17 يونيو 2023

وقفة إيمانية في يوم عرفة

 


الحمد لله رب العالمين .. أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا فقال تعالي} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ(3){ المائدة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .... فضل بعض الشهور علي بعض ففضل الأشهر الحرم علي باقي الشهور فقال تعالي } إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (39){ التوبة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)... قال عن يوم عرفة: }ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة{ ]رواه مسلم في الصحيح[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
إن الليالي والأيام، والشهور والأعوام، تمضي وتنقضي سريعا؛ وهي محط الآجال؛ ومقادير الأعمال، فاضل الله بينها فجعل منها: مواسم للخيرات، وأزمنة للطاعات، تزداد فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات، ومن تلك الأزمنة العظيمة القدر، الكثيرة الأجر يوم عرفة ، حيث عظَّم الأجر والفضل في هذا اليوم العظيم ، لذلك ينبغي للمسلم أن يكون له  وقفة  في هذا اليوم العظيم ، لذلك كان موضوعنا عن }وقفة إيمانية في يوم عرفة{ وذلك من حلال هذه العناصر الرئيسية التالية وهي ...
1ـ وقفة إيمانية في يوم عرفة .
2ـ فضل يوم عرفة .
3ـ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة.
4ـ حال السلف الصالح في يوم عرفة.
5ـ حال المسلم مع ربه في يوم عرفة .
6ـ الخاتمة .
العنصر الأول : وقفة إيمانية في يوم عرفة :
يوم عرفة، يوم التجليات والنفحات الإلهية، يوم العطاء والبذل والسخاء، هو اليوم الذي يقف فيه الناس على صعيد واحد متجردين من كل آصرة ورابطة إلا رابطة الإيمان والعقيدة، ينادون رباًّ واحداً ويناجون إلهاً واحداً، إله البشرية جميعاً.
إن من تأمل الحج وجده مذكرا بيوم القيامة؛ فالحاج مسافر سفراً مخوفا، لا يدري ما يعرض له في سفره ولا في أداء مناسكه؛ ولذا تأكد في حقه أن يؤدي الحقوق التي عليه، وأن يكتب وصيته.. والإنسان في الدنيا في سفر، والمخاطر تحيط به، والمنايا تتخطفه، فإن أخطأه بعضها أصابه غيرها، ونحن نرى كثرة موت الفجأة في الناس.
وبالإحرام يتجرد الحاج من ثيابه، ويلبس الإزار والرداء، فيترك ثياب الزينة والطيب، ويمسك عن شعره وأظفاره، وهذا يذكره بالموت والكفن، وترك الدنيا وزينتها، والوحدة في القبر، فلا رفيق له فيه سوى عمله؛ فإما عمل صالح يؤنسه ويسعده، وإما عمل سيء يزعجه ويعذبه، ويتذكر الحاج وهو في هذه الحال قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ (94)} [الأنعام].
إنه موقف مصغر عن موقف الحشر الأعظم؛ حيث يقف الناس في عرفات متجردين من كل شيء، فالكل واقف أمام رب العزة عز وجل.
يتجلى هناك موقف الإنسانية والأخوة والمساواة، فلا رئيس ولا مرؤوس، ولا حاكم ولا محكوم، ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور، ولا أبيض ولا أسود ، الكل عبيد لله، الكل يناجي ربه العظيم لينالوا مغفرته ورضوانه. ،
فالقبلة واحدة ، والرب واحد، والمشاعر واحدة ، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، والهدف واحد ، والتلبية واحدة ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك )،فهو نداء لله وحده،  لا لمذهب أو قبيلة ، أو دولة ، أو جماعة ...او.. ، فهي عبودية لله وحده فكل هذه الأمور تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف والتعاون على مصالح الدين والدنيا، وفي ذلك خطب النبي (ﷺ) وقرر مبدأ الوحدة والمساواة بين الجميع فقال }يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، أَلا وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، أَلا لا فَضْلَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى ،أَلا قَدْ بَلَّغْتُ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ:" لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ {.
العنصر الثاني : فضل يوم عرفة :
هذا اليوم شرفه الله وفضله بفضائل عظيمة، اليوم الذي خصه الله بالأجر الكبير والثواب العظيم عن كل أيام السنة، اليوم الذي يعم الله عباده بالرحمات، ويكفر عنهم السيئات ويمحو عنهم الخطايا والزلات ويعتقهم من النار...
 اليوم الذي يُرى فيه إبليس صاغرًا حقيرًا...
 اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة على المسلمين..
من هذه الفضائل والمزايا ما يلي :ـ
1ـ إنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية؟ قال: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ(3){ المائدة.
قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي (ﷺ)، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وإتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال تعالى لنبيه (ﷺ) }ليَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2){ [الفتح].
2ـ إنه عيد أهل الإسلام :
قال رسول (ﷺ): }يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب{ ]رواه أهل السّنن[.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (نزلت أي آية (اليوم أكملت) في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد).
3ـ يوم عرفة أحد أيام الأشهر الحرم:
قال الله عز وجل: }إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ(39){ [التوبة].
والأشهر الحرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب ويوم عرفه من أيام ذي الحجة.
4ـ يوم عرفة أحد أيام أشهر الحج :
قال الله عز وجل :}الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ(197){ ]البقرة ] وأشهر الحج هي : شوال ، ذو القعدة ، ذو الحجة.
5ـ يوم عرفة أحد الأيام المعلومات التي أثنى الله عليها في كتابه:
قال الله عز وجل }لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ(28){ ]الحج[
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة.
 6ـ إنه يوم أقسم الله به:
والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: }وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3){ ]البروج[.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }اليوم الموعود : يوم القيامة، واليوم المشهود : يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة..{ ]رواه الترمذي وحسنه الألباني[.
وهو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: }وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3{ ]الفجر[
 قال ابن عباس: الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة، وهو قول عكرمة والضحاك.
 7ـ أن صيامه يكفر سنتين:
فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: }يكفر السنة الماضية والسنة القابلة{ ]رواه مسلم[.
وهذا إنما يُستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يُسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي (ﷺ) ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
8ـ أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ): }إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان يعني عرفة وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلا، قال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)) ]الأعراف[: ]رواه أحمد وصححه الألباني[ .
فما أعظمه من يوم! وما أعظمه من ميثاق !
9ـ أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف:
عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: }مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ{  ]رواه مسلم[.
نعم؛ هكذا يباهي الله بأهل عرفة ملائكة السماء، ويقول لهم بكل حب وفخر: فعن ابن عمر أن النبي (ﷺ) قال: }إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ{ ]رواه أحمد وصححه الألباني[
10ـ كثُر خير الله وطاب:

روى أن النبي (ﷺ)قال يا بلال }يا بلال أنصت لي الناس{ ]صحيح الترغيب[ فانطلق بلال رضي الله عنه لينادي الصحب والآل المنتشرين على صعيد عرفات، ما بين مبتهل وباك وضارع إلى ربه يناجي، هلموا إلى إمامكم وأسوتكم وهاديكم وقدوتكم، فهو لا شك يطلبكم لأمر عظيم..
اجتمع الخلق من كل حدب وصوب، ووقفوا جميعًا بين يدي رسولهم صلوات ربي وسلامه عليه ينتظرون وقلوبهم متشوقة، لماذا جمعهم وأنصتهم قبل الإفاضة إلى المشعر الحرام؟
}معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام؛ وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات{ ]صحيح الترغيب[
الله أكبر الله أكبر يا له من فضل ويا لها من بشارة، ربهم الذي باهى بهم الملائكة اليوم وقال لهم في تلك العشية المباركة: }عبادي جاؤني شعثا من كل فج عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر، لغفرتها . أفيضوا عبادي مغفورا لكم، ولمن شفعتم له{ ]صحيح الترغيب[
الآن يذكرهم مرة أخرى ويبعث جبريل في ذلك اليوم العظيم ليخبر سيد ولد آدم عليه السلام بتلك البشارة الجليلة، سبحانك ربي سبحانك ما أعظم شأنك، ما ألطفك وأكرمك وأحلمك، فشى السرور في الجمع المبارك وتهللت الأسارير بالقول الحسن، وصاح من بين الجمع رجل، لكنه ليس أي رجل! إنه فاروق الأمة ووزير رسولها، إنه عمر رضي الله تعالى عنه، صاح مناديًا يسأل ويطمئن على إخوان له لم يرهم.. قال الفاروق مستفهمًا: "يا رسول الله هذا لنا خاصة؟".
فقال النبي الكريم(ﷺ) }بل لكم ولمن جاء من بعدكم إلى يوم القيامة{ ]صحيح الترغيب[
ما إن سمع عمر تلك الكلمات تخرج من الفم الشريف حتى صاح وقد تهلل الوجه، وساد الانشراح: "كثر خير الله وطاب، كثر خير الله وطاب".
يا عمر كثر خير الله وطاب، واشرأب الفضل وزاد، وتضاعف المن وفاض.
11ـ يوم عرفة أحد الأيام العشرة المفضلة في أعمالها على غيرها من أيام السنة:
قال النبي (ﷺ) : }ما من عمل أزكى عند الله  عز وجل ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى قيل: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء{ ]رواه الدارمي وحسن إسناده الشيخ محمد الألباني في كتابه إرواء الغليل[.
12ـ عظم الدعاء يوم عرفة:
 قال النبي (ﷺ) :}خير الدعاء دعاء يوم عرفة { ]صححه الألباني في كتابه السلسة الصحيحة[.
قال ابن عبد البر رحمه الله: وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره.
13ـ فيه ركن الحج الأعظم :
قال النبي (ﷺ): }الحج عرفة{ متفق عليه.
14ـ يوم يغيظ الشيطان :
 إن يوم عرفة يوم يغيظ الشيطان، يوم يعم الله عباده بالرحمات ويكفر عنهم السيئات، ويمحو عنهم الخطايا والزلات، مما يجعل إبليس يندحر صاغرا؛ يقول حبيبنا محمد (ﷺ) وهو يصف الشيطان وحاله في ذلك الموقف يقول(ﷺ): }مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ{ ]رواه مالك والبيهقي وعبدالرزاق وابن عبد البر[.
فأين المسلم الذي يدحر الشيطان ويجعله يتصاغر وذلك بتقديم الطاعات لله تبارك وتعالى في يوم عرفة؟..
أين المسلم الذي يحفظ جوارحه من المعاصي في هذا اليوم المبارك كي يغيظ الشيطان؟
 15ـ يوم يرجى فيه إجابة الدعاء:
 إن يوم عرفة يوم يرجى إجابة الدعاء فيه، وهذا اخبرنا به نبينا (ﷺ)؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ  (ﷺ) قَالَ:}خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{؛ ]رواه الترمذي وحسنه الألباني[
العنصر الثالث : هدي النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة :
قال ابن القيم رحمه الله: لما طلعت شمس يوم التاسع سار رسول الله (ﷺ) من منى إلى عرفة، وكان معه أصحابه ، منهم الملبي ومنهم المكبر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء، فنزل بنمرة حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرفة، فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها.
وخطب (ﷺ) خطبة واحدة، لم تكن خطبتين، فلمّا أتمها أمر بلالاً فأذن، ثم أقام الصلاة، فصلى الظهر ركعتين أسرّ فيهما بالقراءة، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.
فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات، واستقبل القبلة، وجعل جل المشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: (وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف).
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها، فإنها من إرث أبيهم إبراهيم، وهنالك أقبل ناس على أهل نجد، فسألوه عن الحج فقال:}الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع تم حجه، أيام منى ثلاثة، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه{.
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره، وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفة.
فلما غربت الشمس، واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة أفاض إلى عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضم إليه زمام ناقته، حتى إنّ رأسها ليصيب طرف رحله وهو يقول: }يا أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع{ أي: ليس بالإسراع. [صحيح] [متفق عليه[ رواه البخاري بلفظه تاما، وأما مسلم فأخرج «عليكم بالسكينة»[
وكان (ﷺ) يلبي في مسيره ذلك، ولم يقطع التلبية، فلما كان في أثناء الطريق نزل صلوات الله وسلامه عليه فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله، فقال: (الصلاة أو المصلى أمامك).
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أمر بالأذان فأذن المؤذن، ثم قام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى عشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئاً ثم نام حتى أصبح.
العنصر الرابع : حال السلف الصالح في يوم عرفة:
أما عن أحوال السلف الصالح بعرفة فقد كانت تتنوع :لقد كان لسلفنا الصالح في موقف عرفة مآثر لا تنسى ومواقف خالدة..
فمنهم من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء ، فقد وقف مطرف بن عبدالله وبكر المزني بعرفة فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي.
وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.
ووقف أحد الصالحين بعرفة فمنعه الحياء من ربه أن يدعوه فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: أجد وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً!
وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً.( يعني: سدس درهم ) أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
ومنهم من كان يغلب عليه الرجاء ، قال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تذرفان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
فالعبد بين حالين :
إذا ظهر لك أخي حال السلف الصالح في هذا اليوم، فاعلم أنه يجب أن يكون حالك بين خوف صادق، ورجاء محمود كما كان حالهم.
فالخوف الصادق: هو الذي يحول بين صاحبه وبين حرمات الله تعالى، فإذا زاد عن ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: هو رجاء عبد عمل بطاعة الله على نور وبصيرة من الله، فهو راج لثواب الله، أو عبد أذنب ذنباً ثم تاب منه ورجع إلى الله، فهو راج لمغفرته وعفوه.
قال تعالى: }إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم(218){ ]البقرة[
فينبغي عليك أخي المسلم أن تجمع في هذا اليوم العظيم بين الأمرين: الخوف والرجاء؛ فتخاف من عقاب الله وعذابه، وترجو مغفرته وثوابه.
وقد ورد في الإحياء عن علي بن موفق قال حججت سنة فلما كان ليلة عرفة نمت بمنى في مسجد الخيف فرأيت في المنام كأن ملكين قد نزلا من السماء عليهما ثياب خضر فنادى أحدهما صاحبه يا عبد الله فقال الآخر لبيك يا عبد الله قال أتدري كم حج بيت ربنا عز و جل في هذه السنة ؟ قال لا أدري قال حج بيت ربنا ستمائة ألف ! أفتدري كم قبل منهم ؟ قال لا قال ستة أنفس قال ثم ارتفعا في الهواء فغابا عني فانتبهت فزعا واغتممت غما شديدا وأهمني أمري فقلت إذا قبل حج ستة أنفس فأين أكون أنا في ستة أنفس فلما أفضت من عرفة قمت عند المشعر الحرام فجعلت أفكر في كثرة الخلق وفي قلة من قبل منهم فحملني النوم فإذا الشخصان قد نزلا على هيئتهما فنادى أحدهما صاحبه وأعاد الكلام بعينه ثم قال أتدري ماذا حكم ربنا عز
وجل في هذه الليلة قال لا قال فإنه وهب لكل واحد من الستة مائة ألف قال فانتبهت وبي من السرور ما يجل عن الوصف.
هكذا كان حال الصالحين في هذا اليوم المبارك؛ فأين نحن منهم ؟؟
العنصر الخامس : حال المسلم مع ربه في يوم عرفة :
إذا كان هذا هو الفضل العظيم ليوم عرفة ، فأين من يتعرضون لنفحات الله تبارك وتعالى؟
أين من يتعرضون لمغفرة الله وكرمه؟
 أين من يغتنمون هذا اليوم بالتجارة مع الله تعالى كما يغتنمه أهل الدنيا بتجارة الدنيا؟
هذا يوم عرفة، يوم المغفرة، فإذا كان الحجيج وهم واقفون في عرفات ينعمون برحمات الله تعالى وغفرانه ورضوانه..
فان أبواب الرحمة والمغفرة والرضوان مفتوحة أمامنا ونحن في بيوتنا باستغلالنا لهذا اليوم بطاعة الله تعالى...
فتعال أخي المسلم لكي نغتنم هذه الفرصة وهذا السباق الكبير لكي نحظى برضوان الله تعالي وفضله ، فالعاقل من يغتنم الفرصة ولا يجعلها تضيع منه لأن العمر قصير ، والدنيا ما هي إلا ساعة فاجعلها في طاعة الله تعالي ، فعلينا بالآتي ..
1ـ النية الصادقة في استقبال يوم عرفة ، فاجعل هذا اليوم طاعة لله تعالي .
2ـ صيام هذا اليوم :
 فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) "رواه مسلم".
3ـ الإكثار من الذكر والتكبير: 
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:  كنا مع رسول الله (ﷺ) في غداة عرفة، فمنّا المكبر ومنا المهلل… { ]رواه مسلم[.
والتكبير قال فيه العلماء أن التكبير ينقسم إلى قسمين :
التكبير المقيد الذي يكون عقب الصلوات المفروضة ويبدأ من فجر يوم عرفة وينتهي عصر آخر أيام التشريق الثلاثة .
وأما التكبير المطلق فهو الذي يكون في عموم الأوقات ويبدأ من أول ذي الحجة حيث كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجون إلى السوق يكبرون ويكبر الناس بتكبيرهما)
4ـ الإكثار من الدعاء بالمعفرة والعتق في هذا اليوم:
فإنه يرجى إجابة الدعاء فيه ويتأكد الدعاء في هذا اليوم العظيم الذي هو من أرجى
أوقات الإجابة والقبول، والدعاء فيه هو خير الدعاء، كما قال النبي (ﷺ): }خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير{ ]رواه مالك والترمذي والبيهقي وصححه الألباني[.
وهذه الخيرية شاملة لدعاء السؤال والطلب، ودعاء العبادة والقربة، الذي يعم جميع أنواع الذكر، ومن أعظمه كلمة التوحيد، التي هي خير ما قاله النبيون والصالحون على مر العصور.
وإذا كان الإنسان صائماً في هذا اليوم العظيم، ودعا عند الإفطار، فما أحراه بالقبول والإجابة، فقد ثبت عن النبي (ﷺ) أنه قال: }إن للصائم عند فطره لدعوة لا ترد{
]رواه ابن ماجه بسند صحيح[ .
وقال(ﷺ): }ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين{ ]رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه[.
وهذه كرامة للصائم مطلقاً، فكيف إذا كان صائماً في يوم عرفة؟!!.
فالدعاء هو سلاح المؤمن وعدته في الشدة والرخاء، كما أنه من أجل العبادات وأحبها إلى الله عز وجل، لأنه يتحقق فيه كمال الحب والتعظيم وكمال الخوف وكمال الرجاء، وتلك هي حقيقة العبادة ولذلك قال ربنا سبحانه: }وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) ]{غافر[
فسمي الدعاء عبادة، وقال النبي (ﷺ): }الدعاء هو العبادة{ ]رواه أهل السنن وصححه الترمذي[.
 وبين (ﷺ) في حديث آخر أن الدعاء هو أكرم شيء عند  الله تعالى فقال(ﷺ): }ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء{ ]رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان والحاكم[.
بل قال عليه الصلاة والسلام: }من لم يسأل الله يغضب عليه{ ]رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي[.
 فالله عز وجل يحب من عباده أن يسألوه، ويغضب عليهم إن تركوا سؤاله، لأنه يعلم سبحانه أنه لا غنى لهم عن فضله طرفة عين، وهو الجواد الكريم الذي بيده خزائن السماوات والأرض، فيحب منهم أن يسألوه ليعطيهم، ويستغفروه ليغفر لهم، ويشكروه ليزيدهم ويسبغ نعمه عليهم. وهو سبحانه يحب الملحين بالدعاء، ولا يمل من كثرة العطاء، وكلما أكثر العبد من سؤاله كان منه أقرب، وإليه أحب، بخلاف ابن آدم الذي يضجره السؤال، ويتبرم من كثرة الطلب.
ولله در أبي العتاهية حين قال:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجــــةً                      وسل الذي أبوابه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله                    وبنيُّ آدم حين يسأل يغضـب
 فاجعل سؤالك للإله فإنمـــا                     في فضل نعمة ربنا نتقــــلب
ومن آداب الدعاء في هذا اليوم أن يقف الحاج مستقبلاً القبلة رافعاً يديه، متضرعاً إلى ربه معترفاً بتقصيره في حقه، عازماً على التوبة الصادقة.
5ـ حفظ  الجوارح عن المحرمات في ذلك اليوم:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف النبي (ﷺ)  من عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي (ﷺ) يصرف وجهه من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له النبي (ﷺ): }ابن أخي، إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له{ ]رواه أحمد[.
ولنحذر من الذنوب التي تمنع المغفرة في هذا اليوم، كالإصرار على الكبائر والاختيال والكذب والنميمة والغيبة وغيرها، إذ كيف تطمع في العتق من النار وأنت مصر على الكبائر والذنوب؟! وكيف ترجو المغفرة وأنت تبارز الله بالمعاصي في هذا اليوم العظيم؟!
أخي المسلم: هذه فرصة لا نجعلها تضيع منا فالمحروم حقا من حُرِم بركة هذا اليوم المبارك ، والسعيد من فاز ببركة هذا اليوم .
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من الفائزين في هذا اليوم وأن يعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار،
وأن يدخلنا الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب إنه ولي ذلك والقادر عليه .


ليست هناك تعليقات: