2 أكتوبر 2018

القدوة وأثرها علي الفرد والمجتمع






الحمد لله رب العالمين .. جَعلَ لنَا مِنَ الأنبيَاءِ والصَّالحِينَ قُدوَةً وَمَثَلاً ، فقال تعالي } أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90){ [الأنعام].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ بفضلِهِ، ويُذِلُّ مَن يشَاءُ بِعدْلِهِ... حذَّر من مخالفة القول الفعلَ الذي ينفي كون الإنسان قدوة بين الناس، فقال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3){[الصف].

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. رغب الإنسان أن يكون قدوة في الخير وحذره أن يكون قدوة في الشر، قال صلى الله عليه وسلم «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غيـر أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».أخرجه مسلم في صحيحه.

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما ...

أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ...

إنَّ موضوع القدوة من المواضيع المهمة جدًّا في حياة البشرية، فالرموز الشخصية والمُثُل العليا جميعها مفاهيم يمكن أن تسهم في بناء الفرد أو تدميره، وتبدو تلك المفاهيم ذات أهمية وتأثير قوي، خاصة في المجتمعات التي لا تزال في طور النمو والتطور، وإنَّ اقتداءَ الْبشَرِ بعضِهِمْ ببعْضٍ فِطْرَةٌ جِبِلِّيَّةٌ، وَسُنَّةٌ آدَمِيَّةٌ، جَبَلَ اللهُ النفُوسَ عليهَا، فتَرَى النَّاسَ يُقَلِّدُ بعضُهُمْ بعْضًا، سَواءٌ كانَ هذَا التَّقلِيدُ في الخيرِ أوْ في الشَّرِّ.

والقدوة أو المثل الأعلى يمكن أن يكون مدمّرًا وخطرًا على الفرد والمجتمع إذا لم نتخذ قدة حسنة ، فالقدوة الحسنة هي الركيزة في المجتمع، وهي عامل التحوُّل السريع الفعَّال، فالقدوة عنصر مهم في كلِّ مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين، فهم في أمَسِّ الحاجة للاقتداء بالنماذج الحيَّة، كيف لا وقد أمرَ الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم في سورة الأنعام بعد أن ذكَر ثمانية عشر نبيًّا بالاقتداء بهم ،
 فقال تعالي:} أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90){ [الأنعام].
ولَمَّا اشْتَدَّ بِهِ البَلاءُ أَمرَهُ اللهُ بالصَّبرِ كإخْوانِهِ مِنَ الأنبيَاءِ فقالَ سُبحَانَهُ:}فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (35){ [الأحقاف]،
هكَذا تكونُ القُدوةُ حينَ تَأْخُذُ بِيَدِ الإنسانِ إِلى مَعَالِي الأمُورِ، وتجْعَلُهُ يتَغَاضَى عَن سَفَاسِفِهَا.
لذلك كان حديثنا عن (القدوة وأثرها علي الفرد والمجتمع) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...

1ـ تعريف القدوة .

2ـ حاجة الناس إلي القدوة .

 القدوة الصالحة وأثرها علي الفرد والمجتمع .

4ـ مقومات القدوة الصالحة.

5ـ القدوة السيئة وخطرها علي المجتمع.

6ـ مصادر القدوة الصالحة.

7ـ الخاتمة.
=================

العنصر الأول : تعريف القدوة :ـ

القُدوة في اللغة : تعني الأسوة.
والقدوة هي عبارة عن الشخص والمثال الأعلى الذي يُقتدى به والنموذج المثالي في تصرّفاته وأفعاله وسلوكه، بحيث يُطابق قوله عمله ويُصدّقه، ويكون القدوة بالنسبة لأتباعه مثالاً سامياً وراقياً، فيعملون على تقليده وتطبيق نهجه والحذو حذوه، وينبع تقليدهم إياه من الإرادة والقناعة الشخصيّة للمقتدي، لا بالضغط الخارجي أو الإلزام من جهة القدوة بذلك.

وقد عُرِّفت القدوة بأنها: "إحداث تغيير في سُلُوك الفرد في الاتجاه المرغوب فيه، عن طريق القدوة الصالحة؛ وذلك بأن يتَّخذ شخصًا أو أكثر يتحقَّق فيهم الصلاح؛ ليتشبَّه به، ويُصبح ما يطلب من السلوك المثالي أمرًا واقعيًّا ممكنَ التطبيق".

فالهدف من اتباع القدوة الرقي لأعلى مستوى من الأخلاق والتعامل والعلم.
ودين الإسلام دين القدوة، وأصحاب الهِمم العالية هم الذين يسعون ليكونوا قدوة حسنة، وأعظم قدوة في الإسلام هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم نبيُّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ولذلك جعَله الله لنا أُسوة وقدوة، بل وأمرنا بالإقتداء به، فقال تعالي} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21){[الأحزاب].

العنصر الثاني : حاجة الناس إلي القدوة :ـ

تشتدُّ الحاجة إلى القدوة الحسنة كلَّما بَعُد الناس عن الالتزام بقِيَم الإسلام وأخلاقه وأحكامه، كما أنَّ الله عزَّ وجل  حذَّر من مخالفة القول الفعلَ الذي ينفي كون الإنسان قدوة بين الناس، فقال} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) { [الصف].

لذلك أوصى أحد السلف معلم ولده قائلاً: "لتكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت".

لقد بيّن الوالد لذلك المعلم أثر القدوة على الولد،فالقدوة توفِّر الكثير من الوقت والجهد على الوالدين في تربية أبنائهم ومحاولة غرس السلوكيات الجيدة فيهم، فعندما يختار الطفل القدوة الجيدة فإنه يقلِّدها في سلوكياتها.
 قالقدوة من أهميتها تنتج أفراد يتسمون بالسلوكيات والصفات الجيّدة مثل المثابرة على العمل والنجاح بعيداً عن الصفات السلبية وغير الجيدة.
وتؤدي إلي بناء مجتمع متماسك وقوي يستطيع مواجهة التهديدات الخارجية.

فالقدوة لها أثر بالغ في تشكيل الشخصيَّة الإنسانيَّة، ويرجع هذا التأثير إلى عدة أسباب ركَّز عليها الإسلام منها:

1- أن في فطرة الإنسان ميلاً قويًّا للاقتداء.

2- أنَّ المثال الحي الذي يتحلَّى بجُملة من الفضائل السلوكيَّة، يُعطي غيرَه قناعة بأن بلوغَها من الأمور التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال، وحال رجل في ألف رجل أبلع من قول ألف رجل لرجل.

3- أن المثال الحي المرتقي في درجات الكمال السلوكي، يُثير في الأنفس الإستحسان والإعجاب.
فحاجة الناس إلى الفعل أكثر من القول؛ لأن مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي، ولهذا لما اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ اتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذَهُ وَقَالَ: إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا" فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. (رواه البخاري ومسلم).

وأوضح دليل على هذا الأثر ما وقع في يوم الحديبية، ففي صحيح البخاري قال عمر : فلما فَرغ من قضية الكتاب أي: بنود الصلح قال رسول الله  لأصحابه: (قوموا، فانحروا ثم احلقوا) ، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا. [صحيح الإمام البخاري ومسند الإمام أحمد].

4ـ القُدوة الحسنة هي المحرِّك والدافع للإنسان للارتقاء بالذات، فمَن جعَل له قدوة عظيمة في صفاته، فلا بدَّ أن يتأسى به في كلِّ صفاته، فالقدوة المؤثرة مثال حي للارتقاء في درجات الكمال، فهو دائمًا يطلب الكمال ويطلب المعالي، فهو بذلك مثارٌ للإعجاب والتقليد من الناس؛ لأن التأثُّر بالأفعال والسلوك أبلغُ وأكثر من التأثر بالكلام والأقوال.

5ـ القدوة لها دورٌ كبير في إعلاء الهِمم وإصلاح المسلمين، فمَن كان عالي الهِمَّة اقتَدى به غيره، فأصلَح نفسه وأصلَح غيره.
يقول الله تعالى}وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74){[الفرقان].
 ففي هذه الآية يريد الله عز وجل من المسلمين التطلُّع للأفضل وإلى أعلى المقامات، وانظر لَم يقل سبحانه: واجعَلنا في المتقين، ولكنَّها تربية للمؤمنين على الهِمَّة العالية، وأن يكونوا مثل إبراهيم عليه السلام يطلب إمامةَ المتقين؛ يقول شيخ الإسلام: "أي: فاجْعَلنا أئمَّة لِمَن يَقتدي بنا ويأْتَمُّ، ولا تَجعلنا فتنة لمن يضلُّ بنا ويشقى".

ويقول السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: أَوْصِلنا يا ربَّنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصِّديقين والكُمَّل من عباد الله الصالحين، وهي درجة الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوة للمتَّقين في أقوالهم وأفعالهم، يُقتدى بأفعالهم، ويُطمَأَنُّ لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم، فيهدون ويهتدون؛ ولهذا لما كانت هِممهم ومطالبهم عالية، كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل العاليات، فقال} أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا(75){ [الفرقان].

أيها المؤمنون .... إن واقع الناس اليوم يشكو القصور والانحراف رغم انتشار العلم، ما لم يقم بذلك العلم علماء وقادة عالمون مخلصون يصنعون من أنفسهم قدوات في مجتمعاتهم، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي يفهمه الجميع، وهذا يُسهّل في إيصال المعاني الأخلاقية ويحدث التغيير المنشود إلى الأفضل.

إن أخطر ما نعانيه هو أزمة القدوات، وقل لي: من قدوتك أقل لك من أنت!!
إن غياب القدوة الصالحة من المجتمع عامل رئيس في انتشار المنكرات واستفحالها وإفشاء الجهل بين الناس، ومن هنا تكمن أهمية القدوة الصالحة، فكلما ازدادت القدوات انتشر العلم واختفت المنكرات، لذلك فنحن نحتاج إلى قدوات يدعون الناس بأفعالهم لا بأقوالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)} (الصَّف).

العنصر الثالث : القدوة الصالحة وأثرها علي الفرد والمجتمع :ـ

المطلوب من المسلم أن يكون المسلم قدوة في نفسه، وأن يتخير المسلم لنفسه ومن تحت ولايته القدوات الحسنة ويجنبهم القدوات السيئة.

القدوة الحسنة: وهي التي تتخذ الاقتداء برسول الله منهجًا وسلوكًا وتتأسى به صلى الله عليه وسلم  في تطبيقها العلمي في واقع الحياة، وهذا النوع إنما يسلكه ويوفق إليه من كان يرجو الله واليوم والآخر، ودخل الإيمان قلبه، فعمل بالتنزيل وخشي من الجليل واستعد ليوم الرحيل رجاء الثواب الجزيل وخوف العقاب الشديد.

والقدوة الحسنة تنقسم إلى قسمين:
1ـ القدوة العامة:ـ

وهي تعني الاقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سائر أعماله وتصرفاته وذلك لأنه بُعث ليُقتدى به وليطاع بإذن الله فهو لا ينطق عن الهوى وإنما يوحى إليه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} (النَّجم).

والاقتداء به والسير على نهجه هو النجاة الحقيقية للإنسان في الدنيا والآخرة، فهو القدوة الحسنة في أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته لكي يستلهم الناس سلوكهم من هذه القدوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا(21)} (الأحزاب). يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: "في الآية دلالة على فَضْل الاقتداء بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأنه الأسوة الحسنة لا مَحالة".

وقال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبيرٌ في التأسِّي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أقواله وأفعاله وأحواله".
ولقد كان رسول الله الأسوة الحسنة للناس جميعًا في جميع جوانب الحياة فإذا تفكر الإنسان في أحوال القادة والمصلحين والسياسيين فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب بقيادته وصلاحه أروع الأمثلة في هجرته إلى المدينة وإقامته للدولة والمسجد وتأليفه بين الأوس والخزرج وفي سائر غزواته.

وإذا بحث الناس في ميادين التربية وجدوا رسول الله يتربع على عروش المربين فإذا هو المربي الكريم والقائد والمعلم الذي ربى أصحابه الكرام على الفضيلة والقيم العليا النبيلة .

وصدق الشاعر:
أتطلبون من المختار معجزة              يكفيه شعب من الصحراء أحياه

ولقد اعتلى صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب الأخلاق والعلم؛ لأنه تربية رب العالمين ليكون السراج المنير والمثل الأعلى والقدوة العظمى للإنسانية جمعاء، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكان قرآنًا نابضًا حيًا متحركًا، وحينما سُئلت عائشة عن أخلاقه أجابت: كان خلقه القرآن.

وكان صلى الله عليه وسلم قدوة في كل شيء وكأنه متخصص فيه، فإذا نظرت إلى عبادته وجدته رجل عبادة، وإذا جاهد وحمل السلاح قلت: إنه رجل حرب وجهاد تكفي قيادته للجنود الغازية في سبيل الله، أنها تفوق عشرات القادة، كما أنه صلى الله عليه وسلّم كان حسن العشرة في تعامله مع أهل بيته، فكان الشَّخص الحنون والطيب واللطيف الذي يُدخل السرور والبهجة في قلوب أزواجه، كما كان يخصص لهم أوقاتاً ليقضي لهم حاجاتهم وينظر في أمورهم.

كان صلى الله عليه وسلم يتصف بالرحمة مع الأطفال، فعندما كان حفيده الحسين يدخل عليه كان يلاعبه ويلاطفه ولا يعبس في وجهه، وحتى أثناء الصلاة عندما يسمع صراخ طفلٍ فإنه يقصِّر من القراءة في الآيات ولا يطيل فيها.

عندما يأتي وقت العبادات فإنه صلى الله عليه وسلم كان يلتزم بها ولا يقصر في أيٍّ منها أو يستخف بها، فكان يجعل لكل شيءٍ وقتاً.

وكان صلى الله عليه وسلم واعظًا ومرشدًا أمينًا يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان متحليًا بمحاسن الأخلاق وهي التي جعلت منه أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، بل كان صلى الله عليه وسلم مربيًا وهاديًا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام، لهذا أمر الله المؤمنين باتباع الرسول وطاعته، وجعل هذا من مؤشرات الحب في الله، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (31)} (آل عمران).

2ـ القدوة الخاصة:ـ

نعني بالقدوة الخاصة، أي بما شرعه الله لأنها غير معصومة، كما هي في الصالحين والأتقياء من عباد الله وتتمثل في الاقتداء بالصحابة والعلماء والاقتداء بالوالدين وبالمعلم في المدرسة والجامعة والسبب في ذلك أنهم ليسوا معصومين من الخطأ فهم بشر يصيبون ويخطئون والمسلم يقتدي بهم عندما يصيبوا الحق، ويجتنب الاقتداء عند مجانبتهم للصواب حيث رغب الحق تبارك وتعالى أن يكون الإنسان قدوة في الخير وحذره أن يكون قدوة في الشر، قال صلى الله عليه وسلم «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غيـر أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» أخرجه مسلم في صحيحه.

نأخذ من الحديث أن الوسطية التي هي إحدى مرتكزات العملية التربوية في الإسلام، إن الدين لا يلغي حسنات الآخرين لخطأ وقعوا فيه، ولا يُقرر أخطاء القدوة المخطئ وإن أصاب في بعض الجوانب، وإنما يربي الشخصية الإسلامية على قبول الحق من أي وعاء صدر ورفض الخطأ من أي مصدر كان.
فعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم « الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها».

والقدوة الحسنة  لها ميادين واسعة :
فهناك قدوات حسنة في بذل الخير والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هناك قدوات حسنة في حفظ القرآن الكريم والعمل به، وحفظ السنة الصحيحة والعمل بها.
هناك قدوات حسنة في الإصلاح بين الناس، والبذل والإنفاق في سبيل الله.
هناك قدوات حسنة في نفع الناس وتعليم الخير.
هناك قدوات حسنة  في إتقان العمل وطلب الرزق.
هناك قدوات حسنة في التربية والتعليم وحفظ الناشئة.
هناك قدوات حسنة في البر والعبادة وفعل الخير. وبالجملة فكلما اجتمع في الإنسان مقومات القدوة الحسنة كان حرياً أن يُقتدى به.

أثر القدوة الصالحة علي الفرد والمجتمع :ـ

إنَّ قضيَّةَ التَّرْبِيَةِ الصحيحةِ قدْ شَغَلَتِ الآباءَ والأُمَّهَاتِ، والْمُربِّينَ والْمُربِّيَاتِ، كُلٌّ يريدُ أنْ يُخرِجَ جِيلاً قَويًّا، جِيلاً يكونُ شَامَةً فِي جَبِينِ التَّاريخِ، يُعيدُ للأمَّةِ أمجَادَهَا، ويُحْيِي لهَا ذِكْرَهَا، ومِنْ أَهَمِّ وسَائِلِ التربيةِ الصحيحةِ: التَّربِيَةُ بالقُدْوَةِ؛ فإنَّ للأفعَالِ تأثيرًا لا يَقِلُّ أَثَرُهُ عنِ الأقوالِ والتوجِيهاتِ.

فاعْلَمُوا أيها المؤمنون... أنَّ أَبْنَائَنَا أمَانَةٌ فِي أعنَاقِنَا، يَجِبُ عليْنَا أنْ نَكُونَ لَهُمْ خيرَ قُدْوَةٍ، وأحْسَنَ مِثَالٍ، سَوَاءٌ مِنَّا الْوَالِدَانِ أوِ المُعَلِّمُ أو المعَلِّمَةُ أو غيرُهُمْ.. فكَمْ فِي بُيُوتِنَا مِنْ آبَاءٍ وأُمَّهَاتٍ لَمْ يكُونُوا يومًا قُدوةَ خَيرٍ لأوْلاَدِهِمْ، بلْ كَانُوا مِعْوَلَ هَدْمٍ لأبنَائِهِمْ بِسَببِ أفْعَالِهِمْ الَّتي تَأَسَّى بِهَا أولادُهُمْ فنَشَأُوا نَشْأَةً غيرَ صالِحَةٍ، مَا الظَّنُّ بأوْلادٍ أُبُوهُمْ مُقَصِّرٌ فِي الصلاةِ لا يَشْهَدُ الجُمُعَ وَلا الجَمَاعَاتِ، ما الظَّنُّ بِبَنَاتٍ لا يَرَيْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ إلاَّ القَنَواتِ الهَابِطَاتِ وأُمُّهُمْ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، مَا الظَّنُّ بِبَيْتٍ لا يَسْتَيْقِظُ أَحَدٌ فيهِ إلاَّ بعدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

"والنَّاسُ كمَا يقُولُ الإمَامُ الغَزَالِيُّ لاَ يَتَعَلَّمُونَ بآذَانِهِمْ بلْ بِعُيُونِهِمْ"، فالأمُّ التي تُلْقِي على ولدِهَا عَشَراتِ الدُّرُوسِ فِي الصِّدقِ ثمَّ تَكذِبُ علَى أبيهِ أَمَامَهُ مَرَّةً واحِدَةً ليسَتْ جَدِيرةً أنْ تُعَلِّمَ ابنَهَا شَيئاً، ولَيسَ هذا الوَلَدُ مُسْتَعِداً كَذلكَ أَنْ يَسْمَع مِنْ والِدِهِ شَيئًا؛ إِذْ لا يَأْمُرُه بالصدقِ بالقولِ مَرَّةً، إلاَّ وتَجِدُهُ يُعَلِّمُهُ الكَذبَ بالفِعْلِ مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ؛ فَلا يَطْرُقُ البَابَ أَحَدٌ إِلاَّ وتَجِدُ الأَبَ يقُولُ لِوَلَدِهِ قُلْ لَهُ: لَيسَ أبِي مَوْجُودًا.

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا ♦♦♦ عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ.

وهذا نموذج عظيم استفاد من القدوة الصالحة فكان قدوة هو أيضا ..
هو القائد محمد الفاتح ، كانت أمه تعيش في قرية صغيرة على حدود القسطنطينية ، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم  قد بشر بفتحها على يد المسلمين ، فكانت تخرج في صباح كل يوم على مشارف هذه القرية وفي يدها ابنها الصغير محمد وهي تقول له : يا محمد هذه القسطنطينية وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها على أيدي المسلمين أسأل الله العلي القدير أن يكون هذا الفتح على يديك …

وكانت أمه كل يوم بعد صلاة الفجر تأخذه إلى تخوم القسطنطينية تقول له أنت اسمك محمد على اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه أسوار القسطنطينية ستفتحها بإذن الله ذات يوم.
عنما توفي والده السلطان، فتحت الأم عليه الباب وجدته يبكي ، قالت له أبكي، اجلس هنا وابكي واترك أسوار القسطنطينية!!

ما لهذا خلقت يا بني، ما ولدتك لتبكي على الملك، أنا أنجبتك لتفتح القسطنطينية وترفع راية الإسلام..
فمسح دموعه، وجلس على كرسي الخلافة ، ويبدأ محمد الفاتح يخطط كيف يدخل أسوار القسطنطينية، ودخلها وعمره 23 سنة، السبب كان وراءه (أم) تعلمه ان أسوار القسطنطينية صعبة لكن ليست مستحيلة..
والقدوة الصالحة أعظم من المناهج الدراسية، والقوانين الجامعية ، أوالأبنية الفخمة لأن للأستاذ
أثرًا كبيرًا على طلابه في علمه وأدبه وعمله ومهارته التدريسية وسائر أخلاقه وتصرفاته.

ولم تصل التربية الحديثة إلى أبدع من اتخاذ القدوة الصالحة وسيلة إلى بناء الجيل الطلابي، فالمعلم القدوة هو الذي يرتقي بالأمة إلى أسمى درجات الحضارة والمدنية، وبالمدرسين المخلصين تنهض الأمة من كبوتها وتنتصر على أعدائها.

إنَّ الوَاجِبَ علي الآباء والمربين مِنَ الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَكُونَوا في مُقَدِّمَةِ صُفُوفِ المقْتَدَى بِهِمْ؛ لأنَّ النَاشِئَةَ الصِّغَارِ مِن الذُّكُورِ والإنَاثِ لاَ يُدرِكُونَ مِنَ القُدْوَةِ إلاَّ ما يَرَوْنَ ويَسْمَعُونَ، فإِنْ رأَوْا أَوْ سَمِعُوا خَيرًا اقْتَدَوْا بِمَنْ خَالَطَهُمْ فَسَعِدُوا، وإِنْ رَأَوْا أوْ سَمِعُوا شَرًّا تأثَّروا بِذَلكَ الشَّرِّ، وكَثِيرًا مَا يسْتَمِرُّ مَعَهُمْ طُوَالَ حَيَاتِهِمْ.

إن للقدوة الصالحة آثارًا حميدة وطيبة على الفرد المسلم في حياته الدعوية يدركها ويلمسها في ذاته عندما يقتدي بصاحب صالح فيتأثر به ويظهر ذلك في سلوكه الحياتي وفكره ومنهجه، وهي سبب فعّال في مصير الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية، فإن الإنسان يتأثر بقدوته ويصطبغ بصبغته فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا، وقد برهن على ذلك الوحي والعقل والواقع والتجربة والمشاهدة، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح:29).
فالقدوة الصالحة سببٌ في دخول الإنسان ضمن الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون يوم القيامة، وهي ضمانٌ لاستمرار الصحبة، قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} (الزُّخرف).

والقدوة الصالحة تجعل الفرد لا يعيش مشغولًا بذاته بل يمد يديه بالخير والعون ويعطي إلى المجتمع ما يزيده أمنًا وسلامًا؛ لأنه يعرف معنى الإنسانية ويدرك مسئوليات الأخوة في المجتمع، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة:2).

والقدوة الصالحة تعمل على توحيد المجتمع الإسلامي بحيث يعمل أعضاؤه في بوتقة واحدة متضامنة في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا مطلب تربوي إحياء المنهج الإسلامي من خلال جعل المسلمين جسمًا واحدًا يشعر الجميع بشعور واحد، قال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ (71)} (التوبة).

والقدوة الصالحة تعمل على سرعة الامتثال والتطبيق لكل ما هو مفيد للمجتمع، بدون حرج ولا ممانعة من المقتدين، بل استجابة وتطبيق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(24)} (الأنفال).
هبني قدوة صالحة، أهبك جيلاً صالحًا، وهبني إمامًا يدعو إلى النار، أهبك أرتالاً من اللحوم البشرية كلها تستعد أن تُقذف في النار.

العنصر الرابع : مقومات القدوة الصالحة:ـ

1ـ الإخلاص في القول والعمل:ـ

إن الإخلاص في القول والعمل من أهم المقومات التي تساعد في وجود القدوة الصالحة ولأن الإخلاص أمر به الحق تبارك وتعالى فقال في كتابه الكريم: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ(5)} (البيِّنة)، وقوله تعالى:{قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14)} (الزُّمر)،

لذلك ينبغي على القدوة أن يتزود بالإخلاص في عبادته وذكره لله وفي جهاده وسائر أعماله، وما يقوم به من وعظ وإرشاد وتوجيه ونصح وما يقدمه من خدمات لأمته ومجتمعـه وبقـدر ما يملك من تطبيق وعمل صادق مخلص يكون نجاحه في عمله وثقة الناس به تزداد لأنه يعمل بما يقول مخافة الله بعيدًا عن أغراض النفس ونظر الناس، يبتغي وجه الله وتحقيق مرضاته،
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)} (الزُّمر).

2ـ التقوى:

إن التقوى هي الأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع الدين وتوجيهاته وآدابه وأخلاقه، فالقلب الذي يستشعر مخافة الله ويستسلم لإرادته ويتبع المنهج الذي اختاره الله ويتوكل عليه وحده هو المؤهل للقيادة وأن يكون قدوة للناس.
والتقوى تجعل القلـب طاهرًا لا يعمل عملًا إلا وهو مراعٍ لله طالبًا رضاه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا(5)} (الطَّلاق).

ولأهمية التقوى كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التقوى، عن ابن مسعود أن النبي كان يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح.

3ـ الاستقامة على الإيمان:

يوجد الكثير من الصالحين في مجتمعاتنا، ولكن القليل من يخلص العمل ويستقيم على الإيمان ويسير في موكب الرحمن، ولا خير ولا صلاح في شخص حاد عن الإيمان ولم يستقم على دين الله؛ لأنه سرعان ما ينعطف أمام التحديات وأمام الإغراءات، لذلك ينبغي الاستقامة على أمر الدين وخاصة القدوة ومعلم الناس الخير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)} (فصِّلت)،

فالقدوة مشغول في مجاهدة نفسه واستقامتها وسياستها، وهذا المطلوب الأعلى والنهج الأسمى في بناء القدوات المستقيمة في حياتها وفق معتقداتهم الإيمانية حيث جاء في الحديث الشريف عن سفيان الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم».
فلا يكون قدوة حسنة من يخالف عمله سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون قدوة حسنة من يبتدع في دين الله ما ليس منه، ولا يكون قدوة حسنة من يجاهر بالمعاصي وعمل السوء.

 موافقة العمل القول:

القول والعمل قرينان، ولا يكون قدوة حسنة أبداً من تخالف أفعاله أقواله، وأعماله كلامه، قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3){ [الصف].
يجب أن نعلم يقينا أن الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان فحسب، ولكنه صدق في اللهجة واستقامة في المسلك. الباطن فيه كالظاهر والقول فيه صنو العمل.

هذا جانب وجانب آخر أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل ولهذا قال شعيب عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ  إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) } [هود].

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا ".
وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي، صلي الله عليه وسلم قال: { يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه- يعني أمعاءه- في النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال:كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه}(رواه  البخاري).

وقد قيل: وقد قيل:
وغيرُ تقي يأمرُ الناسَ بالتقَى        طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ


وقال الشاعر أيضا :
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتِ بمِثْلِهِ        عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عَظيمُ

وقد حدث مالك عن ربيعة قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ".
وقد قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله بن الشَخير: يا مطرف عظ أصحابك. فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل- فقال الحسن: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول؟؟ لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلمِ يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.

وقال الحسن أيضًا: أيها الناس إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإِسراف على نفسي غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمِن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعُدم الواعظون، وقلَّ المذكرون ولما وُجِد من يدعو إلى الله جل ثناؤه ويرغَب في طاعته وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين، وإذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فألزموا مجالس الذكر، فرب كلمة مسموعةٌ ومحتقرٍ نافعٌ.

ومن طرائف الصالحين ...يحكي أن الإمام السري السقطي رضي الله عنه قال لتلميذه أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه : يا جنيد اذهب إلى المسجد وعظ الناس فقال الجنيد: يا أستاذي إنني أستطيع الوعظ ولكني أخشى ثلاث آيات في كتاب الله تعالى
فقال له الأستاذ : وما هي ؟؟
فقال له التلميذ : أولها قول الله تعالى :{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة].
واما الاية الثانية فقول الله تعالى { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ... (88) } [هود].
واما الاية الثالثة فقول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3){ [الصف].
وسكت الشيخ وانصرف التلميذ إلى مضجعه ونام فرأى في المنام الرسول عليه الصلاة والسلام, فقال له: يا جنيد لم لا تعظ الناس?
اذهب إلى المسجد وعظ الناس , فقام الجنيد إلى أستاذه مسرورا وكان هنالك اتصال القلوب بين هذا وذاك, فقال له أستاذه:عجبت لك يا جنيد ألا تعظ الناس إلا باذن من رسول الله فذهب الجنيد إلى المسجد وأذيع في الناس أنه سيعظ اليوم
واجتمع الناس ودخل من بينهم رجل مشرك ارتدى ثوب العلماء ودخل المسجد ليحرج الجنيد في سؤاله
فقال له : يا جنيد أريد أن تشرح لي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتق فراسة المؤمن فانه ينظر في نور الله "
واستمع الناس كيف يجيب الجنيد على هذا السؤال ولم يكن أحد يعلم أن القائل مشرك ولكن الله تعالى علم الجنيد من لدنه علما, فأجاب الجنيد ردا على سؤال السائل يا هذا شرح الحديث أنك كافر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فأسلم المشرك

فلنحذر من مخالفة القول للفعل ... ولنسمع إلي الإمام ابن القيم رحمه في فوائده :" علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كان أول المستجيب له أي ؟ هم، فهم في الصورة أدلاّء وفي الحقيقه قطاع طرق "

5ـ علو الهمة:

 فعلو الهمة عامل مساعد في مقومات القدوة الحسنة، والقدوة الحسنة نوع من التميز، ولهذا ينبغي لصاحبها أن يكون صاحب همة عالية وعزيمة متوقدة.
فالقدوة الحسنة نموذج إنساني حيٌّ، يعيش ممثِّلاً ومُطبِّقًا للمنهج الرباني الذي جاء به القرآن في علو الهمة والارتقاء إلي معالي الأمور ، رأينا أن الله تعالي امتدح سيدنا إبراهيم عليه السلام بالقدوة الحسنة لما ارتقي إلي الهمة العالية ، وذلك لما قام بجميع الأوامر وترَك جميع النواهي، وبلَّغ الرسالة على التمام والكمال، ما يستحق بهذا أن يكون للناس إمامًا يُقتدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله".

قال تعالي}وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124){ [البقرة]

وقال الجزائري: "إمامًا: قدوة صالحة يُقتدى به في الخير والكمال".
وقال تعالي } قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4){ الممتحنة.
فالحريص الموفَّق الذي يروم المعالي، لا نراه إلاَّ مع أصحاب الهِمم العالية، من القدوات الربَّانية الصالحة، فسيكون منهم أو قريبًا منهم.

 التحلي بالأخلاق الحميدة:

وخاصة أمهات الأخلاق كالحلم والصبر والصدق، والشجاعة والوفاء، والحكمة والعدل، وغيرها.

أيها المسلمون ....كيف يكون قدوة حسنة ذلك الأب الذي يدخن بين أبنائه؟!
وكيف يكون قدوة حسنة ذلك الأب الذي يكذب أو يشتم أو ينظر إلى الحرام أمام أبنائه؟!
وكيف يكون قدوة حسنة ذلك المعلم الذي يقصر في أداء واجباته مع تلاميذه؟!

إذن هذا الأمر الأول المطلوب من المسلم، وهو أنه ينبغي عليه أن يتصف بفعل المعروف وترك المنكر من الأقوال والأفعال في نفسه ابتداءً، ومن ثَم فإنه سيظهر بمظهر القدوة الحسنة لمن هم دونه سنّاً أو وظيفة.
انظروا كيف حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  علَى غرس هذه القيم الأخلاقية العالية ، حتَّى نشَأَ جِيلُ الصَّحَابَةِ كالنُّجُومِ يُقْتَدَى بِهَا في غَيَاهِبِ الصَّحَرَاءِ، فاقْتَدَتْ بِهِمُ الدُّنيَا كُلُّهَا؛ فانْظُرْ إِليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهوَ يَلْبَسُ قَمِيصَ الرِّفْقِ لِيُعَلِّمَ الصحَابَةَ، وكَيفَ كانَ رَدُّ فِعْلِهِمْ.

فَقدْ جَاءَ عِندَ الإمامِ مُسلمٍ مِن حَديثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".

دَخَلَ أعْرَابيُّ مَسجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَأَى حُسْنَ خُلُقِهِ فقَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا". فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: "لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا" يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ

فمَا لَبِثَ أنْ قَامَ الأعرابيُّ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ" فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ".

كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشِي يُسَلِّمُ علَى الصِّبْيَانِ، ويسْتَمِعُ للإِمَاءِ؛ ففي الصحيحينِ مِنْ حديثِ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، أنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ.

7ـ الاعتدال والتوسط في أمور الحياة:

ينهج القدوة منهج التوسط في جميع أمـور الحيـاة مع مراعـاة الآداب الشرعية، ولا سيما في اللباس والمظهر والمأكل والاقتصاد وعلاقاته الاجتماعية مع الناس، والتوسط يعني الاعتدال والاستقامة، وبالتالي يجعل الناس ينظرون إلى هذه الشخصية المتعادلة المستقيمة نظرة إعجاب فتدخل في قلوبهم لأن مظهر القدوة وتعامله مع الآخرين ينسجم مع المنهج الذي يدعو إليه،
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (134)} (البقرة).

العنصر الخامس : القدوة السيئة وخطرها:ـ

وهي على عكس ذلك تمامًا، فهي لا تتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتشرف بحمل الإسلام، بل إنها تعتز بانتسابها لغيره، وتسير في المسالك المذمومة واتباع أهل السوء والاقتداء من غير حجة أوبرهان كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم، قال تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23)} (الزُّخرف)
 فقولهم هذا عين التقليد والمحاكاة يكون ضارًا ومفسدًا وطريقًا لوصول المقلدين إلى دركات النقص التي انحدرت إليها أسوتهم السيئة.
ولهذا رد عليهم القرآن بقوله:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24)}[الزخرف].
وفي آية أخرى:قال تعالي{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}[المائدة].

فالقدوة السيئة تمنع من اتباع الحق ،لما جاء سيف الله خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، في السنة الثامنة للهجرة النبوية، وحين جاءه مسلمًا، ثم مد يده ليبايع النبي عليه الصلاة والسلام-، قال رسول الله لخالد رضي الله عنه معاتبًا له على إسلامه المتأخر: "أين كان عقلك يا خالد؟!
 فلم ترَ نور النبوة بين ظهرانيكم منذ عشرين سنة؟!
 فقال خالد: "كان أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال".

خطر القدوة السيئة

ولقد عرف دعاةُ الشر والفساد ما للقدوة الصالحة من أثر محمود بين الناس، لذلك أخذوا يصنعون أمثلة ونماذج بشرية على طريقتهم ذات مفاهيم وعقائد باطلة وأعمال ضالة فاسدة ومفسدة وأحاطوها بالأصباغ والألوان الخداعة وسلطوا عليها الأضواء الإعلامية لإثارة الإعجاب بها في نفوس الجماهير حتى تكون أسوتهم التي تقتدون بها.

ومن تكن الذئاب له دليلاً *** تضاحكه قبل الكريهة والقتل

ومن هذه الأمثلة البشرية المصطنعة شخصيات ذات مذاهب هدّامة وآراء باطلة، أحاطها المفسدون بعبارات التمجيد والإكبار ليتخذها الناس أسوة لهم يقتدون بها في آرائها وأفكارها، وخير دليـل على ذلك ما يسمى بنجوم الفن والأناقة والغناء الماجن من رجال ونساء، ليكونوا أسوة للناس يقتدون بهم في تفاهاتهم وسلوكهم والمنحرف حتى أمست هذه الأمثلة الساقطة هي القدوة التي تقلدها الأجيال.

حتي صدق فينا قول النبي صلي الله عليه وسلم ، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ "فَمَنْ؟" (البخارومسلم)

 ومن أمثلة القدوة السيئة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، فرعون عليه من الله ما يستحق، ولهذا قال عنه رب العزة والجلال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) أَيْ: اِسْتَخَفَّ عُقُولهمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَة فَاسْتَجَابُوا لَهُ، فكان قدوتهم السيئة وطريقهم إلى نار جهنم، والعياذ بالله.

فكانت نهايتهم أليمة في الدنيا والآخرة فقال تعالي } فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99){ هود.
سيأتون يوم القيامة، وكل أمة تلعن أختها، أخيارها المزعومة قبل فجارها، ولن ينفعهم أن يقولوا: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ).الأحزاب.

وواجبنا نحو أبنائنا ومن لنا ولاية عليهم أن نحافظ عليهم ونحميهم من القدوات السيئة امتثالا لأمر الله تعالي ، قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6){ [التحريم]

وقد حذر  النبي صلي الله عليه وسلم من التقليد الأعمي ،فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا" أخرجه الترمذي.

العنصر السادس: مصادر القدوة الصالحة:

تكمن مصادر القدوة الصالحة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأقوال السلف رضوان الله عليهم أجمعين، وهي كالتالي:ـ

أولًا، القرآن الكريم:

يعتمد القرآن الكريم أسلوب التربية بالقدوة حينما أمر الله سبحانه نبيه بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، فقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (الأنعام:90).
 بمعنى أيها الرسول اتبع ملة هؤلاء الأنبياء الأخيار، وقد امتثل فاهتدى بهدي الرسل من قبله وجمع كل كمال فيهم فاجتمعت لديه فضائل وخصائص فاق بها جميع العالمين.

وأكد على أسلوب التربية بالقدوة فطلب من المؤمنين اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة وطالب المؤمنين بطاعته فيما أمر ونهى طاعة مطلقة، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب:21).

لقد اعتبر ابن كثير هذه الآية أصلًا كبيرًا في التأسي برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وسائر أحواله، ولهذا أمر الحق تبارك وتعالى الناس جميعًا بالاقتداء بالنبي الكريم في غزوة الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، سواء وهو مكروب ومحروب فهو يصبر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي.

وحذر القرآن الكريم من يحيد عن القدوة الصالحة ويتبع الظالمين، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)} (الفرقان).

يقول الإمام ابن كثير: «إن الله يخبر عن ندم الظالم الذي فارق طريق رسول الله والذي جاء به من الحق المبين وسلك طريق غير سبيل المؤمنين، فإنه يوم القيامة يندم حيث لا ينفعه الندم ويعض على يديه حسرة وأسفًا».

ثانيًا، السنة النبوية المطهرة:

لقد قررت السنة النبوية مبدأ القدوة الصالحة في التربية من خلال الدعوة إلى الاقتداء بكل من دعا الناس إلى الخير والصلاح والهدى الذي جاء به النبي الكريم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:

أوصى صلى الله عليه وسلم- باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، حيث جاء عن أبي نجيح العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة».

وما رواه البخاري دليل واضح في طاعته صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».

وأوصى صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأبي بكر وعمر بن الخطاب بنص صريح فقال «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)، كما أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في الصلاة فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وأمر المؤمنين بالاقتداء به في تأدية مناسك الحج فقال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم».

ثالثًا، أقوال السلف:

ذكر عبد الله بن مسعود محامد الصحابة وفضائلهم ووجوب الاقتداء بأفعالهم الحميدة وأخلاقهم النبيلة فقال: «من كان متأسيًا فليتأسّ بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وذكر الشاطبي في الاعتصام عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم».

الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم، وهم أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، وهذا مذهب أهل السنة فلا يجوز لأحد أن يبغض أحدًا منهم حيث جاء عن الإمام مالك أنه قال: «من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمد أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10).

الخاتمة ....

إن القدوة الصالحة تعمل على تهذيب الأفراد وإصلاحهم كما تجعل من المجتمع وحدة مترابطة عقائديًا وشعوريًا واجتماعيًا وتعمق مفهوم الأخوة بين المؤمنين، وتجعل منهم أمة متضامنة ذات قوة وتأثير وفاعلية إلى الأفضل في حياة المجتمع، والقدوة الحسن رمزٌ لوحدة الأمة وتماسكها وخاصة أمام التحديات والصعاب فتقف شامخة وهي مطمئنة لوعد الله لها بالنصر والتمكين والاستخلاف، قال تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (النور:55).

تعمل القدوة الصالحة على سرعة الامتثال والتطبيق لكل ما هو مفيد للمجتمع، بدون حرج ولا ممانعة من المقتدين، بل استجابة وتطبيق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).
فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلح شبابنا ونسائنا وذرياتنا...

رابط تحميل word

رابط تحميل pdf

ليست هناك تعليقات: