإخوان إلا خيرا ، فإن سوء الظن غيبة القلب.
3 ـ  التواضع :
و من حقوق الأخوة القلبية أن يتواضع لإخوانه ، و يسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه يكون هو خيرا منهم .
قال أبو معاوية الأسود : إخواني كلهم خير مني ، قيل و كيف ذلك؟ قال : كلهم يرى لي الفضل عليه ، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني
و مهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه ، و هذا في عموم المسلمين مذموم ، قال (ﷺ): " بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم " (رواه الشيخان) .
العنصر السادس : وسائل تعميق الأخوة :
1 ـ  إخباره بمحبته :
و من ذلك أن يخبره بمحبته له : عن أنس بن مالك قال : مر رجل بالنبي (ﷺ) وعنده ناس ، فقال رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله ، فقال النبي (ﷺ):"أعلمته؟"
قال : لا ، قال : " قم إليه فأعلمه " فقام إليه فأعلمه ، فقال : أحبّك الذي أحببتني له ثم قال ، ثم رجع فسأله النبي (ﷺ) فأخبره بما قال فقال النبي (ﷺ):"أنت مع من أحببت ، و لك ما احتسبت " (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي)
وعن المقدام بن معدى كرب عن النبي (ﷺ) قال :" إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه " (رواه أحمد و غيره)
وإنما أمر النبي (ﷺ) بالإخبار ، لأن ذلك يوجب زيادة حب ، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين و يتضاعف ، والتحابب بين المسلمين مطلوب في الشرع محبوب في الدين .
قال النبي (ﷺ): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ﷺ) {لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم } ( رواه مسلم].
وقال النووي : قوله :" لا تؤمنوا حتى تحابوا " معناه لا يكمل إيمانكم ، و لا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب " .
2  ـ دعوته بأحبّ الأسماء إليه :
و من ذلك أن يدعوه بأحبّ أسمائه إليه في غيبته و حضوره ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يصفين لك ودّ أخيك : أن تسلّم عليه إذا لقيته أولا ، و توسّع له في المجلس ، و تدعوه بأحب الأسماء إليه .
3 ـ الثناء عليه:
أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله و أكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه ، مع إظهار الفرح ، فإن إخفاء ذلك محض الحسد ، و ذلك من غير كذب و لا إفراط ، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة.
4 ـ  الدعاء له في حياته و بعد مماته :
و من ذلك الدعاء لأخيه في حياته و بعد مماته :
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله (ﷺ): " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : و لك بمثل" (رواه مسلم)
قال النووي رحمه الله : في هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ، و لو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ، و لو دعا لجملة من المسلمين فالظاهر حصولها أيضا .
وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب و يحصل له مثلها .
جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون أحد القراء المشهورين قال : كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه وكان يدعو لهم كل ليلة ، فتركهم ليلة فنام ، فقيل له في نومه يا أبا حمدون : لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة ، قال : فقعد فأسرج ، و أخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ.
  التودد باللسان :
فمن ذلك أن يتودد إليه بلسانه ، ويتفقده في الأحوال التي يحب أن يتفقد فيها ، وكذا جملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها ، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء و الضراء .

********************

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=888625

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=888626


 


ليست هناك تعليقات: