وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كلي شيء قدير.. خصَّنا بخير كتاب أُنزل، وأكرمنا بخير نبي أُرسل، وأتمَّ علينا النعمة بأعظم منهاج شُرع، منهاج الإسلام، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا(3)} [المائدة]، وجعلنا الله بالإسلام خير أمة أُخرجت للناس، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) جاء برسالة الإنسانية للعالمين ..فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):}يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ { ]المستدرك علي الصحيحين[ .
فاق الورى بكماله سبق الورى بجماله
عظمت جميع خصاله صلوا عليه وآله
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين
أما بعد : فيا أيها المؤمنون.
إن رسالة الإسلام الحنيف ليست ربانية فحسب ، بل هو رسالة ربانية وإنسانية ، سماء وأرض ، وحي وعقل ، فإذا غاب الجانب الانساني ظهرت القلوب القاسية والأذهان المتحجرة .
إن الدين لم يأتِ لسحق الإنسان وتحويله إلى آلة صماء تنفّذ الأوامر ، بل ليجعل منه كائنا مكرّما مزودا بالعقل الواعي والقلب الحي ، وهذا ما يتيح له التواصل مع الناس بالودّ والمحبة والأخوة أخوة العقيدة ،وأخوة الإنسانية ، بحيث لا مكان للعداوة والحرب إلا في حال الظلم والاعتداء على بلاد الاسلام وعقيدته وأتباعه ، ولعل أكبر محْمدة في الإسلام، وأعظم دعوة سبق بها غيره منذ قرون، دعوته إلى الإنسانية والأخوة العامة ، لذلك كان حديثنا عن } الإنسانية ومظاهرها في الإسلام { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ مظاهر الإنسانية في الإسلام .
2ـ أثر الجوانب الإنسانية في حياة الناس.
3ـ حاجتنا إلي إشاعة الجوانب الإنسانية.
4ـ كيف نحيي المشاعر الإنسانية ؟
العنصر الأول : مظاهر الإنسانية في الإسلام:ـ
1ـ الإنسانية بالعامة :
روي ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) أنه قال: }لن تؤمنوا حتى تراحموا{، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: }إنه ليس برحمة أحدِكم صاحبه، ولكنها رحمة العامَّة{؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ): }الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء{ ]أخرجه ابو داود[.
وقال الطيبي: أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق ، فيرحم البر والفاجر، والناطق ، والبهم ، والوحوش والطير. الكل يرحم بعضهم بعضا، الرئيس يرحم المرؤوسين ، والأب يرحم الابن ، والزوج يرحم الزوجة ، والغني يرحم الفقير، والقوي يرحم الضعيف ، والجار يرحم جاره ، الكل يتراحم فيما بينهم حتي يصدق فينا قول النبي (ﷺ) عن النعمان ابن بشير رضي الله عنهما :عن النبي (ﷺ) أنه قال:}مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى{. ] أخرجه البخاري ومسلم[
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) أن الراحمين يرحمهم الله، وأرشد المؤمنين إلى التزام الرحمة فقال لهم:}ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء { ]رواه الترمذي[ .
وقد وصلت الإنسانية في حياة النبي أقصاها حتي يقدم الجانب الإنساني علي بعض التكاليف الهامة في مصير الأمة مثل الجهاد في بعض الحالات الاستثنائية، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلي رسول الله (ﷺ) ، يغشاه الفرح الكبير، تغمره الفرحة العارمة ليبايع النبي (ﷺ) على الهجرة معه، وعلى الجهاد في سبيل الله تحت رايته، يقول له: }يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان فيقول له عليه الصلاة والسلام: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما{] النسائي [
إن بسمة تعلو شفتي أبٍ حنون، وتكسو وجه أمٍ متلهفة، لا تقّدر عند النبي صلى الله عليه وسلم بثمن، حتى حينما يكون الثمن جهاداً في سبيل الله، يثبت دعوته، وينشر في الآفاق البعيدة رايته، وحينما تتم العبادة على حساب رحمة الوالدين تتحول إلى عقوق، والنبي (ﷺ) يركز على الرحمة تركيزاً شديداً كلما اشتدت إليها الحاجة.
في كل المؤثرات النفسية تجد للنبي (ﷺ) منهجاً يهتدي به السالكون ، وحيث كان بشراً سوياً، ونبياً رحيماً جعل نصيب النفوس واصطحاب الحالات الفردية ممازجاً للعبادات الشرعية، حين يكون الأمر جماعياً، أما حين ينفرد الإنسان فشأنه في نفسه.
وأيضا نجد النبي (ﷺ) يوصي بالتخفيف في الصلاة عند بكاء الصبي اشفاقا عليه وعلي أمه، وشفقة علي المريض والضعيف وذا الحاجة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }إذا صلَّى أحدكم للناس فليخفّف، فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء{
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):}إني لأدخل الصلاة أريدُ إطالتَها فأسمع بكاء الصبي، فأخفِّفُ من شدَّة وجْدِ أمِّه به{
هذا إن دل فإنما يدل علي الجوانب الإنسانية مقدمة في حياتنا لأن بها نستحق ونستوجب رحمة الله تعالي ونصر الله عز وجل .
لكن في حياة المسلمين ظلم يهتز له عرش الرحمن، وقهر، وسحق، وتضييق من إنسان مسلم لإنسان مسلم، لا رحمة، لا أحد يرحم أحداً، إذا تراحمنا يرحمنا الله، وإذا قسا بعضنا على بعض سقطنا من عين الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
2ـ الإنسانية بالضعفاء :
لقد أقر الإسلام حقوقا للضعفاء والفقراء والمساكين ، واهتمَّ النبيُّ (ﷺ) بالضعفاءِ الذين لا مالَ لهم ولا عشيرةَ، فكان يقبلُ من محسنِهم ويتجاوزُ عن مسيئِهم، ويسعى في حوائِجهم، ويرفعُ عنهم الضرَّ والأذى ولو بكلمةٍ تُغضِبُهم، وكانَ النبيُّ صلي الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَهُ أنَّ المالَ والوجاهةَ الاجتماعيةَ والمناصبَ المرموقةَ لا تُضفي على الإنسانِ فضلًا لا يستحقُّه، وأنْ الفقرَ وقلةَ المالِ والجاهِ لا يسلبُ الإنسانَ شرفًا يستحقُّه.
روي البخاري من حديث سهل بن سعد قال : مرَّ رجل علينا ونحن جلوس عند النبي (ﷺ) ، فقال لرجل عندنا : ماذا تقول في هذا الرجل ؟! ..
قال : يا رسول الله هذا من أشراف أهل المدينة ، هذا من أحسنهم حسباً ونسباً ، هذا من أكثرهم مالا .. هذا حري ، إن خطب يخطب ، وإن تكلم يُسمع ، وإن شفع يُشفع ، فسكت النبي (ﷺ) ، ثم مرَّ رجل آخر فقال للرجل نفسه : فماذا تقول لهذا الرجل ؟ قال يا رسول الله : هذا من فقراء الأنصار هذا لا حسب ولا نسب ، هذا حري إن خطب ما يُخطب ، وإن تكلم ما يُسمع ، وإن شفع ما يُشفع ، فقال الصادق المصدوق :}هذا يعني الفقير اللي لا حسب ولا نسب هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا.. هذا الذي في نظرك الذي إذا تكلم ما يسمع ، وإذا شفع ما يشفع ، وإذا خطب ما يخطب (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا { ]رواه البخاري[
وقالَ النبيُّ (ﷺ) : }ألا أخبرُكم بأهلِ الجنةِ؟ كلُّ ضعيفٍ متضعِّفٍ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ. ألا أخبرُكم بأهلِ النارِ؟ كلُّ عُتُلٍ جواظٍ مستكبر{
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح (العتل): الغليظ الجافي. (الجواظ): الفاجر
ومن اهتمامِ
النبيِّ (ﷺ) بشأنِ الضعفاءِ أنَّ امرأةً سوداءَ كانتْ تقُمُّ المسجدَ، ففقدها
رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فسألَ عنها، فقالوا: ماتتْ. فقالَ (ﷺ): }أفلا كنتم آذنتموني{، فكأنهم صغَّروا أمرَها.
فقال النبيُّ (ﷺ): "دلوني على قبرِها" فدلّوه فصلَّى عليها{ ]رواه البخاري ومسلم[.
إنَّ المجتمعَ الذي يشعرُ فيه الفقيرُ والمسكينُ والضعيفُ بأهميتِهِ واهتمامِ المسؤولينَ والقادةِ والقوانينِ به لهو مجتمعٌ التكافلِ والرحمةِ والإنسانيةِ الذي ينعمْ به الجميعُ ويسعدوا بظلالِهِ.
يقول النبي (ﷺ): }من وَلي أمرَ الناسِ، ثم أغلقَ بابهُ دون المسكينِ والمظلومِ وذوي الحاجةِ، أغلقَ اللهُ تباركَ وتعالى أبوابَ رحمتهِ دونَ حاجتهِ وفقرهِ أفقرَ ما يكونُ إليها{ ]رواه أحمد[ .
وفي الجملةِ كانَ رسولُ اللهِ (ﷺ) يهيبُ بالأمةِ كلِّها أنْ تقفَ لنصرةِ المظلومِ أيًّا كان مستواه ومكانتهِ؛ حيثُ ربطَ بين هذه القضيةِ وقضيةِ كرامةِ الأمةِ نفسِها، فقال: }كيفَ يقدسُ اللهُ أمةً لا يؤخذُ لضعيفِها من شديدِها حقَّه وهو غير متعتعٍ { رواه ابن ماجه.
وتصل إنسانية النبي (ﷺ) بهؤلاء المساكين الذين تسوقهم ضرورات العيش إلى الدَين، ثم تعجزهم ضحالة الدخل عن السداد، فيعانون من أجل الديون فالدَين همّ بالليل وذُلّ بالنهار، هؤلاء يأسوا جراحهم النبي (ﷺ) ، إنه لا يملك أن يقول للدائن: تنازل عن حقك، فالنبي (ﷺ) خير من يصون الحقوق، لكنه يهب الدائن شفاعته، وقلبه، وحبه إذا هو أرجأ مدينه، وصبر عليه حتى تحين ساعة فرج قريب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله (ﷺ): }من أنظر معسراً أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله{ ] رواه أحمد و الترمذي [
بل يوصي (ﷺ) بالوقوف مع المعسر وصاحب الحاجة ويبين أن هذا أفضل الاعتكاف في مسجده صلي الله عليه وسلم، فروي أنه كان هناك إنسان معتكف في مسجد النبي, رأى رجلا كئيبًا، قال له: مالي أراك كئيباً؟
قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، فهذا ابن عباس قال: أتحب أن أكلمه لك؟
قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، والاعتكاف في رمضان من أجل العبادات، قال له واحد: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله ما نسيت أني معتكف، ولكن سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به
قريب، وبكى ابن عباس(لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا).
3 ـ الإنسانية بالعصاة والمذنبين :
أحوج الناس إلى الإنسانية هم العصاة والمذنبون، ولكنهم يحتاجون إلى الرحمة في التوجيه والهداية لطاعة الله، فإن الإسلام رحمة، والهداية والالتزام رحمة، وهناك أممٌ تنتظر منك أن تدلهم عليها، وأن تهديهم بإذن الله إليها، وأن تأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله، فتحببهم في طاعة الله ومرضاته، قال(ﷺ):}أنا رحمة مهداة{.
فعن بريدة رضي الله عنه قال: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وإنه ردَّها فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لمِ َتردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا فوالله إني لحبلى، قال: إما لا فاذهبي حتى تلدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبيَّ الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله (ﷺ) سبَّه إياها فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفنت”
4ـ الإنسانية بالحيوان:
لقد أخبر النبي (ﷺ) أن الجنة فتحت أبوابها لامرأة بغي من بغايا بني إسرائيل لمجرد أنها سقت كلبا عطشان فأخرج مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: }إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها أي استقت له بخفها فغفر لها { فقد غفر الله لهذه البغي ذنوبها بسبب ما فعلته من سقي هذا الكلب.
وأخبر النبي (ﷺ) أن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على }عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض{ ]أخرجه البخاري ومسلم[
وقد حرم الإسلام تعذيب الحيوان ولعن المخالفين على مخالفتهم، فقد روى مسلم بسنده إلى ابن عباس أن النبي (ﷺ) مرّ على حمار قد وسم في وجهه فقال: }لعن الله الذي وسمه{ وفي رواية له: }نهى رسول الله (ﷺ) عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه{.
وقد حرمت الشريعة الإسلامية تصبير البهائم أي أن تحبس لترمى حتى تموت كما حرمت المثلة وهي قطع أطراف الحيوان .
فقد روي عن ابن عمر أنه قال: "نهى النبي (ﷺ) عن أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل". ]أخرجه الإمام أحمد[ .
وأخرج البخاري ومسلم عن المنهال بسنده إلى عبد الله بن عمر أنه قال: }لعن النبي (ﷺ) من مثّل بالحيوان{.
لقد رحم رسول الله (ﷺ) الحيوان الأعجم من أن يُجوَّع أو يُحمَّل فوق طاقته.. فقال في رحمة بالغة حين مَرَّ على بعير قد لحقه الهزال: }اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوها صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً{ [ أبو داود وابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: صحيح].
بل هو يرحم الحيوان حتى في حالة ذبحه، فإن كان لابد أن يُذبَح فلتكن عملية الذبح هذه رحيمة، فيقول(ﷺ): }إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ{ [أخرجه مسلم وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد، والدارمي ، وابن حبان ].
بل إنه (ﷺ) يتجاوز البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا ينتفع بها الإنسان كنفعه بالبهائم، وانظر إلى رحمته بعصفور!! يقول رسول الله (ﷺ): }مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ{ [أخرجه النسائي ،وأحمد ،وابن حبان ،والطبراني في المعجم الكبير ،والبيهقي ].
إنّ دعوة الإسلام للرفق والرحمة بالحيوان هي من باب أولى دعوة لاحترام الإنسان والرحمة به، فإذا كان الإسلام رحيمًا بالكائن الذي لا ينطق ولا يعقل ولا يمتلك أحاسيس الإنسان ومشاعره ولا كرامته وموقعه، فما بالك بأكرم الخلق وأفضل الكائنات. وكل ذلك يؤكد عظمة هذا الدين وأنه دين يعني بكل الجوانب الإنسانية لأن في ذلك سعادة الإنسان وأمنه.
5ـ الإنسانية مع غير المسلم :
لقد شملت إنسانية النبي (ﷺ) القريب والبعيد والمسلم وغير المسلم فرأينا سلوك المسلمين مع المحاربين من غير المسلمين ، أساسه قوله تعالى: }لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (9){ ]الممتحنة[
فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
لقد كان النبي (ﷺ) حريصا علي دعوتهم ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان غلام يهودي يخدم النبي (ﷺ) فمرض ، فأتاه النبي (ﷺ) يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم .
فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم (ﷺ) ، فأسلم ، فخرج النبي (ﷺ) وهو يقول : }الحمد لله الذي أنقذه من النار{ ]رواه البخاري[ .
فكان (ﷺ) يحمل متاع المرأة العجوز وهي كافرةً به ، ولم تكن تعرفه حتى إذا أوصلها لبيتها حذَّرتْه من اتباع من يدَّعي النبوة، فأخبرها النبي (ﷺ) أنه محمدُ بن عبد الله فما كان من المرأة إلا أن أعلنت إسلامها في الحال وشهدت بحسن أخلاق النبي (ﷺ)!!
وكان إذا ذبح شاةً وأمر بتوزيع جزءٍ منها على الجيران لا ينسى أن يوصي: “هل أهديتم إلى جارنا اليهودي؟”
وتروي كتب السير أنه (ﷺ) بكى لما رأى جنازةَ مشرك، ولما سئل عن سبب بكائه (ﷺ) قال: "نفس تفلَّتت مني إلى النار".
وتبلغ إنسانيته (ﷺ) بأعدائه القمةَ السامقة عندما يتعرَّض لإيذائهم، ففي هذه المَواطن التي يفقد فيها الرحماء رحمتَهم، عندما تعرَّض للسباب والضرب من أهل الطائف، ونزل ملك الجبال في صحبة جبريل عليه السلام يعرض على النبي (ﷺ) أن يطبق عليهم الأخشبين، يقول النبي (ﷺ) قولته المشهورة: }اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون{، وفي هذا القول جمع النبي (ﷺ) مقاماتِ الإحسان كلها، فقد عفا عنهم، والتمس لهم العذرَ بجهلهم، ثم دعا لهم .
ولم يكن هذا موقفًا فريدًا للنبي (ﷺ) بل كان هذا خلُقه مع من خالفه وحاربه، كما في قوله (ﷺ) }اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهدِ ثقيفًا، اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة{.
6ـ الإنسانية في الحروب :ـ
لقد وصلت إنسانية الإسلام في أعلي صورها وأسمي معانيها ، فنجد رسول الله (ﷺ) يغضب عندما يجد امرأة مقتولة وهو يمر في إحدى الغزوات فقال ما كانت هذه لتقاتل ، بل ينهي عن قتل النساء والشيوخ والأطفال ومن لا مشاركة له في القتال . إن المتأمل لحروب رسول الله (ﷺ) مع أعدائه سواء من المشركين، أو اليهود، أو النصارى، ليجِد حُسن خُلق رسول الله (ﷺ) مع كل هؤلاء الذين أذاقوه ويلات الظلم والحيف والبطش، إلاّ أنه كان يعاملهم بعكس معاملاتهم له.
فإذا تأمّلْنا وصية رسول الله (ﷺ) لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا لرد العدوان نجد في جنباتها كمال الأخلاق ونُبل المقصد فها هو ذا رسولُ الله (ﷺ) يوصي عبد الرحمن بن عوف عندما أرسله في شعبان سنة (6هـ) إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ قائلاً: }اغْزُوا جمِيعًا فِي سبِيلِ اللهِ، فقاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، لا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، فهذا عهْدُ اللهِ وسِيرةُ نبِيِّهِ فِيكُمْ{ ]رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. والطبراني: المعجم الأوسط [
وكذلك كانت وصية رسول الله (ﷺ) للجيش المتّجه إلى معركة مؤتة؛ فقد أوصاهم قائلاً: }اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا تغُلُّوا ، ولا تغْدِرُوا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ{. ]أخرجه الإمامُ مسلم في صحيحه، وأبو داود ، والترمذي، والبيهقي [
ثم تجلَّت الإنسانية يوم دخل رسول الله (ﷺ) فاتحاً مكة، وقد فعل أهلُها به وبأصحابِه ما فعلوا.. قال عمر: لما كان يوم الفتح ورسول الله (ﷺ) بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام، قال، عمر: فقلت لقد أمكنني الله منهم، لأعرفنهم بما صنعوا، حتى قال رسول الله (ﷺ): }مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين{.قال عمر: فافتضحت حياءً من رسول الله (ﷺ) من كراهية أن يكون بدَرَ مني، وقد قال لهم رسول الله (ﷺ) ما قال!!
بل إن إنسانية النبي (ﷺ) من الصفات التي تأصلت في حياة النبي (ﷺ) في أشد الأوقات وأصعبها ، لم يتميز عن غيره من أصحابه ولم يطلب الراحة لنفسه دون غيره ولكنه يشارك كل الآلام والأحزان …
ولو تأملنا السيرة النبوية لوجدنا العجب.. ففي غزوة الخندق التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة كثيرًا من المواقف الإنسانية الرائعة، فقد انتصرت فيها الشورى، وانتصر في الشورى رأي العبد السابق سلمان الفارسي، الذي اقترح إنشاء الخندق في مواجهة أحزاب يصل عددهم إلى عشرة آلاف مقاتل سوف يهاجمون المدينة استفادت من الأساليب الحربية للفرس الذين كان ينتمي إليهم. وإنه لموقف إنساني رائع كذلك أن يَشترك ثلاثة آلاف مسلم في حفر الخندق، يقودهم الرسول بنفسه، يتحمَّل حصة من العمل مثلما يتحملون، ويتحمَّل معهم الجوع أكثر مما يتحملون، ويقودهم إلى الأمل والتفاؤل في ظلِّ هذه الظلمة المُحيطة بهم، والتي زُلزِل فيها بعض المؤمنين زلزالاً كبيرًا، وظهَر أمر بعض المنافقين.
وقد كانت حصة كل رجل القيام بحفْر طول ذراعٍ من الخندق في عُمق لا يستطيع الذي يسقط فيه أن يَخرج منه مع فرسه، وقام بتوزيع العاملين عشرةً، عشرة، وقام بينهم التنافس الكريم في الجدِّ والتحمل، وكان الرسول وهو يعمل معهم ويدفعهم إلى التنافس، يُسري عنهم بإنسانيَّته المشرقة الوضَّاءة وينشد وهم ينشدون معه:
اللهمَّ لا عيش إلا عيشُ الآخرة فاغفِر اللهمَّ للأنصار والمهاجرة
وأيضًا كان الصحابة ينشدون:
نحن الذين بايَعوا محمدًا على الجهاد ما بقِينا أبدَا
وكانوا مع الرسول (ﷺ) ينشدون أيضًا:
اللهم لولا أنت ما اهتَدينا ولا تَصَدَّقنا ولا صَلَّينا
فأنْزِلنْ سكينةً علينا وثبِّت الأقدام إن لاقَينا
إنَّ الأُولي قد بَغوا علينا وإن أرادُوا فِتنة أبَينا
وكان عليه السلام يَرفع صوته: (أبَينا، أبَينا)
ولنا أن نتخيَّل وأن نُحاول أن نرسُم في ذهننا من وراء حُجب التاريخ هذه اللقطة الرائعة التي يجتمع فيها ثلاثة آلاف مسلم على الحب والولاء لدينهم وقائدهم، وهم يعملون بشيء من التنافس على الثواب العظيم، ولا ننسى منظر القائد النبي الأعظم (ﷺ) الذي يعمل بينهم ويَكسِر الأحجار كما يكسرون، ويَحملها كما يحملون، ويشترك في الأكل إن وجدوا طعامًا، وفي الجوع إن لم يَجدوا، وينشد معهم الأناشيد المؤكدة لشكر الله الذي هداهم للإيمان، والثقة بالتالي في عبور الامتحان.
وبثقة كبيرة لا يُمكن أن تتأتَّى وسط هذا الامتحان إلا من نبيٍّ معصومٍ مُلهَمٍ(ﷺ) ، يضرب أمامهم حجرًا قويًّا، لم يستطيعوا كسْره، قائلاً: (بسم الله)، فيَلمَع بريقٌ تحت الضربة، فيقول:
(الله أكبر؛ أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحمر إن شاء الله)، ثم يَضرب ضربة ثانية، فيَلمَع بريق من ضربته، فيقول:(الله أكبر أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض)، ثم يضرب الثالثة، فيبرق أيضًا بريق تحت الضربة، فيقول:(الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة).
يروي سيدنا جابر ابن عبدالله رضي الله مشهدا رائعا لرسول الله (ﷺ) فيقول: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كديةٌ شديدة، فجاءوا إلي النبي (ﷺ) فقالوا هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي (ﷺ) المعول فضرب فعاد كثيباً أُهِيل، فقلت: يا رسول الله (ﷺ) ائذن لي إلى البيت.
فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي (ﷺ) شيئاً ما كان في ذلك صبر، أفعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي (ﷺ) والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأكافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيمٌ لي؛ فقم أنت يا رسول الله (ﷺ) ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟
فذكرت له. قال: كثير طيب! قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فقال: قوموا. فقام المهجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك!
جاء النبي (ﷺ) ، والمهاجرون والأنصار معه، قالت: هل سألك؟
قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يقسم الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذوا منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس
أصابتهم مجاعة{ ]رواه الإمام البخاري[
إنها لقطة من أعظم لقطات التاريخ الإنساني، حين يعمل ويأكل ويجوع جنبًا إلى جنبٍ أعظمُ رجل ونبي عرَفته الإنسانية، يعمل مع العبيد، ومع الأحرار، أبيضهم وأسودهم، غنيِّهم وفقيرهم، والأكثر من ذلك أنه ينشد معهم أناشيد الإيمان، ويفتح لهم آفاق الأصل في ظل هذا الحصار الشديد عليه الصلاة والسلام.
العنصر الثاني : أثر الجوانب الإنسانية في حياة الناس:ـ
لقد استطاع النبي (ﷺ) بفضل ربه عز وجل أن يؤسس لأعظم دولة عرفها التاريخ ، حيث أخرج للوجود أمة ومكن لعبادة الله تعالي في الأرض ، ووضع أسس العدالة الاجتماعية ، وحول جيل كامل من رعاة البقر إلي قادة للأمم ، استطاع بفضل الله تعالي أن يخرج للعالم كله المواهب والعبقريات العظيمة من أمثال عمر ابن الخطاب وخالد ابن الوليد وعمرو ابن العاص وعكرمة ابن أبي جهل …. وحولهم من جيل لا يعرف إلا الفوضى إلا جيل يعرف النظام والعدل .
وحينما نستعرض حوار المحبة والقيم الإنسانية لرسول الله (ﷺ) مع الانصار حين خص المهاجرين ببعض العطايا ولم يعط الانصار منها شيئا وفي هذه الاثناء دخل عليه سعد بن عباده، فقال يا رسول الله: إن هذا الحي من الانصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت يقصد العطايا التي خص بها الرسول المهاجرين. ثم اضاف سعد: قسمت في قومك. وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن منها شيء للأنصار، فسأله رسول الله(ﷺ):
أين أنت من هذا يا سعد؟ ما أنا إلا من قومي.
وهنا قال له رسول الله (ﷺ) اجمع لي قومك في مكان أشار إليه رسول الله (ﷺ): امتثل سعد لأمر رسول الله (ﷺ) وجمع الانصار في المكان الذي أشار إليه رسول الله (ﷺ) وفي هذا الاجتماع خرج رسول الله (ﷺ) وهو في منتهي الثقة والمودة مع هؤلاء الرجال الذين كانت لهم مواقف تتسم بالإيثار والتضحية والشهامة. بعد أن حمد الله وأثني عليه قال رسول الله (ﷺ): يا معشر الانصار: مقالة بلغتني عنكم تشير إلي العتاب لمشاعر وجدتموها في أنفسكم عليَّ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم؟ ألا تجيبوني يا معشر الانصار. فقالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟
لله ورسوله المن والفضل فقال رسول الله (ﷺ) بكل الشفافية: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: اتيتنا مكذبا. فصدقناك. ومخذولاً فنصرناك. وطريدا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم مشاعر تجذبكم نحو زهرة الدنيا ومتاعها.
لقد تألفت قلوبكم أيها القوم فأسلمتم ووكلتم إلي إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله (ﷺ) إلي رحالكم. فوالذي نفسي محمد بيده لولا الهجرة لكنت من الانصار، ولو سلك الانصار شعبا طريقا وسلك الناس شعبا. لسلكت شعب الانصار وابناء الانصار وأبناء أبناء الانصار.
حديث من القلب الرحيم يقطر صفاء ومودة ومحبة وقيما انسانية تؤكد مدي أثر هذه القيم في النفوس.
وبعد أن استمع الانصار لهذا الحديث من سيد الخلق (ﷺ) انتابهم البكاء تأثرا بتلك المشاعر الطيبة التي فاض بها الحب والتقدير لمواقف هؤلاء الرجال، وقالوا في نفس واحد: رضينا برسول الله (ﷺ) قسما وحظا. ثم انصرفوا وتفرقوا ومشاعرهم تزداد حبا وتقديرا لرسول الله (ﷺ).
تلك قواعد راسخة أرسي دعائمها رسول الله (ﷺ) وتركها لنا جميعاً.
فهل نتذكر هذه القيم التي ربطت بين رسول الله (ﷺ) وأصحابه ، فنحييها في حياتنا حتي يعم الخير بلادنا .
العنصر الثالث : حاجتنا إلي إشاعة الجوانب الإنسانية :ـ
ألا ما أحوجَ البشريّةَ إلى هذهِ المعاني الإسلاميّةِ السّامية، وما أشدَّ افتقارَ الناسِ إلى إشاعة المعاني الإنسانية التي تُضمِّد جراحَ المنكوبين، وتحثّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات.
العنصر الرابع : كيف نحيي المشاعر الإنسانية :
1 ـ قراءة كتاب الله عز وجل:
فمن أعظم الأسباب التي تعين على إحياء المشاعر الإنسانية وتيسر للإنسان طريقها: قراءة كتاب الله جل جلاله، قال العلماء: إن الرحمة لا تدخل إلى قلبٍ قاسٍ، والقلوب لا تلين إلا بكلام الله، ولا تنكسر إلا بوعد الله ووعيده وتخويفه وتهديده، فمن أكثر تلاوة القرآن، وأكثر من تدبر القرآن كسر الله قلبه ودخلت فيه الرحمة.
2 ـ تذكر مشاهد الآخرة :
كذلك من الأسباب التي تعين على إحياء المشاعر الإنسانية : تذكر الآخرة، فإن العبد إذا تذكر مشاهد الآخرة، وصور نفسه كأنه قائمٌ بين يدي الله تجادل عنه حسنته، ويقف بين يدي الله عز وجل وقد نشر له ديوانه، وبدت له أقواله وأفعاله، إذا تصور مثل هذه المواقف قادته إلى الله وحببت إلى قلبه الخير وجعلت أشجانه وأحزانه كلها في طاعة الله ومرضاته.
3 ـ معرفة سيرة السلف الصالح:
ومن أعظم الأسباب التي إحياء المشاعر الإنسانية: قراءة سيرة السلف الصالح، الأئمة المهديين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والوقوف على ما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الكريمة، كل ذلك يحرك القلوب إلى المشاعر العظيمة الجياشة نحو الآخرين ويجعل فيها شوقاً إلى الإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم، وقل أن تجلس في مجلس فيذكر فيه كريمٌ بكرمه، أو يذكر المحسن فيه بإحسانه إلا خشع قلبك.
فهذه أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها يأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عن الجميع وهي صائمة ثلاثون ألف درهم وهي في أشد الحاجة، فتوزعها على الفقراء إلى فلان وآل فلان، ولم تبق منها شيئاً حتى غابت عليها الشمس، فالتمست طعاماً تفطر عليه فلم تجد . فسير الرجال وسير الصالحين وسير الأخيار تحرك القلوب إلى الخير، والله تعالى يقول في كتابه: }وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120){ [هود] .
فالله يثبت قلوب الصالحين على الصلاح والبر ما سمعوا بأمرٍ صالح وما سمعوا بسيرة عبدٍ صالح، نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم في ذلك أوفر العظة والعبرة.
4 ـ معاشرة الرحماء:
كذلك أيضاً مما يحرك القلوب إلى الرحمة والإحسان إلى الناس، معاشرة الرحماء، فانظر في إخوانك وخلانك، فمن وجدت فيه الرحمة ورقة القلب وسرعة الاستجابة لله، فاجعله أقرب الناس منك، فإن الأخلاق تعدي، فإذا عاشر العبد الصالحين أحس أنه في شوق للرحمة، وأحس أنه في شوق للإحسان إلى الناس، ودعاه ذلك إلى التشبه بالأخيار، فكم من قرينٍ اقترن بقرينه، كان من أقسى الناس قلباً، فأصبح ليناً لان قلبه بصحبة الصالحين.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشد الناس قلباً وأعظمهم صلابة، فلما كسر الله قلبه بالإسلام، كان من أرحم الناس بالمسلمين رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه عاشر رسول الأمة وإمام الرحماء فتأثر به، حتى قال العلماء رحمهم الله: كان أرحم الناس بالناس بعد رسول الله (ﷺ) .
5ـ الالتزام بأدب الحديث :
لقد أمر الله تعالى نبيه (ﷺ) بالرفق واللين في القول فقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}]آل عمران [
وأمرنا بذلك فقال :{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً(83)} ]البقرة[
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء{.
ولقد ضرب النبي (ﷺ) أروع الأمثلة في حسن مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم , وروت لنا كتب السنة والسيرة نماذج رائعة في ذلك منها :
ما رواه ابن عباس عن النبي (ﷺ) أنه حين تحدث عن قوم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ،فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "أنت منهم". ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة ".
َقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قِيلَ: إِنَّ الرَّجُل الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقّ تِلْكَ الْمَنْزِلَة وَلَا كَانَ بِصِفَةِ أَهْلهَا بِخِلَافِ عكاشة ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ مُنَافِقًا فَأَجَابَهُ النَّبِيّ (ﷺ) بِكَلَامٍ مُحْتَمَل ، وَلَمْ يَرَ (ﷺ) التَّصْرِيح لَهُ بِأَنَّك لَسْت مِنْهُمْ لِمَا كَانَ (ﷺ)عَلَيْهِ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة.
فقد راعي النبي (ﷺ) مشاعر الرجل الذي قال للنبي "ادع الله أن يجعلني منهم" ولم يرد أن يجرحه أو يحرجه.
وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّهُ : اسْتَأْذَنَ علَى النبيِّ (ﷺ) رَجُلٌ فَقالَ: }ائْذَنُوا له، فَبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ - أوْ بئْسَ أخُو العَشِيرَةِ - فَلَمَّا دَخَلَ ألَانَ له الكَلَامَ، فَقُلتُ له: يا رَسولَ اللَّهِ، قُلْتَ ما قُلْتَ، ثُمَّ ألَنْتَ له في القَوْلِ؟ فَقالَ: أيْ عَائِشَةُ، إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن تَرَكَهُ - أوْ ودَعَهُ النَّاسُ - اتِّقَاءَ فُحْشِهِ{. ]رواه البخاري[
6ـ عدم جرح مشاعر المخطئ :
إن الاستعجال في إصدار الأحكام على الآخرين أمر ممقوت يعرض صاحبه للزلل والخطأ والوقيعة في الآخرين ، وهو مخالف أيضاً للمنهج الرباني الآمر بالتثبت والتبين والتبصر ، كما أنه بعيد عن منهج الإسلام في العفو عن المسيء وقبول عذر المعتذر .
وفي سيرة النبي (ﷺ) نماذج رائعة تؤكد ذلك منها : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله (ﷺ) أنا والزبير والمقداد، فقال:انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فائتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي (ﷺ) فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي (ﷺ) فقال النبي (ﷺ) ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقا من قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم: قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال النبي (ﷺ): صدق، فقال عمر: دعني يا رسول الله (ﷺ) فأضرب عنقه، فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم..
فقد أخطأ حاطب بن أبي بلتعة في ظنه إعلام قومه بخبر قدوم النبي (ﷺ)إليهم لفتح مكة ، وهو خطأ لا يقصد منه صاحبه خيانة الله ورسوله , لكن انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع هذا الخطأ الغير مقصود ، فلم يجرح صاحبه ، بل ولم يعنفه .
وفي ذلك نزل قوله تعالى : {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ (1) } ]الممتحنة [
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي (ﷺ): "دعوه وأريقوا على بوله سجلا ( دلوا ) من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ".
أمر النبي (ﷺ) أصحابه بترك هذا الأعرابي الجاهل حتى ينتهي من بوله ، فلما انتهي أمر أن يراق على بوله ذنوبا من ماء فزالت المفسدة .
ثم دعا الرسول (ﷺ) ، الأعرابي فقال : "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن ".
كما روى معاوية بن الحكم السلمي فقال : بينما أنا أصلي مع رسول الله (ﷺ) إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى ؟ فـجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني سكت ، فلما صلى ، عليه الصلاة والسلام ، فبأبي هو وأمي ، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كرهني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال : "إن هذه الصلاة لا يصح فيهما شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" .
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً ". فالمخطئ قبل أن نعاتبه أو نحاسبه لا بد أن نتفهم سبب الخطأ, ونلتمس له الأعذار وفي كل ذلك لا بد أن نحترم مشاعره حتى لا يعاند ويصبح الخطأ خطأين.
سَامِحْ أَخَـاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَــطِ وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْـلِصٍ لَبِــقٍ أَضْحَى عَدُوًّا بِـــمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ حَمَاهُـمُ اللهُ مِـنْ دَوَّامَـةِ السَّقَـطِ
أَلَسْتَ تَرْجُـوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِـرَةً يَوْمَ الزِّحَـامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَـطِ
7ـ الاختلاط بالضعفاء، والمساكين، وذوي الحاجة؛ فإنَّه ممَّا يرقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحْمَة والشفقة بهؤلاء وغيرهم.
الخاتمة ..
إننا نحتاج إلى أن نربي إنسانا بمعنى الكلمة؛ نحتاج إلى زرع إنسانٍ يبقى أثرُه مئات السنين؛ كما قال أحدُهُم: إذا أدرتَ أن تزرع لِسَنَةٍ فازرع قمحا؛ وإذا أردتَ أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة؛ أما إذا أردتَ أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا!!
فيجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية؛ لأنها محيط، وإذا ما كانت بضع قطرات من المحيط قذرة؛ فلا يصبح المحيط بأكمله قذرا!!
أسأل الله العظيم أن يلين قلوبنا وأن يصلح ذات بيننا وأن يوحد صفوفنا وأن ينصرنا علي أنفسنا وعلى عدونا إنه ولي ذلك والقادر عليه .
إنَّ المجتمعَ الذي يشعرُ فيه الفقيرُ والمسكينُ والضعيفُ بأهميتِهِ واهتمامِ المسؤولينَ والقادةِ والقوانينِ به لهو مجتمعٌ التكافلِ والرحمةِ والإنسانيةِ الذي ينعمْ به الجميعُ ويسعدوا بظلالِهِ.
يقول النبي (ﷺ): }من وَلي أمرَ الناسِ، ثم أغلقَ بابهُ دون المسكينِ والمظلومِ وذوي الحاجةِ، أغلقَ اللهُ تباركَ وتعالى أبوابَ رحمتهِ دونَ حاجتهِ وفقرهِ أفقرَ ما يكونُ إليها{ ]رواه أحمد[ .
وفي الجملةِ كانَ رسولُ اللهِ (ﷺ) يهيبُ بالأمةِ كلِّها أنْ تقفَ لنصرةِ المظلومِ أيًّا كان مستواه ومكانتهِ؛ حيثُ ربطَ بين هذه القضيةِ وقضيةِ كرامةِ الأمةِ نفسِها، فقال: }كيفَ يقدسُ اللهُ أمةً لا يؤخذُ لضعيفِها من شديدِها حقَّه وهو غير متعتعٍ { رواه ابن ماجه.
وتصل إنسانية النبي (ﷺ) بهؤلاء المساكين الذين تسوقهم ضرورات العيش إلى الدَين، ثم تعجزهم ضحالة الدخل عن السداد، فيعانون من أجل الديون فالدَين همّ بالليل وذُلّ بالنهار، هؤلاء يأسوا جراحهم النبي (ﷺ) ، إنه لا يملك أن يقول للدائن: تنازل عن حقك، فالنبي (ﷺ) خير من يصون الحقوق، لكنه يهب الدائن شفاعته، وقلبه، وحبه إذا هو أرجأ مدينه، وصبر عليه حتى تحين ساعة فرج قريب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله (ﷺ): }من أنظر معسراً أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله{ ] رواه أحمد و الترمذي [
بل يوصي (ﷺ) بالوقوف مع المعسر وصاحب الحاجة ويبين أن هذا أفضل الاعتكاف في مسجده صلي الله عليه وسلم، فروي أنه كان هناك إنسان معتكف في مسجد النبي, رأى رجلا كئيبًا، قال له: مالي أراك كئيباً؟
قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، فهذا ابن عباس قال: أتحب أن أكلمه لك؟
قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، والاعتكاف في رمضان من أجل العبادات، قال له واحد: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله ما نسيت أني معتكف، ولكن سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به
قريب، وبكى ابن عباس(لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا).
3 ـ الإنسانية بالعصاة والمذنبين :
أحوج الناس إلى الإنسانية هم العصاة والمذنبون، ولكنهم يحتاجون إلى الرحمة في التوجيه والهداية لطاعة الله، فإن الإسلام رحمة، والهداية والالتزام رحمة، وهناك أممٌ تنتظر منك أن تدلهم عليها، وأن تهديهم بإذن الله إليها، وأن تأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله، فتحببهم في طاعة الله ومرضاته، قال(ﷺ):}أنا رحمة مهداة{.
فعن بريدة رضي الله عنه قال: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وإنه ردَّها فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لمِ َتردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا فوالله إني لحبلى، قال: إما لا فاذهبي حتى تلدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبيَّ الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله (ﷺ) سبَّه إياها فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفنت”
4ـ الإنسانية بالحيوان:
لقد أخبر النبي (ﷺ) أن الجنة فتحت أبوابها لامرأة بغي من بغايا بني إسرائيل لمجرد أنها سقت كلبا عطشان فأخرج مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: }إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها أي استقت له بخفها فغفر لها { فقد غفر الله لهذه البغي ذنوبها بسبب ما فعلته من سقي هذا الكلب.
وأخبر النبي (ﷺ) أن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على }عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض{ ]أخرجه البخاري ومسلم[
وقد حرم الإسلام تعذيب الحيوان ولعن المخالفين على مخالفتهم، فقد روى مسلم بسنده إلى ابن عباس أن النبي (ﷺ) مرّ على حمار قد وسم في وجهه فقال: }لعن الله الذي وسمه{ وفي رواية له: }نهى رسول الله (ﷺ) عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه{.
وقد حرمت الشريعة الإسلامية تصبير البهائم أي أن تحبس لترمى حتى تموت كما حرمت المثلة وهي قطع أطراف الحيوان .
فقد روي عن ابن عمر أنه قال: "نهى النبي (ﷺ) عن أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل". ]أخرجه الإمام أحمد[ .
وأخرج البخاري ومسلم عن المنهال بسنده إلى عبد الله بن عمر أنه قال: }لعن النبي (ﷺ) من مثّل بالحيوان{.
لقد رحم رسول الله (ﷺ) الحيوان الأعجم من أن يُجوَّع أو يُحمَّل فوق طاقته.. فقال في رحمة بالغة حين مَرَّ على بعير قد لحقه الهزال: }اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوها صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً{ [ أبو داود وابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: صحيح].
بل هو يرحم الحيوان حتى في حالة ذبحه، فإن كان لابد أن يُذبَح فلتكن عملية الذبح هذه رحيمة، فيقول(ﷺ): }إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ{ [أخرجه مسلم وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد، والدارمي ، وابن حبان ].
بل إنه (ﷺ) يتجاوز البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا ينتفع بها الإنسان كنفعه بالبهائم، وانظر إلى رحمته بعصفور!! يقول رسول الله (ﷺ): }مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ{ [أخرجه النسائي ،وأحمد ،وابن حبان ،والطبراني في المعجم الكبير ،والبيهقي ].
إنّ دعوة الإسلام للرفق والرحمة بالحيوان هي من باب أولى دعوة لاحترام الإنسان والرحمة به، فإذا كان الإسلام رحيمًا بالكائن الذي لا ينطق ولا يعقل ولا يمتلك أحاسيس الإنسان ومشاعره ولا كرامته وموقعه، فما بالك بأكرم الخلق وأفضل الكائنات. وكل ذلك يؤكد عظمة هذا الدين وأنه دين يعني بكل الجوانب الإنسانية لأن في ذلك سعادة الإنسان وأمنه.
5ـ الإنسانية مع غير المسلم :
لقد شملت إنسانية النبي (ﷺ) القريب والبعيد والمسلم وغير المسلم فرأينا سلوك المسلمين مع المحاربين من غير المسلمين ، أساسه قوله تعالى: }لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (9){ ]الممتحنة[
فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
لقد كان النبي (ﷺ) حريصا علي دعوتهم ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان غلام يهودي يخدم النبي (ﷺ) فمرض ، فأتاه النبي (ﷺ) يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم .
فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم (ﷺ) ، فأسلم ، فخرج النبي (ﷺ) وهو يقول : }الحمد لله الذي أنقذه من النار{ ]رواه البخاري[ .
فكان (ﷺ) يحمل متاع المرأة العجوز وهي كافرةً به ، ولم تكن تعرفه حتى إذا أوصلها لبيتها حذَّرتْه من اتباع من يدَّعي النبوة، فأخبرها النبي (ﷺ) أنه محمدُ بن عبد الله فما كان من المرأة إلا أن أعلنت إسلامها في الحال وشهدت بحسن أخلاق النبي (ﷺ)!!
وكان إذا ذبح شاةً وأمر بتوزيع جزءٍ منها على الجيران لا ينسى أن يوصي: “هل أهديتم إلى جارنا اليهودي؟”
وتروي كتب السير أنه (ﷺ) بكى لما رأى جنازةَ مشرك، ولما سئل عن سبب بكائه (ﷺ) قال: "نفس تفلَّتت مني إلى النار".
وتبلغ إنسانيته (ﷺ) بأعدائه القمةَ السامقة عندما يتعرَّض لإيذائهم، ففي هذه المَواطن التي يفقد فيها الرحماء رحمتَهم، عندما تعرَّض للسباب والضرب من أهل الطائف، ونزل ملك الجبال في صحبة جبريل عليه السلام يعرض على النبي (ﷺ) أن يطبق عليهم الأخشبين، يقول النبي (ﷺ) قولته المشهورة: }اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون{، وفي هذا القول جمع النبي (ﷺ) مقاماتِ الإحسان كلها، فقد عفا عنهم، والتمس لهم العذرَ بجهلهم، ثم دعا لهم .
ولم يكن هذا موقفًا فريدًا للنبي (ﷺ) بل كان هذا خلُقه مع من خالفه وحاربه، كما في قوله (ﷺ) }اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهدِ ثقيفًا، اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة{.
6ـ الإنسانية في الحروب :ـ
لقد وصلت إنسانية الإسلام في أعلي صورها وأسمي معانيها ، فنجد رسول الله (ﷺ) يغضب عندما يجد امرأة مقتولة وهو يمر في إحدى الغزوات فقال ما كانت هذه لتقاتل ، بل ينهي عن قتل النساء والشيوخ والأطفال ومن لا مشاركة له في القتال . إن المتأمل لحروب رسول الله (ﷺ) مع أعدائه سواء من المشركين، أو اليهود، أو النصارى، ليجِد حُسن خُلق رسول الله (ﷺ) مع كل هؤلاء الذين أذاقوه ويلات الظلم والحيف والبطش، إلاّ أنه كان يعاملهم بعكس معاملاتهم له.
فإذا تأمّلْنا وصية رسول الله (ﷺ) لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا لرد العدوان نجد في جنباتها كمال الأخلاق ونُبل المقصد فها هو ذا رسولُ الله (ﷺ) يوصي عبد الرحمن بن عوف عندما أرسله في شعبان سنة (6هـ) إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ قائلاً: }اغْزُوا جمِيعًا فِي سبِيلِ اللهِ، فقاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، لا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، فهذا عهْدُ اللهِ وسِيرةُ نبِيِّهِ فِيكُمْ{ ]رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. والطبراني: المعجم الأوسط [
وكذلك كانت وصية رسول الله (ﷺ) للجيش المتّجه إلى معركة مؤتة؛ فقد أوصاهم قائلاً: }اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا تغُلُّوا ، ولا تغْدِرُوا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ{. ]أخرجه الإمامُ مسلم في صحيحه، وأبو داود ، والترمذي، والبيهقي [
ثم تجلَّت الإنسانية يوم دخل رسول الله (ﷺ) فاتحاً مكة، وقد فعل أهلُها به وبأصحابِه ما فعلوا.. قال عمر: لما كان يوم الفتح ورسول الله (ﷺ) بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام، قال، عمر: فقلت لقد أمكنني الله منهم، لأعرفنهم بما صنعوا، حتى قال رسول الله (ﷺ): }مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين{.قال عمر: فافتضحت حياءً من رسول الله (ﷺ) من كراهية أن يكون بدَرَ مني، وقد قال لهم رسول الله (ﷺ) ما قال!!
بل إن إنسانية النبي (ﷺ) من الصفات التي تأصلت في حياة النبي (ﷺ) في أشد الأوقات وأصعبها ، لم يتميز عن غيره من أصحابه ولم يطلب الراحة لنفسه دون غيره ولكنه يشارك كل الآلام والأحزان …
ولو تأملنا السيرة النبوية لوجدنا العجب.. ففي غزوة الخندق التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة كثيرًا من المواقف الإنسانية الرائعة، فقد انتصرت فيها الشورى، وانتصر في الشورى رأي العبد السابق سلمان الفارسي، الذي اقترح إنشاء الخندق في مواجهة أحزاب يصل عددهم إلى عشرة آلاف مقاتل سوف يهاجمون المدينة استفادت من الأساليب الحربية للفرس الذين كان ينتمي إليهم. وإنه لموقف إنساني رائع كذلك أن يَشترك ثلاثة آلاف مسلم في حفر الخندق، يقودهم الرسول بنفسه، يتحمَّل حصة من العمل مثلما يتحملون، ويتحمَّل معهم الجوع أكثر مما يتحملون، ويقودهم إلى الأمل والتفاؤل في ظلِّ هذه الظلمة المُحيطة بهم، والتي زُلزِل فيها بعض المؤمنين زلزالاً كبيرًا، وظهَر أمر بعض المنافقين.
وقد كانت حصة كل رجل القيام بحفْر طول ذراعٍ من الخندق في عُمق لا يستطيع الذي يسقط فيه أن يَخرج منه مع فرسه، وقام بتوزيع العاملين عشرةً، عشرة، وقام بينهم التنافس الكريم في الجدِّ والتحمل، وكان الرسول وهو يعمل معهم ويدفعهم إلى التنافس، يُسري عنهم بإنسانيَّته المشرقة الوضَّاءة وينشد وهم ينشدون معه:
اللهمَّ لا عيش إلا عيشُ الآخرة فاغفِر اللهمَّ للأنصار والمهاجرة
وأيضًا كان الصحابة ينشدون:
نحن الذين بايَعوا محمدًا على الجهاد ما بقِينا أبدَا
وكانوا مع الرسول (ﷺ) ينشدون أيضًا:
اللهم لولا أنت ما اهتَدينا ولا تَصَدَّقنا ولا صَلَّينا
فأنْزِلنْ سكينةً علينا وثبِّت الأقدام إن لاقَينا
إنَّ الأُولي قد بَغوا علينا وإن أرادُوا فِتنة أبَينا
وكان عليه السلام يَرفع صوته: (أبَينا، أبَينا)
ولنا أن نتخيَّل وأن نُحاول أن نرسُم في ذهننا من وراء حُجب التاريخ هذه اللقطة الرائعة التي يجتمع فيها ثلاثة آلاف مسلم على الحب والولاء لدينهم وقائدهم، وهم يعملون بشيء من التنافس على الثواب العظيم، ولا ننسى منظر القائد النبي الأعظم (ﷺ) الذي يعمل بينهم ويَكسِر الأحجار كما يكسرون، ويَحملها كما يحملون، ويشترك في الأكل إن وجدوا طعامًا، وفي الجوع إن لم يَجدوا، وينشد معهم الأناشيد المؤكدة لشكر الله الذي هداهم للإيمان، والثقة بالتالي في عبور الامتحان.
وبثقة كبيرة لا يُمكن أن تتأتَّى وسط هذا الامتحان إلا من نبيٍّ معصومٍ مُلهَمٍ(ﷺ) ، يضرب أمامهم حجرًا قويًّا، لم يستطيعوا كسْره، قائلاً: (بسم الله)، فيَلمَع بريقٌ تحت الضربة، فيقول:
(الله أكبر؛ أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحمر إن شاء الله)، ثم يَضرب ضربة ثانية، فيَلمَع بريق من ضربته، فيقول:(الله أكبر أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض)، ثم يضرب الثالثة، فيبرق أيضًا بريق تحت الضربة، فيقول:(الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة).
يروي سيدنا جابر ابن عبدالله رضي الله مشهدا رائعا لرسول الله (ﷺ) فيقول: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كديةٌ شديدة، فجاءوا إلي النبي (ﷺ) فقالوا هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي (ﷺ) المعول فضرب فعاد كثيباً أُهِيل، فقلت: يا رسول الله (ﷺ) ائذن لي إلى البيت.
فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي (ﷺ) شيئاً ما كان في ذلك صبر، أفعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي (ﷺ) والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأكافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيمٌ لي؛ فقم أنت يا رسول الله (ﷺ) ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟
فذكرت له. قال: كثير طيب! قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فقال: قوموا. فقام المهجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك!
جاء النبي (ﷺ) ، والمهاجرون والأنصار معه، قالت: هل سألك؟
قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يقسم الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذوا منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس
أصابتهم مجاعة{ ]رواه الإمام البخاري[
إنها لقطة من أعظم لقطات التاريخ الإنساني، حين يعمل ويأكل ويجوع جنبًا إلى جنبٍ أعظمُ رجل ونبي عرَفته الإنسانية، يعمل مع العبيد، ومع الأحرار، أبيضهم وأسودهم، غنيِّهم وفقيرهم، والأكثر من ذلك أنه ينشد معهم أناشيد الإيمان، ويفتح لهم آفاق الأصل في ظل هذا الحصار الشديد عليه الصلاة والسلام.
العنصر الثاني : أثر الجوانب الإنسانية في حياة الناس:ـ
لقد استطاع النبي (ﷺ) بفضل ربه عز وجل أن يؤسس لأعظم دولة عرفها التاريخ ، حيث أخرج للوجود أمة ومكن لعبادة الله تعالي في الأرض ، ووضع أسس العدالة الاجتماعية ، وحول جيل كامل من رعاة البقر إلي قادة للأمم ، استطاع بفضل الله تعالي أن يخرج للعالم كله المواهب والعبقريات العظيمة من أمثال عمر ابن الخطاب وخالد ابن الوليد وعمرو ابن العاص وعكرمة ابن أبي جهل …. وحولهم من جيل لا يعرف إلا الفوضى إلا جيل يعرف النظام والعدل .
وحينما نستعرض حوار المحبة والقيم الإنسانية لرسول الله (ﷺ) مع الانصار حين خص المهاجرين ببعض العطايا ولم يعط الانصار منها شيئا وفي هذه الاثناء دخل عليه سعد بن عباده، فقال يا رسول الله: إن هذا الحي من الانصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت يقصد العطايا التي خص بها الرسول المهاجرين. ثم اضاف سعد: قسمت في قومك. وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن منها شيء للأنصار، فسأله رسول الله(ﷺ):
أين أنت من هذا يا سعد؟ ما أنا إلا من قومي.
وهنا قال له رسول الله (ﷺ) اجمع لي قومك في مكان أشار إليه رسول الله (ﷺ): امتثل سعد لأمر رسول الله (ﷺ) وجمع الانصار في المكان الذي أشار إليه رسول الله (ﷺ) وفي هذا الاجتماع خرج رسول الله (ﷺ) وهو في منتهي الثقة والمودة مع هؤلاء الرجال الذين كانت لهم مواقف تتسم بالإيثار والتضحية والشهامة. بعد أن حمد الله وأثني عليه قال رسول الله (ﷺ): يا معشر الانصار: مقالة بلغتني عنكم تشير إلي العتاب لمشاعر وجدتموها في أنفسكم عليَّ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم؟ ألا تجيبوني يا معشر الانصار. فقالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟
لله ورسوله المن والفضل فقال رسول الله (ﷺ) بكل الشفافية: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: اتيتنا مكذبا. فصدقناك. ومخذولاً فنصرناك. وطريدا فآويناك. وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم مشاعر تجذبكم نحو زهرة الدنيا ومتاعها.
لقد تألفت قلوبكم أيها القوم فأسلمتم ووكلتم إلي إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله (ﷺ) إلي رحالكم. فوالذي نفسي محمد بيده لولا الهجرة لكنت من الانصار، ولو سلك الانصار شعبا طريقا وسلك الناس شعبا. لسلكت شعب الانصار وابناء الانصار وأبناء أبناء الانصار.
حديث من القلب الرحيم يقطر صفاء ومودة ومحبة وقيما انسانية تؤكد مدي أثر هذه القيم في النفوس.
وبعد أن استمع الانصار لهذا الحديث من سيد الخلق (ﷺ) انتابهم البكاء تأثرا بتلك المشاعر الطيبة التي فاض بها الحب والتقدير لمواقف هؤلاء الرجال، وقالوا في نفس واحد: رضينا برسول الله (ﷺ) قسما وحظا. ثم انصرفوا وتفرقوا ومشاعرهم تزداد حبا وتقديرا لرسول الله (ﷺ).
تلك قواعد راسخة أرسي دعائمها رسول الله (ﷺ) وتركها لنا جميعاً.
فهل نتذكر هذه القيم التي ربطت بين رسول الله (ﷺ) وأصحابه ، فنحييها في حياتنا حتي يعم الخير بلادنا .
العنصر الثالث : حاجتنا إلي إشاعة الجوانب الإنسانية :ـ
ألا ما أحوجَ البشريّةَ إلى هذهِ المعاني الإسلاميّةِ السّامية، وما أشدَّ افتقارَ الناسِ إلى إشاعة المعاني الإنسانية التي تُضمِّد جراحَ المنكوبين، وتحثّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات.
العنصر الرابع : كيف نحيي المشاعر الإنسانية :
1 ـ قراءة كتاب الله عز وجل:
فمن أعظم الأسباب التي تعين على إحياء المشاعر الإنسانية وتيسر للإنسان طريقها: قراءة كتاب الله جل جلاله، قال العلماء: إن الرحمة لا تدخل إلى قلبٍ قاسٍ، والقلوب لا تلين إلا بكلام الله، ولا تنكسر إلا بوعد الله ووعيده وتخويفه وتهديده، فمن أكثر تلاوة القرآن، وأكثر من تدبر القرآن كسر الله قلبه ودخلت فيه الرحمة.
2 ـ تذكر مشاهد الآخرة :
كذلك من الأسباب التي تعين على إحياء المشاعر الإنسانية : تذكر الآخرة، فإن العبد إذا تذكر مشاهد الآخرة، وصور نفسه كأنه قائمٌ بين يدي الله تجادل عنه حسنته، ويقف بين يدي الله عز وجل وقد نشر له ديوانه، وبدت له أقواله وأفعاله، إذا تصور مثل هذه المواقف قادته إلى الله وحببت إلى قلبه الخير وجعلت أشجانه وأحزانه كلها في طاعة الله ومرضاته.
3 ـ معرفة سيرة السلف الصالح:
ومن أعظم الأسباب التي إحياء المشاعر الإنسانية: قراءة سيرة السلف الصالح، الأئمة المهديين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والوقوف على ما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الكريمة، كل ذلك يحرك القلوب إلى المشاعر العظيمة الجياشة نحو الآخرين ويجعل فيها شوقاً إلى الإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم، وقل أن تجلس في مجلس فيذكر فيه كريمٌ بكرمه، أو يذكر المحسن فيه بإحسانه إلا خشع قلبك.
فهذه أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها يأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عن الجميع وهي صائمة ثلاثون ألف درهم وهي في أشد الحاجة، فتوزعها على الفقراء إلى فلان وآل فلان، ولم تبق منها شيئاً حتى غابت عليها الشمس، فالتمست طعاماً تفطر عليه فلم تجد . فسير الرجال وسير الصالحين وسير الأخيار تحرك القلوب إلى الخير، والله تعالى يقول في كتابه: }وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120){ [هود] .
فالله يثبت قلوب الصالحين على الصلاح والبر ما سمعوا بأمرٍ صالح وما سمعوا بسيرة عبدٍ صالح، نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم في ذلك أوفر العظة والعبرة.
4 ـ معاشرة الرحماء:
كذلك أيضاً مما يحرك القلوب إلى الرحمة والإحسان إلى الناس، معاشرة الرحماء، فانظر في إخوانك وخلانك، فمن وجدت فيه الرحمة ورقة القلب وسرعة الاستجابة لله، فاجعله أقرب الناس منك، فإن الأخلاق تعدي، فإذا عاشر العبد الصالحين أحس أنه في شوق للرحمة، وأحس أنه في شوق للإحسان إلى الناس، ودعاه ذلك إلى التشبه بالأخيار، فكم من قرينٍ اقترن بقرينه، كان من أقسى الناس قلباً، فأصبح ليناً لان قلبه بصحبة الصالحين.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشد الناس قلباً وأعظمهم صلابة، فلما كسر الله قلبه بالإسلام، كان من أرحم الناس بالمسلمين رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه عاشر رسول الأمة وإمام الرحماء فتأثر به، حتى قال العلماء رحمهم الله: كان أرحم الناس بالناس بعد رسول الله (ﷺ) .
5ـ الالتزام بأدب الحديث :
لقد أمر الله تعالى نبيه (ﷺ) بالرفق واللين في القول فقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}]آل عمران [
وأمرنا بذلك فقال :{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً(83)} ]البقرة[
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء{.
ولقد ضرب النبي (ﷺ) أروع الأمثلة في حسن مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم , وروت لنا كتب السنة والسيرة نماذج رائعة في ذلك منها :
ما رواه ابن عباس عن النبي (ﷺ) أنه حين تحدث عن قوم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ،فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "أنت منهم". ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة ".
َقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قِيلَ: إِنَّ الرَّجُل الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقّ تِلْكَ الْمَنْزِلَة وَلَا كَانَ بِصِفَةِ أَهْلهَا بِخِلَافِ عكاشة ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ مُنَافِقًا فَأَجَابَهُ النَّبِيّ (ﷺ) بِكَلَامٍ مُحْتَمَل ، وَلَمْ يَرَ (ﷺ) التَّصْرِيح لَهُ بِأَنَّك لَسْت مِنْهُمْ لِمَا كَانَ (ﷺ)عَلَيْهِ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة.
فقد راعي النبي (ﷺ) مشاعر الرجل الذي قال للنبي "ادع الله أن يجعلني منهم" ولم يرد أن يجرحه أو يحرجه.
وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّهُ : اسْتَأْذَنَ علَى النبيِّ (ﷺ) رَجُلٌ فَقالَ: }ائْذَنُوا له، فَبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ - أوْ بئْسَ أخُو العَشِيرَةِ - فَلَمَّا دَخَلَ ألَانَ له الكَلَامَ، فَقُلتُ له: يا رَسولَ اللَّهِ، قُلْتَ ما قُلْتَ، ثُمَّ ألَنْتَ له في القَوْلِ؟ فَقالَ: أيْ عَائِشَةُ، إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن تَرَكَهُ - أوْ ودَعَهُ النَّاسُ - اتِّقَاءَ فُحْشِهِ{. ]رواه البخاري[
6ـ عدم جرح مشاعر المخطئ :
إن الاستعجال في إصدار الأحكام على الآخرين أمر ممقوت يعرض صاحبه للزلل والخطأ والوقيعة في الآخرين ، وهو مخالف أيضاً للمنهج الرباني الآمر بالتثبت والتبين والتبصر ، كما أنه بعيد عن منهج الإسلام في العفو عن المسيء وقبول عذر المعتذر .
وفي سيرة النبي (ﷺ) نماذج رائعة تؤكد ذلك منها : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله (ﷺ) أنا والزبير والمقداد، فقال:انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فائتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي (ﷺ) فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي (ﷺ) فقال النبي (ﷺ) ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقا من قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم: قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال النبي (ﷺ): صدق، فقال عمر: دعني يا رسول الله (ﷺ) فأضرب عنقه، فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم..
فقد أخطأ حاطب بن أبي بلتعة في ظنه إعلام قومه بخبر قدوم النبي (ﷺ)إليهم لفتح مكة ، وهو خطأ لا يقصد منه صاحبه خيانة الله ورسوله , لكن انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع هذا الخطأ الغير مقصود ، فلم يجرح صاحبه ، بل ولم يعنفه .
وفي ذلك نزل قوله تعالى : {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ (1) } ]الممتحنة [
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي (ﷺ): "دعوه وأريقوا على بوله سجلا ( دلوا ) من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ".
أمر النبي (ﷺ) أصحابه بترك هذا الأعرابي الجاهل حتى ينتهي من بوله ، فلما انتهي أمر أن يراق على بوله ذنوبا من ماء فزالت المفسدة .
ثم دعا الرسول (ﷺ) ، الأعرابي فقال : "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن ".
كما روى معاوية بن الحكم السلمي فقال : بينما أنا أصلي مع رسول الله (ﷺ) إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى ؟ فـجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني سكت ، فلما صلى ، عليه الصلاة والسلام ، فبأبي هو وأمي ، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كرهني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال : "إن هذه الصلاة لا يصح فيهما شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" .
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً ". فالمخطئ قبل أن نعاتبه أو نحاسبه لا بد أن نتفهم سبب الخطأ, ونلتمس له الأعذار وفي كل ذلك لا بد أن نحترم مشاعره حتى لا يعاند ويصبح الخطأ خطأين.
سَامِحْ أَخَـاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَــطِ وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْـلِصٍ لَبِــقٍ أَضْحَى عَدُوًّا بِـــمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ حَمَاهُـمُ اللهُ مِـنْ دَوَّامَـةِ السَّقَـطِ
أَلَسْتَ تَرْجُـوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِـرَةً يَوْمَ الزِّحَـامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَـطِ
7ـ الاختلاط بالضعفاء، والمساكين، وذوي الحاجة؛ فإنَّه ممَّا يرقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحْمَة والشفقة بهؤلاء وغيرهم.
الخاتمة ..
إننا نحتاج إلى أن نربي إنسانا بمعنى الكلمة؛ نحتاج إلى زرع إنسانٍ يبقى أثرُه مئات السنين؛ كما قال أحدُهُم: إذا أدرتَ أن تزرع لِسَنَةٍ فازرع قمحا؛ وإذا أردتَ أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة؛ أما إذا أردتَ أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا!!
فيجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية؛ لأنها محيط، وإذا ما كانت بضع قطرات من المحيط قذرة؛ فلا يصبح المحيط بأكمله قذرا!!
أسأل الله العظيم أن يلين قلوبنا وأن يصلح ذات بيننا وأن يوحد صفوفنا وأن ينصرنا علي أنفسنا وعلى عدونا إنه ولي ذلك والقادر عليه .
آمين يا رب العالمين
===================
رابط pdf
https://www.raed.net/file?id=464287
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق