الحمد لله رب العالمين ..خلق السماوات والأرض بالحق والعدل ووضع الميزان في الأرض ليقوم الناس بالقسط بينهم ، وأمر بعدم الطغيان في الميزان فقال تعالي } الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان(9)َ{ . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … أمن للإنسان قضية الرزق والأجل فقال تعالي إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4){ قريش.
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم .. ذكر أهمية الأمن الغذائي في حياة الفرد والجماعة ، وجعل ذلك ركناً أساسيا من أركان الحياة الآمنة المستقرة ، فقال صلى الله عليه وسلم}من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها{ (حسنه الألباني في صحيح الجامع ). فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين …
أما بعــد … فيا أيها المؤمنون .
لقد أنعم الله تعالي علينا بدين متكامل، وتشريع شامل لكل مجالات الحياة، فهو إيمان وعمل، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكر وعاطفة، أخلاق وعمران.
إن الإسلام له منهجه الاقتصادي الكامل ،ومنهجه الإصلاحي الكامل في كل مجالات الحياة….
ذلك المنهج الذي يحقق للإنسان السعادة في الدنيا، ولا ينسى معاده في الآخرة.
وقد لفت القرآن الكريم أنظار البشرية إلى أهمية الغذاء في حياة الأمم والشعوب ، وذلك من خلال ربطه بالأمن والاستقرار السياسي.
لذلك كان حديثنا عن موضوع (الأمن الغذائي في الإسلام) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ نظرة الإسلام للأمن الغذائي .
2ـ أسباب تفاقم مشلكلة الأمن الغذائي .
3ـ منهج الإسلام لعلاج مشكلة الأمن الغذائي .العنصر الأول : نظرة الإسلام للأمن الغذائي :ـ
إن الإسلام قد ربط كل عمل يقوم به في حياته بغاية عظمى وهدف سامٍ يعيش له المسلم في حياته ويحيى من أجله ، ألا وهو تحقيق العبودية لله عز وجل، فقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)” الأنعام.
وقال أيضاً سبحانه:” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)” البينة
والتغذية شأنها شأن أي مفردة من مفردات حياة الإنسان المسلم غايتها التقوى على طاعة الله والاستعانة بهذا الغذاء في توفير الطاقة اللازمة للجسم وللمحافظة على صحته بما يضمن بقاءه واستمرار تأدية الواجبات والقيام بحقوق العبودية لله عز وجل وإعمار الأرض وفق منهج الله.
ولأن الغذاء به قوام النفس وبقائها؛ ولذلك كان حفظ النفس أحد الضرورات الخمس التي أوجب الشارع حفظها؛ يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: ” ومجموع الضرورات خمس هي: حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال، والعقل، هذه الضرورات إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج ، وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعمة، والرجوع بالخسران المبين.”أ
وهذا ما دل عليه أحد السلف الصالح رضوان الله عليهم:” إني لاحتسب لله أكلتي وشربتي كما أحتسب نومتي وقومتي” وقد كان لهذه الفلسفة الأثر الكبير في ترشيد نظرة المسلم للغذاء وترشيد التعامل معه، فهو يعتبره وسلة لا غاية يجهد من أجله وفي سبيل تحقيقها إشباعاً لرغباته وشهواته نفسه، وهو بذلك يضمن لنفسه أن يجنبها غوائل الإسراف والتبذير في طلب الطعام وتناوله ويكون بذلك أيضاً قد أعفى نفسه من الكثير من المشاكل الصحية.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع له”
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا ضرر ولا ضرار” فقد أصبح تباعاً من الواجب شرعاً على المسلم أن يعتني بغذائه وأن يحرص على تلبية احتياجات جسمه من جميع العناصر الغذائية التي يضمن توفرها الإبقاء على الجسم صحيحاً سليماً بعيداً عن الأمراض، وكذلك الحرص على تجنب الأغذية الضارة التي تسبب المشاكل الصحية والأمراض للجسم.
وقد تجلى معنى الأمن الغذائي ، من خلال سورة قريش، حيث أمتن الله عز وجل على قريش بما أفاء عليهم من نعمة الأمن الغذائي {الَّذِي أطعمهم من جوع } ونعمة الأمن والاستقرار السياسي { وآمنهم من خوف} وجعل ذلك من النعم العظيمة التي تستحق الشكر والعبادة لله عز وجل ولا يجوز أن تقابل بالنكران.
({الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (قريش : 4 ).
فالأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء شرط لازم لحفظ كرامة الأمة وصيانة وحدتها وحماية ديارها ؛ ولدرء تحكم الأعداء في مقدراتهاا وتدخلهم في قرارتهاا وسياستها.
العنصر الثاني : أسباب تفاقم مشكلة الأمن الغذائي :ـ
تعتبر مشكلة الأمن الغذائي من أبرز المشكلات التى تسيطر على هموم الفرد والأسرة ولا سيما الطبقات الفقيرة التى هى دون حد الكفاية ومنها ما يكون قد وصل إلى حد الكفاف حيث الشقاء والمعيشة الضنك ، أى التى تعانى من نقص فى الحاجات الأصلية للحياة الكريمة التى كفلها لها الإسلام .
وربما يُرجع البعض أسباب المشكلة إلى قلة الموارد، أو البطالة، أو الفساد، أو تدنِّي الأجور، أو ارتفاع الأسعار العالمية، وفقط.
والحقيقة أن هذه الأمور كلها إنما هي أعراض لمرض واحد هو السبب لما يعانيه الناس ألا وهو:ــ
مرض المعصية وتفشيها في المجتمع، فإن ذلك يؤدي إلى هذا التدهور الاقتصادي، وإلى انتشار الفقر والضنك، لأن المعصية تؤدي إلى:
1- انتشار الأمراض التي تحتاج إلى تكلفة كبيرة لتغطية نفقات العلاج؛ لأنها أمراض مستعصية، مما يؤثر على الدخل فيجعله لا يكفي لتغطية بقية النفقات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
2- انقطاع المطر مما يؤثر على الخارج من النبات، ويؤدي إلى ارتفاع أسعاره، كما يؤثر على ارتفاع أسعار علف الحيوان، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار اللحوم وغيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا…. ) الحديث.
3- قلة المؤنة وحدوث الجدب، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ… ) الحديث.
4- محق البركة أي زوال البركة، وهذا يؤدي إلى الإنفاق الكثير مع تحقيق القليل من الحاجات لانتزاع البركة من المال، وقد تنزع من الأعمار والأولاد والأوقات والطعام والشراب والصحة وغيرها، قال الله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)(البقرة:276).
5- الحرب من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ،وذلك لأن المعصية إعلان حرب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى آذنهم بحرب منه، وهم لا قـِبل لهم بالله سبحانه وتعالى، فلله جنود السموات والأرض، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(البقرة:278-279).
6- تحول النعم إلى نقم: قال صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
أي أن النعم تزول، ويحل محلها النقم والبلاء والعذاب، قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الأنفال:53)،
وقال تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(النحل:112).
وقال تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) (سبأ:15-17).
7- التخبط الشديد الذي يفقد الإنسان صوابه، ويبعده عن التفكير الصحيح والتخطيط المفيد لحل مشاكله، قال تعالى(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(البقرة:275). فهذه آثار المعاصي على اقتصاد الفرد والأسرة والمجتمع .
وهناك أسباب أخري منها .. تصرفات وسلوكيات بعض التجار والمصنعين مثل : الاحتكار ، والغش ، والتطفيف ، وانخفاض الجودة ، وعدم المراقبة من ولاة الأمر لسلوك البعض ……ونحو ذلك .
العنصر الثالث : منهج الإسلام لعلاج مشكلة الأمن الغذائي :ـ
إن مشكلة الأمن الغذائي تعد من أخطر المشاكل في حياة الناس ، لأن الجوع كافر ، وقديما قالوا إذا دخل الفقر في بلد قال له الكفر خذني معك ، حتي ظهر من أعراض هذه المشكلة أن أصبح الأخ يشاجر أخاه والجار يضرب ويعتدي علي جاره ،والعامل يضر بزميله من أجل شربة ماء ، أو سهم أرض ، وأصبحت الدول الكبري تتحكم في الدول الضعيفة بسبب مشكلة الأمن الغذائي ، وأصبح كل إنسان ليس لديه تفكير إلا في هذه المشكلة ، وأصبح شغلهم الشاغل ، وملك عليهم كل تفكيرهم . ولكن ما العلاج لهذه المشكلة ؟؟
ولقد وضع الإسلام علاجا شاملًاعملياً لمشكلة الأمن الغذائي ومنها …
أولا : التربية الإيمانية للفرد والمجتمع :ـ
لقد ربط الله عز وجل بين الإيمان والتقوى والدعاء والاستغفار وبين الأرزاق وتحقيق البركة فيها من الله عز وجل ….
وهذه مسائل معنوية لا تتحقق إلا عند الفرد المسلم التقى الورع والمتوجه إلى الله …
ولقد ورد بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة الأدلة الكثيرة على ذلك فيقول الله عز وجل “وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ”(الزاريات : 22) . كما أن الله عز وجل حرم قتل الأولاد خشية الفقر فى قوله تعالى “وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً” (الإسراء : 31) . فالقرآن يربط بين العقيدة والرزق …
وما نحن فيه من قحط وضنك إلا بسبب فساد العقيدة عند معظم الناس .
ومن ناحية أخرى يطلب منا الله عز وجل الكثرة من الدعاء والاستغفار فى حالات الرخاء والقحط , فالتوبة والاستغفار سبب رفع البلاء وجلب السعادة والهناء ، قال تعالى على لسان سيدنا نوح “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11)وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً(12)”(نوح) .
ولأن الذنوب من أعظم أسباب البلاء، وعندما دعا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في صلاة الاستسقاء قال: “اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة”.
وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ارتفعت الأسعار وطلب منه الصحابة التسعير ، فقال لهم : ” ادعو الله ، إن الله هو المُسَعِر القابض الباسط ، وإنى لأرجو أن ألقى الله وليس أحدكم يطالبنى بمظلمة فى دم ولا مال ” [رواه مسلم] .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهرع بالدعاء فى حالات القحط والكساد وكان يقول : “اللهم أغثنا اللهم أغثنا” .
وفى القرآن الكريم آيات عديدة توضح العلاقة بين التقوى والرزق , فتقوي الله تعالي هي سبب كل خير، وبها يُذهب الله الهم والغم، ويفرج الكرب، ويشرح الصدر، ويوسع الرزق، ويأتي بالنصر، فيقول الله تعالى :”وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) (الأعراف ) .
وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق:2-3).
وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4).
وهكذا يتبين أثر العقيدة والاستغفار والتقوى فى الأرزاق ، وتحقيق البركة في حياة الناس جميعا .
ثانيا: تحقيق العبادة الشاملة لله تعالي:ـ
تحقيق العبادة لله سبحانه وتعالى سبب كل خير، لأن الله -سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته، قال -تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58))(الذاريات).
وقال صلى الله عليه وسلم (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
فالعبادة بمفهومها الخضوع والتسليم لله تعالي في كل مجالات الحياة ،مع تمام المحبة لله تعالي، فإذا ما حقق العبد العبودية لله عز وجل كفاه وآواه وأغناه بفضله ومَنِّه، وكتب له السعادة والهناء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِى أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
ومن معاني العبودية صدق التوكل علي الله تعالي، لأنه سبب كلِ خير وإيمانٍ بالقضاء والقدر، وبراءة من الحول والقوة، واعتماد على الله عز وجل وإظهار الفقر، قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق:3)، أي كافيه.
وقال صلى الله عليه وسلم (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) رواه الترمذي، وصححه الألباني، وقال -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)(الزمر:36).
ومن معاني العبودية شكر النعمة ،فهو يؤدي إلى المزيد من النعم، ويكون شكر النعمة بإنفاقها في سبيل الله وصيانتها، والحذر من الإسراف والتبذير والبخل والتقتير، وإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)(إبراهيم:7).
ومن معاني العبودية ..اتباع الشرع في كل صغيرة وكبيرة، لأنه سبب دفع البلاء والشقاء ، قال تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124))(طه).
ثالثا: تحقيق معني التكافل الإجتماعي:ـ
لقد كَفَل الإسلام للإنسان الحاجات الأصلية التى تحقق له الحياة الكريمة وتُعينَه على عبادة الله سبحانه وتعالى ، لتتفاعل الماديات والروحانيات فى إطار متوازن لبناء الجسد وغذاء الروح، حتى أن الفقير الذى لا يملك الحد الأدنى للحاجات الأصلية كفل الله سبحانه وتعالى له حقاً معلوماً فى مال الغنى ، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج] .
كما أشارت السنة النبوية إلى ذلك عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن فقال له : ” أعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم ” [ رواه مسلم] . وبتحقيق التكافل الاجتماعي، تُسد حاجة الفقير والمسكين، ويجعل المال متداولاً بين الأغنياء والفقراء، وهو مع ذلك يعود على المنفق بالخير الكثير، (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) متفق عليه.
وإنه متى أمسك الغني أمسك الله عليه وأهلك ماله، قال تعالى (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة:195)، أي لا تهلكوا أنفسكم بترك الإنفاق في سبيل الله. ولأن منع الزكاة يمتنع به القطر من السماء كما تقدم.
وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم بعظمة أخوة المسلم لأخيه المسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.
وقال رسول صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ) رواه مسلم.
وقد أوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإطعام بين المسلمين فقال صلي الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به».
وقال صلي الله عليه وسلم: «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله».
وقد أمر الإسلام الحنيف بالتوزيع العادل للطعام. كماً ونوعاً، حتي لا يكون المال دولة بين الأغنياء في أيدي فئة خاصة حتي يكون في المجتمع ما يسمي بالطبقات ، فقال تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر 7].
وقد ضرب الصحابة الكرام أروع المثل في تحقيق التعاون والتكافل ففي عهد سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حدث مجاعة ضربت الأخضر واليابس ، حتي قال عمررضي الله عنه :(والله لا آكل سمناً ولا سميناً حتى يكشف الله الغمة عن المسلمين ).
وبقى مهموماً هماً يتأوه منه ليلاً ونهارا نزل الأعراب حوله في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة بخيامهم، كان يبكي على المنبر عام الرمادة، وينظر إلى الأطفال وهم يتضورون جوعاً أمامه، وود أن جسمه خبزاً يقدمه للأطفال. وأخذ يقول: [[يا ليت أم عمر لم تلد عمر .. يا ليتني ما عرفت الحياة.. آه يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين لأنه يرى أنه هو المسئول الأول عن الأكباد الحرَّى، والبطون الجائعة .
وفي الأخير تذكر عمر أن له في مصر إخواناً في الله، وأن مصر بلداً معطاءً، سوف يدفع الغالي والرخيص لإنقاذ العاصمة الإسلامية
وكان والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه، كتب له عمر رسالة، وهذا نصها: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى عمرو بن العاص
أمَّا بَعْـد: فوا غوثاه… وا غوثاه… والسلام
وأخذها عمرو بن العاص ، وجمع المصريين ليقرأ الرسالة المحترقة الملتهبة الباكية المؤثرة أمامهم ،ولما قرأها عمرو رضي الله عنه ؛ أجاب عمر على الهواء مباشرة، وقال: [لا جرم! والله لأرسلن لك قافلة من الطعام أولها عندك في المدينة وآخرها عندي في مصر
وجاد المصريون بأموالهم كما يجود الصادقون مع ربهم، وبذلوا الطعام، وحملوا الجمال وذهبت القافلة تزحف كالسيل، وتسير كالليل تحمل النماء والحياة والخير والزرق والعطاء لعاصمة الإسلام
. ودعا لهم عمر ، وحفظها التاريخ لهم حفظاً لا ينساه أبد الدهر.
فكما قال النبي صلي الله عليه وسلم ” المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ” (متفق عليه )
وقال أيضا ” من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له ” فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا فى فضل ” ( رواه مسلم ) .
رابعا : تعظيم دور القيم الأخلاقية :ـ
لا يمكن تحقيق التنمية بدون وجود القيم الأخلاقية ومن أبرزها الإخلاص والصدق والأمانة والتسامح والعدالة والتآخي والتضامن والتكافل , وكلما ازدادت هذه القيم كلما كانت فرص الأمن الغذائي أقوى .
هل يمكن أن نحقق الأمن الغذائي فى ظل مجتمع يشيع فية الغش والكذب والخداع والتسلط والظلم والأنانية والعنصرية والحقد والبغضاء.
يدل على هذا ما روي عن رفاعة بن رافع الأنصاري رضي الله عنه : «أنه خرج مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى البقيع والناس يتبايعون، فنادى يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم، فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق»(رواه الترمذي)، مما يدل على طلب الإسلام الصدق من المتعاملين والبر في معاملاتهم مع غيرهم .
وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق عامة، فقد روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا»(رواه البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم:(التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء) (رواه الترمذي وقال حديث حسن)، هو التاجر الذي يلتزم الأمانة والصدق في بيعه وشرائه وفي سائر معاملاته،
وقال صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه.
***ولقد نهى الإسلام عن هذه السلوكيات الاقتصادية السيئة ، فعلى سبيل المثال حرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتكار ، فقال صلى الله عليه وسلم: ” لا يحتكر إلا خاطئ ” [رواه مسلم] .
وقال : ” من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله وبرئ الله منه ” [رواه أحمد].
وفى نفس الوقت حث الرسول صلى الله عليه وسلم على خفض الأسعار للتيسير على الناس لما فى ذلك من مرضاة الله والفوز بثوابه ، بل رفع الإسلام الجالب لإرخاص الأسعار إلى مرتبة المجاهد فى سبيل الله ، فيقول صلى الله عليه وسلم: “أبشروا فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد فى سبيل الله … ”
وبَشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم الجالب بالبركة وزيادة الكسب ، فقال: “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون” [رواه مسلم]
ـ منع المعاملات المنهى عنها شرعاً فى الأسواق والتى تقود إلى ارتفاع الأسعار ، ومنها على سبيل المثال : ـ الغش فى الجودة ـ الغرر وإعطاء معلومات غير سليمة ـ الجهالة والتدليس على المتعاملين.
نقص المعلومات الصادقة الأمينة ـ
الإشاعات المغرضة التى تجعل الناس يتهافتون على الشراء بدون حاجة ـ
فعلي البائع إظهار ما في المبيع من عيوب وهذا واجب ومن حق المسلم علي أخيه المسلم ،إذ روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بيّنه له»(صحيح ابن ماجه)،
وعن أبي سباع رضي الله عنه قال: (اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع، فلما خرجت بها أدركني يجر إزاره فقال: اشتريت؟، قلت: نعم، قال: أبيّن لك ما فيها، قلت: وما فيها؟ قال: إنها لسمينة ظاهرة الصحة، قال: أردت بها سفرا أو أردت بها لحما؟، قلت: أردت بها الحج، قال: فارتجعها، فقال صاحبها ما أردت إلى هذا أصلحك الله، تفسد علي، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه» (صحيح الترغيب)
كذلك حذر المولي سبحانه وتعالي من الغش في الكيل والميزان ،فجاءت آيات القرآن تذكر الناس بمراعاة القسط في المكاييل والموازين كما في قوله تعالى:} وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9){ الرحمن.
وهدد الذين يتلاعبون بالمكاييل والموازين بعذاب أليم يوم القيامة فقال:} وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6){المطففين.
خامسا: الرقابة على الأسواق ضرورة شرعية وحاجة إنسانية :ـ
لقد وضع الإسلام نظاماً يسمى [ نظام الحسبة ] ومن أهم أغراض هذا النظام هو الرقابة على الأسواق للتأكد من خلوها من المعاملات المنهى عنها شرعاً بصفة عامة ، وخلوها من الاحتكار والسلوكيات غير المنضبطة للتجار وما ينجم عن ذلك من ارتفاع مفتعل فى الأسعار بصفة خاصة .
ولقد نجح هذا النظام فى المساهمة فى علاج مشكلة الارتفاع المصطنع فى الأسعار بفعل التجار الجشعين ، ويقوم هذا النظام على مجموعة من الضوابط الشرعية والتى نحن فى حاجة إليها .
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يراقب الأسواق بنفسه ،فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال :” ما هذا يا صاحب الطعام ؟ “
قال : أصابته السماء يا رسول الله .
قال :”أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ، من غشنا فليس منا”
ومن مراقبة النبي صلي الله عليه وسلم للسوق مراقبته للميزان ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان (زن وأرجح ) رواه أبو داود والترمذي وقال: “حديث حسن صحيح)
فيه تنبيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه التاجر من السعة في الوزن، وأن وزنه محاسبٌ عليه أمام الله تعالى، كما أخبر المولي سبحانه وتعالي في سورة المطففين .
وكان الخليفة أو الأمير نفسه يتولّى رقابة السوق، فقد ذكر ابن خلكان أنّ عمر بن الخطاب كان يتجول في الأسواق ويمنع الناس من الغشّ في بيوعهم
سادسا : إنشاء سوق خاصة للمسلمين :ـ
لقد تجلت نظرة الإسلام إلى الأمن الغذائي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاء سوق خاصة بالمسلمين وذلك عند قدومه المدينة ، حيث كان سوق المدينة محصورا بأيدي يهود ، مما يشكل تهديدا لأمن المسلمين الاقتصادي والغذائي، ومن ثم السياسي.
تروى كتب السيرة أنه كانت فى المدينة سوقاً تسمى: ” سوق بنى قينقاع ” قائمة فى حي من أحياء اليهود.. وكانوا يتعاملون فيها بالربا والمقامرة والتدليس والغش والغرر والغرر والاحتكار ويفرض على المتعاملين فيها الإتاوات، وهذا كله لا يتفق مع القواعد والضوابط الإسلامية للمعاملات، فرأي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن ينشئ سوقاً جديدة للمسلمين.. فذهب إلى مكان قريب من سوق بنى قينقاع، وضرب قبة ( خيمة) كبير ة لتكون رمزاً وعلامة يتجمع حولها المسلمون للبيع والشراء، فأغتاظ اليهود من ذلك وقام كعب بن الأشرف زعيم اليهود وعدو المسلمين وهدم الخيمة وقوضها وقطع أطنابها، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يشأ أن يجعل لهذا التصرف الصغير قيمة فقال:” والله لأضربن له سوقاً هو أغيظ له من هذا ” وفى رواية أخري: ” لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا ” ومضى رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى مكان فسيح واشتراه من صاحبه، وضرب فيه برجله وقال: ” هذه سوقكم لا تتحجروا ولا يضرب عليه الخراج “، ويقصد بذلك لا بد وأن تكون السوق واسعة ولا يُضيق التجار بعضهم على بعض فى الأماكن.
سابعا :التخطيط الدقيق :ــ
تعد سورة يوسف عليه السلام من أكثر السور وضوحا ودلالة في عرض مسألة الأمن الغذائي، وقد تجلى ذلك في قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع عزيز مصر والرؤيا التي رآها في منامه.
فقد أشارت الآيات الكريمة إلى أهمية حفظ الغذاء وتخزينه بطرق مناسبة تمنع فساده، وإلى أهمية الإنتاج الزراعي في توفير الأمن الغذائي، وإلى ضرورة ترشيد الاستهلاك الغذائي، وعدم الإسراف به بما يتلاءم واحتياجات السكان ، وبما يمنع حدوث إذاعة ونقص الغذاء، ووفق خطة مدروسة لاستهلاك المخزون الغذائي على مدى سنوات القحط والجفاف، لمدة خمسة عشر عاما، أقام فيها اقتصاد مصر
ـ وكان الزراعة أساسه ومحوره ـ على زيادة الإنتاج، وتقليل الاستهلاك، وتنظيم الادخار، وإعادة الاستثمار، حتى نجت مصر من المجاعة، وخرجت من الأزمة معافاة، بل كان لها فضل على ما حولها من البلدان، التي لجأ إليها أهلها يلتمسوا عندها الميرة والمئونة، كما يبدو ذلك في قصة أخوة يوسف الذين ترددوا على مصر مرة بعد مرة، وقالوا له في المرة الأخيرة: (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين) (سورة يوسف:87).
كان هذا التخطيط مما علمه الله ليوسف عليه السلام ومما أكرم الله به أهل مصر. وكان يوسف هو الذي رسم معالم التخطيط، وهو الذي قام بالتنفيذ، وهو لدى الدولة مكين أمين، وعلى خزانتها وأمورها حفيظ عليم.: { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (يوسف : 47 ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (يوسف48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (يوسف : 49 ).
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى السبق الحضاري والإعجاز العلمي في الآيات المذكورة، إذ قصة يوسف أشارت إلى حفظ القمح في سنبله . وقد دلت الدراسات العلمية الحديثة أن الحفظ هذه الطريقة يعد من أكثر الوسائل نجاحا في حفظ القمح ، حيث تعمل القشور المحيطة بحبوب القمح في السنبلة على منع مهاجمته من قبل الحشرات الضارة والمؤثرات الجوية الخارجية.
ثامنا:الزراعة ركيزة أساسية:ـ
لما كانت الزراعة ضرورية لتوفير الغذاء وتأمين احتياجات الإنسان منه، فقد حث الإسلام على الاهتمام بالزراعة باعتبارها الركيزة الأساسية في بناء الاقتصاد القوي وتأمين الحياة الكريمة، وباعتبارها المصدر الأساسي والرئيسي في توفير الغذاء، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه ، قال صلى الله عليه وسلم لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة.) رواه مسلم .
وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل) رواه أحمد .رواه أنس بن مالك.
كما حث الإسلام على تنمية القطاع الزراعي وزيادة رفعته من خلال حثه على إعمار الأرض البوار واستصلاحها بالزراعة، فعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه ،قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له) رواه الترمذي.
كما نهى الإسلام عن كل ما يؤدي إلى الضرر بالقطاع الزراعي ويتسبب في الإخلال بالأمن الغذائي، فعن عبد الله بن حبشي رضي الله عنه ،قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( من قطع سدرة صوب الله رأسه بالنار) رواه داود .
تاسعا : ترشيد الإستهلاك :ـ
إن التوسط في الإنفاق وترشيد الاستهلاك يؤديان إلى نشوء فائض من الأموال لدى الفرد ولدى الدولة؛ بحيث تحدث الزيادة في الإنتاج على الاستهلاك.
وترشيد الإستهلاك واجب لقول الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار».
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة, وطعام الأربعة يكفي الثمانية».
– إعادة النظر فى سُلَّم الأولويات فى النفقات حيث يتم التركيز على الضروريات والحاجيات وتجنب الإنفاق وشراء الكماليات.
واعتبر الإسلام الأكل والشرب بالقدر الذي يدفع الهلاك فرضا واعتبر الشبع مباحا أما ما زاد على الشبع فهو مكروه أو محظور قال تعالى (كلوا واشربوا ولا تسرفوا).
وارشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقدار الذي يأمن به الإنسان الضرر ولا يكون مسرفا حيث قال علي الصلاة والسلام (ما ملأ أدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم أكلات أو لقيمات يقمن صلبه فان كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) أخرجه أحمد والمعدة كما هو معلوم بيت الداء والحمية أي التقليل من الأكل هو رأس الدواء .
وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم إلى متى يأكل فيه حيث قال” (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الاستجابة لكل مطالب النفس ورغباتها سرفا حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت).
وتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يكثرون من الشبع في الدنيا بطول الجوع يوم القيامة حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة).
وإذا كان المسلم مدعوا إلى أخذ زينته ومأمورا بان يرى اثر نعمة الله عليه فان أفضل لباس المسلم ما ستره وأجاز الشرع التوسع في اللباس ولكن في اعتدال وفي غير ما إسراف وخيلاء حيث قال عليه الصلاة والسلام: (البسوا ما لم يخالطه إسراف ومخيلة) ابن ماجة.
فاللهم أطعمنا من جوع ، وآمنا من خوف، وقونا من ضعف ، وعلمنا من جهالة، وأنقذنا من ضلالة. واللهم اغننا بحَلالِك عن حرامك وبفضلك عمَّن سواك ، وتوفنا وأنت راض عنا يا كريم . اللهم آمين
تمت بفضل الله تعالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق