الحمد لله رب
العالمين ... والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ..
أما بعد: فيا
أيها المؤمنون....
كثيرا ما تطرق
أسماعنا كلمة فاز، فوز، فيقال فاز فلان بجائزة وفاز فلان بسيارة وفاز فريق بكأس
وأخر بميدالية وفاز فلان بالمركز الأول وفاز فريق على فريق بهدف أو أكثر وهكذا
تطرق أسماعنا هذه الكلمة كثيرا فيما يتعلق بجوائز الدنيا وحظوظها وقليل من الناس
من ينظر بعين بصيرته ويسافر بهمته إلى الفوز الأكبر الذي ليس بعده خسارة أبدا، قال
تعالي ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ
يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾
.الأنعام
إن الفوز بالدنيا
وحظوظها فوز محفوف بالمكاره ومعرض للنقص والزوال والنسيان فالغنى يعقبه الفقر
والقوة يتبعها الضعف والصحة يتبعها المرض والشباب يعقبه العجز والهرم بل الحياة
نفسها لا تدوم فأي فوز هذا الذي يكون في الدنيا؟ لقد جاءت لفظة (الفوز) وما اشتق منها في الكتاب
العزيز في واحدٍ وثلاثين موضعًا، وجاءت كلمة (الفائزون) في أربعة مواضع، فلنتأمل هذه
الآيات لنستخلص منها حقيقة الفوز ومعناه ومن هم الفائزون على الحقيقة.
حقيقة
الفوز :ـ
إن الفوز الحقيقي
هو الفوز في الآخرة بدءاً بالموت وما يكون في القبر وسؤال الملكين وفي عرصات
القيامة وعند الحشر والنشر والصراط وعند تطاير الصحف وأخذ الكتب بالإيمان, وتأملوا
في حال ذلك الفائز حينما يأخذ الكتاب باليمين فيطير فرحاً مسروراً ينادي في الموقف
﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾
اقرءوا هذا الكتاب وهذه علامة فوزي وسعادتي فلقد كنت على يقين من مجيء هذا اليوم
فعملت له وهذا هو الجزاء ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ الحاقة .
وتأمل حالهم يوم
يقول المولي عز وجل (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) عبس.
وعلى الجانب
الآخر يقف الخاسرون النادمون الذين غفلوا عن الفوز الحقيقي متحسرين على تفريطهم
نادمين على تضيعهم ﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ
يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾النحل.
وتأمل قول الله
عز وجل (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئكهم الكفرة الفجرة ) عبس .
إنَّ الفوز حقاً في النجاة من النار ودخول الجنة
دار الأبرار ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
﴾آل عمران .
وما أعظم الفرق
بين أهل الجنة وأهل النار؟
ما أعظم الفرق
بين أهل العذاب والجحيم وأهل النعيم المقيم؟
ما أعظم الفرق
بين الناجين والهالكين؟
ما أعظم الفرق
الفائزين والخاسرين؟
فأهل الجنة
يأكلون فيها ويشربون ويلعبون ويمرحون ويتلذذون ويتمتعون ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ
مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾السجدة.
وأهل النار فيها يعذبون ويحرقون ويهانون ويضربون
ويصرخون ويجأرون ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا
أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا
عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾السجدة.
فهل يستويان؟ والجواب كلا ﴿ لَا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ ﴾الحشر.
(الفائزون) في أربع مواضع في القرآن الكريم ..
1ـ الموضع
الأول في سورة التوبة...
قال تعالي (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ
وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة:20-22]
فهؤلاء قدموا النفس والنفيس وبذلوا الغالي والرخيص
ابتغاء مرضاة الله، إنهم من أعظم الفائزين في هذه الدنيا.
حين تسمو
النفوس إلى هذا المعنى ندرك حقيقة ما قاله حرام بن ملحان حين طعن من خلفه يوم بئر معونة
فأخذ ينضح الدم على وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة).
هذه النفوس
العالية تزهد في حطام الدنيا فتقدمه لله وهو أحب شيء إليها، لما نزل قول الله
تعالي :( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) [الحديد:11]
قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله، وإن الله
عز وجل ليريد منا القرض؟! قال:(نعم يا أبا الدحداح) ، قال: أرني يدك يا رسول الله،
فناوله يده فقال: فإني قد أقرضت ربي عز و جل حائطي قال ابن مسعود: وله حائط فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح
فيه و عياله، قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي
فقد أقرضته ربي عز وجل. الله أكبر، ما أعظم هذه النفوس وما أكبرها عن أن تكون أسيرة
حطام الدنيا ومتاعها.
2ـ الموضع
الثاني في سورة المؤمنون .....
قال
تعالي :( إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ
[المؤمنون:111]، فما أعظم عاقبة الصبر الذي يبلغ بالإنسان أسمى المراتب وأعلاها، وفي
الجنة يسمع أهلها الملائكة وهم يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]،
صبرتم على الطاعة فنعم الصبر، قمتم بها وراغمتم النفوس
لأجلها فنعم الصبر، صبرتم عن معصية الله وغالبتم النفوس لتركها مع شدة حبكم لها وتعلق
قلوبكم بها فنعم الصبر، صبرتم على ما يحل بكم من أقدار الله وما ينزل بكم من مصائب
هذه الحياة، نهيتم النفس عن تسخطها وجزعها، أيقنتم أن ما أخطأكم لم يكن ليصيبكم وما
أصابكم لم يكن ليخطئكم فنعم الصبر. ولما كانت القلوب على هذا المستوى من الإيمان والصبر
واليقين كان أولئك الصنف من الناس هم الفائزون،
قال تعالي (إِنَّهُ
مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
3ـ
أما الموضع الثالث في سورة النور ...
فهو قوله
تبارك وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ
وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْفَائِزُونَ [النور:51، 52].
وهذه الآيات
جاء قبلها في السياق الحديث عن المنافقين في قوله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ
لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا
أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ [النور:48-50].
إنها صفاتٌ
أربعة إذا اجتمعت في العبد كان من الفائزين :
طاعة الله ، وطاعة رسوله صلى الله عليه
وسلم ، وخشية الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى ، وتقوى الله جلّ وعلا بالبعد عن
المعاصي والآثام ؛
فمن كان بهذا الوصف وعلى هذه الحال فإنه يكون من الفائزين كما أخبر
الله بذلك .
فما أعظم
الفرق بين هؤلاء وهؤلاء:
المستجيبون لله ولرسوله الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله
وسنة رسوله، وأولئك الذين في قلوبهم مرض النفاق يظنون أن حكم الله ظلم وحيف، فيستبدلون
به أحكام البشر وقوانينهم التي هي مظنة الظلم والحيف، أولئك البشر الذين لا يملكون
أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم وأهوائهم، ولكنَّ العدالة المطلقة
هي في حكم الله فلا تجدها في تشريع غير تشريعه ولا يحققها حكم غير حكمه،
قال تعالي (أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
[المائدة:50]،
ولذا قال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52]،
أولئك هم الناجون في دنياهم وأخراهم،
هم للفوز أهل، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم، فالطاعة لله ولرسوله تقتضي السير على
النهج القويم، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ
كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ
تُنسَى [طه:123-126].
أما الموضع
الرابع في سورة الحشر ...
قال
تعالي:( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]،
نعم لعمرو
الله، وأيُّ فوز أعظم من ذاك؟!
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
نعم، إنها الجنة التي يُحل عليهم فيها رضوانه فلا
يسخط عليهم أبدًا، قال تعالي (وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[التوبة:72]،
إنها الجنة التي يخلدون فيها فلا يموتون، (خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]،
نعم، إنها
الجنة هي محض فضل وامتنان من الكريم المنان،فال تعالي ( فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ [الدخان:57]،
وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال عن الجنة:(ينادي
مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم
أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا).
إنها الجنة بناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها
المسك الأذفر، حصباؤها الدر والياقوت، تربتها الزعفران، فهي كما قال تعالى: (وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12].
إنها الجنة التي فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار
من لبن لم يتغير طعمه وأنها من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، فهي كما قال الله:
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11]،
إي وربي إنه الفوز الكبير.
ثم تذكر
عبد الله حال المؤمنين الفائزين ماذا لهم بعد نجاتهم من النار وفكاكهم من عذابها ونجاتهم
من الدخول فيها ؟
ماذا أمام
هؤلاء الفائزين ؟ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ
وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴾ [النبأ:٣١-٣٦]
ما أعظمها
من حال وما أطيبه من مآل !!
فكّهم
الله عز وجل وأجارهم من النار فجازوا الصراط وتعدَّوه ، ثم أمامهم الجنة فيها هذا النعيم
المقيم ، فتفكر في هذا المقام وأهل الجنة يدخلون الجنة مع بابها فائزين أعظم فوز نائلين
أعظم غنيمة ، وتفكر في حالك ومآلك في هذا المقام العظيم ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[الحديد:١٢] ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾[البروج:١١] .
تأمل هذه
المعاني ولا تشغلك رعاك الله مُتَع الدنيا
عن الفوز الحقيقي عندما تلقى الله جلّ وعلا.
إن الفوز
عباد الله نجاةٌ من مرهوب وتحصيل لمرغوب ,
وهذان يجتمعان للمؤمنين أهل الجنة ؛ ينجِّيهم الله تبارك وتعالى من النار ويمنّ عليهم
بالفوز بدخول الجنة .
وهذا هو
حقيقة الفوز عباد الله نجاةٌ من مرهوب وتحصيل لمرغوب ، وأي مرهوبٍ أعظم من النار
!!
وأي مرغوبٍ
فيه أعظم من الجنة !! ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ ﴾ ؛ هذا هو ميدان الفوز حقاً وصدقا ، نجاةٌ من نار الله وعذابه ، وفوزٌ بجنته
ونعيمه .
ولهذا
ينبغي لكلِّ واحدٍ منا أن يتذكر هذا الموقف العظيم وكلنا صائر إليه , جاء في صحيح مسلم
و قِفْ متأملاً رعاك الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال :( ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ أي يوم القيامة وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ
سَلِّمْ سَلِّمْ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزِلَّةٌ
فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ
لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ
أي يمرون من على هذا الصراط كَطَرْفِ
الْعَيْنِ ، وَكَالْبَرْقِ ، وَكَالرِّيحِ ، وَكَالطَّيْرِ ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ
، وَالرِّكَابِ ؛ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)
.
أيها
المؤمنون ....
هؤلاء
هم أصحاب الجنة، هؤلاء هم أصحاب الحسنى وزيادة، هل تريد أن تكون منهم؟
فاعرف أوصافهم واتصف بها، قال تعالي ( كَانُوا قَلِيلاً مِنْ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19].
يصومون
وغيرهم يأكل، وينفقون وغيرهم يبخل، يقاتلون وغيرهم يتقاعس ويجبن، هم عباد الله حفظوا
وصية الله ورعوا عهده، هم بربهم يؤمنون، وهم بربهم لا يشركون، هم من خشيته مشفقون،
استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش،
إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون،
في صلاتهم خاشعون، عن اللغو معرضون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، لأماناتهم وعهدهم
راعون، طالما تعبت أجسادهم من الجوع والسهر، استعدوا من الزاد بما يكفي لطويل السفر،
كثر استغفارهم فحطت خطاياهم وكل ما طلبوا من ربهم أعطاهم، فسبحان من اختارهم واصطفاهم.
إنهم عباد الله المخلَصون، فيهم الشهيد المحتسب والعفيف
المتعفف والضعيف المتواضع ذو الطمرين مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، أقوام
يقطرون نزاهة، أفئدتهم مثل أفئدة الطير، فيهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم
يتوكلون، متحابون في جلال الله، فيهم صاحب القرآن يقرأ ويرتل ويرتقي، وفيهم تارك المراء
ولو كان محقًا وتارك الكذب ولو كان مازحًا، فيهم من أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى
بالليل والناس نيام وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، هي لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن
بالغيب وجاء بقلب منيب، ينال نعيمها عيون تبكي من خشية الله وعيون تحرس في سبيل الله.
السبيل
للوصول للفوز الحقيقي...
أيها المسلمون:
لعل النفوس
قد اشتاقت إلى ذلك الفوز العظيم والنجاح الكبير ولربما تساءلت ما السبيل إلى هذا الفوز
العظيم؟ وما أسباب هذا الفوز المبين؟
لقد أجاب
القرآن الكريم وبين أسباب الفوز وطرق النجاح وبين سبل الوصول إلى ذلك الفوز الكبير
أجملها فيما يلي:
أولاً:
الإيمان بالله فهو أساس الفوز والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة:ـ
قال
تعالي ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
﴾.
ثانياً:
العمل الصالح:ـ
إذ أنَّ الإيمان الحق يدفع صاحبه إلى صلاح العمل
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ
فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾الجاثية .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾
البروج.
﴿ وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ﴾ التغابن .
فتأملوا
أيها المسلمون كيف وصف الفوز في الآيات الثلاث في الأولى بالفوز المبين والثانية بالفوز
الكبير وفي الثالثة بالفوز العظيم ليدل على كمال الفوز الأخروي المترتب على الإيمان
والعمل الصالح.
ثالثاً:
طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والسير على هداه والحذر من مخالفة أمره وعدم الترسم
بخطاه :ـ
قال
تعالي﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ ﴿ومَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
رابعاً:
اقتفاء أثر الصحابة رضي الله عنهم واتباع سبيلهم:ـ
قال
تعالي ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ﴾.
خامساً:
ترك المعاصي:ـ
وذلك أنَّ المعاصي تفسد القلب وتسقط العبد من عين
الله وتورثه الذل والهوان وتعرضه لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة فالمعاصي تزيل
النعم وتحل النقم وتمحق بركة العمر فليس للعبد فوز إلا بترك المعاصي ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
﴾غافر.
سادساً:
الصدق مع الله ومع الناس:ـ
قال
تعالي ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾المائدة .
وقد أمر الله المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
ووصفهم بالمتقين والمحسنين وجعل جزائهم تكفير سيئاتهم وإعطائهم ما يشاءون ﴿ وَالَّذِي
جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
﴾.الزمر
سابعاً:
الخوف من الله وعذابه:ـ
فإنَّ ذلك يؤدي إلى ترك المعاصي وذلك أعظم الفوز
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ
عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾الأنعام .
وقال
تعالي ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾النور.
ثامناً:
تقوى الله فقد أخبر الله عن فوز المتقين بالجنة ونجاتهم من النار:ـ
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ *
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾الدخان
وبشرهم بالفوز في الدنيا والآخرة فقال ﴿ أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ
لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾يونس.
وحقيقة التقوى أن يطاع فلا يعصى فيذكر فلا ينسى فيشكر
فلا يكفر، حقيقتها فعل الأوامر وترك النواهي.
تاسعاً:
الجهاد في سبيل الله الذي هو أفضل الأعمال:ـ
فقد جعله الله تعالى من أعظم أسباب الفوز ﴿ لَكِنِ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ﴾ التوبة .
وبين سبحانه
أنَّ الجهاد من أعظم التجارة مع الله الموصلة إلى الفوز العظيم ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ
عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾الصف.
وقال
تعالي ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾التوبة .
وعن ابن
عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول ﴿ عَيْنَانِ
لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ
في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الترمذي وصححه الألباني في المشكاة .
وقد عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم فضله (من قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له
الْجَنَّةُ) أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان .
وسئل صلى
الله عليه وسلم عما يعدله فقال لا تستطيعونه فأعادوا عليه فقال في الثالثة ( مَثَلُ
الْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ
اللَّهِ لَا يَفْتُرُ من صِيَامٍ ولا صَلَاةٍ حتى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ في سَبِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
بعث الإمام المجاهد عبدالله ابن مبارك من طرسوس رسالة
إلى العالم العابد الفضيل ابن عياض بمكة يقول فيها:"
يا عابد الحرمين لو أبصـرتنا لعلمت أنـك بالعبادة تلعـب
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك
والغبار الأطيب
ولقد أتانا عن مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ
الفضيل الرسالة بكى وذرفت عيناه بالدموع وقال صدق أبو عبدالرحمن ونصحني. بارك الله
لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
عاشراً:
البعد عن طاعة شياطين الإنس والجن ومخالفتهم وإظهار العداوة لهم خاصة القرين والصاحب
منهم
:ـ
قال
تعالي﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ
* قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ
* قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾الصافات.
قال الإمام
ابن كثير رحمه الله في تفسيره " يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنَّه أقبل بعضهم
على بعضٍ يتساءلون عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من
حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر
, والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما
لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ
لِي قَرِينٌ ﴾الصافات.
قال مجاهد يعني شيطانا وقال العوفي عن ابن العباس
هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا.
ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس فإنَّ
الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان وكلاهما
يتعاونان "
والمقصود أنَّ المؤمن حين عصى القرين ولم يسلك سبيله ولم يتّبعه على
كفره وضلاله وإنكاره للبعث كان ذلك سبباً في نجاته وفوزه بالجنة حيث النعيم المقيم
الذي لا يحول ولا يزول.
الحادي
عشر: الصبر وفضله عظيم :ـ
فهو من
صفات الله تعالى ومن صفات أولي العزم من الرسل وقد أمر الله به وبين عاقبته فقال ﴿
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾البقرة
.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ آل عمران .
﴿ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ البقرة .
وقال تعالي ﴿ وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ
نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ
﴾ وقال تعالي ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
﴾فصلت .
والصبر واجب بالإجماع وهو نصف الإيمان وقد بين تعالى
أنَّه من أسباب الفوز
قال تعالي ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
﴾ وقال تعالي ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ
﴾ ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ الانسان .
وقال
تعالي ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً
وَسَلَامًا ﴾الفرقان .
﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف .
وقد علق
الله تعالى خيري الدنيا والآخرة على الصبر فقال ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ السجدة .
وأخبر
سبحانه أنَّ الأخلاق العالية والأعمال الصالحة لا تنال إلى بالصبر ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾القصص.
بل حتى النصر على الأعداء لا يكون إلَّا بالصبر﴿
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾آل عمران .
وقال صلى الله عليه وسلم (وأنَّ النَّصْرَ مع الصَّبْرِ)
المسند عن ابن عباس وصححه الحاكم.
والصبر
أنواع ثلاثة:
أولاً
: صبر على الطاعة :ـ
وذلك لأنَّ
الطاعات كثيرة ومتكررة فتشق على النفس فتصعب المحافظة عليها إلَّا بالصبر فكم من إنسان
لازم المسجد وحافظ على الصلاة ثم نفذ صبره فهجر المسجد وقطع الصلاة؟
وكم من إنسان سلك
طريق الالتزام ثم لمَّا قل صبره تغيَّر حاله فانتكس وعاد إلى حال شر من حاله الأولى؟
وكم من إنسان جالس الصالحين ولازمهم ثم لمَّا قل صبره هجرهم وذهب إلى أصدقاء السوء
ولذا قال تعالى لنبيه ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾الكهف.
ثانياً:
صبر عن معصية الله:ـ
ولا بد للمسلم منه لا سيما إذا انعقدت أسباب المعصية
وقويت دواعيها وتأملوا في صبر يوسف عليه الصلاة والسلام حينما تبدَّت له الفواحش وقويت
دواعيها ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ
لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ لذلك قالت امرأة العزيز ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾.
ثالثاً:
صبر على أقدار الله المؤلمة:ـ
فإنَّ الدنيا دار ابتلاء ولذا قال تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ .
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال
قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ما يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ
في نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حتى يَلْقَى اللَّهَ وما عليه خَطِيئَةٌ) الترمذي
وقال حسن صحيح وصححه الحاكم.
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما يُصِيبُ الْمُسْلِمَ من نَصَبٍ
ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أَذًى ولا غَمٍّ حتى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلا
كَفَّرَ الله بها من خَطَايَاهُ) البخاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق