16 يناير 2020

حق الطريق في الإسلام



الحمد لله رب العالمين .. جعل الأخلاق من الإيمان، وجعل سوءها من العصيان، فأمر بحسن الخلق فقال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(11)}[الحجرات].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ..جعل الخير كل الخير في التأدب بآداب الإسلام، وإن الهلاك والشقاء والخسران في الإعراض عن دين الله تعالى فقال تعالي {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ (7)}[الحشر].
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله () حدد الغاية الأولي من بعثته والمنهاج القويم في دعوته فقال صلي الله عليه وسلم {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}[صححه الألباني في السلسلة الصحيحة].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
أما بعـد: فيا أيها المؤمنون..
لقد تفرد الإسلام العظيم بتشريعات خاصة أحاطت بكل شيء، ولم تترك شيئًا (إنسانا أو حيوانا أو جمادا) إلا أنصفته وجعلت له حقوقا لا ينبغي لأحد أن يتعداها ، واعتبر الالتزام بهذه الحقوق دين يدين العبد به لله تعالي وعبادة وقربي يتقرب من خلالها الإنسان إلي الله عز وجل ، وبأدائها يحظى العبد بمرافقة النبي () في الآخرة .
أَلا وَإِنَّ مِنَ الحُقُوقِ والآدَابِ الَّتي أَولاهَا الإِسلامُ عِنَايَةً وَأَحَاطَهَا بِالرِّعَايَةِ، مَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ لِبَعضِهِم في طُرُقَاتِهِم وَأَسوَاقِهِم، مِمَّا أَهمَلَهُ كَثِيرٌ مِنهُمُ اليَومَ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَفَرَّطُوا فِيهِ وَتَجَاهَلُوهُ شَبَابًا وَشِيبًا.
وَلِتَأكِيدِ حق الطريق في الاسلام ، نَهَى النَّبيُّ () عَنِ الجُلُوسِ فِيهَا، وَأَمَرَ بِإِعطَائِهَا حَقَّهَا، فَقَالَ:{إِيَّاكُم وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِن مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ:
فَإِذَا أَبَيتُم إِلاَّ المَجلِسَ فَأَعطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ  قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: غَضُّ البَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ}[مُتَّفَقٌ عَلَيهِ]..
وحديثنا عن هذا الموضوع من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية :ـ
1ـ مفهوم الطريق في الإسلام .
2ـ علاقة احترام حق الطريق بالإيمان .
3ـ حق الطريق في الإسلام .
4ـ أثر احترام حق الطريق في المجتمع .
5ـ الخاتمة .
===================
العنصر الأول : مفهوم الطريق في الإسلام :ــ
الطريق مرفق عام وملك للناس جميعا . فالكل يمشي فيه ويستخدمه و لا غني لأحد عنه .
فلا يجوز الجلوس فيه علي نحو يعرقل المرور و يضيق علي الناس مصالحهم .ويخدش حياء المارة .
وبذلك نستنتج ان الشريعة الاسلامية تتسم بالشمولية و الرحمة في تشريعاتها ، و جاءت لإسعاد البشرية من خلال تحقيق مقاصد خمسة هي : حفظ الدين و النفس و المال و العقل و العرض .
إن الطريق يطلق على كل الممرات العمومية التي يسلكها الناس كالشوارع و الأزقة و غيرها …
العنصر الثاني : علاقة احترام حق الطريق بالإيمان :ــ
إن احترام حق الطريق والحفاظ علي المرافق العامة من الأخلاق العالية التي جاءت رسالة الإسلام تهذبها وتقويها كما قال النبي (){إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ).
فإن كمال الأخلاق من كمال الإيمان، ونقصها من نقص الإيمان؛ فالمؤمن حين يتحلى بحسن الخلق طاعة لله تعالى فإنما يدفعه لذلك إيمانه بأنه مأمور بحسن الخلق، مثاب عليه، معاقب على تركه، وارتباط الأخلاق بالإيمان وثيق جدا؛ ولذا نُفي كمال الإيمان عن جملة من الناس ساءت أخلاقهم.
ولم يعُدِ الإسلام الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان، ومجالاً للتنافس بين العباد؛ فقد جعله النبيُّ () أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال:{إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا، أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا، الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون}.
وكذلك جعَل أجر حُسن الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ () قَالَ: {مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ} [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد].
وجعَل كذلك أجرَ حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال:{إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم}.
بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الحنة؛ فقد سُئل () عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟ فقال: (تقوى اللهِ وحُسن الخُلق).
لذلك فإن هناك علاقة طردية بين الإيمان والأخلاق: فكلما كان الإيمان صحيحاً قوياً أثمر أخلاقاً حميدة ،والإيمان القوي يلد الخلق القوي حتما ،وأن انهيار الأخلاق مرده إلي ضعف الإيمان ، أو فقدانه بحسب تفاقم الشر أو تفاهته .
لذلك قال عليه الصلاة والسلام : {أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً} [رواه أبوداود والترمذي وصححه الألباني] .
وعلمنا النبي () أن إزالة الأذى عن الطريق، بل هي من الإيمان: قال صلى الله عليه وسلم:{الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان} (رواه البخاري).
وهي من الصدقات، وبسببها أدخل رجل الجنة، ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (): {كل سلامى من الناس عليه صدقة… ثم قال: وتميط الأذى عن الطريق صدقة) (رواه البخاري ومسلم} .
وعنه أيضاً أن رسول الله () قال: {بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفرله } (رواه البخاري ومسلم) .
وَقَالَ ({لَقَد رَأَيتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِن ظَهرِ الطَّرِيقِ كَانَت تُؤذِي النَّاسَ }[رَوَاهُ مُسلِمٌ].
وعند أبي داود: قال رسول الله: (): {نزع رجلاً لم يعمل خيراً قط غصن شوك عن الطريق، إما كان في شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعاً فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة}.
وقال في ارشاد الضال فعن البَرَاء بْن عَازِبٍ رضى الله عنه :قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ () َقُولُ: {مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ} ( رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (أَوْ هَدَى زُقَاقًا): يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ وَهُوَ إِرْشَادُ السَّبِيلِ.
فإذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا فما قيمة دين بلا خلق ، وما معني الإفساد مع الانتساب لله تعالي ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين .
العنصر الثالث : حق الطريق في الإسلام :ـ
إن من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن جعل لها الإسلام الحنيف منهجاً متكاملاً للحياة… يقودها إلى الصواب، ويشيع فيها الأمن والسلامة وكريم الأخلاق، وجميل السجايا، وطيب الفضائل، وأقوم سبل السلوك البشري في الحواضر والبوادي… في المزارع والمصانع… في المساكن والمدارس… في الحافلات والقطارات… في الأزقة والطرقات…
ولقد جعل الله تعالي الناس شركاء في طرقهم التي يسيرون فيها، فكان لهذه الطرق حقوق تحفظ على الناس أخلاقهم، وتديم الألفة والمودة بينهم، وهذه الحقوق جاء ذكرها في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ» متفق عليه.
فهذا الحديث أصل عظيم في أن للطرق حقوقا ولو لم يملكها أحد، وكانت مشاعا بين الناس. ولأجل هذه الحقوق كان الجلوس في الطرقات مظنة الوقوع في الإثم، فكان الأصل هو النهي عن الجلوس فيها احترازا من الإثم، لكن الصحابة رضي الله عنهم طمأنوا النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن مجالسهم فيها مجالس خير لا مجالس شر، يبين ذلك حديث آخر عن أَبي طَلْحَةَ رضي الله عنه قال: «كُنَّا قُعُودًا بِالْأَفْنِيَةِ نَتَحَدَّثُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ () ، فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ، اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ، فَقُلْنَا إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَاسٍ قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ قَالَ: إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا: غَضُّ الْبَصَرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ» رواه مسلم.
ونتناول الكلام حول هذا من خلال فهمنا لحديث النبي () وذلك من خلال هذه النقاط :ـ 
معني الجلوس في الطرقات :ــ
هو اللبث في الطرقات سواء اتخذ مجلسا في ناصيتها، أو دكة عند بيته، أو كرسيا خارج دكانه، أو كان في مقهى أو مطعم يجلس على حافة الطريق أو نحو ذلك، فكل ذلك جلوس في الطريق. وليس المعنى ذات الجلوس، وإنما اللبث في الطريق فلو جلس في سيارته، أو وقف يتحدث مع صديقه، أو ينتظر أحدا، فكل أولئك يتناولهم حق الطريق المنصوص عليه في الحديث.
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام جملة من الحقوق للطريق يجب على من كان في الطريق أن يراعيها، وهي :ـ
الحق الأول :غض البصر:ــ
لأن الطرق تسلكها نساء لحاجتهن، وقد تُفتح أبواب بيوت أو نوافذها فيكشفها الجالس في الطريق فوجب عليه أن يصرف بصره، ولا يطلقه في نساء الناس وبيوتهم وعوراتهم، ولا يؤذي مسلما يحمل في يده متاعا له فيرمقه ببصره لمعرفة ما معه؛ فإن هذا من سوء الأدب، ومن التطفل على حقوق الغير، ومن إطلاق البصر فيما لا ينبغي، مع ما يسببه من حرج وأذى لأخيه، ومما يعارض غض البصر في الطريق ما يفعله بعض الناس من الاطلاع على ما بداخل سيارات الناس من نساء وأطفال ومتاع في الطرقات وعند الإشارات وفي الزحام، وكل هذا مما ينافي الأخلاق، ويقدح في المروءات، ويسبب الأذى.
وغض البصر أمر به الله تعالي في قوله { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ(31)} [النور].
 قال ابن كثير رحمه الله : هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَنْظُرُوا إِلَّا إِلَى مَا أَبَاحَ لَهُمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى مُحرَّم مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَلْيَصْرِفْ بَصَرَهُ عَنْهُ سَرِيعًا. (تفسير ابن كثير) فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي))( رواه مسلم) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ () قَالَ لِعَلِيٍّ: {يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّمَا لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ}. (رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع )
والعبد مسئول يوم القيامة عما أبصر {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}[الإسراء].
وذلك لأن في هذا النظر انتهاك لحرمات الآخرين، كما أنه ذريعة للزنا، والأمر بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على حدٍّ سواء، لما في ذلك من المفاسد العظيمة، فَإِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، وَمَنْ أَطْلَقَ لَحَظَاتِهِ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ.
فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُفَرِّقُ الْقَلْبَ وَيُشَتِّتُهُ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. (الداء والدواء) وأصلُ كلِّ شرٍّ ومبدؤه من النظر،
فلو أنه غض بصره لارتاحت نفسه وارتاح قلبه .
في أيامنا نجد الطرقات والأرصفة مليئة بالشباب يتصيدون النساء، وخاصة طالبات المدارس بعد خروجهن من المدرسة أو المعهد أو الجامعة ، فتجد الأرصفة ملأ بهؤلاء الشباب الذين لم يعطوا أي حق للطريق ، ولم يراعوا حرمة أعراض المسلمين ، فأطلقوا العنان للبصر بدلا عن أن يغضوه، وبذلوا الأذى بدلا من أن يكفوه ، وأمروا بالمنكر وكان المفترض أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فهؤلاء يحرم عليهم الجلوس على الطرقات، ويأثموا ببقائهم فيها؛ لأنهم لم يعطوا الطريق حقه .
فهؤلاء الذين يتخوضون في أعراض المسلمين ، وهؤلاء الذين ينتهكون حرمات المؤمنين ، أما يتقون الله ، أما يخافون عقابه ، هل يرضون أن يفعل ذلك أحد مع أخواتهم أو زوجاتهم أو إحدى قريباتهم ؟ ألم يعلموا أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ولا يظلم ربك أحداً؟
وعن ابن عمر قال : صعد رسول الله () على المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : “ يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لاتؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ”
ومن أغرب القصص الواقعي :ـ يروى أن شابا أراد السفر لغرض التجارة، فأوصاه أبوه بالمحافظة على تقوى الله في السر والعلن، وحذره من اقتراف المعاصي والآثام؛ فسار هذا الشاب في سفره، وفي يوم من الأيام والشاب مسافر، كان عند الأب شاب سقا يجيء إليه بالماء ، وكانت عادته أن يطرق الباب، فتفتح له بنت ذلك الرجل ، وفي يوم من الأيام فوجئ الرجل بذلك السقا يقبّل ابنته ويهرب، فما كان منه إلا أن تحين رجوع ابنه من سفره ليسأله عن سفره وعن أخباره وماذا فعل في غيابه ، فأجابه الإبن بكل شيء ،من أمور التجارة من ربح وخلافه ،إلا أن الأب سأله مرة أخرى عن ماذا فعل في سفره من المعاصي؟
فأنكر الإبن، ولكن بعد إلحاح الأب عليه جعل يعترف، وكان مما اعترف به أنه رأى امرأة شابة فظفر منها بقبلة، فقال له أبوه دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقا، قال الشاعر:
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعـــــاً      سبل المودة عشت غير مكرمِ
لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ           ما كنت هتّاكاً لحرمة مسلمِ
إن الزنا دين فإن أقرضتــه         كان الوفاء من أهل بيتك فأعلمِ
من يَزنِّ يُزنَّ ولو بجداره               إن كنت يا هذا لبيباً فأفهمِ
فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، (ولا يظلم ربك أحداً)،و قال الله تعالى{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}
الحق الثاني: كف الأذى :ـ
وهي كلمة جامعة تتناول كل أذى بالقول أو الفعل أو الإشارة أو حتى مجرد النظر، ومنه أذى الناس بالسيارات بالسرينة العالية ، وترويعهم بها، والصخب و الصفير والضجيج بالغناء وإقامة الأفراح، أو رفع أصوات المذياع أو الكاسيت أو مكبر الصوت ، بحيث تزعج المارة ويصل إزعاجها إلى داخل البيوت، فتوقظ النائم، وتضجر المريض، ولا سيما إذا كان صوتا محرما من غناء وموسيقى صاخبة، وبعض الشباب يؤذي غيره بذلك وهو لا يشعر.
وكذلك السبّ والشتم والقذف وهذا مما لا يخفى على أحد: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ({لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ}[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد] .
ومنهم من يغلق الطريق بسيارته للحديث مع آخر أو لدلالته إن كان ضائعا؛ فيعمل خيرا ويكسب إثما؛ لأنه عطل من وراءه لدلالة من بجواره، وهذا لا يجوز.
وأقبح منه من يوقف سيارته بطريقة يغلق بها الطريق أو يضيقه على المارة، فكل من مرَّ وتأذى بفعله شتمه أو دعا عليه، وهو لا يدري مغبة ما فعل. وأيضا التعدي على الطريق بالبناء، واستخدامه استخدامًا خاصًّا، وذلك كثير..
وفي ذلك قال النبي ({من أخذ شبرا من أرض ظلما طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين }[رواه البخاري ومسلم] .
ومن الأذى في الطريق: إلقاء النفايات في الطريق ، ولا سيما ما فيه خطر كالزجاج والمسامير، أو ما فيه روائح خبيثة تؤذي المارة، وفاعل ذلك يجني من الأوزار بقدر ما آذى من المارة. وقد قال النبي () :«اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» رواه مسلم.
وأيضا إلقاء القمامة والقاذورات في الطريق: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ()  قَالَ: {مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ}. [رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع] .
وقد فتح الله تعالي أبواب الخير للانسان من أوسع الأبواب ،فقال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ: يَعدِلُ بَينَ الاثنَينِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ على دَابَّتِهِ فَيَحمِلُهُ عَلَيهَا أَو يَرفَعُ عَلَيهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا إِلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ }[رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ]
وَقَالَ ({عُرِضَت عَلَيَّ أَعمَالُ أُمَّتي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدتُ في مَحَاسِنِ أَعمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدتُ في مَسَاوِئِ أَعمَالِهَا النُّخَامَةَ تَكُونُ في المَسجِدِ لا تُدفَنُ }[رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ].
وقد أهتم علماء الإسلام بالطريق اهتماما كبيرا ومما أُثرعن بعضهم مايلي :ـ
قال أبو طالب المكي رحمه الله تعالى: وكان الورعون لا يشترون شيئاً ممن قعد يبيعه على طريق، وكذلك إخراج الرواشن من البيوت وتقديم العضايد بين يدي الحوانيت إلى الطريق مكروه…
وعن أبي بكر المروزي أن شيخاً كان يجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ذا هيبة، فكان أحمد يُقبل عليه ويكرمه، فبلغه عنه أنه طيَّن حائط داره من خارج قال: فأعرض عنه في المجلس، فاستنكر الشيخ ذلك، فقال: يا أباعبد الله، هل بلغك عني حدث أحدثته؟ قال: نعم، طيّنت حائطك من خارج، قال: ولا يجوز؟ قال: لا؛ لأنك قد أخذت من طريق المسلمين أنملة، قال: فكيف أصنع؟
قال: إما أن تكشط ما طينته، وإما أن تهدم الحائط وتؤخره إلى وراء مقدار أصبع ثم تطينه من خارج، قال: فهدم الرجل الحائط وأخّره أصبعاً ثم طينه من خارج، قال: فأقبل عليه أبو عبد الله كما كان. قال أبو طالب المكي: ومما كرهه السلف طرح السنّور والدابة على المزابل في الطرقات(والسِّنَّوْرُ : حيوانٌ أَليفٌ ، من الفصيلة السِّنَّوْريَّةِ ورتبة اللَّوَاحم) ، فيتأذى المسلمون بروائح ذلك. وكان شريح وغيره إذا مات لهم سنّور دفنوها في دورهم.
ومثله إخراج الميازيب علي السطوح وصبها إلى الطرقات.
وعقد أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى فصلا عنوانه (منكرات الشوارع) أطال فيه فكان مما قال: فمن المنكرات المعتادة فيها وضع الاسطوانات، وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة، وغرس الأشجار، وإخراج الرواشن والأجنحة، ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطرق، فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ إِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيقِ الطُّرُقِ وَاسْتِضْرَارِ الْمَارَّةِ…
وَكَذَلِكَ رَبْطُ الدَّوَابِّ عَلَى الطَّرِيقِ بِحَيْثُ يَضِيقُ الطَّرِيقُ، وَيُنَجِّسُ الْمُجْتَازِينَ مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَةِ النُّزُولِ وَالرُّكُوبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّوَارِعَ مُشْتَرَكَةُ الْمَنْفَعَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا إِلَّا بقدر الحاجة، والمَرْعَيُّ هو الحاجة التي تراد الشَّوَارِعُ لِأَجْلِهَا فِي الْعَادَةِ دُونَ سَائِرِ الْحَاجَاتِ، وَمِنْهَا سَوْقُ الدَّوَابِّ وَعَلَيْهَا الشَّوْكُ بِحَيْثُ يُمَزِّقُ ثِيَابَ النَّاسِ فَذَلِكَ مُنْكَرٌ…
وكذلك ذبح القصاب (الجزار) إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه…
وكذلك طرح القمامة على جوادّ الطرق، وَتَبْدِيدُ قُشُورِ الْفاكهة مثل الموز وغيره ، أَوْ رَشُّ الْمَاءِ بِحَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ التَّزَلُّقُ وَالتَّعَثُّرُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ المنكرات .
ومن أذي الطريق : إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم. فالمسلم الحقٌّ يكفُّ الأذى في الطريق فلا يؤذِي الناسَ بلسانه، لا كلامًا سيّئًا، ولا همزًا ولمزًا وعيبًا، ولا سخريّة واحتقارًا، هو كافٌّ الأذى عن الناسِ، لا يؤذيهم لا بالأقوالِ كما لا يؤذيهم بالأفعال. قال الله تعالى متوعداً من يتعرض للمؤمنين بأيِّ نوع من الأذى{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(58)} [الأحزاب].
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِنْ ضَعُفْتَ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَعَلَيْكَ بِثَلَاثٍ: إِنْ ضَعُفْتَ عَنِ الْخَيْرِ فَامْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْفَعَ النَّاسَ فَامْسِكْ عَنْهُمْ ضُرَّكَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ فَلَا تَأْكُلْ لُحُومَ النَّاسِ. (تنبيه الغافلين للسمرقندي).
قال النووي: وَيَدْخُلُ فِي كَفِّ الْأَذَى اجْتِنَابُ الْغِيبَةِ وَظَنِّ السُّوءِ وَإِحْقَارِ بَعْضِ الْمَارِّينَ وَتَضْيِيقِ الطَّرِيقِ وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مِمَّنْ يَهَابُهُمُ الْمَارُّونَ أَوْ يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمُرُورِ فِي أَشْغَالِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الْمَوْضِعِ. (شرح النووي على مسلم).
ومن الأذي في الطريق:ـ التبرج السافر الذي تعجُّ به طرقات المسلمين: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ({صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا}[رواه مسلم].
الحق الثالث : رد السلام:
رد السلام واجب فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (){خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز} .
أما إفشاء السلام ابتداءً ورداً؛ فأدب كريم يتخلق به أبناء الإسلام، وحقٌ يحفظونه لإخوانهم، يغرس المحبة، ويزرع الألفة، ويغسل الأحقاد، ويزيل الإحن، ويستجلب به رضا الله وغفرانه، وهو من حق المسلم على أخيه فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ () قَالَ: {حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ)) قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ، قَالَ: (إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ} (رواه مسلم).
وإلقاء السلام سببٌ لنشر روح المحبة بين المسلمين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ({لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ} ( رواه مسلم).
وأمر الإسلام بإلقاء السلام علي تعرف ومن لا تعرف لأن إلقاء السلام علي من تعرف فقط خللٌ ومخالفة للسنة.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ (): أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: {تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ} (رواه البخاري ومسلم).
الحق الرابع: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:ـ
هذا باب عظيم الشأن والقدر، به كانت هذه الأمة خير الأمم: كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ . وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة للأمة، منها:ـ
نجاة سفينة المجتمع من الهلاك والغرق، ومنها قمع الباطل وأهله، ومنها كثرة الخيرات والحد من الشرور، ومنها استتباب الأمن، ومنها نشر الفضيلة وقمع الرذيلة… إلخ هذا الفقه العظيم الدقيق، وهذا الأدب الجم الرفيع، هو لحفظ حق الطريق. ومن الواجبات على أهل الطريق: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الطرق يقع فيها ما يقع من التقصير، ومن ظهور بعض المنكرات، فالواجب على المؤمن إذا رأى شيئاً في الطريق ألا يسكت، بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل الأعمال وأجلِّ القربات لأنه قطب الدين العظيم، والمهمة التي بعث الله تعالى بها الأنبياء والمرسلين، وهو كذلك سبب خيرية هذه الأمة، وبه يحصل النجاة من الهلكة. قال تعالى{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)} [آل عمران].
وقال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة].
وعن أبي سَعِيدٍ الخدري رضى الله عنه-قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ()  يَقُولُ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ}. (رواه مسلم).
ثمَّ إنَّ التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمره خطير وشره مستطير، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في انتشار الموبقات في شوارع المسلمين ونواديهم، ويترتب على ذلك تعميم العقاب وعدم استجابة الدعاء. قال تعالى{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي() أنه قال : {ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده}[رواه الترمذي] .
ولكن إذا أدى تغيير المنكر إلى منكر أشدّ، فإنه لا يجوز تغييره. وهذه قاعدة من قواعد الشرع المعتبرة كما قال الله تعالى { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (108)} [الأنعام].
فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لِآلِهَتِهِمْ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ اللَّهَ تَعَالَى، وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ. (إعلام الموقعين).
العنصر الرابع : أثر احترام حق الطريق في المجتمع:ـ
كلما ازداد تمسك المسلم بمكارم الاخلاق وفضائلها زادت قيمته وزاد رضا الله عنه وأحبه الناس وتعلقوا به وأصبح موضع ثقتهم واحترامهم . ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة ، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة .
1- نشر الأمن والأمان بين الأفراد والمجتمع :ــ
إن أي مجتمع لا يمكن أن يعيش أفراده بأمان وانسجام ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة. فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ لأن بها يتم إصلاح الفرد الذي هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع كله.
وصدق القائل:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
إذ كيف يكون هناك ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع لولا فضيلة الصدق التي أساس الإسلام، وعقد الحياة في حياة الإسلام الاجتماعية. وكيف يكون تعايش بين الناس في أمن وسلام لولا احترام الحقوق والواجبات . وكيف نتصور مجتمعا مثاليا، قادرا على قيادة العالم نحو الأفضل بدون مكارم الأخلاق؟
إذا فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية في كل عصر من العصور حتى تصير أفراد المجتمع أفرادا مسئولا وواعيا.
2ـ المساهمة في خدمة المجتمع، ورفع معاناته، وتقديم ما يفيد للأمة والبشرية:ـ
فالمؤمن مثل الغيثِ أينما حلَّ نفَع، أنه لا نجاة ولا سعادة إلا التمسك بحقائق الإسلام التي تتمثل في التحلي بمكارم الأخلاق واتباع شريعته، يقول أحد العلماء: “…
لا سعادة للمجتمع إلا بتحقيق حقائق الإسلام وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا أو تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلا فلا عدالة قطعا ولا أمان مطلقا إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقا بيد الكذابين والمرائين “.
كما أن التزام الناس بمكارم الأخلاق يؤدي إلى تقدم المجتمع وسعادته، وأن الغرب ما تفوقوا علينا إلا باتخاذهم ببعض المكارم التي يأمر به ديننا الحنيف.
3- وجود الأُلفة والمحبة بين الناس..
4- الإيجابية في المجتمع، وتفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشتملاً على أسسه وقواعده دون تنفير للناس، أو تغييب للشريعة وتعاليمها. وقتل البطالة والقضاء علي الكسل والخمول .
5- بذل الخير للناس بحب وسعادة غامرة، وتفعيل الإنتاج، وثقافة البذل والعطاء بين المجتمع، و خلق مجتمع متكافل و متحضر .
الخاتمة :
أيها المسلمون ..
ألا فلنتق الله ربنا، ولنتأدب بآداب ديننا، ولنجتنب ما نهينا عنه؛ فإن الخير كل الخير في التأدب بآداب الإسلام، وإن الهلاك والشقاء والخسران في الإعراض عن دين الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ (7)} [الحشر].
ولنعلم أن الإسلام الحنيف ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبينها وما ترك خيرا إلا وأرشدنا إلي فعله وما ترك شرا إلا وحذرنا من فعله ، قال تعالي {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (38)}[ الأنعام] .
أقول ما تسمعون وأستغر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه , وصلوا وسلموا على نبيكم محمد وعلي أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
انتهت بفضل الله ورحمته
=========
رابط doc
رابط pdf

ليست هناك تعليقات: