6 أبريل 2018

من دروس الإسراء والمعراج الفطرة الإنسانية وسبل الحفاظ عليها







من دروس الإسراء والمعراج

الفطرة الإنسانية وسبل الحفاظ عليها

ـ الحمد لله رب العالمين .. اختار ا لهذه الأمة الفطرة النقية ، وجعلها أخص خصائص دينها ، فقال تعالى ( فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)) الروم .

 ـ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. فطر الناس علي الإسلام وجعل الفطرة باقية وثابتة فقال تعاليصِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونحن له عابدون )[البقرة:138].
 ـ وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. صاحب الفطرة السليمة وبين الأصل في الإنسان الفطرة السليمة .. فعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، كَمَا تُنَاتَجُ الإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.)). رواه مسلم ، وأحمد،و أبو داود. 
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
 أما بعــــد .. فيا أيها المؤمنون ..
 في رحلة الإسراء والمعراج رأي النبي صلي الله عليه وسلم من آيات ربه الكبري ،قال تعالي ( لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا) الإسراء .
وقال تعالي(ولقد رأي من آيات ربه الكبري ) النجم. فعالم الغيب بالنسبة إلينا خبر، أما بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام شهود رأى بعينه مصائر البشر، مصائر العصاة، مصائر الطائعين، كل شيء أخبرنا الله به في القرآن الكريم بالنسبة إلينا خبر صادق، لكن بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام شهود واقع، فهو قد أراه ما سيكون، والله عز وجل كما يقولون: علم ما كان، وعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
 ومن آيات الله العظيمة أن الله تعالي هدى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الفطرة ،      فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى قال فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة قال ولقيت عيسى قال فنعته قال ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني الحمام ورأيت إبراهيم قال وأنا أشبه ولده به قال وأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر خمر فقيل لي خذ أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقيل لي هديت للفطرة أو أصبت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك . قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح . 
هذا يدل دلالة واضحة علي أن الإسلام هو دين الفطرة ’ أى الدين الذى ينسجم فى عقيدته و أحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية الأصيلة ’ فليس فى الإسلام شىء يتعارض و الطبيعة الأصيلة فى الإنسان ولو أن الفطرة كانت جسماً ذا طول وأبعاد ’ لكان الدين الإسلامى الثوب المفصل على قدره . إن سلامة الفطرة لبُّ الإسلام ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة، عليل القلب. لذلك كان حديثنا عن (من دروس الإسراء والمعراج الفطرة الإنسانية وسبل الحفاظ عليها)
وذلك من خلال تلك العناصر الرئيسية التالية :ـ 
1ـ مفهوم الفطرة . 
2ـ أثر الفطرة في حياة الإنسان . 
3ـ أسباب انحراف الفطرة الانسانية .
4ـ السبيل للحفاظ علي الفطرة. 
5ـ الخاتمة .

العنصر الأول : مفهوم الفطرة :ـ
اختلف العلماء في تعريف الفطرة: فقال بعضهم: الفطرة: الخلقة، والفاطر: الخالق. قال تعالي﴿ قل أغير الله أتخذ وليًّا فاطر السموات والأرض ﴾ وقوله تعالى﴿ وما لي لا أعبد الذي فطرني ﴾؛ أي: خلقني. وقال تعالي (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30))الروم .

وقال صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟) فكأن معنى (كل مولود يولد على الفطرة)؛ أي: على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة سالمًا في الأغلب خلقة وطبعًا، مهيأ لقَبول الدين، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية، أدركت الحق ودين الإسلام. وهي الحالة التي خلق عليها النوع الإنساني، فهي صالحة لتقبل الحق والخير، وهي صالحة لصدور الفضائل الإنسانية، وإنما بعثت الرسل مُذكِّرين ومعلمين لأصحاب الفطر السليمة، ومنذرين ومقيمين للحجة على الذين فسدت فطرتهم بسبب الأهواء والجهل والبيئة المنحرفة التي تحيط بهم (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين)يس. 
والفطرة هي الإسلام فكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ :(أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلامِ ، وَكَلِمَةِ الإِخْلاصِ ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ “رواه أحمد 

العنصر الثاني :أثر الفطرة في حياة الإنسان :ــ
إن للفطرة السليمة أثر في حياة الإنسان منها :ـ
1ـ الفطرة هي الطريق إلي توحيد الله وعبادته وتعظيمه : ـ
فالإنسان بفطرته منذ ولادته يتجه إلى التوحيد الخالص وإلى عبادة الله تعالى وحده , عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، كَمَا تُنَاتَجُ الإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.)”. (رواه مسلم) 

وها هو الخليل إبراهيم عليه السلام يضرب لنا مثلا رائعا في أن الفطرة السليمة تتجه إلى عبادة الله وحده , قال تعالى : ” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)سورة الأنعام . 


سئل أعرابي عن الدليل فقال : البعرة تدل على البعير ، وأثر السير يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج . وبحار ذات أمواج ، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير؟ قال سبحانه{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف:87 ] ، { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } [ غافر:87 ] . 
ولقد أيقن كفار قريش هذه الحقيقة التي لا تتصادم مع الفطرة السليمة , قال زيد بن عمرو بن نوفل الذي ترك عبادة الأصنام قبل أن يبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يحكي عن عقيدته في الجاهلية ويقول :

أرب واحد أم ألف رب ******* أدين إذا تقسمت الأمور 

عزلت اللات والعزى جميعاً ****** كذلك يفعل الجلد الصبور 
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ******* ولا صنمي بني عمرو أزور
 ولكن أعبد الرحمن ربي ******* ليغفر ذنبي الرب الغفور
 فتقوى الله ربكم احفظوها ******* متى ما تحفظوها لا تبوروا
 ترى الأبرار دارهم جنان ******* وللكفار حامية سعير 
وخزي في الحياة وإن يموتوا ***** يلاقوا ما تضيق به الصدور


وانظر إلى قصة عمرو بن الجموح مع صنمه والتي تؤكد أن الفطرة السليمة توجه الإنسان إلي توحيد الله تعالي ,
 فقد كان عمرو بن الجموح سيدا من سادات الأنصار وكان له صنم اسمه مناف .. يتقرب إليه .. ويسجد بين يديه مناف و مفزعه عند الكربات وملاذه عند الحاجات ..صنم صنعه من خشب .. لكنه أحب إليه من أهله وماله وكان شديد الإسراف في تقديسه وتزيينه وطييبه وتلبيسه وكان هذا دأبه مذ عرف الدنيا حتى جاوز عمره الستين سنة .. فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة .. 
وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه داعيةً ومعلماً لأهل المدينة .. 

أسلم ثلاثة أولاد لعمرو بن الجموح مع أمهم دون أن يعلم .. فعمدوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر هذا الداعي المعلم وقرؤوا عليه القرآن ،وقالوا : يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في إتباعه ؟ فقال : لست أفعل حتى أشاور مناف فأَنظُرَ ما يقول !!
 ثم قام عمرو إلى مناف ،وكانوا إذا أرادوا أن يكلموا أصنامهم جعلوا خلف الصنم عجوزاً تجيبهم بما يلهمها الصنم في زعمهم ، أقبل عمرو يمشي بعرجته إلى مناف ، وكانت إحدى رجليه أقصر من الأخرى ،فوقف بين يدي الصنم ،معتمداً على رجله الصحيحة .. تعظيماً واحتراماً ، ثم حمد الصنم وأثنى عليه ثم قال : يا مناف لا ريب أنك قد علمت بخبر هذا القادم ولا يريد أحداً بسوء سواك .. وإنما ينهانا عن عبادتك .. فأشِرْ عليّ يا مناف، فلم يردَّ الصنم شيئاً .. فأعاد عليه فلم يجب ،فقال عمرو : لعلك غضبت ،وإني ساكت عنك أياماً حتى يزول غضبك ، ثم تركه وخرج فلما أظلم الليل ،أقبل أبناؤه إلى مناف ، فحملوه وألقوه في حفرة فيها أقذار وجيف .. فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه لتحيته فلم يجده .. فصاح بأعلى صوته : ويلكم !! 
من عدا على إلهنا الليلة ،فسكت أهله .. ففزع واضطرب ،وخرج يبحث عنه ..فوجده منكساً على رأسه في الحفرة..فأخرجه وطيبه وأعاده لمكانه..وقال له : أما والله يا مناف لو علمتُ من فعل هذا لأخزيته ،فلما كانت الليلة الثانية أقبل أبناؤه إلى الصنم ،فحملوه وألقوه في تلك الحفرة المنتنة ،فلما أصبح الشيخ التمس صنمه ، فلم يجده في مكانه ، فغضب وهدد وتوعد ، ثم أخرجه من تلك الحفرة فغسله وطيبه ..ثم ما زال الفتية يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح فلما ضاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال : ويحك يا مناف إن العنز لتمنع أُسْتَها ،ثم علق في رأس الصنم سيفاً وقال : ادفع عدوك عن نفسك ..فلما جَنَّ الليلُ حمل الفتيةُ الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيها النتن ، فلما أصبح الشيخ بحث عن مناف فلما رآه على هذا الحال في البئر قال : 

رب يبول الثعلبان برأسه * * * لقد ذل من بالت عليه الثعالب

 فلو كان ربا كان يمنع نفسه * * * فلا خير في رب نأته المطالب
 برئت من الأصنام في الأرض كلها * * * وآمنت بالله الذي هوغالب

ثم دخل في دين الله وما زال يسابق الصالحين في ميادين الدين ..وانظر إليه لما أراد المسلمون الخروج إلى معركة بدر منعه أبناؤه لكبر سنه وشدة عرجه .. فأصر على الخروج للجهاد.. فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبقاء في المدينة .. فبقي فيها ..فلما كانت غزوة أحُد، أراد عمرو الخروج للجهاد ، فمنعه أبناؤه ، فلما أكثروا عليه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. يدافع عبرته ويقول : ( يا رسول الله إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد قال : إن الله قد عذرك ، فقال يا رسول الله والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ..فأذن له صلى الله عليه وسلم بالخروج .. فأخذ سلاحه وقال : اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي ،فلما وصلوا إلى ساحة القتال ،والتقى الجمعان وصاحت الأبطال ورميت النبال ،انطلق عمرو يضرب بسيفه جيش الظلام ويقاتل عباد الأصنام حتى توجه إليه كافر بضربة سيف كـُتِبَت له بها الشهادة، فدفن رضي الله عنه ،ومضى مع الذين أنعم الله عليهم ..وبعد ست وأربعين سنة في عهد معاوية رضي الله عنه نزل بمقبرة شهداء أحد سيل شديد غطّى أرض القبور فسارع المسلمون إلى نقل رُفات الشهداء فلما حفروا عن قبر عمرو بن الجموح فإذا هو كأنه نائم ليّن جسده تتثنى أطرافه .. لم تأكل الأرض من جسده شيئاً . هذه هي الفطرة السليمه . وقد رأينا كيف يميد العالم اليوم إذ تنكب سبيل الفطرة في نكد وضيق ، ولهاث لا يفتر ، مصداقاً لقول ربنا عزوجل وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ ) سورة طه” .

2ـ الفطرة هي الطريق للإستجابة للحق :
الفطرة هي المرآة الصافية النظيفة التي ينطبع عليها الشيء الذي أمامه وهكذا طبيعة المرآة إنها تعكس ما أمامها ، فلو أن دخاناً كثيفاً طمسها لغيَّر صفاءها ، وغيّر قابليتها للانعكاس وعندئذٍ يأتي الدليل ، فالإيمان بالله عز وجل يمكن أن يكون عن طريق الفطرة السليمة ، ويمكن أن يكون عن طريق الدليل العقلي والبرهان العلمي . 

فعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( جئت تسأل عن البرّ ؟ ) ، قلت : نعم ، فقال : استفت قلبك ، البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك المفتون ) رواه أحمد بن حنبل ، و الدارمي بإسناد حسن . 
ها هو الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي : وهو من دوس زهران ، من السراة سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ، فركب جمله ، وأخذ متاعه ، ولبس ثيابه.وكان الطفيل شاعرا مجيدا ، وخطيبا فصيحا ، يعرف جزل الكلام من ضعيفه .وصل إلى مكة ، ولكن الدعايات المغرضة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم تتحرك من المشركين لتشويه سمعة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقول المريض ، والتعليقات المرة . دخل مكة ، فلقيه كفار قريش .فقالوا : إلى أين يا طفيل ؟
 قال : أريد هذا الذي يزعم انه نبي قالوا : ما أشبه ذلك تريد ؟
 قال : أريد أن اسمع كلامه ،إن كان حقا اتبعته ،وإن كان باطلا تركته .قالوا : إياك وإياه ،إنه ساحر،انه شاعر،انه كاهن ، انه مجنون ، أحذر لا تسمع كلامه .
 قال الطفيل : فوالله ،ما زالوا بي يخوفونني حتى أخذت القطن فوضعته في أذني .لكن الحق أقوى من القطن ، والقران ينفذ من خلال القطن إلى القلب .قال : ودخلت الحرم يوما ، والقطن في أذني لا اسمع شيئا . لكن أراد الله عز وجل أن يفتح أذنيه ؛ لأن بعض الناس له أذنان وعينان وقلب ، لكن كما قال سبحانه : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (لأعراف:179) أتى فرأى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : فلما رأيت وجهه عرفت انه ليس بوجه كذاب .

لو لم تكن فيه آيات مبينة *** لكن منظره ينبئك بالخير


قال الطفيل : فسمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ ، لكن لا اسمع ؛ لأن في أذني القطن ، فقلت لنفسي : عجبا لي ، أنا رجل شاعر فصيح ، اعرف حسن الكلام من قبيحه ، لماذا لا أضع القطن ، فإن سمعت الكلام طيبا وإلا تركته ؟! فوضع القطن ، وهذه هي الخطوة الأولى .

وبدأ صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات القرآن . فلما سمع الكلام وقع في قلبه . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ثم قال : يا رسول الله ، أنا من دوس ( هو سيد قبيلة دوس ) .
فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعود داعية إليهم . فاسلموا جميعا ودخلوا في دين الله أفواجا ، فسبحان من يهدي .وأتى بهم ، رضي الله عنه وأرضاه ، في موكب عظيم ، ودخل بهم بعد الهجرة إلى المدينة في جيش عرمرم ، حتى ثار الغبار من رؤوسهم ، وكلهم في ميزان الطفيل . وكان من حسناته : أبو هريرة ،صاحب الحديث ، وأستاذ المحدثين في الإسلام ، وابر حافظ في الأمة المحمدية ، والراوية العملاق ، رضي الله عنه و أرضاه . واستمر الطفيل يدعو ، ويجاهد ، وكان قد باع نفسه لله ، حتى قتل في اليمامة شهيدا رضي الله عنه وأرضاه .

3ـ الفطرة أصل في الإستقامة :ـ

 الاستقامة هي الأصل، والانحراف هو الذي يتنافى مع الفطرة ومع الأصل، ولذلك فإننا نقول: إن الذين يأخذون بهذا الحق وبهذا الدين هم الذين يسيرون على الطريق المستقيمة، لا شك ولا ريب في ذلك، وإن الذين ينحرفون عن هذه الطريق المستقيمة هم الذين تذهب بهم شياطين الإنس والجن هنا وهناك إلى مذاهب شتى. وحقيقة الاستقامة أن يثبت الإنسان على دينه، فلا يغير ولا يبدل ولا يتأثر بالحياة من حوله . ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه: (قرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ[الأنعام:153] 
ثم خط خطاً طويلاً معتدلاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله. ثم خط عن يمينه وعن شماله طرقاً متعددة وقال: هذه هي السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سُتُر مرخاة، فإذا أوشك الإنسان أن يفتح واحداً من هذه السُتُر المرخاة ناداه مُنادٍ: ويحك يا عبد الله لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تَلِجْه، وإن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة). فهذه الاستقامة الإيمانية التي تتمثل في التمسك بالحق والبعد عن المعاصي بأنواعها ،ومعرفة أمور الدين ، والإحاطة بتعاليمه ، ورعاية الأخلاق لا تتحقق إلا بالفطرة السليمة . 
وهذا يؤهل المسلم ليكون من حملة الرسالة الخالدة الذين قال الله سبحانه فيهم (إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [ فصلت 30].

 العنصر الثالث :أسباب انحراف الفطرة الانسانية :ـ
1- اتباع الهوى: 

قال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) الجاثيه .
 وقال تعالي ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) ) القصص . 
فاتباع شهوات النفس واهوائها يصد الانسان عن الدين وهو يعلم انه يسير في غير الطريق الصحيح.

2- التمسك بالعادات:ـ 

قال تعالى” بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ( 22)الزخرف فالذي أدي بالسابقين قديما أن ينحرفوا عن الفطرة اتباعهم لدين الآباء والأجداد قال تعالي (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) (هود 87) . 
فكثير من الناس ينحرف عن منهج الإسلام بحجة إننا نشئنا وجدنا أهلنا كده ، في الزواج وفي المآتم وفي الملبس وفي كثير من أمور الناس المختلفة. فالتقاليد الاجتماعية لها اثر في تحويل هذه الفطرة من التمسك بالدين الى التمسك بالعادات التي تتنافى مع الاسلام.
3- الغفلة:

 ومعناها التناسي وعدم الاهتمام قال تعالى ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (الأعراف 172 ).
 وما من إنسان غفل عن الله تعالى في وقت من الأوقات أو أنكر وجود الله متأثرا بالمضللين إلا وجاءت عليه أوقات سمع فيها نداء ضميره وصراخ ذاته الباطنية، وهتاف وجدانه، والكل يقول له إنك صنعة الله وعبد الله ومخلوق الله.. وقد عبر القرآن الكريم في أكثر من آية عن الشعور الموجود في كيان كل الإنسان، بأن هذا الشعور بوجود الله يتحول أحيانا إلى نداء مسموع ترفع فيه الأيدي، وتخضع النفوس وتنكس الرؤوس لعظمة الله جل جلاله، قال الله تعالى:وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُرُّ دَعَانَا لجِنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضَرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)( يونس 12) . 
وقال عز وجل: ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) ( النحل 53 : 54).

4ـ البيئة الفاسدة :ـ 

إن من أهم أسباب انحراف الفطرة البيئة الفاسدة التي تتمثل في الرفقاء لذلك حذر النبي صلي الله عليه وسلم من الجليس السوء وشبهه بنافخ الكير، ونافخ الكير لابد من أن ينالك منه أذى لو جلست عنده، (فإما أن يحرق ثيابك) بما يقدم لك من المعاصي، (وإما أن تجد منه رائحة خبيثة)، إذا لم يصل إلى درجة إحراق ثيابك.
 ولذلك نقول: إن هؤلاء الذين ضلوا الطريق على أيدي هؤلاء الفسقة حينما أساءوا اختيار الجلساء هؤلاء لا يلومون إلا أنفسهم، كما أننا نوجه كلمة إلى هؤلاء الآباء الذين استرعاهم الله عز وجل على هذه الذرية التي ربما أن كثيراً منها لم يُميز بعد بين الحق والباطل، نلوم هؤلاء الآباء حينما لا ينظرون فيمن يجالس أبناءهم، وحينما لا يعرفون من يخالط هؤلاء الأبناء. فاحذر -أيها المسلم- من جلساء السوء، فإنهم ينتشرون في بلاد المسلمين كما يجري الشيطان من بني آدم مجرى الدم، بل إنهم هم شياطين الإنس الذين يقول الله عز وجل عنهم: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، ولعل أكبر سبب من أسباب مقارنة هذا الشيطان الفاسق لهذا الرجل الصالح ليحرفه عن الطريق هو أن ذلك الصالح عشا عن ذكر الرحمن، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:36-38].
 فهذا الشيطان لا يفارقه حتى يدخله النار، ثم إذا أدخله النار بدأ ذلك المقارن يتمنى أن لو لم يغتر بهذا الجليس الفاسق. وهذا الرجل الذي قتل مائة نفس ثم أرشده العالم إلى أن يتوب وقال له: ” لا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء “.

نماذج لأصحاب الفطرة الفاسدة :ـ


 لقد قص القرآن الكريم قصص أقوام فسدت فطرتهم الفساد الذي لا يرجى معه صلاح وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء , فحقت عليهم كلمة الله ونزل بساحتهم الدمار الذي لا تنجو منه ديار.فقال تعالي ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
 ومن أولئك الأقوام العُصاة، الذين نزَل بهم بأسُ الله الشديد، قومٌ كفروا بربِّهم، وزادُوا على الكفر ارتكابَ فاحشة لَم يُسبقوا إليها، خالفوا فيها الفطرة التي فطَر الله الخَلْق عليها، فوَقَعوا في تلك الفاحشة العظيمة والفَعلة القبيحة، التي تَأْنَف منها المخلوقات، حتى البهائم والعَجماوات، لَم تَصنع صَنيعهم، ولَم يَزَل نبيُّهم – عليه السلام – يُحذِّرهم ويُنذرهم، ويُذكِّرهم بربِّهم، ويُبيِّن لهم شناعة ما اقترَفوه ووَلَغوا فيه، فمرَّة يقول لهم: ﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [الأعراف: 80 – 81]، 
ومرَّة يقول: ﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [النمل: 54 – 55]. ولكنَّهم لَم يَنتهوا، بل طَغوا واستكبَروا وتحدَّوا؛ ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون ﴾ [النمل: 56]. 

فلمَّا نكَصوا على أعقابهم، وأصرُّوا على كفرهم ومعصيتهم، جاء القدر المقدور، والأمر الذي لا يُرَدُّ من ربِّ العالمين، فعُذِّبوا وأُهلِكوا بعذاب لَم يَسبق مثله لأُمة من الأُمم؛ جزاءً لهم على كفرهم وفِعلهم هذه الفاحشة التي لَم يُسبقوا إليها؛ ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 82 – 83].

العنصر الرابع : السبيل للحفاظ علي الفطرة :ـ 


إن من مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على الفطرة وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها ، وهذه بعض الأسباب التي تؤدي للحفاظ علي الفطرة الإنسانية السليمة :ـ

1ـ الإهتداء بهدي النبي صلي الله عليه وسلم :ـ


 قال تعالى” رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل” فمهمة الرسل والدعاة تذكير الناس بما فطرهم الله عليه من التوحيد والايمان. 
وقال تعالي (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) الأحزاب .
 لقد جاءت رسالة النبي صلي الله عليه وسلم تلبي حاجات الفطرة الإنسانية وكذلك تلبي حاجات الجسد والروح ، وتخاطب العقل والعاطفة ، لا يطغى جانب على جانب ، تنزيل من حكيم حميد ، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، إن هذا التوازن هو من أعظم خصائص هذه الرسالة العظيمة، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رضى الله عنه ـ قال جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ‏.‏ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا‏.‏ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ‏.‏ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا‏.‏ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ‏”‏ أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَ صُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ‏”‏‏. أخرجه البُخَارِي. فهذا أتقى الخلق يرسم لنا الطريق السديد بالقيام بحق الجسد ، والسمو بالروح بأنواع العبادة ، فلا رهبانية تصطدم بحاجة الإنسان الطبيعية ، ولا بهيمية تهبط به إلى حمأة إشباع اللذات والغرائز ، لتتحقق بذلك السعادة ، فتشرق الروح ، وتطوف عوالم الملكوت ، ويأخذ الجسد نصيبه من اللذات الغريزية باعتدال يضمن بقاءه ، ويحقق مقاصد عمارة الأرض ، ويطلق العقل قدراته ، ويتحررمن قيود الخرافة والأوهام ، فتفيض النفس طمأنينة وسكينة. ثم إن هذه الفطرة تتجلى في ما شرعه الله من الحلال والحرام ، فقد قال ربنا عزوجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (157) ) الأعراف. وقال تعالى( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) )البقرة.
2ـ التامل في الكون:ـ فان فيه من الآيات والدلائل ما يجعل الانسان يعلن خضوعه لخالق هذا الكون العظيم. لقد وصل سيدنا إبراهيم إلي حقيقة الكون عن طريق التأمل والنظر في الكون إن التفكر في خلق الله تعالى ليزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ [فاطر:28] . 

ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك، 
يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، و لا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل. ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه .
 والفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات، فهو يورث الحكمة ويحيى القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل. 
قال أبو سليمان الداراني: ” إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شئ إلا رأيت لله فيه نعمة ولى فيه عبرة”.. 
ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبى الدرداء؟ قالت التفكر والاعتبار. 
وعن محمد بن كعب القرظى قال: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ”إذا زلزلت والقارعة” لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهز القرآن ليلتي هزا أو قال أنثره نثرا.
 وعن طاووس قال: “قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرا وصمته فكرا ونظره عبرة فإنه مثلي”.
 وقال تعالي (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ) النمل 88 . 

تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال

 ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
 تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان
 واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في الميدان .

فتأملوا يا أولي الألباب . والكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقًا كونه موحدًا خالقًا؟ وكونك عبدًا مخلوقًا، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تمجيدًا: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) لقمان 11 .


لله في الآفاق آيات لعل *** أقلها هو ما إليه هداك

 ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك 
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك ستجيب 
ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك 
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك 
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا 

إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى يا مجري الأنهار عاذبة الندى 


ما خاب يومًا من دعا ورَجَاك يا أيها الإنسان مهلا ما الذي بالله جل جلاله أغراك؟

3 ـ التربية الصالحة والبيئة الصالحة:ـ


لا شك أن الفطرة إذا حوفظ عليها فإنها تنموا على الخير وتثمر الخير، أما إذا أهملت أو غيرت انحرفت، ولقد وضع الإسلام العلاج العظيم للحفاظ علي الفطرة الإنسانية وهذا العلاج يتمثل في القيام بمهام التربية .. 

وهذه التربية تقوم بها الأسره وهي المسئولة الأولي عن انحراف الولد منذ نعومة أظفارة . 
ومن الأدلة القوية على ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ “ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }. 
ومن تمام مسؤولية الأبوين عن تربية أبنائهما محاسبتهما على التقصير في حقهما . فقد روى النسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:” إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع؟ 
حتى يسأل الرجل عن أهل بيته” 
وفي الحديث المتفق عليه “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل في أهل بيته راع ومسئول عن رعيته ،والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته”. 
هذه مسئولية الآباء والأمهات نحو أبنائهم والتي لا يمكن أن تعوض بغيرهم. وقد أثبتت الدراسات الميدانية أن غالب انحراف الناشئين عن الفطرة السليمة يرجع إلى انحراف المربي والقيّم على التربية وصدق القائل: 

وينشأ ناشئ الفتيـــــان منا على ما كان عوده أبوه
 وما دان الفتى بحجي ولكن يعوده التـــدين أقربوه

فإن علماء التربية يؤكدون أن أكثر من 90% من تربية الطفل إنما تتشكل من خلال التربية والبيئة التي يعيش فيها . 

فلَكَم رأينا في عالمنا اليوم من أبناء أهملهم الآباء وانشغلوا عنهم بحطام الحياة الدنيا وجمع الأموال ، وغفلوا -أو تغافلوا- عن أغلى شيء في هذا الوجود، وهو هذه الذرية، فتركوا أولادهم للشارع وأصدقاء السوء والإعلام الفاسد يبث سمومه فتنشأ الناشئة على الشر. ولقد أمر الله عز وجل هذا الإنسان أن يربي ذريته وفق منهج صحيح حتى يجني ثمارهم في الدنيا وفي الآخرة، وكثيرٌ من الناس قد غفل عن أغلى شيء في هذا الوجود وهو الذرّية، فنشأت ذرية منفصلة حتى عن العواطف البشرية، بل عن العواطف التي أعطاها الله عز وجل للحيوان، فأصبحنا نري العقوق والجحود والنكران .

وانظروا ماذا أنتجت التربية الصالحة والبيئة الصالحة :ـ


هوالسلطان محمد خان الثاني بن مراد الثاني العثماني فهو السلطان السابع في سلسلة آل عثمان الملقب بالفاتح وأبي الخيرات ولد سنة 833هـ وكان ترتيبه الثاني في أخوته حيث كان يسبقه أخ له اسمه علاء الدين استشهد في ميادين الجهاد .

 تربى محمد الثاني منذ نعومة أظافره على معاني البطولة والجهاد والقيادة والصلاح فقد كان أبو السلطان مراد الثاني يربي أبنائه ليكونوا قادة عظام يحملون الراية من بعده , لذلك فإن أباه عهد به لعدد من المربين والعلماء الأفاضل لتربيته على القيم الإسلامية والمعاني الجهادية ولقد لاحظ أبوه أن محمداً به ميل للترف واللهو وأنه لا يستجيب لمعلميه فسأل مراد الثاني عن معلم ومربي يستطيع أن يسيطر على الفتي محمد فقيل له العالم الرباني المولى ‘أحمد بن إسماعيل الكوراني’ فأحضره مراد الثاني وأعطاه قضيباً ليضرب به محمداً إذا لم يتعلم منه فذهب الكوراني لمحمد ودخل عليه والقضيب بيده فقال الله ‘أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري , فضحك محمد من ذلك الكلام فضربه الكوراني في ذلك المجلس ضرباً شديداً حتى خاف منه وختم القرآن في مدة يسيرة ثم علمه العلوم الإسلامية وقرأ عليه كتب التاريخ وظهر نبوغ محمد على سائر الأمراء واستطاع أن يتقن ثلاث لغات هي التركية والفارسية والعربية . يتولّى محمد الفاتح القيادة وهو ابن عشر سنوات، ثم يفتح القسطنطينية، وما أدراكم ما القسطنطينية؟! 
وعمره 22 عاماً فقط، ولعلّه يحق فيه ما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لتفتحنّ القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» (رواه البخاري في التاريخ الكبير). 
هذا نتاج البيئة الصالحة والتربية الصالحة، فما أحوجنا لإيجاد البيئة الصالحة والمربي الناصح الذي يقوم علي التربية وخاصة أن الله تعالي أمرنا بذلك فقال تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6) التحريم .


 العنصر الخامس :الخاتمة :ـ أيها المؤمنون .. 
علينا أن نعلم أن الفطرة السليمة هي الأصل لأنها ولدت مع الإنسان، ولا تغيير لها أبداً، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]. 
هكذا ولدت الفطرة مع الإنسان، والفطرة باقية ثابتة قال تعالي (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً )[البقرة:138].
 فعلينا أن نوقظها دائما في نفوسنا باستحضار عظمة الله تعالي ومعايشة كتابه الكريم وتذكر الموت وما بعده من حساب والرفقة الصالحة حتي ننجوا يوم القيامة (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم ) الشعراء . 
نسأل الله العظيم أن يحفظنا من المعاصي ما ظهر منها وما بطن وأن يعصمنا من الزلل وأن يحفظ شبابنا من رفقة السوء وأن ينور لهم بصيرتهم إنه نعم المولي ونعم النصير . اللهم آمين 
انتهت بفضل الله وتوفيقه

ليست هناك تعليقات: