3 أكتوبر 2018

فقه الاختلاف وأدب الحوار






الحمد لله رب العلمين .. . باين بين خلقه، وجعلهم صنوفا وألوانا وشعوبا وأجناسا، وألف بين القلوب التي لم تأتلف  فقال تعالي (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) ) الروم.          

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. خلق الناس مختلفين  فمنهم شقي وسعيد فقال تعالي ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) هود.

 وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم .. حذر من التفرق والجدال فقال صلي الله عليه وسلم ( إن أبغض الرجال إلي الله الألد الخصم ) ، وقال صلي الله عليه وسلم ( ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) البخاري.
 فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين . 

أما بعد .. فيا أيها المؤمنون.       

  إن الله تعالي خلق الناس متفاوتين في كل شيئ في الطباع والأفكار والسمات ، وإن الله لا يعجزه أن يجعل الناس على قلب رجل واحد( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) .                                                   

 فالاختلاف ليس في البشر فقط ولكن في النبات والحيوان وكل المخلوقات ، والتباين هذا دليل علي عظيم صنع الله تعالي وقدرته الخارقة ، ولكن نجد من العبث أن يراد صب الناس في قالب واحد وهذا مستحيل لأن هذه سنة الله في كونه .. 

  لذلك كان حديثنا عن فقه الاختلاف وأدب الحوار ويتناول هذه العناصر التالية :ــ  

1ـ تعريف الاختلاف . 

 2 ـ حقيقة الاختلاف.  
                                                                                      
 3 ـ الدعائم الأخلاقية لفقه الاختلاف                                         

4ـ الخاتمة .  
                      
العنصر الأول :ـ تعريف الاختلاف :ــ
  
الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من "الضد " لأن كل ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: ﴿ فاخْتَلفَ الأحْزابُ مِنْ بينِهم… ﴾ [مريم:37]،
وقال تعالي ﴿ وَلا يزَالُون مُخْتلِفين ﴾ [هود:118]،   
وقال تعالي  ﴿ إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف ﴾  [الذاريات:8]،
 وقال تعالي ﴿ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بينهم يوْم القِيامةِ فيما كانوا فيهِ يخْتلِفون ﴾ [يونس:93]. 

وعلى هذا يمكن القول بأن "الخلاف والاختلاف " يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.  

العنصر الثاني :ـ حقيقة الاختلاف .  
هناك نوعان من الاختلاف : 
أـ اختلاف تنوع وتكامل .

ب ـ واختلاف تضاد وتنازع.

أولا :ـ اختلاف التنوع :ـ
 اختلاف التنوع غير محدود، وليس هو المقصود في النصوص الواردة في النهي عن الخلاف، بل هو من التنوع المحمود والمشروع  الذي يثري ويفيد، وهو غذاء للعقل وغربلة للفكر، وقوة في الحجة،ويكون دائما مصدر إثراء وخصوبة وله هذه الخصائص:ـ 

  1 ـ أنه سنة ربانية :ــ    

 إن الاختلاف سنة ربانية لا مخلص منها، فالناس يختلفون في ألوانهم، وأشكالهم وقبائلهم، وميولهم وعقولهم، وفي كل شيء، وقد قال الله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم:22]. 

وقال: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) [الحجرات:13].
  
وهو آية من آيات الله تعالي في الكون قال تعالي : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)) الرعد.، 
وقال تعالي ( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انْظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) ) الأنعام .   
                                                                                   
 2 ـ ضرورة بشرية:ـ        

 فالاختلاف أمر ضروري نظرا لطبيعة اللغة وطبيعة البشر وطبيعة الكون والحياة ، وطبيعة البيئة ، نجد أن الله تعالي خلق الناس مختلفين وإن كانوا كلهم من ذكر وأنثي فمن الناس من يميل إلي التشديد ومنهم من يميا إلي التيسير ، ومنهم من يأخذ بظاهر النص ومنهم من يأخذ بروح النص ومنهم من يسأل عن الخير ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه ، ومنهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة .   
                                       
وهذا الاختلاف في صفات البشر واتجاهاتهم النفسية يترتب عليه لا محالة اختلافهم في الحكم علي الأشياء والمواقف والأعمال ، يظهر ذلك في مجال الفقه وفي مجال السياسة وفي مجال السلوك اليومي والعادي للناس .   
                                    
 وهناك نماذج بارزة في حياة الانبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم ، من أبرز الأمثلة لهذا الاختلاف ما عرف واستفاض عن كل من الصحابيين العالمين الجليلين: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا. 
                     
 فقد كان ابن عمر يبعد الأطفال عنه حتى لا يسيل شيء من لعابهم عليه، تحرزا مما يشتبه في نجاسته، وابن عباس يضمهم إليه، ويقول: إنما هم رياحين نشمها.

وكان ابن عمر يغسل باطن عينيه في الوضوء، ويرى أن لمس المرأة ينقض الوضوء، وابن عباس لا يرى ذلك. 

 وقبل ابن عمر وابن عباس، نجد موقف الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كان لكل منهما اتجاهه، وطريقته في معالجة الأمور، فأبو بكر يمثل الرفق والرحمة، وعمر يمثل القوة والشدة، وهذا ينعكس على رأي كل منهما في المواقف والأحداث.                                                   

ومن أظهر الأمثلة لذلك ما كان منهما في شأن أسرى بدر. 

 يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) (الأنفال: 67-69).                                                                                                   
 قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس!" فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك. 

فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء.                                        
 قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء، قال: وأنزل الله عز وجل: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). 

 ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (سورة إبراهيم: 36). 
وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (سورة المائدة: 118). 

 وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (سورة يونس: 88). 

 وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (سورة نوح: 26).                                                         
 أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق.                   

 وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن الملائكة قد اختلفوا بل اختصموا بينهم وذلك بقوله تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) (سورة ص: 69).                                  
وإن الأنبياء قد اختلفوا فيما بينهم أيضا. 

 اختلف موسى وأخوه هارون، عليهما السلام، إلى حد أن أخذ موسى بلحية أخيه، ولامه أشد اللوم بعد عبادة بني إسرائيل العجل السامري قال: (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. ألا تتبعن، أفعصيت أمري؟ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) (سورة طه: 92-94) وفي سورة أخرى قال له: (فلا تشمت بي الأعداء) (الأعراف: 150).        

 واختلف موسى والخضر عليهما السلام في مواقف ثلاثة انتهت بافتراقهما قال: (هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) وهو ما فصلته سورة الكهف. 

 واختلف داود وابنه سليمان عليهما السلام في حكم الغنم إذ نفشت في زرع القوم، وأشار القرآن إلى أن الصواب كان مع الابن، ولكنه أثنى على الاثنين جميعا فقال: (ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما) (سورة الأنبياء: 79).                             

وصح في الحديث اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في مصير الرجل الذي قتل مئة نفس، ثم خرج تائبا إلى القرية الصالحة ومات في الطريق، أيحكم له بحكم القرية الظالمة التي عاش عمره فيها وقتل من قتل، أم يحكم له بحكم القرية الخيرة التي كانت وجهته إليها، وبعبارة أخرى: أيحكم له بعمله أم بنيته؟ بالأول حكم ملائكة العذاب، وبالثاني حكم ملائكة الرحمة، وقد بعث الله ملكا يحكم بينهم، فحكم لملائكة الرحمة. 

 وإذا كان الخلاف والاختصام قد وقع بين أكرم الخلق على الله من الملائكة الكرام والأنبياء العظام، لاختلاف زوايا الرؤية، ووجهات النظر، واتساع العلم وضيقه، فكيف نطمع أن نمحو الخلاف بين غيرهم ممن لا عصمة لهم، وليس فيهم ملك مقرب ولا نبي مكرم؟  

 3ـ الاختلاف رحمة : ـ         

 الاختلاف مع كونه سنة ربانية ، وكونه ضرورة هو كذلك رحمة بالأمة، وتوسعة عليها، ويؤيد هذا المعنى ما رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين: "إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعونها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".   

 والأشياء المسكوت عنها تكون عادة من أسباب الاختلاف، لأنها تكون منطقة فراغ تشريعي، يحاول كل فقيه أن يملأها وفقا لأصوله، واتجاه مدرسته، فواحد يتجه إلى القياس، وآخر إلى الاستحسان، وثالث إلى الاستصلاح، ورابع إلى العرف، وغيره إلى البراءة الأصلية… وهكذا.       

 وقد رأينا ما حدث من الصحابة في بني قريظة عندما قال النبي صلي الله عليه وسلم لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ففهم بعض الصحابة أنهم لا يجوز لهم صلاة العصر إلا في بني قريظة والتزموا بنص الحديث ، والبعض الآخر فهم أن الرسول يستعجلهم فصلوا في الطريق فأقرالنبي صلي الله عليه وسلم كلا الفريقين . 

ثانيا :ـ اختلاف التضاد والتنازع:ـ

اختلاف التضاد والتنازع اختلاف مذموم  لأنه يؤدي إلي التفرق والتنازع بين الناس ويقطع أواصر المحبة والمودة بين الجميع  ولقد ذمه القرآن الكريم للأسباب التالية :ـ

 1ـ ما كان سببه البغي واتباع الهوى،
 وهو الذي ذم الله به اليهود والنصارى من أهل الكتاب وغيرهم، الذين دفعهم حب الدنيا، وحب الذات إلى الاختلاف رغم قيام الحجة ووضوح المحجة، قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين آتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) (البقرة: 213).                                    

 وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (آل عمران: 19).       

وقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (الجاثية: 16-17).

2ـ الاختلاف الذي يؤدي إلى تفرق الكلمة وتعادي الأمة، وتنازع الطوائف، ويلبسها شيعا، ويذيق بعضها بأس بعض.

 وهو ما حذر منه القرآن الكريم، والسنة المطهرة، أشد التحذير.                                          
 يقول القرآن بعد الأمر بتقوى الله حق تقاته، والثبات على الإسلام إلى الممات: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) (آل عمران: 103). 

 وفي هذا السياق نفسه يحذر من التفرق كما تفرق الذين قبلنا، فيصيبنا ما أصابهم: (لولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 105).                  

 وفي موقف آخر يقول: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا، إن الله مع الصابرين) (الأنفال: 46).                                                                                       
 ويذم المشركين والمحرفين من أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فيقول: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم من شيء) (الأنعام: 159).                                                             

ويقول في سورة أخرى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون) (الروم: 30-32).                                                 

ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف المذموم ،وبين سبيل النجاة من ذلك ، بقوله "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضلالة ".                                             
فهذا النزاع والشقاق يجب رده إلى الكتاب والسنة، وأن يُحكِّم في ذلك أهل العلم. 

 فهو مذموم لأن منشأه التنازع والتباغض، وتقديم الرأي على النقل، أو البُعد عن الوحي، أو قلة العلم، أو قلة الفهم . 
   العنصر الثالث :ـ الدعائم الأخلاقية لفقه الاختلاف :ــ 

الإنسان في حاجة إلى عقل يقظ، كما يحتاج إلى ضمير حي. في حاجة إلى العلم النافع، وإلى الإيمان الوازع، وإلى الخلق الفاضل ، وبما أن الاختلاف سنة ربانية وفطرة فطر الله الناس عليها إذن نحن في أمس الحاجة إلي أن نفهم الدعائم الأخلاقية لفقه وأدب الاختلاف وهي كالآتي :ـ

1ـ الإخلاص لله والتجرد من الأهواء :ــ

فكثيرا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنها خلاف على مسائل في العلم، أو قضايا في الفكر، وباطنها حب الذات، واتباع الهوى الذي يعمي ويصم، ويضل عن سبيل الله .  

 لقد حرصت التربية الإسلامية، القرآنية والنبوية، على تكوين الإنسان مؤمن الذي يجعل غايته رضا الخالق، لا ثناء الخلق، وسعادة الآخرة، لا منفعة الدنيا وإيثار ما عند الله على ما عند الناس، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) (سورة النحل: 96).   

وحذرت هذه التربية من الإنسان الذي تكون الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه فهو يعمل للجاه، والشهرة، أو للمصلحة الذاتية، أو لنزعة عصبية ظاهرة أو خفية. 

ولهذا صح في الحديث أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة هم أهل الرياء والكذب على الله، الذين يزينون للناس أنهم يعملون لله تعالى، وهم لا يعملون إلا لذواتهم، وشهوات أنفسهم، وإن كان فيهم العالم والمعلم، والمنفق الباذل والمجاهد المقاتل!!                                        
 ومن هنا نوه الحديث الشريف بأولئك الجنود المجهولين الذين يذيبون حبات قلوبهم، وينفقون أغلى أيام أعمارهم، في نصرة دينهم وطاعة ربهم، دون أن تسلط عليهم الأضواء، أو يشار إليهم بالبنان.  

روى الحاكم وغيره، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه، خرج إلى المسجد فوجد معاذا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة". 

إن المسلم الحق هو الذي يكون عبدا لله، لا عبدا لذاته، فحيث وضع عمل وحيث وجه توجه، في الإمام أو في الخلف، قائدا، أو جنديا، دون تطلع إلى منصب أو دنيا..                                                   

 يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش؟ طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، أو كان في الساقة كان في الساقة".
ورضي الله عن خالد بن الوليد سيف الله المسلول، الذي عمل قائدا، فنصر الله به، وحقق على يديه الخير الكثير، فلما ولي أبو عبيدة القيادة بدلا منه كان له نعم الناصح والمشير، وهكذا يكون المؤمنون الصادقون.

ولو أنصف الجميع لجردوا أنفسهم للحق، وأخلصوا دينهم لله، حتى يخلصهم الله لدينه، (قل إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (سورة الأنعام: 162،163).

إن اتباع الهوى لون من الشرك، ولهذا قال السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى! وذلك لأنه يضل الإنسان عن الحق رغم علمه به (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟) (سورة الجاثية: 32).

 التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف :ــ 

المسلم الحق لا يقيد نفسه إلا بالدليل، فإن لاح له الدليل بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يعظمه، أو الطائفة التي ينتسب إليها. 

 فالحق أحق أن يتبع من قول زيد أو عمرو من الناس، وما تعبدنا الله تعالى بقول فلان أو فلان، من العلماء أو الأئمة، إنما تعبدنا بما جاءنا في كتابه وما صح عن نبيه صلى الله عليه وسلم (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). 

 وأول ما ينبغي أن يتحرر المرء منه: تعصبه لرأيه الشخصي، بحيث لا ينزل عنه ولو ظهر له خطؤه، وتهاوت شبهاته أمام حجج الآخرين، بل يظل مصرا عليه، متمسكا به، مدافعا عنه، انتصارا للنفس، ومكابرة للغير، واتباعا للهوى، وخوفا من الاتهام بالقصور أو التقصير. 

 ورضي الله عن الإمام الشافعي الذي قال: والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان خصمي. 

 وهذا التعصب من دلائل الإعجاب النفس، واتباع الهوى، وهما من أشد (المهلكات) خطرا.  

والمتعصب أشبه بامرئ يعيش وحده في بيت من المرايا، فلا يرى فيها غير شخصه أينما ذهب يمنة أو يسرة، وكذلك المتعصب لا يرى ـ رغم كثرة الآراء ـ غير رأيه، فهو مغلق على وجهة نظره وحدها، ولا يفتح عقله لوجهة سواها، يزعم أنه الأذكى عقلا، والأوسع علما، والأقوى دليلا، وإن لم يكن لديه عقل يبدع، ولا علم يشبع، ولا دليل يقنع.     
 وبعضهم له معاذير كثيرة، يلجأ إليها إذا أعياه المنطق، واعوزته الحجة وغلب أمام خصومه، فحينا يتشبث بتقليد الآباء، وآونة بطاعة الكبراء، وثالثة باتباع الجمهور: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت. 

  وقد حكى القرآن الكريم لنا نماذج من المتعصبين منكرا عليهم، ومنددا بمسلكهم، تحذيرا للمسلمين أن يحذوا حذوهم. فقال عن بني إسرائيل: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه، وهو الحق مصدقا لما معهم) (سورة البقرة: 91). 

وقال تعالى عن المشركين: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا، أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ومثل الذين كفروا مثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم، بكم، عمي، فهم لا يعقلون) (سورة البقرة: 170،171).

 3 ـ الانصاف :ــ  

والإسلام يوجب على المسلم، أن يكون عدلا مع من يحب ومن يكره، يقول لله شهيدا بالقسط ولو على نفسه، ولا يخرجه غضبه عن الحق، ولا يدخله رضاه في الباطل، ولا تمنعه الخصومة من الشهادة لخصمه بما فيه من خير، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) (سورة النساء: 135).                    
 وقال تعالي: (لايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (سورة المائدة: 8) ،                                                                                              

 وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري : (ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل). 

 4ـ الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها (الحق لايعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق ):ـ
أن ينظر إلى القول لا إلى قائله، وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والترحيب بالنقد من الآخرين، وطلب النصح والتقويم منهم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة، والثناء على المخالف فيما أحسن فيه، والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل، أو تطاول عليه أحد بغير حق.
وعليه قبول الحق والإنصات له، فلابد أن يكون المختلفان يطلبان الحق، وينصتان له، ويقبلانه، فالذي يصم عن الحق ولا يقبله لا يمكن أن يتأدب بأدب الاختلاف أصلاً، ولهذا قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18]، فهم يستمعون أولاً ثم يتبعون، وعاب على الكفار قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] ، فلابد من الإنصات للخصم حتى يسمع الإنسان ما عنده، ولابد أن يقبل ما في كلامه من الحق، ولهذا علمنا الله في مجادلة المشركين أدبًا عجيبًا فقال: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] ،
 فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي على هدى، وأن المشركين في ضلال مبين، لكنه أتى بـ (أو) في هذا الأسلوب لأدب الاختلاف؛ولهذا قال الشافعي رحمه الله: (ما ناظرت أحدًا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، قيل ولمَ؟ قال: إن ظهر على لسانه عرفت الحق ولم أفتن، وإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن).
  إحسان الظن بالآخرين :ــ

إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود، عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائما على تزكية نفسه، واتهام غيره..  

 والله تعالى ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول: (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى) (سورة النجم: 32). 

 ويذم اليهود الذين زكوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء) (سورة النساء: 49).  

 والمؤمن ـ كما قال بعض السلف ـ أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح! 

فهو أبدا متهم لنفسه لا يتسامح معها، ولا يسوغ لها خطأها، يغلب عليه شعور التفريط في جنب الله، والتقصير في حقوق عباد الله.                               
 وهو يعمل الخير، ويجتهد في الطاعة، ويقول: أخشى أن لا يقبل مني. فإنما يتقبل الله من المتقين، وما يدريني أني منهم؟!                              
وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله، وخصوصا لإخوانه والعاملين معه لنصرة دين الله، فهو يقول ما قال بعض السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه!  

وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وفي مقابلهما: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.                                     
 إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسنة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وأن لا تظن به إلا خيرا، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها، تغليبا لجانب الخير على جانب الشر. 

  والله تعالى يقول: (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم) (سورة الحجرات: 12) والمراد به: ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم.               

 ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.." 

والمفروض في المسلم إذا سمع شرا عن أخيه أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه، وأن لا يظن به إلا خيرا، كما قال تعالى في سياق حديث الإفك: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وقالوا: هذا إفك مبين) (سورة النور:12).                                                       

 ومع هذا ينبغي للمؤمن أن لا يستسلم لوسوسة الشيطان في إساءة الظن بالمسلمين، بل عليه أن يلتمس لهم المعاذير والمخارج فيما يراهم أخطؤوا فيه، بدل أن يتطلب لهم العثرات والعيوب.   

 فإن من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدهم منه مجالس يوم القيامة الباغين للبرآء العثرات. 

وإذا لم يجد وجها واحدا للخير يحمله عليه ـ فيجمل به أن يتريث، ولا يستعجل في الاتهام، فقد يبدو له شيء عن قريب، وما أصدق ما قاله الشاعر هنا:  

 تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرا وأنت تلوم!              


 ومما يجب التحذير منه: ما يتصل باتهام النيات، والحكم على السرائر، وإنما علمها عند الله، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية.  
 ويشتد الخطر حينما يجتمع أتباع الظن، وأتباع الهوى، كالذي ذم الله به المشركين في قوله: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (سورة النجم: 28).(ومن أضل ممن اتبع هواه، بغير هدى من الله) ( القصص: 50).                                                                                   
 إن الإخلاص لله يجمع يوحد، أما اتباع الهوى وسوء الظن فهو يفرق ويمزق، لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رؤوس الناس.

 6 ـ  ترك الطعن والتجريح للمخالفين:ــ

هذا هو نهج السلف في اختلافهم في الاجتهاد، فلم يجرح بعضهم بعضا، بل أثنى بعضهم على بعض برغم ما اختلفوا فيه. أن نعلم أن من طبيعة ابن آدم الخطأ والتقصير ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) النساء. 
  
ولو عامل الله عباده كما يعامل هؤلاء غيرهم، ما نجا أحد ـ بعد الأنبياء ـ من الهلاك في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، ولكنه تعالى خاطب المكلفين بقوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير) ( الشورى: 30).                                                                                                          

 وقال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) ( النساء: 31). 

 ووصف الذين أحسنوا من عباده بقوله: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) ( النجم: 32).                           
 إن الله تعالى يحكم على الناس بغالب أعمالهم، فمن ثقلت موازينه فهو المفلح ومن خفت موازينه فقد خاب وخسر، مع أن الله تعالى ـ بفضله ورحمته ـ يضاعف الحسنات، ولا يضاعف السيئات (إن الله لا يظلم مثقال ذرة إن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) ( النساء: 40).                   

 ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".   

7 ـ  البعد عن المراء واللدد في الخصومة :ــ

فالإسلام ـ وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ـ ذم المراء، الذي يراد منه الغلبة على الخصم بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزان بين الطرفين.  

  وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) (سورة الحج: 8،9).وقال تعالي (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) (الكهف: 56).
                                                                                                                                           وقال تعالي (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت). البقرة .                                                 

فهذا المماري المتجبر يزعم أنه يحيي ويميت، لأنه يحكم على بعض الناس بالموت، ثم يعفو عنهم فيقول: قد أحييتهم! ويحكم على آخرين وينفذ الحكم. فيقول: قد أمتهم! فهو يفسر الإحياء والإماتة كما يشاء، وليس هذا هو التفسير الذي يعرفه الناس، والذي قصده إبراهيم عليه السلام بقوله: (ربي الذي يحيي ويميت). 
ومن هنا جاء في الحديث ذم المراء، والترغيب في البعد عنه.  

فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، ويبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".  

 وعن أبي أمامة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، ثم تلا: (بل هم قوم خصمون) (الزخرف: 85). 

وهذا أمر ملاحظ: أن القوم إذا حرموا التوفيق، تركوا العمل، وغرقوا في الجدل، وبخاصة أن هذا موافق لطبيعة الإنسان التي لم يهذبها الإيمان (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) ( الكهف: 54).                                                           
 وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" والألد: الشديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي أي جانبيه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر.                                      

وذم القرآن بعض أصناف الناس بقوله: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام) ( البقرة: 204).

 8ـ الحوار بالتي هي أحسن :ــ

من الدعائم الأساسية في أدب الاختلاف: الحوار بالحسنى، وإذا استخدمنا التعبير القرآني قلنا: الجدال بالتي هي أحسن، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه حين قال: (ادع إلى سبيل ربك الحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125).

**وللحوار الجيد طرق وأساليب حثنا عليها الإسلام منها:ـ

1 ـ أن يختار المجادل أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر:ــ
                                                                         
ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود، والنصارى، تعبيرا له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير (أهل الكتاب) أو (الذين أوتوا الكتاب) ولهذا جاء في القرآن مثل قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) ( النساء: 171).
 وقال تعالي (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم) ( المائدة: 15). 

 وقال تعالي (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) (سورة آل عمران: 64). إلى آخر الآية التي كان يرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ملوك النصارى وأمرائهم، مثل قيصر والنجاشي والمقوقس. 

 حتى المشركون الوثنيون لم يخاطبهم القرآن بقوله: "يأيها المشركون" بل كان يناديهم بقوله: "يأيها الناس".                
ولم يرد في القرآن خطاب للمشركين بعنوان الشرك أو الكفر، إلا في سورة (الكافرون) وذلك لمناسبة خاصة هي قطع الأمل عند المشركين أن يتنازل المسلمون عن أساس عقيدتهم، وهو التوحيد، ولهذا كرر فيها المعنى الواحد بصيغ عدة تأكيدا وتثبيتا ومع هذا ختمها بهذه الآية الكريمة التي تعد غاية في السماحة: (لكم دينكم ولي دين).  

ومثلها قوله تعالى: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم علمكم، أنتم بريئون مما أعمل، وأنا برئ مما تعملون) (يونس: 41). 
 وإنما اصطدم الإسلام بالشرك، واقتتل الرسول والمشركون، لأنهم لم يقابلوه بمثل منطقه، بل قالوا: لنا ديننا، وليس لك دينك، ولنا علمنا، وليس لك عملك، من حقنا أن نعبد الأوثان، وندعو إليها، وليس من حقك أن تعبد الله وتدعو إليه، ومن اتبعك على دينك بإرادته واختياره كان علينا أن نفتنه عن دينه. 

  2ـ عدم رفع الصوت:ــ

فرفع الصوت في حال الاختلاف مدعاة لدخول الشيطان، ومدعاة لترك الأدب السابق، وهو الاستطالة، ولهذا حذر الله تعالى منه فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النساء:148].

 التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق بينك وبين من تحاوره:ــ

وهو أسلوب قرآني يجب أن نتعرف عليه، فهو يقول في حوار أهل الكتاب من اليهود والنصارى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). (وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) ( العنكبوت: 46).  
ومثل ذلك قوله في سورة أخرى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم) (سورة البقرة: 139).

فإذا كان هذا موقف المسلم ممن يجادله من أهل الكتاب الذين يخالفونه في عقيدته، وأصل دينه، ولا يؤمنون بأن محمدا رسول الله، ولا أن القرآن كتاب الله، ولا أن الإسلام شريعة الله، فكيف ينبغي أن يكون موقفه من أخيه المسلم الذي يؤمن بكل ما يؤمن به من عقيدة وشريعة، ورسول وكتاب؟  وأيضا قول الله تعالي لسيدنا موسي عليه السلام وسيدنا هارون (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ(43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44) ) طه. 

  وحسبنا أن نذكربعض  النماذج  لحوار الأنبياء مع أقوامهم في القرآن الكريم والسنة المطهرة :ـ

 * حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه 

قال تعالي }إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) {.مريم  
                                                                          
  * حوار النبي صلي الله عليه وسلم مع عتبة ابن ربيعة  :ـ
                                                                                                     
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه شاء ويكف عنا ؟ 

 ـ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون ـ فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها . 

 قال : فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع .  

قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا ، جمعنا لك من أموالنا ، حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه   قال : أقد فرغت يا أبا الوليد " ؟ 
  قال : نعم 
 قال : " فاسمع مني " 
 قال : أفعل .                                                                      
  َقَالَ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ (حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) [ فُصّلَتْ 1 - 5 ].                        

 ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما ، يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك .  
فقام عتبة إلى أصحابه فقال : بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ 

قال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به .              
 قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . 
 قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم .{. انتهي الحوار. 
  
 الخاتمة :ــ             

 لقد أن الآوان أن نتفق وندع الخلاف خلف ظهورنا من أجل نهضة أمتنا ، ونتعاون فيما انتفقنا ،ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا من أجل مصلحة الدين والوطن ، وأن نراجع أنفسنا ،ونحاسب أنفسنا فيما مضي من أخطاء في حق الآخرين ، وأن نتعاون علي البر والتقوي كما قال تعالي (﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ( سورة المائدة: 2) فالتعاون فريضة في نص القرآن الكريم، والآية الثانية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(  الحجرات: 10) .                  
وأن نعلم أن الكلمة العنيفة لا لزوم لها، ولا ثمرة تجتني من ورائها، إلا أنها تجرح المشاعر، وتغير مودة القلوب، وإن قال شوقي: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.                                                                      
ولكن هذا إنما يكون في الاختلاف الملتزم بآداب الحوار وموضوعيته، والبعد عن الإثارة والتهييج، أما الحوار الذي يصحبه العنف والاتهام والتجريح فالأغلب أنه يفسد الود، ويعكر صفاء الأنفس بل قد يخشى إذا ذهب الود أن لا يعود مرة أخرى، على نحو ما قال الشاعر:ـ  

إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!                                                                                                     
 إن حسن اختيار بعض الجمل أو العبارات المناسبة في بعض الأحيان يحل مشكلات، ويفض اشتباكات. 
كيف والتوجهات النبوية تأمر بالتبشير وتنهى عن التنفير، ففي الحديث المتفق عليه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"  

أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرينا الحق حقًا، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، وألاَّ يجعلنا أتباعه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجمع على الحق قلوبنا، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألاَّ يسلطها علينا بشر، وأن يجعل سرائرنا خيرًا من علانياتنا، وأن يجعل علانياتنا صالحة.                                        
 سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].


ليست هناك تعليقات: