11 يونيو 2023

في ظلال العشر من ذي الحجة

 

المقدمــــــــــة
الحمد لله رب العالمين ..مصرف الدهر ومقلب الليل والنهار قال تعالي }يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ (44) { ]النور[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير فضل بعض الأيام علي بعض وفضل بعض الليالي علي بعض فقال تعالي }وَٱلۡفَجۡرِ (1) وَلَيَالٍ عَشۡرٖ (2) وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ (3) وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَسۡرِ (4) هَلۡ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٞ لِّذِي حِجۡرٍ (5){ ]الفجر[
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ). حثنا علي اغتنام الفرص والأوقات  فقال(ﷺ) }إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقي بعدها أبدا ]{أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث محمد بن مَسْلَمة[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
أما بعـــــد : فيا أيها المؤمنون  ....
إن النفس البشرية المؤمنة تحتاج  إلى استثارات إيقاظية قوية كلما لفها الكسل عن الطاعة وأقعدها الميل إلى المتاع .
وفي غمرة الزحام الدنيوي المتكاثر من الملهيات والمكتسبات المادية المحضة تتطلع نفس المؤمن إلى حالة إيمانية ترفعها عن الأرض وترفرف بها إلى عنان الأفق الرباني الرحب.
وتمر على النفس أوقات وأيام تكون فيها أقرب ما تكون إلى العودة إلى الله  وبناء عهد جديد معه  سبحانه ، وتعد هذه العشر من ذي الحجة أنسب ما يكون لتلك الأوبة وخلاص التوبة.
والمنهج الإسلامي التربوي جعل من استغلال تلك الأيام وسيلة ناجعة لتربية إيمانية موجهة ، ودفعة قلبية روحانية صالحة ، تغسل فيها القلوب العاصية من درنها ، وتؤوب فيها النفوس المقصرة إلى بارئها ، وتأوي الروح فيها إلى حياة شفافة نقية لا تلوي على شيء غير الطاعة والإيمان .
وما أروع أن تحي النفوس في ظلال هذه العشر المباركات من شهر ذي الحجة لتعيد تجديد العهد الذي أصابه الوهن بعد رمضان وتعود لتعمق الصلة بربها بعد أن اعتراها الوهن والحرمان .
إنها تشتاق إلي أن تعود كما كانت أوابة قانتة مستغفرة حامدة لها مع الله شأن ،تحلق إلي الملأ الأعلى في نقاء وصفاء تاركة خلفها سفاسف الأرض محطمة أغلال القعود مكسرة كل القيود .
وإن هذه المواسم الفاضلة لمن أعظم نعم الله على عباده، حيث تستحث هممهم وتشحذ عزائمهم للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة النفس على فعل الطاعات واجتناب المنكرات؛ حتى تزكو نفوسهم، وترق قلوبهم، وتنجلي عنها تلك السحب الكثيفة من الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات غذاء لأرواحهم، وأنسًا لقلوبهم، وسببًا لسعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
ولله در القائل:
يا خـادم الجسم كم تشقى لخدمتـــه      أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها      فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
فضل الأيام العشر
ومما يدل على فضل هذه العشر: يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري : والذي يظهر أن السبب امتياز عشر ذي الحجة،  أن الله  شرع فيها من الأعمال الجليلة الفاضلة ما لم يشرعه في غيرها من الأيام، وأنها تختص باجتماع أمهات العبادة فيها من الصلاة والصيام والصدقة والحج والتكبير والذكر والأضاحي يوم العيد، ولا يتأتى ذلك في غيرها.
ولهذا فإن إدراك المسلم لهذه العشر المباركة لمن أعظم نعم الله عليه، وواجبه استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بالاجتهاد في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات.
وإن أفضل ما تقرب به العباد إلى ربهم القيام بما افترضه عليهم، وأداؤه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: }من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه{[ أخرجه البخاري].
لقد جمعت تلك الأيام العشر الخير من أطرافه ، فهي خير الأيام وأعلاها مقاما . أقسم بها الله سبحانه في كتابه بقوله تعالى : " وليال عشر" إذ قال ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم  ،ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: هي عشر ذي الحجة .
فإن الله  تعالى أقسم بها جملة ، وببعضها خصوصا ً.
قال الله  تعالى {وَٱلۡفَجۡرِ (1) وَلَيَالٍ عَشۡرٖ (2) وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ (3) }. 
وإنما أقسم الله  تعالى بها حتي تكون موسما مشتركا بين السائرين لأداء فريضة الحج  والقاعدين عن أداء الفريضة .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وأخرج النسائي من حديث جابر رفعه قال : " العشر عشر الأضحى ، والشفع يوم الأضحى ، والوتر يوم عرفة ".
لـيال العـشـر أوقـات الإجـابة         فـبادر رغــبـة تـلحـق ثـوابـه
ألا  لا وقــت للإهــمال فــيـــه        ثـواب الخـيـر أقـرب للإصـابة
في أوقـات الليـالي العـشر حقاً          فـشمـر واطـلبـن فـيها الإنابة
ورفع النبي  (ﷺ) شأن العمل الصالح فيها أيما رفعة ،عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ﷺ) قال :}ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام  يعني أيام العشر قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء { ] أخرجه البخاري[
 وأمر فيها (ﷺ) بكثرة الذكر ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ﷺ) قال :} ما من أيام أعظم ولا احب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد { ] أخرجه الإمام أحمد[
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال:} أفضل الأيام يوم عرفة{   ] رواه ابن حبان في صحيحه [
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله (ﷺ): }ما من عمل أزكى عند الله  تعالي ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى{   ]رواه الدارمي وحسنه الألباني[.
ـ وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل ؟ 
فأجاب: " أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان ، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة ".
ـ وقال ابن القيم مقارناً بين فضل تلك الأيام : " خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر" كما قال (ﷺ): } إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر{.] رواه أبو داود[
ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى ، وهو اليوم الحادي عشر .
وقيل : يوم عرفة أفضل منه ؛ لأن صيامه يكفر سنتين ، وما من يوم يعتق الله فيه
 الرقاب أكثر منه في يوم عرفة ، ولأنه سبحانه وتعالي يدنو فيه من عباده ، ثم تباهي ملائكته بأهل الموقف "  
ـ وقال بن رجب الحنبلي : " لما كان الله  سبحانه وتعالى  قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل أحد قادراً على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين".
أيها المسلمون : إن هذه الأيام من مواسم الخيرات، وقد فُتح لكم أوسع أبواب لجمع الحسنات، فهل من مشمر؟
وهل من متعظ؟
إنها ميدان التنافس في الخيرات، والتقرب إلى الله بأنواع الطاعات والعبادات، فبخٍ بخٍ! }وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26){ [المطففين].
أين مَن يبحثون عن الفرص الاستثمارية المضمونة الربح؟
بل وبنسبة عالية جدًّا، فالصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى يخبر فيقول، وتأملوا الألفاظ: }مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ وفي رواية:" أعظم"، وفي رواية:" أفضل"- إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ{.
إنها أيام لإقالة العثرات، ومغفرة الزلات، وتطهير القلوب والنفوس من الذنوب والسيئات، إنها أيام تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، أيام تبعث العزائم والنيات، وتثير الحنين والأشواق إلى أعظم وأطهر وأشرف بقعة على وجه الأرض، أيام فيها سلوة بل تعويض لمن يفوته الحج وزيارة المشاعر المقدسة، والوقوف على صعيد عرفة والمبيت بالمزدلفة ، فإذا كان صعُب علينا الوصول إلى البيت ، فإن الوصول إلى رب البيت سهل على كل مسلم يريد ذلك ،فهذه فرصته في العشر من ذي الحجة .
أيام العشر .... هي حجنا نحن من قعدنا عن حج البيت الحرام .
أيام العشر .... هي زادنا نحن من لم نرتدي ملابس الإحرام .
أيام العشر .... هي عوضنا نحن من لم يزر قبر النبي سيد الأنام .
أيام العشر .... هي غنيمتنا نحن من لم يقدر لنا اعتناق المقام .
أيام العشر .... هي فرصتنا لمغفرة الذنوب والأوزار والآثام .
ألا هل من عاقل يود اللحاق ... ؟  هل من مجتهد يرجو الفوز في السباق ؟
هل من مشمر للجنة ..؟ هل من يريد عفو الله ومنه ؟
قد نادي المنادي وصاح الحادي .
القافلة موعدها هلال ذي الحجة ولا عظم الله أجر المتخلفين .
مجالات العمل الصالح :
العمل الصالح أبوابه متسعة وليس له حد محدود ،وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ومنها :
 1ـ أداء الحج والعمرة :
وهو أفضل ما يعمل ، ويدل على فضله عدة أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) وغيره من الأحاديث الصحيحة .
2ـ الصيام :
صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها  وبالأخص يوم عرفة ولاشك أن جنس الصيام من أفضل الأعمال وهو مما اصطفاه الله لنفسه ، كما في الحديث القدسي :} الصوم لي وأنا أجزي به ، انه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي { ، ولقد كان النبي (ﷺ)يصوم تسع ذي الحجة، فقد أخرج النسائي وأبو داود وصححه الألباني عن بعض أزواج النبي  (ﷺ) أنها قالت: كان النبي (ﷺ) يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر .... "
قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر : " إنه مستحب استحباباً شديداً "
ـ وروى مسلم عن أبي قتادة أن النبي  (ﷺ)أمر بصيام يوم عرفة فقد سئل عن صوم يوم عرفة ، فقال : } يكفر السنة الماضية والباقية {
ـ وروى الطبراني عن ابن عمر أنه قال :} كنا ونحن مع رسول الله (ﷺ) نعدله بسنتين { وصححه الألباني .(أي صيام يوم عرفة) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) : }ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله ، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً { ]متفق عليه[ . (أي مسيرة سبعين عاماً ) .
وعن أبي قتادة عن النبي (ﷺ) قال:}صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده { ] رواه مسلم[.
وعلى المرأة الحائض أن تستغل هذه العشر المباركة ولا تفوت أجرها وهي لن تحرم إلا من صيام بعضها والصلاة فلتحرص على الذكر التكبير والتحميد والتهليل وإطعام الطعام وجميع أنواع البر.
3ـ التكبير والذكر في هذه الأيام :
لقوله تعالى :} وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (28){ وقد فسرت بأنها أيام العشر ، واستحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أحمد رحمه الله وفيه : }فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد {
وذكر البخاري رحمه الله أن سيدنا أبو هريرة  كان يخرج إلي السوق فيكبر ويكبر الناس بتكبيره ، وكان سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتي ترتج مني تكبيرا ..
وكان سيدنا عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يكبر بمني تلك الأيام وخلف الصلوات وعلي فراشه وفي فسطاطه وممشاه تلك الأيام جميعا .
ـ وكان التابعي الجليل سعيد بن جبير " إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه "
وروي عنه أنه قال : " لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر"  يريد قراءة القرآن وصلاة الليل .
فهل تود أن تسابق مع سيدنا عمر وسعيد أم ترضي أن تبقي في الظل مع العبيد .  وروى إسحاق رحمه الله عن فقهاء التابعين رحمة الله عليهم انهم كانوا يقولون في أيام العشر " الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد" .
ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق والمساجد وغيرها ، لقوله تعالى : }لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (37){ ] الحج[ . ويشرع في هذه الأيام التكبير المطلق في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد ، ويشرع التكبير المقيد وهو الذي يعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة ، ويبدأ لغير الحاج من فجر يوم عرفة ، وللحجاج من ظهر يوم النحر ، ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق .
4ـ التوبة والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب :
حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة ، فالمعاصي سبب البعد والطرد ، والطاعات أسباب القرب والود ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال : }ان الله يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه { ]متفق عليه[ .
وحري بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح والإقلاع عن الذنوب والمعاصي , فإن الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه وتحجب قلبه عن مولاه .
وعليه أيضا أن يستقبل مواسم الخير عامة بالعزم الصادق الجاد على اغتنامها بما يُرضي الله عز وجل , فمن صدق الله صدقه الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69) } ]العنكبوت[.
 كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات:
 كالصلاة والصدقة والجهاد والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو
ذلك فإنها من الأعمال التي تضاعف في هذه الأيام ، فالعمل فيها وان كان مفضولاً فأنه أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيرها وان كان فاضلاً حتى الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال إلا من عقر جواده واهريق دمه .
 تشرع الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق :
وهو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين فدى الله ولده بذبح عظيم ،وقد ثبت أن النبي (ﷺ)}ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما { ]متفق عليه[ .
7ـ مشاركة الحجاج في أمر الحلق والتقصير :
روى مسلم رحمه الله وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي (ﷺ) قال : }إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضّحي فليمسك عن شعره وأظفاره {
وفي رواية ( فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي ) ولعل ذلك تشبهاً بمن يسوق الهدي ، فقد قال الله تعالى : }وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ {
وهذا النهي ظاهره انه يخص صاحب الأضحية ولا يعم الزوجة ولا الأولاد إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه ، ولا بأس بغسل الرأس ودلكه ولو سقط منه شيء من الشعر .
 إحرام القلب :
إن للقلب إحراماً كإحرام الجسد ، وإحرام القلب يشترك فيه الحاج وغيره فيتزيا كل مسلم بالإخلاص لكل عمل ، وكما أن إحرام الجسد له محظورات ، كذلك إحرام القلب له محظورات منها: الرياء والسمعة والحسد والضغينة ...الخ.
والعمل الصالح يشترك فيه الحاج وغيره وشرطي قبول العمل يشترك فيهما الحاج وغيره }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2){ ]الملك[ .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه وأصوبه" قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه "؟
فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل ، وإذا كان صوابا ، ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا.
والخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة وينبغي أن يسأل المسلم نفسه سؤالان قبل الفعل : لمَ أفعل ، وكيف أفعل ، فالأول سؤال عن الإخلاص ، والثاني سؤال عن الاتباع ، وقد كثر سؤال الحجيج عن مميزات الحملات من أكل وشرب وراحة وقليل من سأل عن: لمَ أحج ؟
وكيف أحج؟  ومَن طلب الإخلاص رجا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم الخلاص.
كذلك يشترك الحاج وغيره في معنى التلبية "لبيك اللهم لبيك" إجابة يا رب لك بعد إجابة وطاعة لك بعدها طاعة .
ذكر ابن رجب في اللطائف : أنه رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجهم فوقف يبكي ويقول : واضعفاه وينشد على أثر ذلك :
فقلت دعوني واتباعي ركابكم       أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
ثم تنفس وقال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت ، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت !
يا حسرة مَن انقطع عن العمل الصالح في هذه العشر!!
يا حسرة مَن فتحت له الدنيا أسواقها وشهواتها فانغمس وضيع مواسم العبادة فيها.
أثر العمل الصالح في حياة المسلم :
1ـ الشعور بسموّ النفس وارتقائها :
فالفرق بين مَن يعمل عملاً صالحاً وآخر يعمل عملاً غير صالح كبير ، فالانسان المؤمن يرى أنّ روحه كبيرة ولا بدّ أن تصدر عنها الأعمال الجليلة التي تتجه نحو الأهداف النبيلة ، ففي النفوس الكبيرة تصدر عادة الأعمال الكبيرة ، ليس بحجمها فقط بل بمضمونها وجوهرها أيضاً .
أمّا الذي يعـمل عملاً غير صـالح ، فقد يجد لذّة طارئة سـريعة الاشتعال سريعة الانطفاء ، فهو لا ينطلق إلاّ من إطار ذاته الضيِّق ، في مزاجه ومصلحته ، ولا يعيش الآفاق العالية والواسعة وغير المنتهية التي يحياها مَن يعمل صالحاً ، فسرّ العمل الصالح أ نّه يرتبط بالله ، ولذلك فهو أوسـع دائرة من المحـيط الذي يتحرّك فيه ، وأدوَم بقاء وأعمق جذوراً من أيّ عمل آخر قال تعالى }يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ (6){ ] الانشقاق[
ومن ذلك نعـرف لماذا وعد الله الذين آمنـوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض ؟ لأنّهم الأجدر في قيادة الانسانية إلى شواطئ الأمن والخير والفلاح والصلاح والحق والعدل قال تعالي } وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (55){ ]النور[ 
2 ـ إشاعة معاني الإنسانية في المجتمع :
إنّ الأعمال الصالحة بما تتحرّك به من دوافع الخير تشيع الرحمة والمحبّة والتعاون والبرّ والمفاداة من التضحية والايثار ، والتواصي ، والتناصـح ، والبناء ، والانتاج .. إنّها كلبنات البناء التي تجتمع مع بعضها البعض ليرتفع البنـيانُ شاهقاً ، ويسود الخير في كل البقاع ، ويقوم مجتمع التكافل آمناً مطمئناً ، سعيداً رغداً يأتيه رزقه من كلّ مكان . إنّه مجتمع الجنّة المصغّرة .. مجتمع العزّة والكرامة .. مجتمع اليد العُليا التي تنتج ، لا اليد السفلى التي تستهلك .
 3 ـ التحفيز علي تفعيل نوايا الخير في النفوس :
لاشك أن الأعمال الصالحة  أو الصالحات محفِّزة بطبيعتها على تفعيل نوايا الخير في النفوس ..
ولذا فهي ترفع من نسبة القدوات الصالحة في المجتمع بما يغري الآخرين على التنافس في عمل الخيرات، وذلك بعكس ما لو كان المجـتمع راكداً أو ميِّـتاً يعـيش أبنـاؤه التواكل والكسل والاسترخاء والمباذل والترّهات واللّهو والعبث ، فهذه عوامل تدعو إلى الخمول والخمود والفساد والبطر ، فيما يمكن أن نشبِّه الذين يعملون الصـالحات بخلايا النحل ، فهم في حركة دائبة متعاونة متكافلة متواصلة ومنتجـة ، لا تدع وقتاً مهدوراً ولا فرصاً مضيِّعة ولا عضواً خاملاً .
 4 ـ ارتقاء بالنفس وبناء الشخصية وتقوية للإرادة وكسب للخبرة والتجربة: بالأعمال الصالحة يمكننا أن نزاحم الاُمم الراقية والمتحضِّرة بالمناكب ، وأن ننافس دول العالم المتقدِّمة ، وأن نفوِّقها في العديد من مجالات العلم والمعرفة ، فطالما أنّ جذوة الفعل المحرِّك في الأعمال الصالحة لا تنطفئ فإنّها ستقودنا إلى أعلى المراتب وأرقى الدرجات ، فالاتصال بالله سبب لكلّ رقيّ .
إنّ الاسلام يريد منّا أن تكون ساحة العبادة هي الحياة كلّها وليس المسجد فقط ، بل يريد من المسجد أن يكون نقطة الانطلاق نحو الساحات والأرحب للأعمال الصالحة في حقول العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، لنسعد وتسعد الحياة من حولنا . 
5 ـ السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة :
إنّ الذين يعملون الصالحات سُعداء ،أقوياء ،أعزّاء في الحياة الدنيا ،وهم المفلحون الناجحون الفائزون في الحياة الآخرة .
إنّ الاُجور التي ستُدفع في نهاية المطاف قبال العمل الصالح كثيرة ومرتفعة ومتعدِّدة الأشكال ، منها :
ـ الأمنُ يومَ الفزع الأكبر :
قال تعالى }مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (69){ ] المائدة[
ـ الدخول إلى الجنّة:
 قال تعالى : }إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا (60){ ] مريم[.  
ـ الجزاء الحسن والجزاء الضعف :
 قال تعالى : }وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ (88){ ] الكهف[، وقال تعالى : إِلَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَزَآءُ ٱلضِّعۡفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمۡ فِي ٱلۡغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ (37){ ] سبأ[.  
ـ استبدال السيِّئات حسنات :
 قال تعالى : }إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا (70){ ] الفرقان[
ـ الحصول على الدرجات العُلى :
 وهي الدرجات التي يمكن أن نعتبرها فوق الدرجات الفائزة ، لكن حدودها ومقاديرها عند الله صاحب العطاءات الواسعة : قال تعالى: }وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ (75) { ] طه[.
ـ الودّ الربّاني :
 قال تعالى :}إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا (96){ ] مريم[. ولكم أن تتخيّلوا ودّاً يجعله الرّحمن لعبده الذي يعمل صالحاً ، ودّاً منه يفيضه عليه فيُشعره بحلاوة الرضوان والاُنس بالقرب ، وودّاً من ملائكته الذي سيحتفون به ، وودّاً من أهل الجنّة الذين سيجاورهم في منازلهم الكريمة .
ـ  سبب من أسباب النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة :
قال تعالي :}وَٱلۡعَصۡرِ (1) إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ (3){ . ]العصر[ .
ـ المغفرة والأجر الصالح :
 قال تعالي:}وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا (29){ ]الفتح[ .
ـ الحياة الطيبة الكريمة :
قال تعالي: }مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (97){ ]النحل [
ـ الأمن من الحسرة والندم  يوم القيامة :
 قال تعالي: }يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ (6) فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ (7) وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ (8){ ]الزلزلة [
وقال تعالي : }وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (39) { ]النور[ .
الخاتمة :
احرص أخي المسلم على اغتنام هذه الفرصة السانحة قبل أن تفوتك فتندم حين لا ينفع الندم .
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة ، فما منها عوض ولا لها قيمة.
المبادرة المبادرة بالعمل والعجل العجل ، قبل هجوم الأجل ، قبل أن يندم المفرط على ما فعل ، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحا فلا يجاب إلى ما سأل ، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل ، قبل أن يصير المرء مرتهنا في حفرته بما قدم من عمل .
فعلي المسلم أن يخطط لهذه الأيام العشر ولا يجعلها تفوته لأن الفرصة تأتي مرة واحدة في العمر.
تمت بفضل الله وتوفيقه
========
رابط dpc
https://top4top.io/downloadf-2717ymutj1-doc.html
رابط pdf

https://top4top.io/downloadf-27170ga1q2-pdf.html


ليست هناك تعليقات: