الحمد لله رب العالمين …أمر أصحاب الأبصار بالإعتبار والإتعاظ فقال تعالي {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (النور:44.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير …قص علينا قصص السابقين للعبرة والعظة، فقال تعالي {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (يوسف:111).
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم كان صمته فكرا ونطقه ذكرا ونظره عبرة .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
أما : بعــــد … فيا أيها المؤمنون
لقد كثر الحديث في كتاب الله تعالى على الإعتبار،والتدبر،والنظر،والتفكر، قال تعالي}يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219){ (البقرة) .
وقال تعالي}قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ(50){ (الأنعام) .
وقال تعالي}أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8){ (الروم)
والفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات، فهو يورث الحكمة ويحيى القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل.
قال أبو سليمان الداراني: ” إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شئ إلا رأيت لله فيه نعمة ولى فيه عبرة”.. ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبى الدرداء؟ قالت التفكر والاعتبار.
ولقد أمر الله تعالي العباد بأخذ العبرة والعظة فخاطب أهل البصائر والألباب فأمرهم بالعبرة من الأحداث والسنن الربانية في هذا الكون .. لذلك كان نداء القرآن لأهل الإيمان (فاعتبروا….)
لذلك كان حديثنا عن هذا الموضوع ( فاعتبروا …!!) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية …
1ـ مفهوم العبرة في القرآن الكريم.
2ـ آيات العبرة في القرآن الكريم .
3ـ العبرة بالنظر والتأمل في خلق الله تعالي.
4ـ العبرة والتأمل في أحوال الأمم السابقة ومصائرهم.
5ـ صور العذاب الذي أحل بالأمم السابقة .
6 ـ أسباب وقوع العذاب بالأمم.
7ـ الخاتمة.
العنصر الأول : مفهوم العبرة في القرآن الكريم:ـ
تفيد معاجم اللغة أن الأصل في مادة (عبر) الدلالة على النفوذ والمضيِّ في الشيء.
يقال: عبرت النهر عبوراً: قطعته من شاطئ إلى شاطئ. وكذلك الطريق: قطعته من جانب إلى جانب.
واعتبر الشيء: اختبره وامتحنه. واعتبر به: اتعظ. ويقال: استعبر فلان: إذا جرت عَبْرته.
ومن الباب العَبْرَة: وهي الدمع؛ لأن الدمع يعبر، أي: ينفذ ويجري. ورجل عابر سبيل، أي: مار. ويقال: ناقة عَبْرُ أسفارٍ، أي: قوية على الأسفار. والعَبْر من النهر: شاطئه وجانبه. والعبرة: الاعتبار بما مضى.
ومن الباب: عَبَرَ الرؤيا عَبْراً: فسرها. ووجه القياس في هذا عبور النهر؛ لأنه يصير من جانب إلى جانب.
كذلك مفسر الرؤيا يأخذ بها من وجه إلى وجه.
وواضح أن الأصل اللغوي لهذا اللفظ يدل على الانتقال من جهة إلى أخرى، إما انتقالاً ماديًّا، وإما انتقالاً معنويًّا.
وهي العظة الملفتة الناقلة من حكم إلي حكم ،قد تستغربه الأسباب. فالعبرة هي التي تغير الإنسان بعد إيضاح الدليل والعظة بما مضي من حال اليائس إلي حال المتفائل ، ومن حال الضعف إلي حال القوة ….وهكذا
العنصر الثاني : آيات العبرة في القرآن الكريم:ـ
ـ آيات تأمر بالإعتبار والتأمل في خلق الله تعالي:ـ
1ـ قال تعالي { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} (النور).
2ـ قال تعالي {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} (النحل).
3ـ قال تعالي{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} (المؤمنون).
ـ أيات تأمر العبرة والتأمل في أحوال الأمم السابقة ومصائرهم:ـ
1ـ قال تعالي }قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13){.آل عمران.
2ـ قال تعالي: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} (يوسف).
3ـ قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ(2)} (الحشر).
4ـ قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ (26)} (النازعات).
العنصر الثالث: العبرة بالنظر والتأمل في خلق الله تعالي :
إن النظر والإعتبار في خلق الله تعالى ليزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28){ [فاطر] .
ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم كثبر التأمل والإعتبار، فدعاه التأمل والإعتبار إلي العمل والخشية من الله تعالي والمسارعة في فعل الخيرات ،قال لما جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبدا شكورا ، لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190){ ( آل عمران)
والآثار كثيرة في هذا المعنى وكلها دالة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تفكر وتدبر..
ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك،
يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، و لا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل.
ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه .
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تدركها مرارتها،ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر.
إن التفكر في ملكوت السموات والأرض من شانه أن يهدى الحيارى، ففي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد
ولقد ذكر الله تعالي ثلاث آيات تحث علي الإعتبار والتأمل في خلق الله تعالي للمخلوقات …
أولها: قوله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} (النور)، أي: إن في إنزال المطر والبَرَد ، فالمطر نعمة من نعم الله، وآية من آياته الباهرة الدالة على رحمته وحكمته.
أخي الكريم… تأمل المطر النازل من السماء، من أرسل سحابه وساقها؟ من أنزله؟ من أجراه في مجاريه؟ من جمعه في الرياض والفياض والقيعان؟ من يعلم كمياته وعدد قطراته؟ من جعله سائلاً ولم يجعله جامداً؟ إنه الله جل جلاله {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا…}.
ايها المؤمنون.. لا بد أن نستشعر مدي عظيم حكمة الله ورحمته بخلقه وتسخيره هذا الماء لمصالح العباد كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً(16)} [النبأ].
وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(9)} [ق].
هذا الماء عنصر لا يستغني عنه البشر تذكر عظمة رحمة الله حين تغتسل به أو حين تشربه أو حين تراه ينزل من السماء
{ فَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) }الواقعة .
فانظر بعين الإعتبار إلي الأرض وهي يابسة ميتة جدباء لا تنبت شيئا ومجرد أن ينزل عليها الماء يحدث لها أمر عجيب ، كما ذكر سبحانه وتعالي }وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7){ الحج.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} يابسة قد ماتت أعشابها وتكسرت أشجارها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{ .
تذكرها وأنت ترى النبت في البرية وأنت ترى الفواكه والثمار والأشجار.
هذه الآيات والدلائل تصل بنا إلي العبرة والعظة تنقلنا من حال إلي حال ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)
وانظر بعين الإعتباروالإتعاظ أيضا إلي نعمة (تقليب الليل والنهار) تجدها أعظم دليل علي عظمته سبحانه وتعالى، وعلى قوته وإحكام مُلكِه ، وبيان واضح علي عجز الخلق جميعا على أن يحولوا الليل نهاراً : قال تعالي }وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73){ القصص.
وقال تعالي } وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ(37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40){ يس.
في النهاية نذكر قول الله تعالي } إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار{
أما الآية الثانية والثالثة في آيات العبرة والعظة :ـ قوله تعالي {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} (النحل).
فقال تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} (المؤمنون).
يقول سبحانه: إن لكم أيها الناس في هذه الأنعام التي سخرها لكم لآية ودلالة على قدرة خالقها، وحكمته، ولطفه، ورحمته.
سبحانه وتعالي يخلص اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا ، أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته، من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فينصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به.
ومن خلال هذا البيان العظيم ،تعرفون بها أيادي الله عندكم، وقدرته على ما يشاء، وأنه الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا يعجزه شيء شاءه، سبحانه وتعالي هوالقائل} صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88){ النمل .
العنصر الرابع : العبرة والتأمل في أحوال الأمم السابقة ومصائرهم :ـ
لقد ذكر الله تعالي في كتابه الكريم أربع آيات تحثنا علي العبرة والتأمل في أحوال الأمم السابقة وهي الآيات السابق ذكرها ،
فالناظر إلي هذه الآيات الكريمات يظهر له جليا حقيقة الصراع بين الحق والباطل وذلك من خلال قول الله عز وجل{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} (يوسف). لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا الكافرين عبرة لأولي العقول السليمة يعتبرون بها، وموعظة يتعظون بها.
ولكي نفهم حقيقة الصراع بين الحق والباطل، لابد أن نقف مع طبيعة السنن الإلهية في الكون ونتعرف علي مظاهرها ، حتي نصل إلي حقيقة اليقين الثابت بالله تعالي وأن الله تعالي هو صاحب الإرادة الفاعلة والمشيئة المطلقة ، وأن يتعلم الإنسان كيف يتعامل مع سنن الله تعالي .
أ ـ المقصود بالسنن الإلهية :ـ
فهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق سبحانه لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة
والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل
النهوض الحضاري. فلله في الأفراد سنن، وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن.
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}[النساء[ .
وقال تعالي }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53){ ]فصلت[.
ب ـ طبيعة السنن الإلهية :ـ
للسنن الإلهية طبيعة لا تنفك عنها وهي:ـ
أ ـ الثبات:
السنن الإلهية تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من نتائج كالنصر أو الهزيمة، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل:}فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43){فاطر.
ب ـ العموم:ـ
أي أنها تشمل كل البشر والخلائق دون استثناء وبلا محاباة} لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ
وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124){ النساء.
فالسنن الإلهية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
فهي حاكمة على جميع الأفراد، والأمم والمجتمعات، فإذا وقفنا عند قانون من قوانين الله تعالى كقانون النصر نعلم أن له ضوابط ومعالم تنسحب على الجميع دون مجاملة ولا محاباة.
والناظر في حياة الرسول وسيرته يجد هذا المعنى واضحًا، فعندما أخذ الصحابة سنة الله في النصر مثلا آتى النصر لهم أُكُله وأعطى ثمره، وعندما خالفوا أمر الرسول صلي الله عليه وسلم في غزوة أحد ، لم تنخرم لهم السنة ولم تتبدل ؛ بل حكمت عليهم وفيهم أعظم خَلْق الله صلى الله عليه وسلم .
قال تعالي } أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165){ آل عمران.
فإن السنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المحددة المطلوبة.
ج ـ التكرار:ـ
تتكرر السنن الإلهية أينما وجدت الظروف المناسبة مكانا وزمانا وأشخاصا وأفكاراَ قال تعالي } قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138){آل عمران.
“جاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سنته في الحرب مثلا ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا، ومن تنكبها خسر وإن كان مسلما.
ج ـ مظاهر السنن الإلهية:ـ
1ـ الصراع بين الحق والباطل سنة إلهية ثابتة ودائمة :ـ
الصراع بين الحق والباطل قديم منذ أن خلق الله الإنسان, قال عز وجل:{ يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( 117 ){ ( طه).
ومنذ تلك اللحظة ابتلى الإنسان بكيد الشيطان, وصراعه معه, ومازال الشيطان يكيد لآدم حتى أهبط لهذه الدنيا, وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض , يقول الله عز وجل }بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ …(36) { ]البقرة [.
وبعد بعثة الرسل عليهم السلام صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم, وبين أعداء الرسل من الشياطين وأتباعهم, ولذلك يقول الله تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ )31){(الفرقان) .
فما من نبي يبعث إلا ويتصدى له أعداء من المجرمين, يضعون العراقيل في طريقه ويعترضون عليه بمختلف الوسائل, يقول الله جل وعلا} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 113) {( الأنعام) .
وبعد بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه , فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعداء كثيرون من المجرمين,ومن الأكابر،
قال تعالي} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) { ( الأنعام).
وقال تعالي{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا(56)} (الكهف)
ولوتتبعنا سير الأنبياء عليهم السلام لوجدنا سبب الصدود والاضطهاد من أقوامهم كان سببه العقيدة الإسلامية وليس المنصب والجاه.
كما قال الله تعالي عن العداء من قوم لوط عليه السلام} وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82){[ الأعراف]
وقالوا لشعيب عليه السلام} قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88){ الأعراف
و قول ائمة الكفر لأئمة الحق}وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13){[ ابراهيم]
وقال تعالي عن أصحاب الأخدود } قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9){ البروج.
وقال تعالى}وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي
جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120){ [البقرة]
والسبب فى ذلك ما بينه ربنا بقوله تعالى}لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا(82){ [المائدة]
وقال تعالى}وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ. (109){ ] البقرة].
2ـ من السنن الإلهية … أن أهل الحق وإن تركوا الباطل فإن الباطل لن يتركهم أبدا:ـ
وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217){ [البقرة].
وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: والله الذي لا إله إلا هو لو أن الحق ترك الباطل ما ترك الباطل الحق أبدا.
ويؤكده قول الله تعالى في قصة قوم لوط عليه السلام, الذي لم يتجاوز النصح والإرشاد لقومه, كما قال تعالي{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)} ]النمل[.
3ـ من السنن الإلهية … الغلبة في ذلك الصراع للحق وأهله :ــ
ومن سنن الله تعالي أن الحق منصور يقيناَ: لقد حكي الله تعالي ما حدث في بدر رغم عدم التكافؤ بين الفريقين ومع ذلك كان النصر حليف الفئة المؤمنة ذات العدة والعدد القليل ، فقال سبحانه وتعالي : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} (آل عمران).
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: إن في ذلك لَمُعْتَبَرًا لمن له بصيرة وفَهْم، يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
وفي قصة نبي الله موسى عليه السلام مع فرعون خير مثال على انتصار الحق في النهاية, رغم مظاهر انتصار الباطل في البداية, قال تعالى: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (122)} الأعراف.
ولقد وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين فقال تعالي{وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ(47)}[سورة الروم] .
وقال تعالي{…وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَـلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(141)}[سورة النساء] .
وقال تعالي{إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَـقُومُ الأَشْهَادُ(51)}[سورة غافر] .
وقد وعد الله تعالي بأن لا يخلي الأرض من عباده المجاهدين المتمسكين بالحق, إن ذهب جيل قيض الله جيلا آخريدافع عن الحق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ذَلِكَ) رواه مسلم . وأخبر بأنها منصورة بأمره ، كما قال صلى الله عليه وسلم :[ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ] (رواه الترمذي,وابن ماجه, وأحمد) .
ويقابلهم أعداء الرسل يحاربونهم ويضعون في طريقهم الأذى , والشوك , فلا يضرونهم إلا بالتعب والجهد { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } آل عمران.
ولقد حكي عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه “لما جاء السلطان الملك الناصر بجيوش الإسلام للقاء العدو، جعل الشيخ يشجع السلطان ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال يا لخالد بن الوليد! فقال له: لا تقل هذا، بل قل: يا الله؛ واستغث بالله ربك ووحده تنصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم صار تارة يقبل على الخليفة وتارة على السلطان ويهديهما ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح.
وحُكي أنه قال للسلطان: اثبت فإنك منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله. فقال إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال.
4ـ ومن السنن الإلهية …أن النصر لا يأتي بالمعجزة السحرية ، وإنما له أسباب وشروط:
فمن أهما الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله: قال تعالى:{ إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)}[ محمد] . وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ (173)}]الصافات[.
وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)}[ الأنفال] .
وإذا تخلفت هذه الأسباب؛ تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت الهزيمة؛ لأن سنن الله تعالى لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم
وقد يتأخر ويبطئ نصر الله لحكمة ما، لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا محالة:{حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ(110)}[ يوسف] .
5ـ من السنن الإلهية …هلاك المكذبين الظالمين :ـ
لقد جعل الله في هلاك الكافرين والمكذبين ونجاة المؤمنين عبرة لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد..
قال تعالى: { وَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ(2)} (الحشر).
بعدما حدث للمسلمين في غزوة أحد ، تجرأ اليهود على المسلمين، وبدءوا يكاشفونهم بالغدر والعداوة، ويتصلون بالمشركين والمنافقين ويعملون لصالحهم ضد المسلمين، وفي يوم من الأيام خلا اليهود بعضهم إلى بعض وسوَّل لهم الشيطان أعمالهم، فتآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد بها فيلقيها على رأس محمد فيشدخ بها رأسه؟ فنجاه الله من كيدهم وغدرهم ، وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى يهود بني النضير يقول لهم: “اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدته بعد ذلك منكم ضربت عنقه”.
فلم يجد اليهود مناصًا من الخروج، فأقاموا أيامًا يتجهزون للرحيل والخروج من المدينة، غير أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول بعث إليهم أن اثبتوا وتمنَّعوا ولا تخرجوا من دياركم؛ فإنَّ معي ألفي رجل يدخلون معكم حصونكم، يدافعون عنكم ويموتون دونكم. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11)} [الحشر].
وهناك عادت لليهود ثقتهم، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رئيس المنافقين، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له: “إنّا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك”.
وظنوا أنهم منعة وقوة ولكن من سنة الله تعالي أن يهزم الباطل من حيث لا يحتسب ولا يخطر علي باله وهم في عز قوتهم .
كان هذا الموقف موقفًا محرجًا بالنسبة للمسلمين، فإنَّ المسلمين لا يريدون أن يشتبكوا مع خصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم؛ لأنَّ جبهة القتال مشتعلة مع المشركين، فلا يريدون أن يفتحوا جبهة أخرى مع اليهود؛ ولأنَّ اليهود كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، والقتال معهم غير مأمون العواقب والنتائج.
ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه جواب حيي بن أخطب كبَّر وكبَّر المسلمون معه، ثم نهض صلى الله عليه وسلم لقتالهم ومناجزتهم، فاستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وسار إليهم يحمل اللواء علي بن أبي طالب، فلما وصل إليهم فرض صلى الله عليه وسلم عليهم الحصار، فالتجأ اليهود إلى حصونهم، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونًا لهم في ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ(5)} [الحشر].
فلما رأى المنافقون جدية الأمر، خانوا حلفاءهم اليهود، فلم يسوقوا لهم خيرًا ولم يدفعوا عنهم شرًّا،كماقال تعالي{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ{
ولم يطل الحصار طويلاً، وإنما دام ست ليال فقط، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فانهزموا وتهيؤا للاستسلام وإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم “نحن نخرج عن المدينة”، فوافق صلى الله عليه وسلم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأنّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، فوافقوا على ذلك.
ولحقدهم وحسدهم قاموا بتخريب بيوتهم بأيديهم، ليحملوا معهم الأبواب والشبابيك والجذوع؛ حتى لا يأخذها المسلمون، ثم حملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير، وأسلم منهم رجلان فقط، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وكانت أموالهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء. فكانت عبرة لأولي الأبصار .
العنصر الخامس: صور العذاب الي أحل بالأمم السابقة :ـ
لكي يكون الموضوع أبلغ في العبرة والموعظة ، قص القرآن علينا أمة الإسلام مصارع الأمم الغابرة، لنقرأ سيرهم فنحذر ما أحل بهم العذاب،فقال تعالى: { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ (26) } (النازعات).
ولقدابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:ـ
أولهما: عذاب الاسئئصال:ـ
وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح وعاد وثمود.
والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة
العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ، ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به كان عادلاً جل وعلا: كما قال تعالي{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍٍ(45)} [فاطر].
ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.
ـ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
“وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال …
ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون” [مجموع الفتاوى].
قال تعالي }فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40){ العنكبوت.
ـ من صور العذاب الذي يهلك الله به الأمم .. الجوع والعطش وضيق الأرزاق:
وهو ما عذب به قوم سبأ حيث قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(112)} [النحل].
وقال أيضا: {وَبَدَّلْنَـاهُمْ بِجَنَّـاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ(16) ذَلِكَ جَزَيْنَـاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ(17)} [سبأ].
ـ الخوف والفرقة وتسليط الأعداء والذل وكثرة القتل والحروب:
وهذا النوع من العذاب عذب الله به بني إسرائيل فجعلهم فرقاً كثيرة وأضاف إلى ذلك الهوان والذلة إلى يوم القيامة قال تعالي{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ(167)} [الأعراف].
ـ من صور الهلاك أيضا المسخ: وهو التغير في الصورة .
وقد عذب الله بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـاسِئِينَ (65)} [البقرة]. وقال تعالي: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ(60)} [المائدة].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا العذاب يكون في هذه الأمة، ووصف ذنب أولئك الممسوخين والذي بسببه يمسخهم الله،
فعن عمران بن حصين مرفوعاً:(في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمـور) [الترمـذي ونحوه في أبي داود].
وعن ابن حبان:(لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ) [صحيح ابن حبان بإسناد حسن].
ج ـ من صور الهلاك الأمراض والبلايا والطواعين:
وهو نوع آخر من العذاب يصبه الله على الأمم المتجبرة الكافرة أو المسلمة العاصية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم) [البخاري ، مسلم].
وقد توعد الله فيه عصاة الأمم فيما جعل الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم:(لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) [ابن ماجه والحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه].
العنصر السادس : أسباب وقوع العذاب بالأمم:
أسباب العذاب والمهالك التي تحيق بالمجتمعات كثيرة، ومنها:
1ـ الكفر والظلم وتجاوز الحد:
والظلم هو تجاوز الحد، وله صور أعظمها الشرك كما قال الله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)} [لقمان].
قال تعالى محذراً من الشرك الذي أحل العقوبة بالأمم السابقة: { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)} [الكهف].
وقال عن قوم فرعون وغيرهم {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَـاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَـاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـالِمِين(11)}َ [آل عمران].
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) [أبو داود والترمذي ،أحمد ].
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود] [البخاري].
وقال تعالي {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ(11)} [الأنبياء].
وقال تعالي: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ(459} [الحج].
2ـ كثرة المعاصي والمنكرات وقلة الأمر بالمعروف:
من الأسباب التي تحل العذاب العاجل في الأمم فشو المنكرات وشيوعها، وذلك عندما تقصر الأمة بواجبها في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال].
وعن زينب بنت جحش أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) [البخاري ، مسلم].
والمنكرات إنما تفشو وتظهر حين تقصر الأمة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصبح المعصية في المجتمع ظاهرة مألوفة، وحينها تعم العقوبة الجميع قال صلي الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) [ الترمذي[
يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقابٍ) [أبو داود وأحمد].
3ـ كفران النعم:ـ
قال تعالي{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ(7)} [إبراهيم].
يقول الطبري في بيان معنى الآية: “ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي”
وكما قال الله تعالي: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53)} [الأنفال].
قال الطبري: “يقول تعالى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره” .
4ـ التنافس في الدنيا والشح بما فيها:
من أسباب العذاب الركون إلى الدنيا والتسابق فيها، وهو الداء الذي أهلك الأمم السابقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا) [أبو داود ، أحمد ، الحاكم ، ووافقه الذهبي].
قال ابن حجر: “فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين”
وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال:(فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) [البخاري ومسلم].
فبسطة الدنيا على العباد سبب طغيانهم كما قال الله:{ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)} [العلق].
قال الطبري: “إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأن رأى نفسه استغنت”
الخاتمة :ـ
أيها المؤمنون … لابد أن نأخذ العبرة مما سمعنا ورأينا من دلائل عظمة الله في خلقه ، وإحكام قبضته في ملكه ، وأن نسارع بالعودة إلي الله تعالي بالعمل الصالح،و التوبة والندم عما فات فالدنيا مهما طالت فهي قصيرة ، والكل إلي الله راحل وسيتساوي الجميع في التراب وسيفني المال والجمال وسيذهب الجاه ،والمنصب، وكل شيئ.قال تعالي } وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88){ القصص.
ولنا في هذا الرجل الذي ذهب إلي المقابر ينادي أهل القبور العبرة والعظة وهو ينشد ويقول …
أتيـت القبـور فناديتهـا فاين المعظـم والمحتقـر
وايـن المـذل بسلطانـه واين المزكى اذا ما افتخر
تساووا جميعا فما مخبـر وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدوا بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور
فيا سائل عن اناس مضوا اما لك فيما مضى معتبـر
أسأل الله العظيم أن يأخذ بأيدينا جميعا إليه أخذ الكرام عليه ، وأن ينير بصائرنا بنور المعرفة والإيمان إنه ولي ذلك والقادرعليه. آمين يارب العالمينتمت بتوفيق الله وفضله
رابط الموضوع :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق