14 أكتوبر 2019

الذكر وأثره في حياة المسلم





الحمد لله رب العالمين .. .أمر عباده بذكره فقال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}[الأحزاب].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله والحمد وهو علي كل شيئ قدير..
أعد للذاكرين والذاكرات أجرا عظيما فقال تعالي { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(35)}[الأحزاب].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. أكملَ الخَلْق ذِكْرًا للّه جل جلاله، بل كان كلامُه كله في ذِكر اللَّه وما والاه، قالت عنه زوجه عائشة رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ () يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أحْيَانِهِ» (رواه مسلم).
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..         
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون .
فإن الله تعالي هو غايتنا وهو خالقنا ورازقنا ، ومدبر أمرنا ، فهل يعقل أن نغفل عن ذكره ،إنها سعادة لا تسمو عليها سعادة ، إنها قرب من الله وأنس به واطمئنان إلى جنبه وانشراح الصدور بنوره وأمن وأمان وتفويض وإسلام الأمر له سبحانه ، لا خوف ولا قلق  لا شقاء لا اضطراب قال تعالي:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}[الرعد] .
كلما ذكرت الله كنت مع الله وكان الله معك ، كنت مع الغنى القوى القهار الرحمن الرحيم الرزاق من بيده الأمر وهو على كل شيء قدير ، فلا تشعر بحاجة الى أي شيء ، فماذا فقد من وجد الله ؟ لا شيء ............. وماذا وجد من فقد الله ؟ لا شيء .
كلما ذكرت الله باسم من أسمائه أو صفة من صفاته ترك ذلك أثراً وانطباعاً خاصاً في النفس و القلب وزاد للروح يسمو بصاحبه ويسمو كلما ازداد ذكره لله ، وتعلو منزلته عند الله ، أما الغافل عن ذكر الله فيتعرض لوسوسة الشيطان الذى يذكره بالمعاصي والشهوات والآثام وسيئ الأعمال ، ويظل يهبط به ويهبط الى أسفل سافلين ويصدق فيه قول الله تعالى :{ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}[الأعراف] .
لذلك كان حديثنا عن [عبادة الذكر وأثره في حياة المسلم ]، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ حقيقة الذكر .
2ـ فضل الذكر .
3ـ أثر الذكر في حياة المسلم .
4ـ فضل مجالس الذكر .
5ـ  علاج الغفلة عن الذكر .
================
العنصر الأول : حقيقة الذكر :ـ
هو عدم الغفلة والنسيان، فذكر الله إذًا هو استحضار جلاله وعظمته، وعدم الغفلة عن أوامره وطاعته.
قد يظن كثير من الناس أن ذكر الله - عزَّ اسمه - مقصور على تسبيحه وتحميده، وتكبيره وتهليله، ودعائه بأسمائه الحسنى، وهذا قصر للذكر على بعض معناه، والحقيقة أن ذكر الله تبارك وتعالى شامل لكل عبادة، متمثل في كل طاعة، ظاهر في اجتناب كل معصية خوفًا من الله تعالى، حتى قال بعض العلماء: إن مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا...
وقد فُسِّر الذكر بالصلاة في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (191)} [آل عمران].
لما رواه البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كنت مريضا، فسألت النبيَّ
() عن الصلاة، فقال: {صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب}،
ورواه الترمذي وقال فيه: "سألته عن صلاة المريض"، ولا شك أن الصلاة مجمع الأذكار ودليل البر، وأيًّا ما كان الأمر فذكر الله: عدم الغفلة عنه؛ ولهذا أجمع العلماء أنه يكون بالقلب واللسان، وأفضله أن يكون بهما معًا...
قال الإمام النووي في كتابه الأذكار: فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل، ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفَ الرياء، بل يذكر بهما جميعًا ويقصد وجه الله تعالى؛
فقد قال الفضيل رحمه الله: "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما"، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس لانْسَدَّ عليه أكثر أبواب الخير.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "والذكر من أعطيه اتصل، ومن مُنعه عُزل، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به نار الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب، هو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ).
وقد امتدح الله عباده الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ويقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلاً؛ لأنهم جمعوا بين فكر القلب وذكر اللسان، وهذا أكمل أنواع الذكر، أما ذكر اللسان مجردًا من خشية القلب فهو أضعف أنواعه، ولكن لا ينبغي للعبد تركه؛ لأن اللسان مع التكرار يحرِّك القلب وينشِّطه كما هو معروف بالمشاهدة، وبقية الكلام على الذكر وفضله تقدَّمت في العدد السابع عشر، وقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان رسول الله () يذكر الله عز وجل في أحيانه.
العنصر الثاني : فضل الذكر :ـ
1ـ الذكر طاعة لله تعالي ولرسوله ():ـ
ذِكر الله تعالي هو العِبادة التي أمرنا الله تعالى بالإكثار منها، والسعي إلى ملازمتها، وهو أيسر العبادات، ويستطيع المسلِم ذِكر الله تعالى في كلِّ وقت بلا مشقَّة، وينال من فيض هذا الأجر نِعمًا كثيرة .
لذا أمرنا بالإكثار من ذكره سبحانه وتعالي في أكثر من موضوع فقال تعالي : {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}[الأحزاب].
وقال تعالي في موطن الجهاد وأسباب النصر علي الأعداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}[الأنفال].
وقال تعالي في أسباب الرزق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}[الجمعة].
وقال تعالي بعد الانتهاء من فريضة الحج الأعظم {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ..(200)}[البقرة].
وقال تعالي بعد الانتهاء من الصلاة {وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ (103)}[النساء].
وقال تعالي محذرا من الانشغال المال والولد عن ذكره تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (9)}[المنافقون].
وقال في وصف أشراف الرجال { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ (37)}[النور].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}[آل عمران].
والذكر في حال الأمن فقال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}[البقرة].
والذكر في كل الأحيان قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)}[الإنسان].
2ـ الذكر من أشرف الأعمال :ـ
أخرج مالك في الموطأ والترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
قال النبي ():(ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوِرق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)).
3ـ الذكر أعظم العبادات وأجلها :ـ
قال تعالي {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}[العنكبوت]
وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ ()، أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ ، فَقَالَ : أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرًا " ، قَالَ : فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ قَالَ : أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ الصَّلاةَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالْحَجَّ ، وَالصَّدَقَةَ ، كُلَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَجَلْ" .[المعجم الكبير للطبراني].
لدرجة بعض العلماء ذهبوا إلي أن الذكر أفضل من الدعاء روي الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته ‏أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". قال ‏الترمذي: هذا حديث حسن غريب.‏
4ـ دوام الذكر يعوض ما فات من بعض الطاعات :ـ
إدامته تنوب عن الطاعات وتقوم مقامها سواءٌ كانت بدنية أو مالية، أو مالية بدنية كحج التطوع وقد جاء ذلك صريحاً فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث شكوى الفقراء للنبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الدثور قد ذهبوا بالأجور فقال لهم النبي ():{أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً }[متفق عليه].
فجعل الذكر عوضاً لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد ، أخرج الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه :{أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله}.
ويكفي أن نعلَم أن رسول الله () كان لا يفتُر لسانُه عن ذِكر الله، وكان ذِكْره لله يجرى مع أنفاسه في جميع أحواله، قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه ومسيره، ونزولِه وإقامته ... إلخ، بل إن ذكره صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصورًا على لسانه فحسب، فقد ورد عنه () أنه كان قلبه مشغولًا بالله حال نومه، قال (): «تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» (رواه البخاري).
العنصر الثالث : أثر الذكر في حياة المسلم :ـ
تأتي أهمية الذكر في حياة المسلم من كونه الرافد الدائم، للمخزون الإيماني، والمحرك الموقظ لدواعي الطاعة، والحصن الذي يلوذ به المؤمن حينما تداهمه المصائب، وتعترضه عقبات الطريق، ويقعده طائف الشيطان ولماته، إن العبد حينما يكون ذاكرا لله في كل أحيانه قد شغل نفسه وألزمها بأذكار وأوراد من تسبيح وتحميد وتهليل وصلاة على الرسول () ، ومداومة على المسنون من الأذكار فإن ذلك يبقي قلبه حيا، ويديم إيمانه نضرا يقظا، فإذا ما اعترته أهواء النفس البشرية التي بين جنبيه، أو اجتالته الشياطين التي لا تفتر عن محاربته وعداوته، انتفض ذلك القلب الذاكر شامخا بإيمانه، مستعليا على شهوات نفسه، مدافعا لنفثات الشيطان وهمزاته.
فللذكر أثر عظيم في حياة المسلم  من هذه الآثار ما يلي .....
1ـ الذكر يورث الذاكرَ القربَ من الله تعالي:ـ
 فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه سبحانه وتعالي. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
والله تعالى يقول :{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}[البقرة].
فهل هناك أسمى منزلة ممن يذكره الله تعالى فيكون فى حفظه ورعايته ورحمته وفضله ، وهذا رسول الله () يقول :( يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم ) متفق عليه .
وأيضا يوجب صلاة الله تعالي وملائكته على الذاكر ، وهذا هو الفلاح والظفر بعينه قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43)} [الأحزاب].
2ـ الذكر يورث حياة القلب وهو قوته:ـ
حاجة المسلم إلى الذكر والتذكير كحاجة السمك إلى الماء، لأنها محل الحياة لها، وكذلك فإن حياة القلوب وتزكيتها وطهارتها تكون بملازمة الذكر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء".
فإذا فقده العبد صار بمنـزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته. روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي (): (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر به مثل الحي والميت).
وأيضا شفاءٌ للقلب وأمانٌ من النفاق ، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}  [المنافقون] .
وقال عن المنافقين :{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)}[النساء].
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سُئل عن أهل الجمل : أمنافقون هم؟
فقال: ((المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً)) (رواه البيهقي في سنن الكبرى) ،
وقال مكحول بن عبد الله رحمه الله : ((إن ذكر الله شفاء، وإن ذكر الناس داء)) (رواه البيهقي في شعب الإيمان).
3ـ الذكر مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه :ـ
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي () قال:(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه).
4ـ   أنه نور لصاحبه يسعى به في الدنيا ، ويضيء له قبره ، ويضيء أمامه على الصراط يوم القيامة :ـ
قال تعالي { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ (37)} [النور] .
وقال سبحانه: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا (122)}  [الأنعام].
فالمؤمن يستنير بالإيمان بالله وبمحبته وذكره ، والغافل عن ذلك في ظلمات بعضها فوق بعض ، فالفلاح كل الفلاح في الحصول على هذا النور ، والشقاء كلّ الشقاء في فواته وحرمانه ، لهذا بين المولي تبارك وتعالي خطورة الغفلة والإعراض عن الذكر فقال تعالي : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}[طه].
5ـ الذاكر من أسباب قبول الأعمال:ـ
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): (من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: "رب اغفر لي" أو قال: "ثم دعا استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته).
6ـ الله تعالي يباهي بالذاكرين ملائكته :ـ
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن رسول الله (خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة).
7ـ الذكر يورث المراقبة حتى يدخله باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه.
8ـ الذكر يورث الهيبة لربه عز وجل وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل، فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
والواقع يشهد من خلال تجرأ العباد على معصية الله، بل والمجاهرة بها على رؤوس الأشهاد. فكلما كان قليل الذكر سهلت عليه المعصية.
كان الربيع معروفًا بجماله، كان جميلاً كأشد ما يكون الجمال، حتى إن المرأة إذا نظرت إليه لا تستطيع أن تملك نفسها، وقيل عنه: إنه كان يغطي على جزء من وجهه حتى لا يفتن النساء، ولكن كان مع هذا من أعظم عباد الله خوفًا من الله، وكان عُمره لا يجاوز الثلاثين؛ وكان في بلده فُسَّاق وفُجَّار يتواصون على إفساد الناس، تواصوا على إفساد الربيع، فجاؤوا بأجمل امرأة عندهم، وقالوا: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، ثم ذهبت وتعرَّضت له في ساعة خلوة، وأبدت مفاتنها، ووقفت أمامه، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله، كيف بك إذا نزل ملك الموت، فقطع منك حبل الوتين؟!
أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟!
أم كيف بك يوم تقفين بين يدي الربِّ العظيم؟!
أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟!
فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله عز وجل تقوم من ليلها ما تقوم، وتصوم من أيامها ما تصوم، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان هؤلاء المفسدون يقولون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا؛ {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ (116)} [الأنعام].
يا تُرى ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل هي قلة الشهوة؟ إن الشهوة لعظيمة؛ إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها "سن الثلاثين" ومع ذلك ما الذي ثبَّته هنا، وما الذي عصمه؟
إنه الإيمان بالله، إنها الخشية من الله تعالى.
9ـ الذاكرين هم السابقون يوم القيامة:ـ
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله () ((سبق المفردون)) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات)).
10ـ الذكر يحط الخطايا ويذهبها.
ذكر الله تعالي يحط الخطايا ويذهبها ، وينجي الذاكر من عذاب الله ، ففي المسند عن معاذ بن جبل رضي الله عنه  قال : قال رسول الله  (): {مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}[مسند الإمام أحمد].
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله () قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر)).
11ـ الذكر سدٌ بين العبد وبين جهنم :ـ
فإذا كان ذِكرًا دائمًا محكمًا، كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه، وإلا فبحسبه، روى الحاكم في المستدرك وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): ((خذوا جُنتكم)) أي ما تستترون به وتتقون به، قالوا: يا رسول الله، أمن عدو حاضر؟ قال: ((لا، ولكن جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة معقبات مجنِّبات ، وهنَّ الباقيات الصالحات)).
12ـ الذكر يزيل الهم والغم عن القلب ويجلب له الطمأنينة:ـ
قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} ﴾ [الفاتحة].
13ـ الذكر غراس الجنة:ـ
أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبةُ التربة، عذبةُ الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
14ـ الذكر حصن للمسلم من المعاصي:ـ
الذكر سبب عظيم من أسباب حفظ اللسان وصونه عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والسخرية والباطل , فإن العبد لابد له من أن يتكلم وما خلق اللسان إلا للكلام فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره بالخير والفائدة , تكلم ولابد بهذه المحرمات أو ببعضها , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يَبُس لسانه عن ذكر الله نطق بكل باطل ولغو وفحش .
15 الذكر حصن للمسلم من الشيطان :ـ
الذكر يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)}[الزخرف].
وقال تعالي  في صفات المتقين {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(135)}[آل عمران]. ويقول سبحانه:{إن الذين اتقوا إذا مسهم طآئف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون(201)} [الأعراف]
وقال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201) } [الأعراف].
وثبت في وصية يحيى بن زكريا عليه السلام لبني إسرائيل كما في الحديث الطويل الذي أمرهم فيه أولاً بالتوحيد ثم بالصلاة والصيام والصدقة ثم قال :(وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ ؛ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ)[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
مما لا شك فيه أن ذكر الله عز وجل من أعظم أسباب الوقاية من الشياطين،
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (): " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس " . رواه البخاري تعليقا .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال بعض السلف:إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون:ما لهذا؟
فيقال: قد مسَّه الإنسي!.
ولقد علمنا النبي ()  أن المسلم إذا خرج من بيته فذكر الله بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): " من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: كفيت ووقيت وهديت، فتنحى له الشيطان، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي" .(رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن).
وهكذا الذكر عند دخول البيت وعند الطعام فإن العبد إذا فعل ذلك قال الشيطان لأصحابه: "لا مبيت لكم ولا عشاء".
إننا بذكر الله نخلص أنفسنا من الأجواء العفنة و الفتن المتزاحمة ونطهر قلوبنا ونفر الى الله ونخلص إليه :{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}[الذاريات].
وكلما ذكرنا الله خنس الشيطان بوسوسته وانصرف عنا وتطهرنا من رجسه .
عندما نعيش بقلوبنا كل صفة من أو اسم من أسمائه نذكره به يزداد إيماننا به وتعظيمنا له سبحانه وفى هذا خير زاد لنا على الطريق .
العنصر الرابع : فضل مجالس الذكر:ـ
إن خير المجالس وأزكاها وأطهرها وأشرفها واعلاها قدراً عند الله وأجلها مكانة عنده مجالس الذكر, فهي حياة القلوب ونماء الإيمان وزكاء النفس وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة , ولهذا ورد في فضلها والحث على لزومها.
مما يدل على شريف قدر تلك المجالس ورفيع شأنها وعلو مكانتها وأنها خير المجالس .
1ـ مجالس الذكر هي رياض الجنة في الدنيا:ـ
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله () قال : {إذا مررتم برياض الجنة
 فارتعوا: قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال حلق الذكر}.
فمن شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا , فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة.
2ـ مجالس الذكرسبب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة:ـ
مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة والإثم مجالس الشياطين، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي () أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
3ـ مجالس الذكر مغفرة للذنوب :ـ
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي (قال: “إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة، فضلا (أي أن هؤلاء الملائكة السيارة لا وظيفة لهم وهم زائدون على الحفظة)، يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جئتك، وهل: رأوا جنتي؟ قالوا: أي يا رب! قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”. 
4ـ مجالس الذكر تبديل سيئات أهلها حسنات:
ومن فضائل هذه المجالس الطيبة المباركة أن يبدل الله سيئات أصحابها حسنات، تكرما منه عليهم، وثوابا منه لهم على حضورهم هذه المجالس الزاكيات، وقد ورد الحديث بذلك وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع وصحيح الترغيب والترهيب عن سهل بن الحنظلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما جلس قومٌ مجلسًا يذكرون اللهَ عزَّ وجلَّ فيه فيقومون؛ حتى يُقالَ لهم: قوموا قد غفر اللهُ لكم، وبُدِّلَتْ سيِّئاتِكم حسناتٌ].
وأخرج مثله البيهقي عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما جلس قومٌ يذكرون اللهَ عزَّ وجلَّ إلا ناداهم منادٍ من السماءٍ: قومُوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلَتْ سيئاتُكم حسناتٍ].
5ـ مجالس الذكر أمان للعبد يوم القيامة :ـ
إن مجالس الذكر تؤمن العبد من الحسرة والندامة يوم القيامة بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنها تكون على صاحبها حسرة وندامة
يوم القيامة , فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله () قال :{من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة } [أي نقص وتبعة وحسرة].
لذلك كان سلفنا الصالح حريصين علي اختيار المجالس التي يجلسون فيها ..
ومما يروي عن بعض السلف مثل أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالي   كان لم يُجَالِسْ أَحَدًا قَطُّ يتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا ، إِلا تَحَوَّلَ عَنْهُ ، فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ ، فَنَظَرَ إِلَى قَوْمٍ قَدِ اجْتَمَعُوا ، فَرَجَا أَنْ يَكُونُوا عَلَى ذِكْرٍ وَخَيْرٍ ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ ، فَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُولُ : قَدِمَ غُلامٌ لِي فَأَصَابَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ الآخَرُ : جَهَّزْتُ غُلامِي ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ ، كَرَجُلٍ أَصَابَهُ مَطَرٌ غَزِيرٌ وَابِلٌ ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِمِصْرَاعَيْنِ عَظِيمَيْنِ ، فَقَالَ لَوْ دَخَلْتُ هَذَا حَتَّى يَذْهَبَ عَنَى هَذَا الْمَطَرُ ، فَدَخَلَ ، فَإِذَا الْبَيْتُ لا سَقْفَ لَهُ ، جَلَسْتُ إِلَيْكُمْ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا عَلَى خَيْرٍ ، فَإِذَا أَنْتُمْ أَصْحَابُ دُنْيَا .
العنصر الخامس : علاج الغفلة عن ذكر الله تعالي :ـ
إِنَّ الغفلة عَنِ ذكراللهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَبِهِ تَزِيغُ الْقَلُوبُ، وَتُطْمَسُ الْبَصائِرُ، فَتَعْمَى عَنِ الْحَقِّ، وَتَرْتَكِسُ فِي الْإِثْمِ، فَيَضِيقُ الصَّدْرُ، وَتَسْوَدُّ الدُّنْيَا عِنْدَ الْمُعْرِضِيْنَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تُعَالَى: "رَأَيْتُ سَبَبَ الهُمُومِ وَالْغُمُومِ الْإعْرَاضَ عَنْ اللهِ عِزِّ وَجَلٍ، وَالْإقْبالَ عَلَى الدُّنْيَا".
فلكي نعالج مرض الغفلة عن ذكر الله تعالي أمور لا بد منها ...
1- المعرفة بالله تعالى :
فمن عرف ربه حق المعرفة رق لبه ، ومن جهل ربه قسا قلبه ، وما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل وأبعدهم عن المعرفة به ، وكلما عظم الجهل بالله كلما كان العبد أكثر جرأة على حدوده ومحارمه ، وكلما وجدت الشخص يديم التفكير في ملكوت الله ، ويتذكر نعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى ، كلما وجدت في قلبه رقة .
2- تذكر الموت وما بعده :
من سؤال القبر وظلمته ووحشته وضيقه ، وأهوال الموت وسكراته ، ومشاهدة أحوال المحتضرين وحضور الجنائز ، فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدها ، وينبهها من غفلتها ، فتعود إلى ربها وترق ، ولهذا كان النبي ()يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول : (( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه )) (رواه البيهقي وحسنه الألباني ).
ويقول سعيد بن جبير رحمه الله : لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي .
3- زيارة القبور والتفكر في حال أهلها :
وكيف صارت أجسادهم تحت التراب وكيف كانوا يأكلون ويتمتعون ويلبسون مالذ وطاب
فأصبحوا تراباً في قبورهم ، وتركوا ما ملكوا من أموال وبنين ، ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم ، وأن مآله هو مآلهم ، ومصيره هو مصيرهم ، فزيارة القبور عظة وعبرة ، وتذكير وتنبيه لأهل الغفلة ، ولهذا قال النبي ({كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ؛ فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هُجراً }[رواه الحاكم وصححه الألباني].
ومن نظر إلى القبور وإلى أحوال أهلها انكسر قلبه ورق ، وذهب ما به من القسوة ، وأقبل على ربه إقبال صدق وإخبات .
4- النظر في آيات القرآن الكريم :
التفكر في وعده ووعيده وأمره ونهيه ، فما قرأ عبد القرآن وكان عند قراءته حاضرالقلب مفكراً متأملاً إلا وجدت عينه تدمع ، وقلب يخشع ، ونفسه تتوهج إيماناً من أعماقها تريد السير إلى ربها ، وما قرأ عبد القرآن أو استمع إلى آياته إلا وجدته رقيقاً قد خفق قلبه واقشعر جلده من خشية الله قال تعالي {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(23)}[الزمر].
5- زيارة الصالحين وصحبتهم ومخالطتهم والقرب منهم :
فهم يأخذون بيدك إن ضعفت ، ويذكرونك إذا نسيت ، ويرشدونك إذا جهلت ، إن افتقرت أغنوك ، وإن دعوا الله لم ينسوك ، ورؤيتهم تذكر بالله وتعين على الطاعة ،قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)}[الكهف].
ويقول جعفر بن سليمان : كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع.
لذلك أمر الله تعالي بالإعراض عن أهل الغفلة وأصدقاء السوء فقال تعالي {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيا(29)}[النَّجْمَ]
6- مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها :
فإن الإنسان إذا لم يجاهد نفسه ويحاسبها ويعاتبها وينظر في عيوبها ، ويتهمها بالتقصير لا يمكن أن يدرك حقيقة مرضها ، وإذا لم يعرف حقيقة المرض فكيف يتمكن من العلاج ؟! لهذا لا بد من تذكير النفس بضعفها وافتقارها إلى خالقها ، وإيقاظها من غفلتها ، وتعريفها بنعم الله عليها ، ومراقبتها ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة حتى يسهل عليه قيادها والتحكم فيها .
قال تعالي { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}[العنكبوت]
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلوباً خاشعة ، وألسنة ذاكرة ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

==================
رابط pdf 
رابط doc

ليست هناك تعليقات: