تحميل word
تحميل pdf
الحمد لله رب العالمين الفعال لما يريد .. أنزل علينا خير كتبه وأرسل لنا أفضل رسله ؛ فأكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، حيث قال سبحانه وتعالي ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) المائدة .3 ..
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له . .مقدر الأقدار ومسبب الأسباب ورافع السماء بغير عماد صاحب الفضل والجود والإنعام فقال تعالي (وما بكم من نعمة فمن الله) النحل 53.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله .. خير من رضي عن الله فقال صلي الله عليه وسلم (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد نبيا ورسولا )
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله الطيبين الطاهرين ،وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد …. فيا أيها المؤمنون .
لقد أخذ كثير من الناس يبحثون عن السعادة ، فحسب البعض أن السعادة في المال والثراء ، والبعض الاخر تصور أن السعادة في أن يكون له بيت فاخر وسيارة فارهة، ومنهم من يعتقد أن السعادة في كثرة الأولاد والأحفاد ، أو تكون له وجاهة في المجتمع، أو يتبوأ أعلى المناصب ، ويظنها البعض الآخر في أن يتزوج امرأة ذات مال وجمال ودلال.. وللناس فيما يعشقون مذاهب, إن هذه المتع متع دنيوية زائلة من عاش لأجلها والتكثر منها ولم يبتغ غيرها لم يذق طعم السعادة الحقيقية وليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب ,
فالسعادة ليست في مال يجمعه الإنسان وإلا لسعد قارون، وليست في طلب الوزارة والمنصب ولو كانت كذلك لسعد هامان وزير فرعون، وليست في متعة دنيوية ما تلبث أن تنقضي ،
فالسعادة هي جنة الأحلام التي ينشدها كل بشر، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته. ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير. ولا نحسب أحداً يبحث عن الشقاء لنفسه، أو يرضى بتعاستها. هذه السعادة التي يتكلم عنها علماء السلف فيقولون: “لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف” يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان لقاتلونا عليها، لأن السعادة في نظرهم هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وهذه هي الغاية التي يريدونها من السعادة.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة”
وقال بعض العارفين : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول :” إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب ” .
فأين هي إذن جنة الدنيا التي ينشدها كل إنسان والتي تتمثل في تحقيق الرضا فالرضا هو السعادة وهو جنة الدنيا .. لذلك كان حديثنا عن (الرضا جنة الدنيا) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ….
1ـ حقيقة الرضا .
2ـ الفرق بين الصبر والرضا.
3ـ درجات الرضا .
4ـ شروط صحة الرضا.
5ـ فضل الرضا وأثره في الحياة .
6ـ نجوم علي طريق الرضا .
7ـ الطريق إلي الرضا.
العنصر الأول : حقيقة الرضا :ــ
الرضا ضد السخط , ويُراد به : تقبُّل ما يقضي به الله ـ عز وجل ـ من غير تردد , ولا معارضة .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالي : الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا من لم يدخله في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة ومستراح العارفين وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين . ” الرضا ذروة سنام الإيمان: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل.
الرضا من أعمال القلوب : قال ابن القيم رحمه الله: الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان.
وقيل الرضا :ارتفاع الجزع في أي حكم كان. وقيل :رفع الاختيار وقيل استقبال الأحكام بالفرح .
وقال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: “الرضا: نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط”
العنصر الثاني :الفرق بين الصبر والرضا :ـ الفرق بين الرضا والصبر أن الصبر حبس النفس و كفها عن السخط مع وجود الألم وتمني زواله ، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا يوافق الصبر في حبس النفس وكف الجوارح ، ويزيد عليه عدم تمني زوال الألم ، ففرح العبد بالثواب وحبه لله عز وجل وانشراح صدره بقضائه يجعله لا يتمنى زوال الألم.
قال طائفة من السلف إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها، بخلاف الصابر. وقيل: الرضا أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راضٍ بأي ذلك كان والصبر، وأن يكون بعد نزول المصيبة يصبر، وأجيب عن هذا الأخير بأن هذا عزم على الرضا، وليس هو الرضا، فإن الرضا يكون بعد القضاء لا قبله، ومما يدل على علوِّ قدر الرضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسال ربه إلا أعلى المقامات.
ولقد ضرب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أروع الأمثلة في ذلك ….
قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة.
قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بُني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.
إنه الرضا الذي وطَّنوا أنفسهم عليه، بحيث صارت أقدار الله عز وجل أحبَّ إليهم من هوى أنفسهم، بل صاروا لا يهوون غيرها، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما لي هوىً في شيء سوى ما قضى الله عز وجل.
العنصر الثالث : درجات الرضا :ـ
الدرجة الأولي :ـ
رضا العامة . وهو الرضا بالله ربا ، وتسخط عبادة ما دونه ، وهذا قطب رحى الإسلام . وهو يطهر من الشرك الأكبر .
الرضا بالله ربا : أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره . وينزل به حوائجه . قال الله تعالى : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ) الأنعام .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : سيدا وإلها . يعني فكيف أطلب ربا غيره ، وهو رب كل شيء ؟ وقال في أول السورة ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ) الأنعام .
يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ . وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة . وقال في وسطها (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) الأنعام .
أي : أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم ، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه ؟ وهذا كتابه سيد الحكام ، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه ؟ وقد أنزله مفصلا ، مبينا كافيا شافيا .
وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل ، رأيتها هي نفس الرضا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، فكثير من الناس يرضي بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضي به وحده وليا وناصرا . بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلي الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك . بل التوحيد : أن لا يتخذ من دونه أولياء . والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء . وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضي بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه ربا ، ولا إلها ، ولا غيره حكما .
الدرجة الثانية :
الرضا عن الله وهو رضا العبد بما يفعله الله معه ،وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر .
إنه الرضا بربوبيته سبحانه المتضمن الرضا بتدبيره وتقديره ، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وإذا رضي العبد بربوبية الله وألوهيته فقد رضي عنه ربه .. وإذا رضي الله عنه ربه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه ، وقد رتب الباري سبحانه في محكم التنزيل في غير آية رضاه عن الخلق برضاه عنه ، فقال في عدة آيات : … رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ … (119 سورة المائدة.
لذلك أنت حينما ترضى عن الله فهذا يقين منك ، وقد ورد عن سيدنا علي أن ” الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ” وروي أن أمير المؤمنين علياً قال: يا ابن آدم، لا تحمل هم يومك الذي لم يأت، على يومك الذي أتى، فإنه إن يكن في عمرك، يأتك الله فيه بمحبتك، واعلم أنك لن تكسب شيئاً سوى قوتك، إلا كنت فيه خازناً لغيرك بعد موتك.
وهذا شريح القاضي يحمد الله على المصيبة أربع مرات , قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع، لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني .
الدرجة الثالثة : الرضى برضى الله :ـ فلا يرى العبد لنفسه سخطا ولا رضا، مع أمر الله تعالي .
العناصر الرابع : شروط صحة الرضا :ــ
الأول: استواء النعمة والبلية عند العبد:ـ
لأنه يشاهد حُسنَ اختيار الله له. ومن هذا الباب ما حدث مع بعض السلف حين ابتلوا بالشدائد فصبروا لها، وظهر منهم الرضا، وأيقنوا أن المنع قمة العطاء من الله تعالي ، قال سفيان الثوري رحمه الله: مَنْعُه عطاء. وذلك أنه لم يمنع عن بُخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن، فمنعه اختيارًا وحُسْنَ نظر.
فإن الله عز وجل لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، ساءه القضاء أو سره. فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء، وإن كان صورة المنع، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذَّ به في العاجل، ولو رزق من المعرفة حظًا وافرًا لعدَّ جميع ما قضاه الله عز وجل وقدر نعمة وعطاء وعافية، وهذه كانت حال السلف.
فهذا عمر بن عبد العزيز يموت ولده عبد الملك فيدخل عليه سليمان بن الغاز معزيًّا، فيقول له عمر: (وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبةٌ في شيء من الأمور يخالف محبة الله، فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إليَّ).
قال سفيان الثوري يوماً عند العابدة رابعة العدوية: اللهم ارض عنا، فقالت: أما تستحي أن تسأله الرضا عنك وأنت غيرُ راضٍ عنه!!
كم واحد منا غيرُ راضٍ عن الله ولو قال بلسانه ألف مرة: رضيت بالله رباً!! فقال: أستغفر الله. فقال لها أحدُ الجلوس: متى يكون العبد راضياً عن الله؟! اسمع يا عبد الله حقيقة الرضا بالله ثم احكم على نفسك، فقالت: إذا كان سرورُه بالمصيبةِ مثل سروره بالنعمةِ.
الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق :ـ
إلا فيما كان حقًّا لله ورسوله، فالمخاصمة لحظ النفس تطفئ نور الرضا وتُذهب بهجته، وتُبدِّل بالمرارة حلاوته، وتُكدِّر صَفْوه.
الثالث: الخلاص من الإلحاح في مسألة الخلق:ـ
قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}… (البقرة273).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة قال: قلت: أنا قال: لا تسأل الناس شيئاً”. فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه حتى ينزل فيتناوله…. [رواه أحمد].
الرابع : ترك الاختيار قبل القضاء ( قبل الاستخارة ) . الخامس : فقدان المرارة بعد القضاء بالحمد والشكر .
السادس : دوام محبة الله تعالي في القلب بعد وقوع الابتلاء .
العنصر الخامس: فضل الرضا وأثره في الحياة: ــ
1ـ الرضا جنة الدنيا :ـ
فالرضا نعمة روحية جزيلة هيهات أن يصل إليها جاحد بالله أوشاك فيه أو مرتاب في جزاء الآخرة إنما يصل إليها من قوي إيمانه وحسن اتصاله به وقد خاطب الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم بقوله ( فاصبر علي ما يقولون وسبح بحمد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضي ) طه. إن من وطَّن نفسه على الرضا عاش في الدنيا حياة طيبة، ولم تعرف الهموم والأكدار إلى قلبه سبيلاً، كيف وقد رضي الله عنه ورضي هو عن الله؟ إن الله عز وجل يقول: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة..) وقد فسرها بعض السلف بأنها حياة الرضا والقناعة.
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لزوجته عاتكة رضي الله عنهما: (والله لأسوأنك – وكان قد غضب عليها – فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله له؟ قال: لا. قالت: فأيُّ شيء تسؤني به إذًا؟) تريد أنها راضية بمواضع القدر لا يسؤها منه شيء إلا صَرْفُها عن الإسلام ولا سبيل له إليه.
إن شعور الإنسان بالرضا من أول أسباب السكينة النفسية التي هي سر السعادة.
وفي الحديث الشريف: (من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضي ، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وعدم رضاه بعد القضاء ) .
2ـ عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين:
فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه مكتوب ، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه، ويدرك كذلك ان الله حسبه وكافيه ورازقه ، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس، والإجمال في اطلب، وترك التكالب على الدنيا، والتحرر من رق المخلوقين ، وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين ، وهذا أساس فلاحه ورأس نجاحه.
3ـ تذوق حلاق الإيمان :ـ
فالرضا من مكملات الإيمان بالله عز وجل . واسمع إلي ما رواه ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : ” لا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ ، وَلا تَحْمِدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ ، وَلا تَذِمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ ، فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ ، وَلا يَرُدُّهُ عَنْكَ كُرْهُ كَارِهٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرَّاحَةَ ، وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينَ ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي السَّخَطِ وَالشَّكِّ “. (مسند الشهاب) ولن يجد العبد حلاوة الإيمان إلا بهذا: يقول النبي صلى الله عليه وسلم ” ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ رسولا ” .. رواه الترمذي .
4ـ مغفرة الذنوب :
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.(رواه مسلم)
5ـ البشارة بالجنة :ـ
قال صلى الله عليه وسلم ” من قال : رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ رسولا وجبت له الجنة ” رواه أبو داود .
8ـ حقا علي الله أن يرضيه :ـ
قال صلي الله عليه وسلم (من قال حين يصبح وحين يمسي (رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ نبيا ورسولا كان حقا علي الله أن يرضيه ).
إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان مع الشهد المكرر
فأعظم فضل يحظي به الإنسان هو رضا الله تعالي علي عبده فهو أكبر من الجنات رفع الله الرضا فوق جنات عدن كما رفع ذكره فوق الصلاة
( ولذكر الله أكبر ) . فرضوان رب الجنة أعلي من الجنة بل هو غاية مطلب سكان الجنان .
ولذلك قال الله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/72 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ . فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ! فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ) رواه البخاري، ومسلم .
العنصر السادس : نجومٌ ساطعة على طريق الرضا :
كان السلف رضي الله عنهم يتواصون بالرضا وتربية النفس عليه، لعلمهم بعلو منزلته، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: (أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
وكان من وصايا لقمان عليه السلام لولده: (أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت).
فهذه بعض النجوم الساطعة علي طريق الرضا ….
1ـ النبي صلي الله عليه وسلم لما مات ولده إبراهيم وكان عمره 62 سنة وكان يمر به علي بيوت الصحابة ويقول انظروا إلي إبراهيم ، كان يقول إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإن لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الله إن لله وإن إليه راجعون . جمع النبي بين مقام الرحمة ومقام الرضا .
2ـ عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي شارك مع النبي في الغزوات، استسقى بطنه فبقي نائمًا على ظهره طريح الفراش ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد، حفروا له في سريره -وكان من جريد النخل- حفروا له فتحةً لقضاء حاجته، فدخل عليه مطرِّف بن الشخير فجعل يبكي لما يراه من حاله، فقال له عمران: لم تبكي؟! قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة، قال: لا تبكِ فإنَّ أحبه إلى الله تعالى أحبُه إليَّ، ثم قال: أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفع به، واكتم عني حتى أموت، إن الملائكةَ تزورني فآنَسُ بها وتسلِّمُ عليَّ، فأعلمُ بذلك أن هذا ليس بعقوبة بل هو نعمةٌ جسيمة. هكذا فهموا معنى الإيمان والرضا بالرحيم الرحمن. يقولون: رضينا بالله صدقاً وحقاً.
3ـ عروة بن الزبير، فقد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟
فدخلوا عليه، فقال: “اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي ” .
4ـ السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: “خلِّ سبيلها”، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت . وقالت إن حمزة في نعم الله قليل .
فهل ترضى أخي بما رضيه الله لك ؟!
5 ـ ويحكي عن ثلاثة من التابعين : الشعبي وسعيد ابن المسيب ورجل ثالث ،فجلسوا يدعون الله تعالي فقال الأول ( اللهم إني أسألك أن أموت قريبا حتي لا أدرك زمان الفتن فأفتن ، وقال الثاني : اللهم أحيني طويلا حتي أعبدك طويلا . وقال الثالث : الله لا أختار لنفسي فاختر أنت ما شئت فما تختاره لي هو خير من لي . فقال الاثنين الأخريين أنت أفضلنا .
6ـ قال عمر رضي الله عنه: (ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربع نِعم: إذْ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثواب عليها).
7ـ قال عامر بن قيس: (أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت).
8ـ عن أبى عل الرازى قال صحبت فضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات على ابنه فقلت له في ذلك فقال إن الله عز وجل أحب أمرا فأحببت ما أحب الله .
العنصر السابع : الطريق إلي الرضا:ـ
1ـ الإنشغال بالعبادة :ـ
قيل ليحي ابن معاذ : متي يبلغ العبد إلي مقام الرضا ؟ فقال إذا أقام نفسه علي أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول : إن أعطيتني قبلت ، وإن منعتني رضيت ، وإن تركتني عبدت ، وإن دعوتني أجبت . وجاء في الحديث القدسي: (إن اللّه يقول: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدَّ فقرك،وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
وقد ورد في الحديث القدسي : (عبدي خلقتك لعبادتي فلا تلعب وقسمت لك رزقك فلا تتعب ، إن قل فلا تحزن ،وإن كثر فلا تفرح، إن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت بدنك وعقلك وكنت عندي محمودا ، وإن لم ترضي بما قسمته لك أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموما ، وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في الفلاة ثم لا يصيبك منها إلا ما كتبته لك ) .
ولكن من طبيعة ابن آدم عدم الرضا دائما ينظر إلي ما في يد غيره ويتطلع إلي ما في يد الناس ويطلب المزيد بغير طاعة الله تعالي وهذه هي طبيعة النفس البشرية كما قال النبي صلي الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمني أن يكون له ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ،ويتوب الله علي من تاب ) . الإنسان الساخط دائما يعيش في مأتم مستمر ومناحة دائمة لأنه يعيش في سخط دائم ،وغضب مستمر ساخط علي الناس ، ساخط علي ربه ،ساخط علي كل شيء .
2ـ الدعاء والتضرع إلي الله تعالي :ـ
لذلك كان من دعاء النبي صلي الله عليه وسلم ( اللهم رضني بقضائك حتي لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ماعجلت )
وكان من دعائه صلي الله عليه وسلم اللهم إني أسالك الرضا بعد القضاء .
3ـ اليقين والثقة في الله تعالي :ـ
رأى إبراهيم ابن أدهم رجلا مهموما فقال له أيها الرجل إنى أسالك عن ثلاثة أشياء فاجبنى قال الرجل نعم قال إبراهيم : أيجرى فى هذا الكون شيئا لا يريده الله قال كلا قال أفينقص من رزقك شيئا قدره الله لك قال : لا قال أفينقص من عمرك يوم كتبه الله لك فى الحياة ؟ قال كلا فقال له إبراهيم بن أدهم فلما الهم اذن
ثق فى آيات الله :” ولسوف يعطيك ربك فترضى”وانظر إلى النعم ولا تكفرها بعدم الرضا عن النقص .
يقول ابن عطاء الله السكندري : إياك والهم بعد التدبير فما قام به غيرك عنك لا تنشغل به أنت . إن حسن فهم العبد لطبيعة علاقته بربه تعالى يريح قلبه، وإن معرفة العبد بأن الله الذي خلقه لا يريد به سوء أمر يطمئن فؤاده، وإيمان العبد بأن الله جعل له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من الله عميم، ميزها الله وحببها لأهل الخير فقال عنها لأهلها فيما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلاتبأسوا أبدا؛ فذلك قوله عز وجل: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } رواه مسلم . وهنا ينتهي مكان الدنيا بما فيها من تعبٍ ونصبٍ ومرضٍ و…، لو أيقن العبد بذلك لكان في استقبال البلاء فرحا، إذ هو يرفع درجته عند الله إذا صبر، أفلا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي له الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن .
فدعنا نردد مع الشاعر قوله :
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوق التراب تراب
4ـ أن ينظر إلى اختيار الله تعالى له ، وأن الله لن يختار له إلا الخير:ـ
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم .
5ـ النظر في أحوال أهل البلاء من أمثال الأنبياء عليهم السلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم
ونتضرَّع إلى الله ونقول : إلهي؛ لا تغضب عليَّ فلست أقوى لغضبك، ولا تسخط عليَّ فلست أقوم لسخطك، فلقد أصبتُ من الذنوب ما قد عرفتَ، وأسرفت على نفسي بما قد علمتَ، فاجعلني عبدًا إما طائعًا فأكرمتَه، وإمَّا عاصيًا فرحمته .. اللهم آمين .
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار ، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له . .مقدر الأقدار ومسبب الأسباب ورافع السماء بغير عماد صاحب الفضل والجود والإنعام فقال تعالي (وما بكم من نعمة فمن الله) النحل 53.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله .. خير من رضي عن الله فقال صلي الله عليه وسلم (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد نبيا ورسولا )
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله الطيبين الطاهرين ،وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد …. فيا أيها المؤمنون .
لقد أخذ كثير من الناس يبحثون عن السعادة ، فحسب البعض أن السعادة في المال والثراء ، والبعض الاخر تصور أن السعادة في أن يكون له بيت فاخر وسيارة فارهة، ومنهم من يعتقد أن السعادة في كثرة الأولاد والأحفاد ، أو تكون له وجاهة في المجتمع، أو يتبوأ أعلى المناصب ، ويظنها البعض الآخر في أن يتزوج امرأة ذات مال وجمال ودلال.. وللناس فيما يعشقون مذاهب, إن هذه المتع متع دنيوية زائلة من عاش لأجلها والتكثر منها ولم يبتغ غيرها لم يذق طعم السعادة الحقيقية وليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب ,
فالسعادة ليست في مال يجمعه الإنسان وإلا لسعد قارون، وليست في طلب الوزارة والمنصب ولو كانت كذلك لسعد هامان وزير فرعون، وليست في متعة دنيوية ما تلبث أن تنقضي ،
فالسعادة هي جنة الأحلام التي ينشدها كل بشر، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته. ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير. ولا نحسب أحداً يبحث عن الشقاء لنفسه، أو يرضى بتعاستها. هذه السعادة التي يتكلم عنها علماء السلف فيقولون: “لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف” يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان لقاتلونا عليها، لأن السعادة في نظرهم هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وهذه هي الغاية التي يريدونها من السعادة.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة”
وقال بعض العارفين : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول :” إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب ” .
فأين هي إذن جنة الدنيا التي ينشدها كل إنسان والتي تتمثل في تحقيق الرضا فالرضا هو السعادة وهو جنة الدنيا .. لذلك كان حديثنا عن (الرضا جنة الدنيا) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ….
1ـ حقيقة الرضا .
2ـ الفرق بين الصبر والرضا.
3ـ درجات الرضا .
4ـ شروط صحة الرضا.
5ـ فضل الرضا وأثره في الحياة .
6ـ نجوم علي طريق الرضا .
7ـ الطريق إلي الرضا.
العنصر الأول : حقيقة الرضا :ــ
الرضا ضد السخط , ويُراد به : تقبُّل ما يقضي به الله ـ عز وجل ـ من غير تردد , ولا معارضة .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالي : الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا من لم يدخله في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة ومستراح العارفين وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين . ” الرضا ذروة سنام الإيمان: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل.
الرضا من أعمال القلوب : قال ابن القيم رحمه الله: الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان.
وقيل الرضا :ارتفاع الجزع في أي حكم كان. وقيل :رفع الاختيار وقيل استقبال الأحكام بالفرح .
وقال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: “الرضا: نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط”
العنصر الثاني :الفرق بين الصبر والرضا :ـ الفرق بين الرضا والصبر أن الصبر حبس النفس و كفها عن السخط مع وجود الألم وتمني زواله ، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا يوافق الصبر في حبس النفس وكف الجوارح ، ويزيد عليه عدم تمني زوال الألم ، ففرح العبد بالثواب وحبه لله عز وجل وانشراح صدره بقضائه يجعله لا يتمنى زوال الألم.
قال طائفة من السلف إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها، بخلاف الصابر. وقيل: الرضا أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راضٍ بأي ذلك كان والصبر، وأن يكون بعد نزول المصيبة يصبر، وأجيب عن هذا الأخير بأن هذا عزم على الرضا، وليس هو الرضا، فإن الرضا يكون بعد القضاء لا قبله، ومما يدل على علوِّ قدر الرضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضا بالقضاء، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسال ربه إلا أعلى المقامات.
ولقد ضرب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أروع الأمثلة في ذلك ….
قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة.
قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بُني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.
إنه الرضا الذي وطَّنوا أنفسهم عليه، بحيث صارت أقدار الله عز وجل أحبَّ إليهم من هوى أنفسهم، بل صاروا لا يهوون غيرها، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما لي هوىً في شيء سوى ما قضى الله عز وجل.
العنصر الثالث : درجات الرضا :ـ
الدرجة الأولي :ـ
رضا العامة . وهو الرضا بالله ربا ، وتسخط عبادة ما دونه ، وهذا قطب رحى الإسلام . وهو يطهر من الشرك الأكبر .
الرضا بالله ربا : أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره . وينزل به حوائجه . قال الله تعالى : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ) الأنعام .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : سيدا وإلها . يعني فكيف أطلب ربا غيره ، وهو رب كل شيء ؟ وقال في أول السورة ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ) الأنعام .
يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ . وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة . وقال في وسطها (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) الأنعام .
أي : أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم ، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه ؟ وهذا كتابه سيد الحكام ، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه ؟ وقد أنزله مفصلا ، مبينا كافيا شافيا .
وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل ، رأيتها هي نفس الرضا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، فكثير من الناس يرضي بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضي به وحده وليا وناصرا . بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلي الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك . بل التوحيد : أن لا يتخذ من دونه أولياء . والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء . وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضي بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه ربا ، ولا إلها ، ولا غيره حكما .
الدرجة الثانية :
الرضا عن الله وهو رضا العبد بما يفعله الله معه ،وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر .
إنه الرضا بربوبيته سبحانه المتضمن الرضا بتدبيره وتقديره ، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وإذا رضي العبد بربوبية الله وألوهيته فقد رضي عنه ربه .. وإذا رضي الله عنه ربه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه ، وقد رتب الباري سبحانه في محكم التنزيل في غير آية رضاه عن الخلق برضاه عنه ، فقال في عدة آيات : … رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ … (119 سورة المائدة.
لذلك أنت حينما ترضى عن الله فهذا يقين منك ، وقد ورد عن سيدنا علي أن ” الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ” وروي أن أمير المؤمنين علياً قال: يا ابن آدم، لا تحمل هم يومك الذي لم يأت، على يومك الذي أتى، فإنه إن يكن في عمرك، يأتك الله فيه بمحبتك، واعلم أنك لن تكسب شيئاً سوى قوتك، إلا كنت فيه خازناً لغيرك بعد موتك.
وهذا شريح القاضي يحمد الله على المصيبة أربع مرات , قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع، لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني .
الدرجة الثالثة : الرضى برضى الله :ـ فلا يرى العبد لنفسه سخطا ولا رضا، مع أمر الله تعالي .
العناصر الرابع : شروط صحة الرضا :ــ
الأول: استواء النعمة والبلية عند العبد:ـ
لأنه يشاهد حُسنَ اختيار الله له. ومن هذا الباب ما حدث مع بعض السلف حين ابتلوا بالشدائد فصبروا لها، وظهر منهم الرضا، وأيقنوا أن المنع قمة العطاء من الله تعالي ، قال سفيان الثوري رحمه الله: مَنْعُه عطاء. وذلك أنه لم يمنع عن بُخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن، فمنعه اختيارًا وحُسْنَ نظر.
فإن الله عز وجل لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، ساءه القضاء أو سره. فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء، وإن كان صورة المنع، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذَّ به في العاجل، ولو رزق من المعرفة حظًا وافرًا لعدَّ جميع ما قضاه الله عز وجل وقدر نعمة وعطاء وعافية، وهذه كانت حال السلف.
فهذا عمر بن عبد العزيز يموت ولده عبد الملك فيدخل عليه سليمان بن الغاز معزيًّا، فيقول له عمر: (وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبةٌ في شيء من الأمور يخالف محبة الله، فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إليَّ).
قال سفيان الثوري يوماً عند العابدة رابعة العدوية: اللهم ارض عنا، فقالت: أما تستحي أن تسأله الرضا عنك وأنت غيرُ راضٍ عنه!!
كم واحد منا غيرُ راضٍ عن الله ولو قال بلسانه ألف مرة: رضيت بالله رباً!! فقال: أستغفر الله. فقال لها أحدُ الجلوس: متى يكون العبد راضياً عن الله؟! اسمع يا عبد الله حقيقة الرضا بالله ثم احكم على نفسك، فقالت: إذا كان سرورُه بالمصيبةِ مثل سروره بالنعمةِ.
الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق :ـ
إلا فيما كان حقًّا لله ورسوله، فالمخاصمة لحظ النفس تطفئ نور الرضا وتُذهب بهجته، وتُبدِّل بالمرارة حلاوته، وتُكدِّر صَفْوه.
الثالث: الخلاص من الإلحاح في مسألة الخلق:ـ
قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}… (البقرة273).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة قال: قلت: أنا قال: لا تسأل الناس شيئاً”. فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه حتى ينزل فيتناوله…. [رواه أحمد].
الرابع : ترك الاختيار قبل القضاء ( قبل الاستخارة ) . الخامس : فقدان المرارة بعد القضاء بالحمد والشكر .
السادس : دوام محبة الله تعالي في القلب بعد وقوع الابتلاء .
العنصر الخامس: فضل الرضا وأثره في الحياة: ــ
1ـ الرضا جنة الدنيا :ـ
فالرضا نعمة روحية جزيلة هيهات أن يصل إليها جاحد بالله أوشاك فيه أو مرتاب في جزاء الآخرة إنما يصل إليها من قوي إيمانه وحسن اتصاله به وقد خاطب الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم بقوله ( فاصبر علي ما يقولون وسبح بحمد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضي ) طه. إن من وطَّن نفسه على الرضا عاش في الدنيا حياة طيبة، ولم تعرف الهموم والأكدار إلى قلبه سبيلاً، كيف وقد رضي الله عنه ورضي هو عن الله؟ إن الله عز وجل يقول: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة..) وقد فسرها بعض السلف بأنها حياة الرضا والقناعة.
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لزوجته عاتكة رضي الله عنهما: (والله لأسوأنك – وكان قد غضب عليها – فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله له؟ قال: لا. قالت: فأيُّ شيء تسؤني به إذًا؟) تريد أنها راضية بمواضع القدر لا يسؤها منه شيء إلا صَرْفُها عن الإسلام ولا سبيل له إليه.
إن شعور الإنسان بالرضا من أول أسباب السكينة النفسية التي هي سر السعادة.
وفي الحديث الشريف: (من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضي ، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وعدم رضاه بعد القضاء ) .
2ـ عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين:
فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه مكتوب ، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه، ويدرك كذلك ان الله حسبه وكافيه ورازقه ، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس، والإجمال في اطلب، وترك التكالب على الدنيا، والتحرر من رق المخلوقين ، وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين ، وهذا أساس فلاحه ورأس نجاحه.
3ـ تذوق حلاق الإيمان :ـ
فالرضا من مكملات الإيمان بالله عز وجل . واسمع إلي ما رواه ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : ” لا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ ، وَلا تَحْمِدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ ، وَلا تَذِمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ ، فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ ، وَلا يَرُدُّهُ عَنْكَ كُرْهُ كَارِهٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرَّاحَةَ ، وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينَ ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي السَّخَطِ وَالشَّكِّ “. (مسند الشهاب) ولن يجد العبد حلاوة الإيمان إلا بهذا: يقول النبي صلى الله عليه وسلم ” ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ رسولا ” .. رواه الترمذي .
4ـ مغفرة الذنوب :
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.(رواه مسلم)
5ـ البشارة بالجنة :ـ
قال صلى الله عليه وسلم ” من قال : رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ رسولا وجبت له الجنة ” رواه أبو داود .
8ـ حقا علي الله أن يرضيه :ـ
قال صلي الله عليه وسلم (من قال حين يصبح وحين يمسي (رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ نبيا ورسولا كان حقا علي الله أن يرضيه ).
إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان مع الشهد المكرر
فأعظم فضل يحظي به الإنسان هو رضا الله تعالي علي عبده فهو أكبر من الجنات رفع الله الرضا فوق جنات عدن كما رفع ذكره فوق الصلاة
( ولذكر الله أكبر ) . فرضوان رب الجنة أعلي من الجنة بل هو غاية مطلب سكان الجنان .
ولذلك قال الله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/72 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ . فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ! فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ) رواه البخاري، ومسلم .
العنصر السادس : نجومٌ ساطعة على طريق الرضا :
كان السلف رضي الله عنهم يتواصون بالرضا وتربية النفس عليه، لعلمهم بعلو منزلته، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: (أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
وكان من وصايا لقمان عليه السلام لولده: (أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت).
فهذه بعض النجوم الساطعة علي طريق الرضا ….
1ـ النبي صلي الله عليه وسلم لما مات ولده إبراهيم وكان عمره 62 سنة وكان يمر به علي بيوت الصحابة ويقول انظروا إلي إبراهيم ، كان يقول إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإن لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الله إن لله وإن إليه راجعون . جمع النبي بين مقام الرحمة ومقام الرضا .
2ـ عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي شارك مع النبي في الغزوات، استسقى بطنه فبقي نائمًا على ظهره طريح الفراش ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد، حفروا له في سريره -وكان من جريد النخل- حفروا له فتحةً لقضاء حاجته، فدخل عليه مطرِّف بن الشخير فجعل يبكي لما يراه من حاله، فقال له عمران: لم تبكي؟! قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة، قال: لا تبكِ فإنَّ أحبه إلى الله تعالى أحبُه إليَّ، ثم قال: أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفع به، واكتم عني حتى أموت، إن الملائكةَ تزورني فآنَسُ بها وتسلِّمُ عليَّ، فأعلمُ بذلك أن هذا ليس بعقوبة بل هو نعمةٌ جسيمة. هكذا فهموا معنى الإيمان والرضا بالرحيم الرحمن. يقولون: رضينا بالله صدقاً وحقاً.
3ـ عروة بن الزبير، فقد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟
فدخلوا عليه، فقال: “اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي ” .
4ـ السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: “خلِّ سبيلها”، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت . وقالت إن حمزة في نعم الله قليل .
فهل ترضى أخي بما رضيه الله لك ؟!
5 ـ ويحكي عن ثلاثة من التابعين : الشعبي وسعيد ابن المسيب ورجل ثالث ،فجلسوا يدعون الله تعالي فقال الأول ( اللهم إني أسألك أن أموت قريبا حتي لا أدرك زمان الفتن فأفتن ، وقال الثاني : اللهم أحيني طويلا حتي أعبدك طويلا . وقال الثالث : الله لا أختار لنفسي فاختر أنت ما شئت فما تختاره لي هو خير من لي . فقال الاثنين الأخريين أنت أفضلنا .
6ـ قال عمر رضي الله عنه: (ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربع نِعم: إذْ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثواب عليها).
7ـ قال عامر بن قيس: (أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت).
8ـ عن أبى عل الرازى قال صحبت فضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات على ابنه فقلت له في ذلك فقال إن الله عز وجل أحب أمرا فأحببت ما أحب الله .
العنصر السابع : الطريق إلي الرضا:ـ
1ـ الإنشغال بالعبادة :ـ
قيل ليحي ابن معاذ : متي يبلغ العبد إلي مقام الرضا ؟ فقال إذا أقام نفسه علي أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول : إن أعطيتني قبلت ، وإن منعتني رضيت ، وإن تركتني عبدت ، وإن دعوتني أجبت . وجاء في الحديث القدسي: (إن اللّه يقول: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدَّ فقرك،وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
وقد ورد في الحديث القدسي : (عبدي خلقتك لعبادتي فلا تلعب وقسمت لك رزقك فلا تتعب ، إن قل فلا تحزن ،وإن كثر فلا تفرح، إن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت بدنك وعقلك وكنت عندي محمودا ، وإن لم ترضي بما قسمته لك أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموما ، وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في الفلاة ثم لا يصيبك منها إلا ما كتبته لك ) .
ولكن من طبيعة ابن آدم عدم الرضا دائما ينظر إلي ما في يد غيره ويتطلع إلي ما في يد الناس ويطلب المزيد بغير طاعة الله تعالي وهذه هي طبيعة النفس البشرية كما قال النبي صلي الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمني أن يكون له ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ،ويتوب الله علي من تاب ) . الإنسان الساخط دائما يعيش في مأتم مستمر ومناحة دائمة لأنه يعيش في سخط دائم ،وغضب مستمر ساخط علي الناس ، ساخط علي ربه ،ساخط علي كل شيء .
2ـ الدعاء والتضرع إلي الله تعالي :ـ
لذلك كان من دعاء النبي صلي الله عليه وسلم ( اللهم رضني بقضائك حتي لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ماعجلت )
وكان من دعائه صلي الله عليه وسلم اللهم إني أسالك الرضا بعد القضاء .
3ـ اليقين والثقة في الله تعالي :ـ
رأى إبراهيم ابن أدهم رجلا مهموما فقال له أيها الرجل إنى أسالك عن ثلاثة أشياء فاجبنى قال الرجل نعم قال إبراهيم : أيجرى فى هذا الكون شيئا لا يريده الله قال كلا قال أفينقص من رزقك شيئا قدره الله لك قال : لا قال أفينقص من عمرك يوم كتبه الله لك فى الحياة ؟ قال كلا فقال له إبراهيم بن أدهم فلما الهم اذن
ثق فى آيات الله :” ولسوف يعطيك ربك فترضى”وانظر إلى النعم ولا تكفرها بعدم الرضا عن النقص .
يقول ابن عطاء الله السكندري : إياك والهم بعد التدبير فما قام به غيرك عنك لا تنشغل به أنت . إن حسن فهم العبد لطبيعة علاقته بربه تعالى يريح قلبه، وإن معرفة العبد بأن الله الذي خلقه لا يريد به سوء أمر يطمئن فؤاده، وإيمان العبد بأن الله جعل له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من الله عميم، ميزها الله وحببها لأهل الخير فقال عنها لأهلها فيما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلاتبأسوا أبدا؛ فذلك قوله عز وجل: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } رواه مسلم . وهنا ينتهي مكان الدنيا بما فيها من تعبٍ ونصبٍ ومرضٍ و…، لو أيقن العبد بذلك لكان في استقبال البلاء فرحا، إذ هو يرفع درجته عند الله إذا صبر، أفلا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي له الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن .
فدعنا نردد مع الشاعر قوله :
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوق التراب تراب
4ـ أن ينظر إلى اختيار الله تعالى له ، وأن الله لن يختار له إلا الخير:ـ
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم .
5ـ النظر في أحوال أهل البلاء من أمثال الأنبياء عليهم السلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم
ونتضرَّع إلى الله ونقول : إلهي؛ لا تغضب عليَّ فلست أقوى لغضبك، ولا تسخط عليَّ فلست أقوم لسخطك، فلقد أصبتُ من الذنوب ما قد عرفتَ، وأسرفت على نفسي بما قد علمتَ، فاجعلني عبدًا إما طائعًا فأكرمتَه، وإمَّا عاصيًا فرحمته .. اللهم آمين .
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار ، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق