الحمد لله رب العالمين. أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى .
فقال تعالي (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) (الإسراء).
فنحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله العظيم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. وعده عباده بالنصر والتمكين فقال تعالي (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) الصافات .
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلي بالأنبياء إماما بالمسجد الأقصي وأمر بشد الرحال إليه فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى».
المسجد الأقصى هنا مسرى الرسول مشى المسيح ها هنا وأمه البتول زوها هنا الفاروق شاد مسجدا هنا صلاح الدين روى العدا هنا الوليد والمجيد والشهيد ….
فاللهم صلِّ وبارك على هذا النبي وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ……
أما بعــــــد : فيا أيها المؤمنون ..
لكل أمة مقدسات تعتزّ بها، وتلتفّ حولها، وتدافع عنها بكل غال ونفيس.
وقد أكرم الله تعالى الأمة الإسلامية بكثير من المقدسات، وعلى رأسها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والسنة النبوية الشريفة، هذا في مجال النصوص، يُضَافُ إلى ذلك أزمنة مخصوصة وأماكن معيّنة، فمن الأزمنة شهر رمضان وليلة القدر ويوم الجمعة، ومن الأماكن الكعبة المشرفة والمسجد النبوي والمسجد الأقصى في القدس. والله سبحانه وتعالى هو الذي أضفى التقديسَ والتكريمَ على المقدسات التي تعتز بها الأمة الإسلامية، فهو الذي قدسها وبارك فيها وحولها؛ ومن هنا كانت الإشارة في القرآن الكريم إلى الشهر الحرام والمسجد الحرام والمشهد الحرام والأشهر الأربعة الحرم والكعبة والبيت الحرام والمسجد الأقصى الذي باركه الله وبارك حوله. وهكذا كل مقدسات الإسلام، استمدت قداستها منه سبحانه وتعالى فهو وحده القُدُّوس وهو وحده الذي يمنح التقديس لما يشاء من الأمكنة والأزمنة التي ظلّت الأمّةُ تعتزّ بها وتحافظ عليها وتدافع عنها بالأنفس والأموال.
ويحلو لنا في ذكري الإسراء والمعراج أن نتحدث عن القدس والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، كما نصّ عليه في كتابه الخالد.وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية …
1ـ مكانة بيت المقدس في الإسلام .
2ـ بيت المقدس في القرآن الكريم .
3ـ العلاقة بين الإسراء وبني اسرائيل .
4ـ الفتح الإسلامي لبيت المقدس .
5ـ صلاح الدين في بيت المقدس .
6ـ واجب الأمة تجاه بيت المقدس والمسجد الأقصي .
==========================
العنصر الأول : مكانة بيت المقدس في الإسلام :ـ
القدس مدينة السلام، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم عليه السلام، ومأوى الرسالات والديانات.
هذه القدس التي شرفها الله عز وجل بذكرها في كتابه الكريم، فقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1].
إن للقدس والمسجد الأقصي مكانة عظيمة عن الله تعالي فهي جزء من عقيدة المسلمين فهي مسري رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو أولي القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ،عندما بدأ رسول الله صلي الله عليه وسلم يصلي ، اتجه نحو المسجد ألأقصى وليس نحو الكعبة ، وذلك ليرتبط هذا المسجد في وجدان المسلمين ، نذكر بعضاً من مكانة القدس في الإسلام وهي:ــ
1ـ أرض مباركة :ـ
قال تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِيْ أَسْرٰى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إِلَى الْـمَسْجِدِ الأقْصىٰ الَّذِيْ بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ» (الإسراء:1) قيل: لو لم تكن له فضيلة إلا هذه الآية لكانت كافية، وبجميع البركات وافية لأنه إذا بورك حوله، فالبركةُ فيه مضاعفة. وقال تعالى: «وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوْطاً إلَى الأَرْضِ الَّتِيْ بَارَكْنَا فِيْهَا لِلْعَالَمِيْنَ» (الأنبياء: 71).
وقال تعالى: وَ اَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِيْنَ كَانُوْا يُسْتَضْعَفُوْنَ مَشَارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبَها الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا» (الأعراف: 137).
وفي قصة سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى:«ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِيْ بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِيْ بَارَكْنَا فِيْهَا» (الأنبياء:81)
وعند حديث القرآن عن هناءة ورغد عيش أهل سبأ يقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِيْ بَارَكْنَا فِيْهَا قُرىً ظَاهِرَةً» (سبأ:18)؛ وهي قرى بيت المقدس كما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2ـ أرض مقدسة :ـ
وقال تعالى: «يَا قَوْمِ ادْخُلُو الأرضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوْا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوْا خَاسِرِيْنَ» (المائدة:21).
3ـ قسم الله تعالي :ـ
وقال تعالي (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3) التين .
قال بعض المفسرين أن المقصود بالتين بلاد الشام والزيتون بيت المقدس والبلد الأمين مكة المكرمة . والمعنى واضح أن ربنا يقسم بأقدس وأهم ثلاث أماكن لديه في الأرض.
فانظر إلى عظم هذه السورة ودلالاتها التي أقسم الله فيها بأرض فلسطين ثم أقسم بجبل الطور ثم أقسم بالبلد الأمين. وعظمة الأمر أن رب العزة ابتدأ قسمه بأرض التين والزيتون أرض فلسطين التي هي مسرى النبي (صلي عليه وسلم) ، وأولى القبلتين ، وثالث الحرمين بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي .
لذا ضروري أن ندرك أن هذه الأماكن الثلاثة مرتبطة سويا ارتباطا قويا، أي أن المسجد الأقصى في فلسطين لا يقل شأنه عند الله تعالى عن المسجد الحرام في مكة وعن المسجد النبوي في المدينة المنورة. فهؤلاء الثلاثة سويا هم قصة الدين، العظيم، دين المسلمين.
4ـ ميراث الصالحين :ـ
وهي الأرض التي جعلها الله تعالي لعباده الصالحين فقال تعالي (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) الأنبياء .
5 ـ ثاني مسجد وُضِع في الأرض:
هو ثاني المساجد في الأرض بعد المسجد الحرام؛ فعن أبي ذر رَضِي الله عنْهُ قال: قلت يا رَسول اللهِ أي مسجد وُضِع في الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت: ثُمَّ أي؟ قال: المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلّه، فإن الفضل فيه) (رواه البخاري)
6 ـ إليه تُشَد الرحال:ـ
أجمع أهل العلم على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، وأن الرحال لا تُشَد إلا إلى ثلاثة مساجد منها المسجد الأقصى؛
فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى».
7 ـ فيه يُضَاعف أجر الصلاة:ــ
عن أبي ذر رَضِي الله عنْهُ قال: تذاكرنا ونحن عند رَسول اللهِ صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم أيهما أفضل: أمسجد رَسول اللهِ صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم أم بيت المقدس؟ فقال رَسول اللهِ صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم: «صلاةٌ في مسجدي أفضلُ من أربع صلوات فيه، ولَنِعمَ المُصَلَى هُو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنياجميعًا) قال: أو قال: «خيرٌ له من الدنيا وما فيها)
وقد روى ابن ماجة عن أنس – رضي الله عنه – مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة ، وصلاته في مسجدي بألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة».
وهناك روايات أخرى في مقدار فضل الصلاة في المسجد الأقصى.
والحق أن الخلاف الواقع بين هذه الروايات لا يؤثر على جوهر الموضوع.
فالمهمّ هو زيادة الثواب للمصلى الذي يصلى في هذه المساجد الثلاثة.
8 ـ دعوة سيدنا موسى عَليه السلام:
كان من تعظيم موسى عليه السلام للأرض المُقدسة وبيت المقدس أن سأل الله تبارك وتعالى عند الموت أن يُدنيه منها.
روى البخاري في صحيحه مرفوعًا(فسأل موسى الله أن يُدنيه من الأرض المُقدسة رمية بحجر، فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر)
قال النووي: “وأما سؤاله -أي موسى عليه السلام- الإدناء من الأرض المُقدسة فلِشرفها، وفضيلة من فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم”.
9 ـ البُشرى بفتحه:ـ
وتلك من أعلام النبوة أن بشَّر صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم بفتحه قبل أن يُفتَح، عن عوف بن مالِك رَضِي الله عنْهُ قال: أتيت النبي صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدم، فقال: “أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ((رواه البُخاري)
11ـ بسط الملائكة أجنحتها على الشام:ـ
فقد أخرج الترمذيُ وأحمدُ وصحَّحَه الطبراني والحاكم و وافقه الذهبي من حديث زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا طوبى للشام! يا طوبى للشام! يا طوبى للشام!) قالو: يا رسول الله ولم ذلك؟ قال: تلك ملائكةُ الله باسطو أجنحتِها على الشام). قال العزّ بنُ عبد السلام رحمه الله: (أشار رسول الله إلى أن الله سبحانه وتعالى وَكَّلَ بها الملائكة، يحرسونها، ويحفظونها).
12ـ فضل الصلاة فيه:ـ
روي أن سيدنا سليمان عليه السلام دعا بالمغفرة لمن صلّى في بيت المقدس؛ فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما فرغ سليمانُ بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاةَ فيه، إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما اثنتان فقد أُعْطِيَهُمَا، وأرجو أن يكون قد أُعْطِيَ الثالثةَ. وأخرجه النسائي وابن ماجة.
ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز، فيدخل المسجد الأقصى فيصلي فيه، ثم يخرج ولا يشرب فيه ماءً مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها، لتصيبه دعوةُ سليمان عليه السلام. كما ورد في الحديث أن أهل الإيمان فيه يثبتون عند حلول الفتن،
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم إِذ رأيتُ عمودَ الكتاب احتُمِل من تحت رأسي، فظننتُ أنه مذهوبٌ به، فأتبعتهُ بصري، فعُمِدَ به إلى الشام. ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام. أخرجه أحمد.
13 ـ مقر الطائفة المنصورة المجاهدة :ــ
و قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المتواترة بمجموعها أن أرض الشام هي مقر الطائفة المنصورة المجاهدة. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ. يَرْفَعُ اللَّهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ وَ يَرْزُقُهُمُ اللهُ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَ هُمْ عَلَى ذَلِكَ. أَلا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ وَ الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[ حسّن الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة.].
14ـ أرض المحشر والمنشر:
في بيت المقدس الأرض التي يُحشَر غليها العباد، ومنها يكون المنشر، فعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم قالت: يا نبي الله أفتِنا في بيت المقدس. فقال: «أرض المحشر والمنشر» (صححه الألباني في فضائل الشام ودمشق للربعي).
والعلماء يقولون – منها تبدأ نفخة الحشر، أي أن نفخة الحشر تبدأ من أرض فلسطين بل تبدأ من المسجد الأقصى. يقول الله سبحانه وتعالى ( واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب ) ، لكن أين هذا المكان القريب ؟؟
قال القرطبي وغيره من المفسرين أن هذا المكان القريب الذي ذكره رب العزة هو ( صخرة المعراج ) .
فالمكان الذي سوف ينفخ اسـرافيل من عليه ليوم الحشر ويسمعه كل الناس ، هو هذا المكان المبارك – صخرة المعراج في المسجد الأقصى. واعلموا أن الدجال عندما سيظهر ليملأ الأرض كفرا وفسوقا ، سيقتله عيسى ابن مريم هناك في ساحة المسجد الأقصى.
العنصر الثاني : بيت المقدس في القرآن :ــ
أيها المؤمنون :ـ لعظم هذه الأرض عاش عليها أنبياء الله عليهم السلام ،أنظروا كم من الأنبياء دخلوا هذه الأرض المباركة ؟
سيدنا آد م أول من بنى المسجد الأقصى .
أول من بنى المسجد الأقصى هو سيدنا آدم فرب العزة عندما خلق آدم قال له ( يا آدم ابن لي بيتا في الأرض) فبنى آدم المسجد الحرام. وبعد أن اكتمل بناء المسجد الحرام وعرفه الناس في الأرض ، قال الله سبحانه وتعالى ( يا آدم ابن لي مسجدا ثانيا في الأرض ) ، فبنى أدم المسجد الأقصى . وبقى هذا المسجد الأقصى للمسلمين الصالحين المؤمنين من ذرية آدم، حتى أتى سيدنا نوح وحصل الطوفان . عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : ” قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ : أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ ؟ ،قَالَ: ( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ( الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ) ، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ ، قَالَ: ( أَرْبَعُونَ سَنَةً ) ” .
– إمامة سيدنا إبراهيم عليه السلام وذريته علي أرض بيت المقدس :ــ
أمر الله تبارك وتعالى خليله إبراهيم أن يسكن منطقة فلسطين ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها) . وكانت له الإمامة علي أرض فلسطين فقال تعالي (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)البقرة .
وعاش سيدنا إبراهيم وكافة أولاده في تلك المنطقة فلسطين كي يحافظ الأنبياء على هذه الأرض المباركة، فاسحق ثم يعقوب ثم يوسف كلهم عاشوا هناك.
بعدها أتى سيدنا يوسف عليه السلام إلى مصر، ثم حضر سيدنا يعقوب إلى مصر ، وبقيت أرض فلسطين والمسجد الأقصى محروسة بالمؤمنين يحافظون عليها ، من زمن سيدنا إبراهيم حتى زمن سيدنا يوسف عليهم السلام.
– سيدنا موسى يجاهد من أجل تحريرها هو وأتباعه :ـ
بعد سيدنا يوسف عليه السلام بدأت الأرض تتبدل ، بدأ يظهر قوم جبارون وسيطروا على المسجد الأقصى وسيطروا على فلسطين ، فبعث الله سيدنا موسي عليه السلام موسى ، وأمره أن يذهب كي يفتح الأرض المقدسة ويسترجعها مع بني إسرائيل ، وهذا تأكيد أن مهمة كل نبي كانت الحفاظ على هذه الأرض المقدسة فانظروا أيها المسلمون ماذا حدث لسيدنا موسى مع بني إسرائيل.
قال الله تعالي (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) ) .
وهذا دليل أن هذه الأرض كتبت للمؤمنين ولن يتمكن من دخولها إلا من كان مؤمنا ولما تخاذل بنوا اسرائيل في التجاوب مع سيدنا موسي عليه السلام ،ورآهم لا يصلحون لتلك المهمة المقدسة. ( قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين )،كان التحريم مؤبدا أما التيه فكانت مدته أربعين سنة ، يتيهون في الأرض يعنى لا هـّم لهم غير المأكل والمشرب والعيال فقط وهم في غفلة عن خالقهم مشغولون بأمورهم الدنيوية فقط عن طاعة الله. والعبرة البالغة لاختيار الله هذه المدة أربعين سنة، إنما هو من أجل ضمان تمام تغيير الجيل، من جيل فاسد إلى جيل صالح. وبقى القوم الجبارون في الأرض المقدسة ، وبقي سيدنا موسى في التيه أربعين سنة مهمته تنشئة جيل جديد صالح لتحرير تلك الأرض المقدسة .
وظل سيدنا موسى حيا حتى نشأ جيل جديد ، كانوا مؤمنين حقا وتحققت القاعدة العامة فيهم حيث صار الإيمان هو الظاهر والأهم في حياتهم ،وانتقل سيدنا موسي إلي الرفيق الأعلي ولم يتم تحرير الأرض المقدسة ولكن خلف سيدنا موسي عليه السلام فتاه يوشع ابن نون عليه السلام وقاد الفئة المؤمنة من بني اسرائيل لتحرير الأرض المقدسة .
يوشع ابن نون عليه السلام يفتح بيت المقدس :ـ
قاد يوشع ابن نون الجيش لتحرير الأرض المقدسة وقال لهم كما رود في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : ( غزا نبي من الأنبياء ،فقال لقومه : لا يتبعْني رجل ملك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ،ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها ،ولا أحد اشترى غنما أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر ولادها ،فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ،اللهم احبسها علينا ،فحُبِسَتْ حتى فتح الله عليه ، فجمع الغنائم ،فجاءت – يعني النار- لتأكلها فلم تطْعَمْها ،فقال : إن فيكم غُلولا ،فليبايعني من كل قبيلة رجل ،فلَزِقَتْ يد رجل بيده ،فقال : فيكم الغُلول ،فليُبَايِعْني قبيلتك ،فلَزِقَتْ يد رجلين أو ثلاثةٍ بيده ،فقال : فيكم الغُلُول ،فجاءوا برأسٍ مثل رأس بقرة من الذهب ،فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ،ثم أحلَّ الله لنا الغنائم ،رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ) .
وبعدها عاد الإيمان ليتساقط ويتهاوي حتي سيطر قوم وثنيون غاصبون عطلوا شريعة الله تعالي وقتلوا وسفكوا الدماء بقيادة ملكهم جالوت وجنوده حتي ضج أهل الأرض من شدة الظلم فطلبوا من نبيهم ملكا يقودهم للتخلص من جالوت وجنوده .
طالوت عليه السلام يجاهد من أجل بيت المقدس :ــ
قال الله تعالي (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) .
إن جنود طالوت كانوا ثلاثون ألفا ، لكن من أطاعوه ( قليلا منهم) وهم قليل من القليلين الأوائل ، كانوا فقط (313 ) كما أوردته الرواة .
وكان هذا العدد نفس عدد صحابة بدر، والباقون تولوا جميعا . واستطاع طالوت وجنوده أن ينتصر علي جالوت وجنود وقتل داود جالوت وعاد بيت المقدس إلي أهل الإيمان من جديد وكانت الخلافة الإسلامية علي أرض فلسطين بقيادة نبي الله داود وسليمان عليهما السلام .
خلافة سيدنا داود في بيت المقدس وبناء داود وسليمان للمسجد الأقصي :ـ
بعد هزيمة جالوت وجنوده بدأ نجم سيدنا داود يعلو ويظهر سيدنا داود العظيم الذي سبحت معه الجبال ، ففتح فلسطين ودخل القدس ، وأعطاه الله تعالي الخلافة في الأرض فقال تعالي (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) ص .
ولم يكن المسجد الأقصى قد أعيد بناؤه بعد الطوفان حتى ذلك الوقت .
فأمره الله تبارك تعالى ( يا داوود.. إبن لي في هذا المكان مسجدا عظيما ، فأنت نبيي الآن في الأرض – يا داوود أعد بناء مسجدي العظيم .) وأوحى رب العزة لسيدنا داود بموقع المسجد الأقصى .
وكان موقعه مكان بيت قائم لرجل يهودي ، فطلب منه سيدنا داود شراء البيت ، وصدقه القول أن الله أمره أن يبني مكان ذلك البيت مسجدا عظيما .
رضي اليهودي البيع وطلب ثمنه ملؤ البيت غنما .
فوافق داود فورا من أجل تحقيق أمر ربه .
هنا سأل اليهودي – يا نبي الله، هل المسجد أفضل عند الله أم بيتي ؟؟
فقال داود – بل المسجد – .
فتراجع اليهودي عن البيع ، لكنه عاد وطلب من سيدنا داوود أن يكون الثمن ملأ البيت إبـــلا .
إذ وافق نبي الله على الثمن ، انسحب اليهودي مرة أخرى ، وعــاد فطلب أن يملأ له داود ذلـك الـبـيـت خيــــلا .
أدرك سيدنا داود طمع اليهودي فخاطبه – لتعلم يا رجل لو أنك طلبت ملكي كله لأعطيته لك كله ، فرد اليهودي والله لولا أني أدرك أني لا أستطيع إدارة ملكك هذا ، لطلبته كلـــــــــه . لكن سيدنا داود اشترى البيت بملئه خيلا ، ويذكر أن ممتلكات داود الخاصة كادت تنتهي .
لكن المسجد لم يكتمل في عهد سيدنا داود ، بل استكمل في عهد سيدنا سليمان .
هذا يعني أن الذي بنى المسجد الأقصى بعد سيدنا آدم ، إنما هما داود وسليمان . فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما فرغ سليمانُ بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاةَ فيه، إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما اثنتان فقد أُعْطِيَهُمَا، وأرجو أن يكون قد أُعْطِيَ الثالثةَ. وأخرجه النسائي وابن ماجة.
فاذكروا أنه في عهود هؤلاء الأنبياء كلهم منذ آدم ، سارت القاعدة بأنه كلما انحدر شأن الإسلام ضاع المسجد وأخذه قوم جبارون ، وكلما علا شأن الإسلام عاد المسجد لأصحابه المؤمنين.
بيت المقدس في عهد سينا زكريا ويحي وعيسي عليهم السلام :ـ
بعد وفاة سيدنا سليمان بدأ الإيمان يقل مرة أخرى، لتتكرر نفس القصة، فدخل الرومان المسجد وسيطروا على فلسطين واحتلوها سنة 64 قبل ميلا د المسيح. ويقول العلماء أن الله بعث زكريا وبعث ويحيى وبعث عيسى كل واحد برسالته ، مـن أجـل تحـرير المسجـد ألأقصى ، شأن كافة الأنبياء الذين قبلهم ، إنما بعثوا لتحرير المسجد الأقصى .
أما سيدنا عيسى خاصة، فكان يدعو إلى الإصلاح بالحسنى وباللين وبحسن الخلق بعودتهم إلى الله سبحانه وتعالى ، فقد عرفت عنه هذه الأخلاقيات اللينة والصفات الحميدة ، واستمر الأنبياء ثلاثتهم بمحاولات الإصلاح حتى تآمر الرومان مع اليهود أنفسهم ، وقتل يحيى وقتل زكريا على يد اليهود ، رغم أن تحرير الأرض كان من أجلهم ، فالرومان كانوا يدركون أن تحرير الأرض كان على يد زكريا لذا تآمروا مع بعض اليهود ، فنشروا جسم زكريا بالمناشير .
أما قصة سيدنا يحيى، فقد تقدم رجل من اليهود وطلب أن يتزوج غانية منهم كانت تعيش معهم في ذلك الوقت، فطلبت الغانية منه رأس يحيـــى مهـرا لها. وضع ذلك اليهودي شهوته في كفة ورأس سيدنا يحيـى في كفة، وذبـــح يحيـى، وقدّم رأسه على طبق من ذهب للغانيـــة.
أما سيدنا عيسـى فكلكم تعلمون قصة رفعه للسماء عندما حاول اليهود أن يصلبوه، لكنهم صلبوا رجلا شبيها به.
غضب الله عليهم غضبا شديدا وعاقبهم بأن ظل المسجد الأقصى وفلسطين تحت احتلال الرومان 700 سنة ، واليهود مستعبدين مقهورين طيلة هذه السنين ، وهذا سبب هجرة اليهود للمدينة هربا من بطش الرومان
– بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النظير
– هربوا من بطش الرومان من فلسطين إلى المدينة المنورة.
ظلت الأرض المقدسة مستعمرة من قبل الرومان من سنة 64 قبل الميلاد حتى عهد سيدنا عمر بن الخطاب، ولم ترجع حتى رجع الإيمان وتعالى عند الناس. وظلت الأرض المقدسة إلي عهد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وجاهد هو وأصحابه من أجل تحرير هذه الأرض في مؤته وتبوك ، وجيش أسامة ابن زيد وكانت مسري رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم .
فتخيلوا هذه الأرض كم هي عظيمة عند الله تعالي حتي بعث لها أنبيائه عليهم الصلاة والسلام .
العنصر الثالث : العلاقة بين الإسراء وبني اسرائيل :ـ
لقد ذكر الله عز وجل قصة الإسراء في آية واحدة من سورة الإسراء وبقية السورة تحدثت عن بني اسرائيل ، ونجد أن سورة الإسراء تسمي بسورة بني اسرائيل ،إن هذا الأمر يشير إلي أن الإسراء وقع في بيت المقدس لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الإنسانية لما ارتكبوا من جرائم وفضائح وبحادثة الإسراء فقد آن الآوان لانتقال القيادة الروحية من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة إلي أمة تتدفق بالبر والخير والرحمة والعدل ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم قال تعالي (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) الإسراء .
وبصلاة النبي في المسجد الأقصي إماما بالأنبياء أكبر دليل علي تســـليم قيادة البشــرية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأمته خير أمة .
ومن هنا نعلم أن هذه الأرض المباركة هي أرض للمسلمين في كل زمان .
فثبت في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه قال “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه” رواه مسلم.
وإذ أمر الله أن يتقدم سيدنا محمد عليه السلام ليؤم الأنبياء ، فهو إذن صاحب البيت. ومن خلال ما سبق نعلم أن كل من حكم بيت المقدس كانوا مسلمين فهي ملك للمسلمين وليس لليهود ولا لغيرهم من غير المسلمين حق في بيت المقدس .
إن الدلائل كثيرة أن هذه الأرض هي أرض الإسلام والمسلمين ، منذ الأزل قبل داود وسليمان ، فانظروا قول الله سبحانه ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، فالأنبياء كلهم دينهم واحد هو ( الإسلام ) ، وكل نبي إنما أرسل منذ آدم ليكمل هذا الدين ، فصحيح أن كل نبي أرسل لقومه ، لكن أهم مهمات كل نبي كانت المحافظة على مقدسات المسلمين في الأرض، وكان هذا فرضا واجبا على كل نبي بعد الآخر . قال تعالي (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) ، وإبراهيم عليه السلام هو أصل اليهود وأصل النصارى في فلسطين ، وربنا يخبرنا أنه كان مسلما وليس يهوديا ولا نصرانيا بل كان ينتمي للدين الأصلي وهو الإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، فضروري التأكيد أن كل نبي أتى كان رمزا للإسلام ومسئولا عن مقدسات الإسلام. ثم جاءت الآية ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه… وهذا النبي والذين آمنوا ) ، لذا نحن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام ، وانظر إلى الآية ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب .. إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ، سيدنا يوسف قال ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين) . فكل نبي أتى أكد هذا المعنى، معنى الإسلام، وأكد أنه مسلما.
انظر قول سيدنا سليمان عن بلقيس ( وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ) ، وسيدنا سليمان هو الذي يخبرون عنه أنه بنى الهيكل، وهو هنا يؤكد أنه من المسلمين. وانظر لقول سيدنا يعقوب المسمى أيضا إسرائيل. (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه )، أي ما حرّم يعقوب على نفسه. هؤلاء القوم سموا بلدهم باسم هذا النبي (إسرائيل ) وقالوا أنه نبيهم وحدهم، فانظر ماذا قال نبيهم عن نفسه ( أم كنتم شهداء أن حضر يعقوب الموت.. إذ قال لبنيه .. ما تعبدون من بعدي .. قالوا نعبد إلهك واله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق.. إلها واحدا ونحن له مسلمون ).
إن هذه الأرض ليست ملكا لأحد ، إنها أرض اللـــه سبحانه وتعالى مقدسة لله وعباده الذين يتبعون نبيه .
لقد درج سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كلما فتح بلدا أن يقسّم الأرض البــور، غير المزروعة، ويوزعها على الجند كي يزرعوها ويأكلوا منها وتبقى الأرض حية. لكنه بعد أن فتح القدس لم يقسّم ولم يوزع الأرض البــور فيها. فسألوه فأجاب، (هل قسّم رسول الله أرض مكـــة حين فتحها ؟؟) فأجابوا ..لا، فقال ( إن هذه الأرض هي كمكّـة وأرضها مقدسة كأرض مكــة ).
العنصر الرابع : الفتح الإسلامي لبيت المقدس :ـ
هذه المدينة المقدسة وجّه النبي صلى الله عليه وسلم جل اهتمامه – بعد أن حرر الكعبة من الأوثان- وجّه كل همّه تجاه بيت المقدس بدأ النبي الكريم إرسال جيوش لتحرير المسجد الأقصى ، فأرسل أعز أحبابه زيد بن حارثة وابن عمه جعفر الطيار الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخُلُقي) وعبد الله بن رواحة ، وجههم إلى مؤتة، وهي من أرض فلسطين، وسالت دماء زيد وجعفر الطيار وعبد الله بن رواحة على ثرى فلسطين في مؤتة، ، وغزوة تبوك التي شارك بها الرسول وعمره 62 سنه كانت متجهة إلى هذه الأرض ، ورغم مرضه فقد أرسل الرسول الكريم أسامة بن زيد على رأس جيش لتحرير هذه الأرض . ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقد بيده الشريفة اللواء لـأسامة بن زيد يدفعه لملاقاة الروم، ولما داهمت جيوش المرتدين المدينة وأحاطت بالمدينة كلها، قالوا لـأبي بكر الصديق : لا تنفذ بعث أسامة ، قال: والله! لو أخذت خيول الروم بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت بعث أسامة ، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. ووجّه الصديق الجيوش لفتح بلاد الشام، وفتح سيدنا عمرو بن العاص أكثر مدن فلسطين، فتح غزة ويافا ونابلس.
أما سيدنا عمـــر فقد أرسل أربعة جيوش مرة واحدة إلى فلسطين، خلافا عن العادة التي كانت متبعة زمن كافة الخلفاء الراشدين بأن لا يتحرك إلا جيش واحد فقط لجهة واحده. أرسل عمر جيشا بقيادة أبو عبيدة بن الجراح ، وجيشا بقيادة عمرو بن العاص ، وجيش بقيادة شرحبيل بن حسنه ، وجيش بقيادة خالد بن الوليد .
أرسل سيدنا عمر خيرة القادة من رجالات المسلمين لأجل فتح فلسطين ، وانتصرت الجيوش ودخلوا القدس ، فقد كانوا مؤمنين حقا وكان جيل الصحابة موصولين بربهم وهدفهم إعلاء كلمة الله ، هناك لا بد أن يأت النصر بعد سبعة قرون من احتلال الرومان .
حوالي عشر سنوات فقط من التجهيز والتحضير استطاع المسلمون المؤمنون أن يقضوا على كيان الرومان في فلسطين وينهوا سبعمائة سنة من الاحتلال والإذلال. أي أن الحال الذي نحن به الآن ليس أصعب وليس مستحيلا إن صدقنا الإيمان وصرنا موصولين بربنا بإخلاص كامل. الجيوش الأربعة التي دخلت القدس تكبدت 15 ألف شهيد ، رغم أن إجمال عدد الشهداء في الفتوحات الإسلامية في عهد عمر كان 9 لآلاف فقط ، والسبب أن المسلمين كانوا مستميتين ليموتوا شهداء في هذه الأرض المباركة ، أرض الأنبياء ، وعدد الشهداء من الصحابة فقط كانوا خمسة آلاف صحابي ، والمرة الوحيدة التي استشهد من النساء 15 امرأة ، حين كان إجمالي شهداء النساء في كافة الفتوح الإسلامية الأخرى ، ثمانية فقط ، فقد كان فتح هذه الأراضي أمرا صعبا بكثير من الدماء الشهداء .
وقتذاك تحرك عمر بن الخطاب من المدينة متجها إلى فلسطين هو وغلامه على ناقة واحدة كانا يتناوبان الركوب عليها لطول السفر.
وتصادف عند وصول عمـر إلى مشارف القدس أن الأرض كانت طيـنية لينة بعد مطر شديد قد هطـل وهو رضي الله عنه كان الذي يجر الناقة في تلك اللحظات ، وظهر أبو عبيدة بن الجراح وجمع ومن القساوسة واليهود لاستقباله وتسليمه مفتاح القدس ، فتقدم أبو عبيدة من عمر وطلب منه أن يمتطي الناقة ليظهر أمام الجمع بكامل العزة ، فكانت المقولة الخالدة لعمر ، المقولة الواجبة أن تكون شعارنا ودستورنا وقاعدة من قواعد هذا الدين : قال عمر ( يا أبا عبيدة نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، فإن ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله ) .
هو.مر في سـيره عمــــر وعليه ملابس بالية مرقـّـعه، حتى رآه اليهود فصاحـــوا ( هو.. هو .. هو هذا الرجل )، فذهب إليهم أبو عبيدة وسألهم عمن هو فقالوا : ( الذي يتسلم مفاتيح القدس مكتوب عندنا في التوراة… صفاته كهذا الرجل…. هامة عاليـــــة وثـوب ممـــزق )
ودخل عمر بن الخطاب القدس ودخل كنيسة القيامة ورفض أن يصلي فيها، وقال ( هنا صلى عمر فيهدمون الكنيسة ويقيمون مكانها مسجدا… بل أصلي على أبوابها )
فانظروا إلى هذا القدر الكبير من احترام الأديان ، انظروا إلى سماحة عمر الذي وقف ونادى أن يجمعوا الجيوش المنتصرة ، قالها بفرح كبير لعودة القدس للمسلمين بعد سبعة قرون ، عودة المكان المقدس الذي صلى فيه نبينا محمد وخلفه أنبياء البشرية وسلموا له الرايــة ، صلى وراءه سليمان وداود الذي يقولون أنه نبيهم وحدهم ، ولم يذهب دم زكريا ولم يذهب دم يحـيى هدرا وكأن عمر يقول لسائر الأنبياء ، (يا عيسى يا موسى يا داود ، نحن نسير على خطاكم ) ونادى عمر أن يبحثوا عن مكان مرتفع ليروا جميعهم بعضهم بعضا ليحس كل واحد بالعزة التي وصلوا إليها، فهل تعرفون أين كان ذاك المكان ؟؟؟
كان هضبة الجولان .
وقف عمـــر ونادى ( أين بـــلال ) ، وطلب منه عمر أن يرفــع الأذان في ذاك المكان ، لكن بلال رفض قائلا أنه وعد أن لا يؤذن بعد رسول الله ، لكن عمر قال له ( يا بلال هذا يوم يسعد رسول الله …
أذن يا بلال ليفرح بنا رسول الله ) ، هنا رفع بلا ل الأذان حتى وصل ( أشهد أن محمدا رسول الله ) فانهارت الجيوش تبكي حتى سمع الجمع نحيب عمر بن الخطاب حبا بهذا المكان وتعلقا بهذا المكان.
إن هذا المكان في فلسطين هو المكان الوحيد الذي سافر له عمر بن الخطاب ليتسلم مفاتيحه بنفسه عندما فتحته جيوش المسلمين، فعمر رضي الله عنه لم يتحرك من مكانه قط لاستلام مفتاح أي مكان.
فتحت مصر ولم يذهب عمر، وفتحت العراق ولم يذهب، فتحت الشام ولم يذهب، لكن عندما فتح بيت المقدس هبّ بنفسه لاستلام مفاتيح بيت المقدس، وكل هذا لنرى قيمة هذا المكان وقيمة هذه الأرض، وأنها أرضنا نحن منها وهي لنا وليس لغيرنا، وهي جزء من تاريخنا وتاريخ نبينا وصحابته الكرام رضوان الله عليهم. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا متعلقين بهذا المكان وكثير منهم بعد فتح فلسطين والمسجد الأقصى ذهبوا إلى الخليفة عمر بن الخطاب واستأذنوه للذهاب للعيش هناك جانب المسجد الأقصى .
فهذا أبو الدرداء عاش عمره كله، وذاك سلمان الفارسي عاش أيضا هناك وذاك بلال وعبادة بن الصامت وغيرهم كثيرون من الصحابة استقروا هناك وعاشوا في أقدس بقاع الأرض .
قال الإمام الشافعي – أحب الاعتكاف في المسجد الأقصى أكثر من الاعتكاف في المسجد النبوي والمسجد الحرام – فسألوه لماذا، قال لهم – أحب أن أعيش وسط جميع أنبياء الله
– هـي الأرض الوحيدة التي تجمّع فيها كل أنبياء الله ودافع عنها كل أنبياء الله، أما زال قلبك يا أخي المسلم غير متعلق بها !!
العنصر الخامس : صلاح الدين في بيت المقدس :ـ
وبقي بيت المقدس والمسجد الأقصي سنينا طويلة عزيزا مكرما، حتى تكررت نفس القصة وبعد المؤمنون عن ربهم، هنا لا بد أن تتكرر نفس الأحداث، إن ابتعد المؤمنون عن ربهم….
فلسوف تؤخذ منهم القدس، فسقطت القدس بأيدي الصليبيين من سنة 492 هجرية لسنة 583 هجرية حين ظهر صلاح الدين، وللعلم فإن صلاح الدين لم يكن وحده رجلا مؤمنا، بل كان واحدا من جيل كله قلوبهم متعلقة بالإيمان.
فاسمع إلى [ابن كثير]، وغيره من أهل السير وهم يسردون لك ذلك الحدث في ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة: دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعًا؛ يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفًا، منهم الأئمة، والعلماء، والمُتَعبدون، والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجًا إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاثوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبدًا إلى حظيرة المسلمين. ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة 583 هـ .
أعد صلاح الدين جيشًا لاسترداد بيت المقدس، وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم. وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تُعَجِّل له هذا الأمر، وهذه المَكْرُمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصُلبان نَكَّس
جاءت إليك ظِلامَة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِرَت وأنا على شرفي أُنَجَّس
الرؤوس لم تُرفع من سجودها، والدموع لم تُمْسح من خدودها، يوم عادت البِيَعُ مساجد، والمكان الذي يُقال فيه إن الله ثالث ثلاثة، صار يُشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم صار نحو بيت المقدس ليفتحه من جهته الشرقية ويخرجهم منه والتقى بالصليبيين في حطين في آخر ربيع الآخر، وكان عدد الصليبيين ستين ألفاً ومعهم ملوك أوروبا، وانتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين ، وفي السابع والعشرين من رجب سنة (583 هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعد المجاهدون والمتطوعة برميها بالنفاطات وبالمجانيق، وعند ذلك عرض بليان بن نيزران والي القدس من قبل الصليبيين على صلاح الدين الأيوبي أن يتنازل له بالقدس صلحاً، فقال له صلاح الدين : والله! لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها من المسلمين عنوة، وأقتل رجالكم وأسبي نساءكم، فقال له بليان بن برزان : إذاً والله نقتل كل من معنا من أسرى المسلمين -وكانوا خمسة آلاف أسير- ونقتل نساءنا وأطفالنا، ونهدم المصانع – يعني: البيوت- ونغور نبع بيسان، ثم نخرج إليكم نقاتلكم في الصحراء، لا يقتل منا قتيل إلا قتل منكم عشرة ودون قيامة تقوم القيامة، وهنا استشار صلاح الدين رجال مشورته ورق لأسرى المسلمين، ورضي أن يخرجوا من بيت المقدس ، فكان له ذلك على أن يبذلَ كل رجل منهم ويخرج ذليلا، يبذل عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيرًا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفًا كانوا أسرى للمسلمين، ودخل المسلمون بيت المقدس، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان، وَوُحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر [نور الدين] –الشهيد عليه رحمة الله الجليل- الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه [صلاح الدين].
وكان نور الدين محموداً قد عمل بحلب منبراَ أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه واتقانه، وقال: هذا عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنه، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده” كان كلما مر عليه ملأ سخروا منه كما كان الناس يسخرون من نبي الله نوح عليه السلام وهو يصنع السفينة .
وَرَقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحدًا وتسعين عامًا، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
العنصر السادس : واجب المسلمين تجاه بيت المقدس :ـ
1ـ إصلاح النفس والمجتمع :ـ
إصلاح النفس والمجتمع فالنصر والتمكين من عند الله لا يعطيه إلا للمؤمنين الصادقين كما وهبه لأصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قال تعالي (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6))الإسراء .
وقال تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) محمد.
فلابد من إحياء الإيمان في قلوب المسلمين ، فالقوة الروحية لا بديل لها في المعارك بين الحق والباطل .
2ـ عدم التنازع والتفرق والعمل علي وحدة الصف .
3ـ فهم القضية فهما صحيحا شاملا من خلال القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح.
4ـ قتل الهزيمة النفسية وبث الأمل في قلوب المسلمين .
5 ـ الجهاد بالمال وتحفيز الناس عليه .
6ـ المقاطعة الإقتصادية الشاملة والكاملة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أوانجليزي.
7ـ الدعاء المستفيض اللحوح لله عز وجل .
رابط pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق