1 أغسطس 2023

وقفات تربوية مع حر الصيف

 




الحمد لله رب العالمين .. يقلب الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، فقال تعالى } يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ (44){ ] النور[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ..أمر بالتفكر في خلق السماوات والأرض فقال تعالى{إِنَّ في خَلْقِ السَّمَـاواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَـاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَـابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَـاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـاطِلاً سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)} [آل عمران].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) أمر بالتفكر في آلاء الله تعالى فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ): }تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله{.]رواه الطبراني في المعجم[
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
إن تعاقب الليالي والأيام ، وتتابع الشهور والفصول والأعوام ، آيةً من آيات الله الباهرات ، التي تحمل في طياتها الدروس والعـــبر والعظات .
إن المؤمن المستبصر يتخذ من كل حركة وسكنة في الكون آية تدله على عظمة خالقه وقدرته وحوله وقوته .
ومن آيات الله العظيمة اختلافُ الأحوال؛ ليلٌ ونهار، حرٌّ وبرد، شتاء وصيف، ربيع وخريف، ولله الحكمة البالغة في ذلك، وتأمَّل أخي المسلم .. نعمة الله على عباده في دخول الشتاء على الصيف، والصيف على الشتاء، كيف يكون بالتدرُّج والمهلة؟! يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديثه عن بعض حكم مخلوقات الله تعالى : ".... تأمل أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول ، وما فيها من المصالح والحكم ، إذ لو كان الزمان كلَّه فصلاً واحداً لفاتت مصالحُ الفصول الباقية فيه ، فلو كان صيفاً كلَّه لفاتت منافعُ ومصالح الشتاء ، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف ، وكذلك لو كان ربيعاً كلَّه أو خريفاً كلَّه ..
فـوا عجباً كيف يُعصى الإله         أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكه             وتسكينة أبداً شاهد
وفي كـل شيء له آيــة               تدل على أنه الواحـد
فالمسلم الحق له وقفات تربوية مع آيات الله الكونية لذلك كان موضوعنا }وقفات تربوية مع حر الصيف{ وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ الصيف آية من آيات الله الكونية .
2ـ العلاقة بين حر الدنيا وحر الآخرة.
3ـ وقفات تربوية مع حر الصيف.
4ـ الخاتمة.
العنصر الأول : الصيف آية من آيات الله الكونية:
إن الزمان بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه آية من آيات الله التي نصبها للعباد ذكرى وموعظة، وإن انقسام الأيام إلى صيف وشتاء من جملة آيات الله الكونية التي منَّ الله بها على العباد، وقد أخبرنا ربنا أن من صفات أولي الألباب والعقول السليمة التفكر في خلق الله، والتأمل فيه، وها هو الصيف قد حل بلفحه ولهيبه، وناره وسمومه، وفي الصيف فوائدُ نستفيدها، ووقفاتُ تأمل واعتبار في عجيب صنع الله الذي أتقن كل شيء، والذي كل شيء عنده بمقدار، قال تعالى }صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ (88){ ] النمل[
فبأمر الله تعالى يأتي الصيف ويذهب الشتاء، فإذا دخل الصيف فلا بد أن يتحرك القلب ، ويزداد الإيمان وتقوى العقيدة، لأنه يذكرنا بالله عز وجل؛ يذكرنا بقدرته وقوته ومشيئته ورحمته وإرادته وملكه، يذكرنا بآيات الله التي غفل عنها كثير من الناس ، حتى بات البعض لا يرى في فصل الصيف سوى أن درجة الحرارة  تعلو وتنخفض، وتكثر الحاجة للمكيفات، والماء البارد ، كل هذا دون أن ينبض القلب بلحظات تفكر وتأمل إيمانية، يتذكر فيها أن الصيف آية من آيات الله، قال تعالى : }وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(81){ [النحل].
العنصر الثاني : العلاقة بين حر الدنيا وحر الآخرة :
شدة الحر من فيح جهنم ، جاء في الصحيحين أن النبي (ﷺ) قال: }إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ { ] مسلم[
فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هي نفس من أنفاس جهنم فيا ترى ما عذابها إذاً؟
فحر الصيف يذكرنا بنار الاخرة، رأى عمر بن عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار، فبكى وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته        أو الغبـار يخــاف الشيــن والشعثا
ويألف الظــل كي يبقــى بشاشتـــه         فسوف يسكن يومــا راغمــا جدثا
فــي ظل مقفــــرة غبــــراء مظلمـــة       يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهــزي بجهــاز تبلغيـــن بـه يا نفس       قبــــل الردى لــــم تخلقي عبثـــا
فكم في حر الصيف من ذكرى، كم أشعل من أحشاء، وكم هيج من عروق، كم منا من لفَحَهُ حرّ الصيف، وعرَقَه يقطر من وجهه فما تذكر يوم القيامة، يوم يسيل العرق من العباد، فعن المِقْدَادِ بنِ الأسودِ قال: سمعت رسولَ الله (ﷺ) يقول: } تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ! فَيَكُونَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا ، قال: وأشار رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى فِيهِ{ ] رواه مسلم[
هل تدري أنَّ الشمس الحارقة التي تطلع علينا كلَّ يوم لولا وجودها، لَمَا وجدت الحياة أصلاً على وجه الأرض؟
هذه الشمس بضخامتها ولهبها المُحرِق تسجد بين يدي ربها مُطيعة مُذعنة كما ثبت في الحديث الصحيح، فقد أخرج البخاري أن النبي (ﷺ) قال لأبي ذر حين غربت الشمس: }أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيُؤذن لها، ويُوشِك أن تسجد فلا يُقبل منها وتستأذن فلا يُؤذن لها، يُقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"{ ]البخاري[
ويقول الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(18)} [الحجّ].
فعلام يتكبر بعض بني آدم عن السجود  لله تعالى طاعة له وامتثالاً قبل أن يُحال بينهم وبين السجود قال تعالى}يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(42) ]القلم[
فعلى المؤمن الحق  أن يجعل من فصل الصيف فرصة تذكره بيوم القيامة ،بكربه ونعيمه وجحيمه وأهواله، فإذا عانى العبد من شدة الحر فلا يجوز له سب الجو الحار والتذمر منه كما يفعل البعض من الناس وإنما عليه التحلي بالصبر وأن يجعل هذا الجو اللاهب وسيلة ليتذكر به سموم جهنم ومن ثم الاستجارة من عذاب جهنم، ومن فعل ذلك شفعت له جهنم عند الله عز وجل قائلة اللهم أجره مني. فقد روى أنس بن مالك  أن رسول الله (ﷺ) قال: }مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجَنَّةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ { [رواه الإمام أحمد والترمذي] .
فمن خاف من نار الدنيا وقاه الله تعالى نار الآخرة ، قال تعالى } قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ (26) فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ (27){ ] الطور[.
والله تعالى يذكرنا بنار الدنيا في القرآن الكريم  لتذكرنا بالآخرة فقال تعالى {أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ (71) ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ (72) نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ (73) فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ (74) } ] الواقعة [.
مع العلم بأن نار الدنيا هي جزء من سبعين جزء من نار الآخرة. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله (ﷺ) قال }ناركم هذه التَّي توقدون جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمُ، قالُوا والله إن كانت لكافيةٌ يا رسول الله، قالَ: فإنَّها فُضلت عليها بتسعةٍ وستينَ جزءًا كلُّها مثل حرِّها{ [متفق عليه] . ‌
العنصر الثالث : وقفات تربوية مع حر الصيف :
للمسلم مع فصل الصيف وشدة الحر وقفات تربوية منها ...
1ـ ابتلاء من الله عز وجل :
أن شدة الحر ابتلاء من الله عز وجل لعباده المؤمنين من جهة ،وعقوبة للعاصين من جهةٍ أخرى، وقد ابتلى الله المؤمنين بالحر في غزوة تبوك، فحين خرج النبي (ﷺ) إلى غزوة تبوك وكانت في حر شديد تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر فجاء الوعيد من الله فقال تعالى فاضحا المنافقين: }فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ (81) فَلۡيَضۡحَكُواْ قَلِيلٗا وَلۡيَبۡكُواْ كَثِيرٗا جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (82){ ]التوبة[
أما كون هذا الحر عقوبة، فإن الله عز وجل يعاقب عباده بأشياء كثيرة مما يكرهون ، قال الله تعالى: }وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ (30) { ]الشورى[
2ـ فرصة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى :
لا شك أن هذا يوجب علينا جميعاً سرعة الرجوع إلى الله والتوبة من كل المنكرات ، فإن هذا الحر نذير خطر، وإن الله يمهل ولا يهمل، قال تعالى:}ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) ]الروم[
فلنوقف أنفسَنا في عتبات المحاسبة، ولنقل لها: يا نفس، أتراكِ تطيقين الحر في ذلك اليوم؟
أيها الضعيف: كيف تهرب من حر الشمس ونسيت فيح جهنم ولا تهرب منها؟
أيها العاقل، ليكن صيفك واعظًا لك، ومذكرًا لك نارًا وقودها الناس والحجارة.
أيها الإنسان الضعيف ألك قوة على النار ؟ ألك قوة على غضبة الواحد القهار ؟
فهل من عودة صادقة إلى الله تعالى ؟
ومن قصص السلف رجل يسمى دينار العيار، كان مسرفًا على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة ، فتذكر مصيره ، وتذكر نهايته ، وتذكر أنه على الله قادم ، أخذ عظْمًا نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفسي، كأني بك غدًا قد صار عظمك رفاتًا، وجسمك ترابًا، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ألك قوة على النار؟
 يا دينار ألك قوة على النار؟  كيف تعرضت لغضب الجبار؟
وظل على ذلك أيامًا يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلا، فقال: يا أماه دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي موقفًا بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: بنياه أكثرت من إتعاب نفسك؟، قال: راحتها أريد، يا أماه ليتك كنت بي عقيمًا، إن لابنك في القبر حبسًا طويلا، وإن له من بعد ذلك وقوفًا بين يديْ الرحمن طويلا، وتمر ليالٍ وهو يقرأ قول الله، ويقوم ليله، بقول الله ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشيًا عليه. 
3ـ فرصة لا تفوت :
اتخاذ فصل الصيف فرصة لتزويد الحسنات ، وغنيمة لا تعوض ،ولا نعتبر الحر عائق عن طاعة الله عز وجل ،فكان الصالحون يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت؟
وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه عنْ النّبيِّ (ﷺ) قال: }إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ {.] صحيح مسلم [
وروى أنس بن مالك قال: كان رسول الله (ﷺ) }إِذَا كَانَ الْحَرُّ، أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ {. ]رواه  النسائي[.
فالسنة تأخير صلاة الظهر في الصيف حتى يظهر ظل يمشي فيه الناس وتعجيلها في الشتاء.
خرج ابن عمر رضي الله عنه في سفر معه أصحابه ، فوضعوا سُفرةً لهم، فمرّ بهم راعٍ ، فدعَوْه إلى أن يأكل معهم، فقال: إنّي صائم، فقال ابن عمر في مثل هذا اليوم الشّديد حرّه، وأنت بين هذه الشّعاب، في آثار هذه الغنم، وأنت صائم ؟! فقال: أُبَادِر أيّامي هذه الخالية.
ومن أراد الظل الظليل، في ذلك اليوم الطويل، فليكثر من الصدقة، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }إنّ الصّدقة لَتطفئُ عن أهْلِها حرَّ القُبورِ، وإنّما يستظلُ المؤمنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صَدَقَتِه{ [ رواه الطبراني في الكبير: والبيهقي في الشعب: وضعفه الألباني في الضعيفة, ثم تراجع وصححه في الصحيحة ] .
وقال (ﷺ) لأبي ذرٍّ :"لو أردتَ سفرًا أعددتَ له عُدَّةً ؟ قال : نعم , قال : فكيف سفرُ طريقِ القيامةِ ألا أُنبِّئُك يا أبا ذرٍّ بما ينفعُك ذلك اليومَ ؟ قال بلَى بأبي أنت وأمِّي قال : صُمْ يومًا شديدَ الحرِّ ليومِ النُّشورِ وصَلِّ ركعتَيْن في ظُلمةِ اللَّيلِ لوحشةِ القبورِ ، وحُجَّ حجَّةً لعظائمِ الأمورِ , وتصدَّقْ بصدقةٍ على مسكينٍ أو كلمةِ حقٍّ تقولُها أو كلمةِ شرٍّ تسكتُ عنها" .] ﺃﺧﺮﺟﻪ ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺍﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ[
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، حين حضرته الوفاة ، لم يتأسّف على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدّنيا، ولكنّه حزن على مفارقة قيام اللّيل، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب ، وعلى ظمأ الهواجر بالصّيام في أيّام الحرّ الشّديد.
ويقول أبو الدرداء موصياً أحبابه: "صوموا يوماً شديداً حرّه لحرّ يوم النّشور، وصلّوا ركعتين في ظلمة اللّيل لظلمة القبور".
وقد روى البزّار بإسناد حسن  كما في "صحيح التّرغيب والتّرهيب"عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ﷺ) بَعَثَ أَبَا مُوسَى رضي الله عنه عَلَى سَرِيَّةٍ فِي البَحْرِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، قَدْ رَفَعُوا الشِّرَاعَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، إِذَا هَاتِفٌ فَوْقَهُمْ يَهْتِفُ : يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ ! قِفُوا أُخْبِرْكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه: أَخْبِرْنَا إِنْ كُنْتَ مُخْبِراً، قَالَ: إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ أَعْطَشَ نَفْسَهُ لَهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ سَقَاهُ اللهُ يَوْمَ العَطَشِ"
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي (ﷺ) في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي (ﷺ) وابنِ رواحة{ [ رواه البخاري ،ومسلم] .
إن الموفق من عباد الله من يستحضر أن الصيام جنةٌ من العذاب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه ، أن النبي (ﷺ) قال: }من صام يومًا في سبيل الله باعَدَ الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا{ [ رواه البخاري ومسلم..] .
وروي أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء ، ووَصّى عمرُ رضي الله عنه ابنَه عبدَ الله فقال: "عليك بخصال الإيمان، وسمَّى منها الصومَ في شدّةِ الحرِّ في الصيفِ" [ رواه البيهقي في الشعب] .
وكان الصّالحون إذا شعروا بشدّة الحرّ قالوا: اللهمّ إنّي أعوذ بك من حرّ جهنّم.
 فإن المؤمن إذا رأى شدة الحر، تذكر قول الله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6){ [التحريم]، فيسعى لفكاك نفسه وأهله، من الأسباب التي تدخل النار.
4ـ الرضا بأقدار الله تعالى :
على المسلم أن يعلم أن الأيام كلها لله تعالى وأن جميع أحوال المسلم خيراً ،لا يستعجل قدر الله عز وجل ،فابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، وفي ذلك يقول الناظم:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء         فإذا جـاء الشتاء أنكره
فهو لا يرضــــى بحــال واحـــــد         قُتِل الإنسان ما أكفره
وهذا من طبع البشر ولكن المسلم يرضى بما قدر الله من خير، أو شر، فعن صهيب قال: قال رسول الله (ﷺ): }عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له {.] أخرجه مسلم [
ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومن حرم الصبر على ما قدر الله فهو المحروم.
5ـ الأيام لا تدوم على حال وهذه سنة كونية :
قال تعالى }وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ (140){ ] آل عمران[
إن هذا الحر له غاية مهما طالت أيامه، فبعد الحر يأتي الجو البارد، وهكذا الدنيا لا يدوم لها حال وهذا أعظم تنبيه للمسلم كي يدرك أن الشيء لا يدوم في هذه الدنيا، فالدنيا حر وبرد، غنى وفقر، قوة وضعف، عز وذل، صحة ومرض، حياة وموت ، ضيق وفرج، وفي هذا تنبيه للظالم أن ينتظر دوران الدائرة عليه، وتسلية للمكروب المبتلى الذي ينتظر فرج الله ، فكل أزمات الحياة لا تدوم على حال، بل إنها إذا ضاقت اتسعت، كما أنها إذا تعسّرت تيسّرت، وكلما اشتدت فُرِجَت، يقول ابن القيم :{الشدّة بتراء لا دوام لها وإن طالت}، فالقبض والبسط بيد الله تعالى وحده ، وكل الذين انتصروا في حياتهم هم من اتخذوا من العثرات سِلمًا ،ومن المعوقات تميزًا ،ومن الأوجاع نضجًا وقوة...
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها         فرجت وكنت أظنها لا تفرج
6ـ استشعار نعم الله تعالى :
علينا ونحن نواجه حر الصيف أن نستشعر جميل نعم الله علينا، وعظيم فضله بما يسَّر من وسائل نتقي بها حر الصيف، ولهيب الشمس، من ملابسَ وظلالٍ وارفة ، وأجهزةِ تبريدٍ وتكييفٍ قلبت الصيف شتاء، فبَرَدَ الهواءُ والماء في شدة الحر، واستطاع الإنسان أن يمارس حياته بشكل طبيعي ، فالحمد لله على نعمه. قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}[النحل] ، 
ولكي ندرك نعم الله تعالى القائل } وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ (34){ ] إبراهيم[
علينا أن نتذكر أناساً يسكنون بيوت الصفيح والخيام، وآخرين من الناس يعملون تحت سياط الشمس المُحرقة في شدة الهجير، فهل حمدنا الله تعالى على نعمه ؟
وهل نظرنا بعين الرحمة والمعونة إلى أولئك ،ولو أن نًواسيهم بشربة ماء بارد، فمن غرس شجرًا يريد به ظلاً للمسلمين، أو بنى مظلة، أو خانًا مكيفًا، لأجل للمسافرين، ونحو ذلك من توزيع الماء البارد، فإن فيه أجرًا عظيمًا، لأنه استعداد ليوم الحر، والبعث والنشور.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }أَيّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ{ ]رواه أحمد وأبو داود والترمذي[.
فسقيا الماء في الجو الحار له أجر كبير حتى ولو مع الحيوان ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال: }بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً، قال: في كل كبد رطبة أجر{ ]البخاري في الجامع الصحيح[. وإذا كان هذا في البهائم فما بالك بالإنسان المسلم.
فمن نعم الله عز وجل الماء البارد ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له : ألم أصح لك جسمك وأروك من الماء البارد { ] رواه الترمذي بسند صحيح[
لذلك كان من دعاء النبي (ﷺ): "اللهم  اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"
ولعظم الماء البارد وأهميته كان من أعظم أماني أهل النار يوم القيامة شربة ماء يروُون بها ظمأهم فيحرمها الله عليهم، كما حكى القرآن الكريم حالهم فيقول تعالى: }وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ {، فيقول لهم أهل الجنة: }إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50){[الأعراف].
الخاتمة ..
على الإنسان العاقل أن يسأل نفسه وهو يتَّقي حرَّ الدنيا، ماذا أعدَّ لحرِّ الآخرة ونارها؟
فيا مَن لا يطيق حرارة الجو، يامن لا يتحمَّل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنتم وحرارة جهنم؟! والشمس تدنوا من الرؤوس يوم القيامة؟
اعمل لنفسك غداً لكي تكون في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر النبي (ﷺ) فعن أبي هريرة رضي الله عنه: }سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه{ ] رواه البخاري ومسلم [
فهنيئًا لكلِّ مَن يقضي شهور الصيف في طاعة الله تعالى، وهنيئًا لمن يستغلُّ حرارة الصيف في التقرب إلى الله  عزَّ وجلَّ ، وهنيئًا لكل من لم تمنعه حرارة الصيف عن تقديم عمل صالح ينال به الأجر والثواب.
سبحانك يا فارج الهم، ويا كاشف الغم، فرج همنا، ويسر أمرنا، وارحم ضعفنا ، وقلة حيلتنا،  اللهم خفف عنا حرارة الشمس الحارقة ، اللهم قنا شر هذا الحر واحمنا منه، ومما يحمل من أذى، اللهم لا تجعل فيه المرض ولا الهلاك لأحدٍ من عبادك ، اللهم خفف حرارة الشمس وأثرها علينا وأجرنا من حر الدنيا وحر الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين".

اللهم آمين

=========

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=296633

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=296634


ليست هناك تعليقات: