تحميل word
تحميل pdf
الحمد لله رب العالمين .. أعزنا بالإسلام وشرفنا
بالانتساب إليه واختار لنبيه صلي الله عليه وسلم أعلي المقامات وأشرف المنازل
والدرجات فخاطبة بالعبودية فقال سبحانه وتعالي } سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1){ الإسراء .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد وهو علي
كل شيئ قدير ...حصن عبادة المخلصين من الشيطان وحزبه فقال تعالي } إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ
وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65){ الإسراء .
وقال تعالي } إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ (100){ النحل .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ... وصف نفسه بالعبودية
لله تعالي لما سألت أمنا عائشة رضي الله عنه أتصنع بفسك ماأري وقد غفر لك ما تقدم
وما تأخر فقال صلي الله عليه وسلم } أفلا أكون عبدا شكورا ؟ { .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين
.....
أما بعد ... فيا أيها المؤمنون ..
إن من الدروس
الهامة في رحلة الإسراء والمعراج هو درس العبودية لله تعالي وهذا واضح في خطاب
المولي تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة هو قوله تعالي ﴿أسرى
بعيده﴾ الإسراء .
وقال تعالي } ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10){
(النجم.
ولم يقل برسوله أو نبيه أو حبيبه أو خليله، فالعبودية
لله تعالي أشرف المقامات، وأعلى مرتبات عبادة الله شرفت بها ملائكة الله حيث قال
تعالي :} بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ
وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26-27] .
وقال تعالي }وَمَنْ
عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ{ [الأنبياء:19-20].
لذلك كان حديثنا
عن (العبودية لله تعالي أعلي المقامات وأشرف المنازل والدرجات ) وذلك من
خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ تعريف
العبودية وحقيقتها.
2ـ أهمية
العبودية في حياة الإنسان .
3ـ العبودية أشرف
المقامات .
4ـ مقتضيات
العبودية .
5ـ أثر العبودية
في حياة الإنسان .
6ـ السبيل لتحقيق
العبودية .
العنصر
الأول : تعريف العبودية وحقيقتها :ـ
لله عز وجل عبيد
وعباد، فكلنا عبيد الله الطائع فينا والعاصي والمؤمن فينا والكافر والعياذ بالله،
ولكن عباد الله هم الذين أخلصوا له وامتثلوا لأمره تعالي فالعبودية هي : الطاعة لله
مع الخضوع له، فيفعل المكلف خلاف هوى نفسه طاعة لله وتعظيماً له.
إن مبنى العبودية
على التسليم والانقياد والاستجابة في فعل المأمورات وترك المنهيات: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
والعبودية الخالصة
لله هي في واقع الأمرعين الحرية، وسبيل السيادة الحقيقية، فهي وحدهاالتي تُعتِق القلب
من رِقِّ المخلوقين، وتُحرره من الذُّل والخضوع لكل ما سِوى الله من أنواع الآلهة والطَّوَاغيتِ
التي تَستعبِدُ الناس وتَسترِقُّهم أشدَّ ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وإنْ ظهروا
صورةً وشكلاً بمظهر السادة الأحرار!
العنصر
الثاني : أهمية العبودية في حياة الإنسان :ـ
أيها المؤمنون ..
إن في قلب الإنسان حاجة ذاتية إلى رب، إلى إلهٍ، إلى معبود، يَتعلَّق به، ويَسعى إليه،
ويَعمل على رضاه، فإذا لم يَكن هذا المعبود هو الله الواحد الأحد، تَخَبَّط في عبادة
آلِهةٍ شتى وأربابٍ أُخَرَ، مما يرى وما لا يرى، وممن يَعقِل وما لا يَعقل، ومما هو
موجود وما ليس بموجود، إلا في الوَهْمِ والخيال.
وليس أشرف للإنسان
العاقل من أن يَعبد مَن خَلقه فسَوَّاه فعَدَّلَه، ويَطرَح عبادة كل ما سواه ومن سِواه.
وليس أجلب لسعادته
وسلام ضميره من تَوجيه هَمِّه إلى إلهٍ واحدٍ يَخُصُّه بالخضوع والحب، فلا تَتَوَزَّع
قلبَه الآلهةُ والأرباب المُزيَّفون {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر:
29].
فالعبد السالم لسيد
واحدٍ قد استَراح؛ إذْ عَرف ما يُرضي سيِّدَه فأدَّاه بارتياح وانشِرَاح، أما العبد
الذي يَملِكُه شركاء متشاكسون يأمره أحدُهم بعكس ما يأمره غيره، فما أتْعَسَه وما أشقاه!!
فالعبودية: قضية حتمية
لا فكاك للإنسان منها بحال من الأحوال، وهي حاصلة في واقع الناس حصولاً محققاً في كل
زمان وفي كل مكان، هي حتمية لأن في الإنسان حاجة وفقراً وضعفاً، وهو بين حالين لا ثالث
لهما..
إما أن يتوجه بعبادته
وخضوعه وانكساره لله الواحد القهار، فيكون موحداً مطيعاً مطمئناً سعيداً، وإما أن يكون
خاضعاً أسيراً ذليلاً لمعبودات باطلة من الآلهة الكثيرة من الأصنام والأوثان، والهوى
والشهوة، والمال والملذات، والقوانين والرجال، والأعراف والأحزاب، وكل ما تعلق به فتجاوز
به حده من محبوب أو متبوع أو مطاع ، قال تعالي } أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39){[يوسف] .
وقال تعالي }اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ(31){
[التوبة] .
وقال تعالي }أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلا تَذَكَّرُونَ(23){ [الجاثية].
عبادة الله الواحد
الأحد، هي الزمام الذي يكبح جماح البشرية أن تلغ في الشهوات، وهي السبيل الذي يحجز
الأمم أن تتمرد على شرع الله.
العبودية الحقة: هي
المحرك الفعال بإذن الله لهذه النفس لتنطلق في كل دروب الحق والخير والسعادة.
العنصر
الثالث :العبودية أشرف المقامات :ـ
العبودية: هي مقام
التشريف في حق صفوة خلق الله تعالي وهم الأنبياء والرسل فهم أعلى مكلفين في مراتب العبودية:
فالعبودية لله وحدَه
اصطفاءٌ ورحمةٌ.. فقال تعالي } قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(59){ النمل.
وقال تعالي } وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172){ [الصافات] .
والوصف بالعبودية
لله تعالى وسامُ صدقٍ من الله لأنبيائه ورسله..
وقال تعالي }وَاذْكُرْ
عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار(45){ِ [ص].
وقال تعالي }كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا
وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ(9){ (القمر)
وقال تعالي عن
سيدنا يوسف عليه السلام }كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24){ (يوسف)
وقال تعالي عن
سيدنا داود عليه السلام }وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ(17){ (ص) .
وقال تعالي عن
سيدنا زكريا عليه السلام }ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا(2){
(مريم)
واستمع إلى هذا الوصف
الجميل لأيوب الصبور} إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ(44){ [ص].
وقال تعالي }وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ
نَادَى رَبَّهُ (41){ (ص)
أما صاحب الملك العريض
الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فقد وصفه ربه بقوله تعالي }وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30){ [ص].
أما عيسى عليه السلام
وقد رفعه من رفعه إلى مقام الألوهية فقد قال فيه ربه عز وجل } إإِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ
مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59){[الزخرف].
وقال تعالي }قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30){(مريم(،
ولشرف مقام العبودية
وأهميته خاطب الله تعالي به نبيه صلي الله عليه وسلم في أكثر من حاله
ففي
مقام التنزيل في قوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1].
وفي مقام الدعوة في قوله: ﴿ وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن:
19]،
وفي مقام التحدي في قوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]،
وفي
مقام الإنذار: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
وفي مقام الإسراء في قوله: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]،
وفي
مقام المعراج :﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10].
وهذا حال النبي صلي
الله عليه وسلم مع العبودية :ـ
لقد
خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بين أن يكون نبيَّا ملكًا أو عبدًا
رسولاً فاختار أن يكون عبدًا رسولاً.. وبهذه العبودية وصل رسول الله- صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه وسلم إلى مكانٍ لم يصل إليه ملكٌ مقربٌ ولا نبي مرسل، بل كان رسول الله
يجتهد أن يصل إلى هذه العبودية الحقة بقيامِ الليل حتى تورمت أقدامه فلما أشفقت عليه
زوجه عائشة رضي الله عنها- وقالت: يا رسول الله هون على نفسك فأنت الذي غفر الله لك
ما تقدم من ذنبك وما تأخر.. فقال المعصوم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
"يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا"، بل طلبَ من أمته ذلك؛ فقال صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، ولكن
قولوا عبد الله ورسوله".
العز في كنف العزيز فمن عبد
العبيد أذله الله
وفي مقام الهداية من الظلمات إلى النور: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ
بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9]،
وفي مقام الكفاية والحفظ ﴿ أَلَيْسَ
اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 36]،
والحديث عن الفئة الغالبة ﴿ فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾ [الإسراء: 5].
فالأنبياء عليهم جميعاً
صلوات الله وسلامه هم الأعلى في مراتب العبودية، ويأتي في ذروة عباد الله الصالحين
بعد الأنبياء الصديقون، والشهداء، والمجاهدون، والعلماء، وأهل الإيثار والإحسان، وهم
في هذا على درجاتٍ متفاوتات لا يحصي طرفيها إلا الله، فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم
وأقربهم إلى الله؛ أقواهم وأهداهم وأتمهم عبودية لله عز وجل.
العنصر
الرابع :مقتضيات العبودية :ـ
من
مقتضيات العبودية :ـ
التزام الذل والخضوع
والإنابة إلى الله عز وجل وامتثال أمره، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللجوء
إليه، والاستعانة به والتوكل عليه ، والخوف منه ،ومَنْ كانت هذه هي حاله وجدته وقَّافاً
عند حدود الله، مقبلاً على طاعته، ملتزماً بأمره ونهيه، تجده لا يتقدم بين يدي الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم، مهتدياً بقوله سبحانه وتعالى} "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) 36){
[الأحزاب]،
وقوله تعالى }وَقَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ) 285){
[البقرة]،
وقوله تعالى}إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ
إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )51) وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(52){
[النور].
قال الحسن رضي الله
عنه }ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا
نهضتُ على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت
معصية تأخرتُ{.
وأمّا مَنْ طاشت به
سبل الهوى، ولم يعرف الله عز وجل حق المعرفة؛ فتراه يستنكف الاستسلام لربه عز وجل، ويستكبر فلا يخضع له، قال الله تعالى }لَن يَسْتَنكِفَ
الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن
يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا (172)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم
مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(173){
[النساء:].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم} "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطي منها
رضي، وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس وإذا ِشيكَ فلا انتقش{
ويقول الله تعالى
في وصف المؤمنين: }إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ
إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(15){
[السجدة].
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية: "كلما ازداد القلب حبّاً لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد
له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي
العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا
يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة
إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى
ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه".
وقال ابن القيم:
"إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم
ذلاً للّه وانقياداً وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره،
ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه"
من
مقتضيات العبودية :ـ تسليم كل الأمور إلي الله تعالي :ـ
قال عليه الصلاة والسلام:((
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ
عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ
قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ
أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي
عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي
وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ
مَكَانَهُ فَرَجًا قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ
بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا ))[انفرد به احمد بن حنبل]
فمن وجدها في نفسه
فقد أدَّى ما عليه من مقتضى عبوديته، ومن لم يجدها فليجتهد فيها فإن الوقت قصير.
إن العبد ليس له غير
باب سيده وفضله وإحسانه، وإن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك، ولم يؤوه أحد، ولم يعطف
عليه، بل يَضيع أعظم ضيعة فلسان حال العبد يقول: اللهم إني لا غنى بي عنك طرفة عين،
وليس لي من أعوذ به، وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده، فمن كان هذا لسان حاله كان من
عبيد الطاعة المضافين إلى الرحمن في قوله تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا
سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً
(65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ
لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾﴿وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
(70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً
(71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً
(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً
وَعُمْيَاناً(73)﴾﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ
فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(76)﴾
[سورة الفرقان]
من مقتضي
العبودية لله أن مالك ونفسك ملك لله :ـ
يعترف العبد
لسيده ومولاه فيقول إن مالي، ونفسي، ملك لك
يا الله، فإن العبد وما يملك لسيده، وأنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة،
فذلك كله من إنعامك على عبدك.
ومن مقتضي
العبودية: أن لا يتصرف العبد بما أعطاه الله من مال ونفس إلا بأمر الله عز وجل، كما
لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده.
وهذا ما قاله عليه
الصلاة والسلام في الحديث السابق: (( ناصيتي بيدك )) أي أنت المتصرف فيَّ، تصرفني كيف
تشاء، وكيف يكون له في نفسه تصرف مَن نفسه بيد ربه وسيده، وناصيته بيده، وقلبه بين
إصبعين من أصابعه، وموته، وحياته، وسعادته، وشقاوته، وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه،
ليس للعبد منه شيء، بل هو في قبضة الله عز وجل.
ومتى شهد العبد أن
ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء، لم يَخفْهُم بعد ذلك، ولم
يرجهم، ولم يُنْزِلْهُمْ منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين، فمن شهد نفسه بهذا
المشهد، صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، وهنا يستقيم توحيده وعبوديته وتوكله.
من مقتضيات
العبودية :
نزع جلباب الكبرياء
والتعالي والتعاظم، والانكسار بين يدي جبار السماوات والأرض، والخضوع لأمره ونهيه.
فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم"العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".
وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم}"يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر
في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصَّغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يُقال له: بُوْلَس،
فتعلوهم نار الأنيار، يُسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار.
وألا يتكبر الإنسان على الخلق مهما بلغ جاهه،
أو عظم سلطانه، أو ماله، أو علمه؛ لأنه يعرف قدره، ويعرف مآل المتكبرين في الدنيا والآخرة،
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ كل ضعيف متضعَّف،
لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جوَّاظ مستكبر".
وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "احتجت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون المتكبرون. وقالت
هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين.
فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء
وربما قال: أصيب بك من أشاء ، وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما
ملؤها".
ومن حكمة الخالق جل
وعلا أن المتكبرين الذين يتعاظمون على الخلق يذلهم الله ويضع من منازلهم وأقدارهم،
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من آدمي
إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك:
ضع حكمته"
العنصر
الخامس :أثر العبودية في حياة الإنسان :ـ
تحرر
الإنسان ورفعته:ـ
العبودية الحقة: هي
التي تخلص البشرية من استذلال القوى والنظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلصها من استضلال
الأساطير والأوهام والخرافات، الخلل في العبادة مؤذنٌ في الخلل في نظام حياة البشر
بلا مراء.
نه لا فلاح للإنسان
ولا حرية ولا سعادة إلا بتحقيق العبودية لربه وخالقه ومالكه، الإله الحق الملك القدوس
السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب والشهادة: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164] ..
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ
[الأنعام:14] ..
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْغِيكُمْ إِلَهاً [الأعراف:140].
بهذه العبودية تكتسب
الحرية، وبهذا الذل ترتقى درجات العز، وبمقدار الخضوع تكون الرفعة، إذا أحسن المرء
العبادة وأخلصها ترقى في درجات الكمال الإنساني وأصبح لحياته قيمة، وصار لعمله لذة،
ولئن كان الغنى إلى النفس فإن الحرية حرية القلب كما أن الرق رق القلب.
لإن العبودية لله
شرف والعبودية للبشرية نقيصة وذلة؛ لأن السيدَ يريد أن يأخذ خير عبده وأن يجرده من
كل حقوقه وماله، ولكن العبودية لله عطاءٌ ولله در القائل: ـ
سب نفسي عزًا
بأني عبد يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز
ولكن أنا ألقى متى وأين أحب
فكفى بالمرء عزًا
أن يكون عبدًا وكفى به فخرًا أن يكون الله له ربًا، ويقول الحق في حقِّ نبيه نوح:
﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
(الإسراء)،
كيف تحول بلال
العبد الحبشي الذي يعذب في رمضاء مكة إلي مؤذن لرسول الله صلي الله عليه وسلم
فيتحرر من كل الطواغيت ويصير عبدا لله تعالي .
فهذا الجيل الذي تجرد
لله عز وجل وحقق العبودية لله عز وجل أخضع الله له العالمين، ولذلك جيء بملوك الروم
وملوك الفرس مقيدين بالسلاسل إلى هذه البلاد الجرداء الصحراء، جاءوا عبيداً لمن عبدوا
الله عز وجل حق عبادته، فلما ضيَّع المسلمون عبوديتهم لله عز وجل، أصبحوا هم كما هو
واقعنا الآن عبيداً لهؤلاء الكفار، وما أكثر ما أخذ من بلاد المسلمين، ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
وقد فهم الصحابة رضوان
الله عليهم هذا المعنى جيدا، وأدركوا أنه هو الهدف من الرسالة، لذلك عندما سأل القائد
الفارسي رستم، الصحابي الجليل ربعي إن عامر رضي الله عنه، ما الذي جاء بكم إلى بلاد فارس؟
فأجابه ربعي قائلا:
"إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا
إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
بهذا المعنى يمكن
فهم الإسلام كثورة تحريرية شاملة، يقول صاحب الظلال رحمة الله: لقد كانت رسالة محمد
صلى الله عليه و سلم ثورة تحريرية كاملة للإنسانية، ثورة شملت كل جوانب الحياة الإنسانية،
و حطمت الطواغيت على اختلاف أسمائها في هذه الجوانب جميعاً.
ويقول شيخ الإسلام
ابن تميمة رحمه الله في كتابه العبودية : "فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد
القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنُه، واسْتُرقَّ، وأسر لا يبالي إذا
كان قلبه مستريحاً من ذلك، مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان القلب
الذي هو ملك البدن رقيقاً، مستعبداً، مُتيماً لغير الله فهذا هو الذل، والأسر المحض،
والعبودية الذليلة لما استعبد القلب".
تحقق
السعادة والطمأنينة :ـ
ليس أجلب لسعادته
وسلام ضميره من تَوجيه هَمِّه إلى إلهٍ واحدٍ يَخُصُّه بالخضوع والحب، فلا تَتَوَزَّع
قلبَه الآلهةُ والأرباب المُزيَّفون {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر:
29].
فالعبد السالم لسيد
واحدٍ قد استَراح؛ إذْ عَرف ما يُرضي سيِّدَه فأدَّاه بارتياح وانشِرَاح، أما العبد
الذي يَملِكُه شركاء متشاكسون يأمره أحدُهم بعكس ما يأمره غيره، فما أتْعَسَه وما أشقاه!!
وقال تعالي }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97){[النحل].
وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله : مَنِ أراد السعادة الأبدية فليلزم عَتَبَة العبودية .
فالعبودية أعظم ما
يحصله الإنسان في هذه الحياة؛ لتكون وسيلته إلى السعادة ورضا الله وبلوغ جنته ودار
رضوانه، وفي الحديث القدسي: {يابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن
لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك } أخرجه ابن ماجة بسندٍ
صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
القلب إذا ذاق طعم
العبادة والإخلاص لم يكن عنده شيءٌ قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع، يقول صلى الله
عليه وسلم: {ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً
ورسولاً }.
وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
تحقق
السمو الروحي :ـ
العبودية الصادقة تسمو بها الروح، وتتهذب فيها غرائز
العبد وشهواته، ويترجح جانب الخير على جانب الشر، ويتجلى وقوف العبد بين يدي ربه واستحضار
علمه وعظمته وإحاطته.
"الربيع بن خُثَيْم":
فهذا نموذج من أصحاب السمو الروحي الذي انتصر علي علي نفسه وشهواتها ، فهو أحد
أصحاب ابن مسعود، وقال له عبد الله بن مسعود: ما رأيتك قط إلا ذكرت المخبتين، ولو رآك
رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحبك[البداية والنهاية].
وعن ابنة للربيع،
قالت: كنت أقول: يا أبتاه، ألا تنام؟!
فيقول: كيف ينام من يخاف البيات.
وقال الثوري: كان
الربيع بن خثيم يقاد إلى الصلاة وبه الفالج. فقيل له: قد رخص لك.
قال: إني أسمع (حي
على الصلاة)، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوًا .
فأين نحنُ من صلاة
الجماعة؟ وما لنا من عذرٍ!!
لذا كانت عبوديته
جنة له: إذ أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم لعلها تفتنه، وجعلوا
لها، إن فعلت ذلك، ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب وتطيبت بأطيب ما قدرت
عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة،
فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟
أم كيف
بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟
أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟ فصرخت
صرخة فسقطت مغشيًا عليها، فو الله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم
تاتت كأنها جذع محترق.
ما الذي ثبَّت الربيع
أمام هذه الفتنة؟
هل قلة شهوة؟
إنها الشهوة العظيمة وفي سن هو أوج الشهوة وعظمتها هو
سن الثلاثين، ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله
والعبودية الخالصة لوجهه الكريم سبحانه وتعالي .
العبودية تحقق النصر والتأييد :ـ
لا سبيلَ أمام المؤمنين
لتحقيق النصر واستحقاق التمكين إلا باستكمال عبوديتهم لله وحده، والتحرر الكامل من
العبودية لغيره..
و اعلموا أن التمكين
والنصر والتأييد والأمن والإستخلاف لا يكون إلا لعباد الله عز وجل المخلصين .
فقال
تعالي : ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء:105)
وقال تعالي ﴿وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ*
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات:171-173)،
و قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: من الآية 55).
ولقد وصف الله
تعالي أهل بدر فقال تعالي }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123){ آل عمران .
ولقد أخبرنا عما
حدث يوم حنين فقال تعالي } لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ
عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27){ التوبة .
وقد سجل لنا التاريخ
ولأسلافنا مجدا تليدا وسبقا فريدا، كان منشؤهما تحقيق العبودية لله وحده وعدم الركون
إلى أحد سواه، فما فتح المسلمون بلاد فارس والروم وغيرهما، إلا بعد دخولهم في السلم
كافة وقبولهم بجميع شرائع الإسلام وأحكامه؛ فهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يخرج إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح؛ فأتوا على مخاضة؛ وعمر على ناقة له فنزل
عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة:
يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا؟
تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض
بها المخاضة؟!
ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك!
فقال عمر: أوه لو
يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم!
إنا كنا أذل قوم فأعزنا
الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. (رواه أحمد والحاكم
والبيهقي ).
فأول أمر ورد في كتاب
الله تعالى هو الأمر بالعبودية؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)} البقرة.
فعلى كل راغب في استعادة
مجد الأمة التليد؛ أن يلزم هذا الأمر؛ ويبدأ بنفسه ومن يعول؛ ويعمل على تحقيق العبودية
لله وإخلاص العمل له وحده؛ والعمل بأحكام الكتاب؛ والتمسك بهدي السنة؛ فهذا هو السبيل
الذي سلكه أفضل الخلق ومكنه بعد ذلك رب الخلق.
العنصر
السادس : السبيل لتحقيق العبودية :ـ
لا ريب أن جميعَ أسقامِنا
الفردية والجماعية، وأن تشتُّتَ نفوسِنا، وقسوةَ قلوبِنا، وخَوَرَ عزائمِنا، وضعفَ
قوانا، وأن إحساسَنا بالقهر والخوف والعجز، وأن تبددَ وحدتِنا، وضياعَ هيبتِنا، وغثائيةَ
كثرتِنا، وشدةَ بأسِنا فيما بيننا، وهوانَنا على أعدائِنا، واستخزاءَنا أمامهم.. كلُّ
ذلك راجعٌ إلى وَهَن العبودية الحقَّة لله فينا، وعاقبة العبودية لغيره بجهالة، ولا
صلاحَ لذلك إلا بالإيمان بالله وحده، وتركِ غيره من الأنداد، والانعتاق من العبودية
لهم والخوف منهم والرجاء فيهم والتوكل عليهم.. ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ
بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾ (البقرة:
256).
فما
السبيل إذن لتحقيق العبودية ؟
حضور القلب، وإخلاص
النية، وتحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله في حال العبادة وخارجها، وهذا التذكير نهرٌ
يمد القلب باللين والرقة والخشوع حتى لا يشح ماؤه، ولا يصيبه القسوة عياذاً بالله.
ولكل عبادة تهيؤ يناسبها، فمن التهيؤ للصلاة حسن
الاستعداد من إسباغ الوضوء، والتبكير إلى المسجد، والمشي بسكينة ووقار، يقارنه تهيؤ
نفسي ومعالجة قلبية.
كما ينبغي في كل عبادة
الابتعاد عما يشوش القلب، فينخلع القلب عن علائق الدنيا وينجذب بكليته إلى ربه ومولاه.
ومما ينبغي أن يعلم أن ربنا جل شأنه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين،
وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني،
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد
ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب
رجلٍ واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ) ومع غناه سبحانه فإنه يحب المتقين، والمحسنين،
والصابرين، والتوابين والمتطهرين.
الإجتهاد
في النوافل :ـ
قال تعالى في الحديث
القدسي: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب الي عبدي بشئ أحب الى مما افترضته
عليه، وما زال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيته،
ولئن استعاذني لأعيذنه)).
التوبة
الصادقة ومصاحبة الأخبار:ـ
كان آخر نداء للمؤمنين في القرآن الكريم الأمر
بالتوبة ، فقال تعالي } يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ
نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ
لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8){ التحريم .
وها هي قصة العابد
والمرأة البغي:ـ
هاهي امرأة بَغِيّ،
بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين،
يتعبد لله في صومعة من الصوامع، فيفتتن بها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا
الدنيا واتقوا النساء }
افتُتن بها فراودها عن نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار،
وهو لا يملك ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته
وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار.
ثم ذهب إلى هذه البغي
في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب، ويوم طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها:
هأنذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل. فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على
سرير من ذهب، وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ،
فسقط جالساً.
قالت: قد كنت تزعم
أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله -عز وجل-
فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضاً إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت
وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه
الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني، فماذا كان منه ؟
قال:
بلدي في المكان الفلاني، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، وهو يريد الخلاص منها.
أما هو فذهب وخرج
نادماً على تفكيره في عمل المعصية، نادماً على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني
بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم -هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا
ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئاً، وكأن الله -عز وجل
سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب .
أما هي فأقلقتها بشاعة
الفاحشة، وآلمتها مرارة الكبيرة، ولسعتها مرارة المعصية، وما كان منها إلا أن رجعت
إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سبباً في توبتها إلى الله جل وعلا، ذهبت
إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج،
فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتابه التوابين
،فكان منها أن حزنت حزناً عظيماً، وقالت: لأتزوجنَّ قريباً من أقربائه حباً فيه، فقالوا:
له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حباً في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي
أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.
فلا إله إلا الله!
ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟ آن لنا أن نتوب، آن
لنا أن نئوب.
تذكر
القبر والآخرة :ـ
هاهو دينار العيَّار
: كان مسرفاً على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة
العظام قد خرجت العظام من المقبرة، فتذكر مصيره، وتذكر نهايته، وتذكر أنه على الله
قادم، أخذ عظْماً نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفس ! كأني بك
غداً قد صار عظمك رفاتاً، وجسمك تراباً، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات،
ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني
واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه
الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ! ألك قوة على النار؟
يا دينار ! ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟!
وظل على ذلك أياماً،
يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد
هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلاً، فقال: يا أماه! دعيني أتعب
قليلاً لعلي أستريح طويلاً، يا أماه! إن لي موقفاً بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل
ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناءً لا راحة بعده، وتوبيخاً لا عفو معه.
قالت: بنياه! أكثرت
من إتعاب نفسك. قال: راحتها أريد، يا أماه! ليتك كنت بي عقيماً، إن لابنك في القبر
حبساً طويلاً، وإن له من بعد ذلك وقوفاً بين يديْ الرحمن طويلاً، وتمر ليالٍ فيقوم
ليلة بقول الله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[الحجر:92-93].
فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشياً عليه. فيا مخطئاً -وكلنا
ذوو خطأ-: أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق