23 أكتوبر 2018

الابتلاء ... سنّة ماضية








- الحمد لله رب العالمين ....  حلق الموت والحياة للابتلاء فقال تعالي } الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ  لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2){ الملك .

- وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .... جعل الإبتلاء بالخير والشر فقال تعالي } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35){ الأنبياء.

- وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. بين أن الإبتلاء سنةٌ الله في خلقه لم    يستثنِ منه أحدًا حتى أنبيائه ورسله، وهم أقرب الخلق وأحبهم إليه؛ روى الإمام أحمد في مسنده وابن حبانَ في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول الله أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال: أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة»

- فاللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ......

أما بعـد.. فيا أيها المؤمنون..

إن الله تعالى جعل الدنيا دار ممر وامتحان، وجعل فيها الابتلاء سنة من سننه الربانية الجارية ؛ ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها تقتضي ألا يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته ، فكم منا من يُخفق في عمل، ويخيب له أمل، أو يُبتلى بموت حبيب، أو يَمرض له بدن، أو يُفقد منه مالٌ أو ولد، أو يُبتلى في قوة تمسكه بدينه، أو غير ذلك مما تفيض به الحياة الدنيا من ابتلاءات وشدائد وتمحيصات،وكذلك تجد من يبتليه الله تعالي بكثرة المال والأولاد ، ووفرة في الصحة ، فهذا كله  إبتلاء واختبار ، لذلك كان موضوعنا عن (الابتلاء ... سنّة ماضية) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...

1ـ حقيقة الفتنة والإبتلاء .

2ـ الإبتلاء سنة الله في خلقه .

3ـ الحكمة من الإبتلاء .

4 ـ من صور الفتن والإبتلاءات في القرآن الكريم .

  مراتب الإبتلاء .

  عوامل الثبات عند الفتن والإبتلاءات.

7ـ الخاتمة.
----------------------

العنصر الأول : حقيقة الفتنة والإبتلاء:ـ

خلاصة القول في الفتنة والابتلاء : هو الاختبار والامتحان للإنسان في الشدّة والرخاء .
وكذلك لفظ البلاء مع زيادة في المعنى الذي نريده بلفظ (البلاء) وهو الحادث الذي فيه شدّة ومشقة وينزل بالمرء لغرض اختباره وامتحانه به .
وقيل البلاء هي التكاليف كلها مشاق علي الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء .
قال تعالي:}وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31){ محمد .
قال تعالى : }الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3){ العنكبوت.
أي لا يختبرون فيميز خبيثهم من طيبهم .
اختبارالله تعالى للعبد تارة بالمسار ليشكر وتارة بالمضار ليصبر فصارت المحنة والمحنة جميعاً بلاء .
قال تعالى : } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35){ الأنبياء.

العنصر الثاني : الإبتلاء سنة الله في خلقه :ـ

لقد جعل الله سبحانه وتعالى الابتلاء في الدنيا بما فيها سنة ماضية في الأمم والأفراد والشعوب وجعل الآخرة للجزاء، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف].
وقال تعالي { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) [ فاطر  ] .
لقد قضت سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر والخير أي يختبرهم بما يصيبهم مما يثقل عليهم كالمرض والفقر والمصائب المختلفة كما يخبرهم بما ينعم عليهم من النعمة المختلفة التي تجعل حياتهم في رفاهية ورخاء وسعة العيش كالصحة والغنى ونحو ذلك .
ليتبين بهذا الامتحان من يصبر في حال الشدّة ومن يشكر في حال الرخاء والنعمة ،
قال تعالى } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35){ الأنبياء
أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا والمصائب والشدائد كالسقم والفقر وغير ذلك مما يجب فيه الصبر ، كما نختبركم بما يجب فيه الشكر من النعم كالصحة والغنى والرخاء ونحو ذلك فيقوم المنعم عليه بأداء ما افترضه الله عليه فيما أنعم به عليه .
وكلمة (فتنة) في قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي ابتلاه فهي مصدر مؤكد لقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُم) من غير لفظه . (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)أي فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر.
وقد وصف الله تعالي نفسية الإنسان الضعيفة في التعامل مع الإبتلاء والفتن  فقال تعالي }فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16){ الفجر.
فالمحنة والمنحة جميعاً بلاء ، فالمحنة مقتضية للصبر والمحنة مقتضية للشكر ، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر ، فالمنحة أعظم البلاءين .
وبهذا النظر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر
وقضت سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر كما يمتحنهم بالخير ،

العنصر الثالث : الحكمة من الإبتلاء

الابتلاء إعداد وتربية للرجال 

لأن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله  لم يستأجر له أطفالا أو مرضى أو خوارين ؛ إنما ينتقى له ذوى الكواهل الصلبة ، والمناكب الشداد !!
كذلك الحياة  لا ينهض برسالتها الكبرى  ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون . .
ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء مكافئا لما أوتوا من مواهب ،.

ـ ففي حديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبيرعن أخت حذيفة بن اليمان فاطمة أو خولة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) .
فاختلاف أنصبة الناس من الجهد والتبعة والهموم الكبيرة يعود إلى طاقتهم فى التحمل والثبات .
وسنة العظمة والاعتداد هى التى أوحت لقائد أمريكى كبير أن يقول: " لا تسأل الله أن يخفف حملك ، ولكن اسأل الله أن يقوى ظهرك "

إن خفة الحمل ، وفراغ اليد ،وقلة المبالاة صفات قد يظفرالأطفال منها بقسط كبير لكن مشاغل العيش وهموم الواجب ، ومرارة الكفاح ، واستدامة السعى ،هى أخلاق الجاهدين البنائين فى الحياة والرجل القاعد فى داره لا يصيبه غبار الطريق، والجندى الهارب لا يشوكه سلاح ، ولا يروعه زحف .
أما الذين أسهموا فى معركة الحياة وخاضوا غمارها ،فستغبرهم وعثاؤها ، وتنالهم جراحاتها ، ويدركهم من النصب والكلال ما يدركهم.

ومن هنا كرم الإسلام المنتصبين لأعراض الدنيا وواسى المتعبين مواساة تطمئن بالهم وتخفف آلامهم . " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تُفيئها الريح، تصرمها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة" .

فالمؤمن السارب فى الحياة هدف لمشاكلها الجمة ، أما العاجز الهارب من الميدان فماذا يصيبه ؟! وذاك سر قوله صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيرا  يصب منه "
وقوله: " إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط "
فالمتعرض لآلام الحياة يدافعها وتدافعه  أرفع عند الله درجات من المنهزم القابع بعيدا  لا يخشى شيئا ولا يخشاه شيء .

وما ادخره الله لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل :قال رسول الله صلي الله عليه وسلم  "يود أهل العافية يوم القيامة  حين يُعطى أهل البلاء الثواب  لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض" .

الإبتلاء دواء للنفوس البشرية :

قال ابن القيم : " فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه " انتهى . " زاد المعاد "

العنصر الرابع : من صور الفتن والإبتلاءات في القرآن الكريم:ـ

لقد ذكر الله تعالي الإبتلاءات والفتن في القرآن الكريم وخاصة سورة الكهف علي أربع فتن وهي:

 فتنة الديـن:

وفي ذلك اصحاب الكهف فُتنوا في دينهم على يد ملك كافر أمرهم أن يتركوا دينهم وأن يرجعوا إلى دين آبائهم وأجدادهم فلم تخيفهم تهديداته ولم تغريهم إغرائته ولم تنفع معهم ضغوطاته ففروا بدينهم إلى الكهف
قال تعالى } نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14){ } وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16){الكهف.
فلابد من تربية النفوس بالبلاء , ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد , وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . .                    

فلا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة , كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف.       
والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعزعليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولي.

فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين .

وكلما تألموا في سبيلها , وكلما بذلوا من أجلها ، كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها،كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها .

إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء , ولا صبروا عليه ،مثل ما حدث مع أصحاب الأخدود.. قال تعالي}  وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9){ البروج. 

وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها , مقدرين لها , مندفعين إليها، وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا .

ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد ، والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون , والران عن القلوب .

ولقد عانى الصحابة مع نبيهم صلي الله عليه وسلم أشد أنواع الابتلاء ،فقُتِّلوا ،وشُرِّدوا ،وحوصروا ، وأخرجوا من ديارهم ، حتى قال رسول الله ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله )
[ رواه أبو نعيم في الحلية ورواه بنحوه الترمذي و حسّنه وهو كما قال ، وابن ماجة و أحمد ] .

واختص الله تعالى المجاهدين والمرابطين في سبيله بأصناف البلاء ، ولم يذكرغيرهم على سبيل التخصيص رغم عموم سنة الابتلاء لعموم البشر .

جاء في كتاب "الفوائد" للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى  ما نصه : «سأل رجل الشافعي فقال : يا أبا عبد الله ، أيما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى ؟ فقال الشافعي : لا يمكن حتى يُبتلى ، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة» ...
و قال سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [ التوبة  ] .

وقال وهو أصدق القائلين : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) } [ البقرة] .

وليس هذا خاصاً بهذه الأمة ، ولكنها سنّة مضت و تمضي إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، ولا يعدُ الابتلاء أن يكون { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)} [ الأحزاب  ]
وعن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله و هو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، و يمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه و عَظمِه ، فما يصده ذلك عن دينه .. و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء حتى حضر موت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) [ رواه البخاري ] .

وأيضا من سنة الله في عباده المؤمنين الداعين إليه المجاهدين في سبيله أن يبتلوا بغربة في الدين حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار المعاصي والفتن ; وهو وحده موحش غريب طريد .
إنه إحساس بالوحشة لقلة السالكين، إحساسٌ بالوحدة لقلة المطبقين لتعاليم هذا الدين من أوامر ونواهي، من سنن ومكروهات.. إنه الدين أغلى ما يملك الإنسان في كل زمانٍ ومكان، إنه الروح للجسد والغذاء للروح. وقد قال الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام ُغريبا ً ثم يعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يُصلِحون إذا فسد الناس» [رواه أحمد وصححه الألباني].

فقد رغب رسول الله في أجر الغريب في زمانه وجعله كالقابض على الجمر في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم» [صححه الألباني]. فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الصابر على أحكام الكتاب والسنة يقاسي كثيرا ً بما يناله من الشدة والمشقة مثل ما يقاسيه من يأخذ بيده النار، فالمؤمن باتَ يشعر بحر الجمر في قلبه فضلاً عن يده.

إذا المخرج من هذه الفتنة :الصبر على هذا الأذى والالتزام بالتقوى والإيمان ، فهذا مما يجب أن يعزم عليه المؤمنون من الأمور التي تزهق الباطل وتنصر الحق وأهله .
قال تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)) آل عمران.
وقال تعالي : }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157){  البقرة.

2- فتنة الدنيا والمـال:

قال تعالى }وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35){ الكهف .

لقد أعمى المال بصيرته فلم يميز بين الحقيقة والخيال ولا بين الواقع والمثال وما علم المسكين أن المال بلاءٌ وفتنة وأن الدنيا امتحان ومحنة ثم قال كلاماً أعظم وأخطر من قوله ﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ فماذا قال هذا الأحمق قال
﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ نعوذ بالله من الغرور والخيلاء .
ومثله مثل ما حدث مع قارون حيث قال تعالي }إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ ...... (78)....  كانت النتيجة } فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81){ القصص.

ربما يستطيع الإنسان أن يصبر علي محنة الشدة والمرض ، ولكن سرعان ما ينهار أمام  فتنة الدنيا والمال ، يقول الله سبحانه وتعالى: }وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(78){ التوبة .

هذه فتنة المال الذي إذا جاء إلى الإنسان، فإنه إذا لم يثبته الله عز وجل زلت قدمه، وهوى في مراتع الفساد والمعاصي، وأشغله ماله عن ذكر الله تعالى، فلم يعد يجد وقتاً لعبادة الله عز وجل، وبذلك يكون المال وبالاً عليه،لذلك نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن التطلع إلى الدنيا وفتنتها، قال تعالى: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (28){ [الكهف]،
وقال تعالى:} وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131){ [طـه].
وبيّن تعالى أن ما يعطيه الكفار من نعم الدنيا، إنما ذلك لهوان الدنيا عنده وحقارتها، وابتلاء لهم وفتنةً، قال تعالى:} فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55){ [التوبة].

وقد ورد التحذير من فتنة المال والزوجة والولد  في أكثر من آية من كتاب الله  عز وجل ومن ذلك قوله  تعالى : }يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولادِكُم عَدُوّاً لَكُم فَاحذَرُوهُم وَإِن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ (15){ [التغابن]
وقوله  تعالى }وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ(28){ [الأنفال]

وقال صلي الله عليه وسلم: }والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) [رواه البخاري ومسلم].

وعن أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركتُ بعدي فتنةً أضر على الرجال من النِّساء)[البخاري ومسلم].

وعن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدُّنيا حُلوةٌ خضرةٌ، وإن الله مُستخلفُكم فيها فينظُرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)[رواه مسلم].
والمخرج من هذه الفتنه هو الزهد ومعرفة قدر الدنيا.

3- فتنة العـلم :

 قال تعالى .} وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا(61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا(64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69){ الكهف.

وذلك عندما سئل نبي الله موسي عليه السلام هل هناك من هو أعلم منك يا موسي فأجاب بالنفي ونسي أن ينسب العلم لله تعالي فأختبره الله تعالي ورده إلي الأصل.

وقد حكي القرآن الكريم عن رجل اسمه بلعام ابن باعوراء آتاه الله علما حتي أنه كان يعرف اسم الله الأعظم، ولكنه افتتن ونكص علي عقيبه، فقال تعالي : }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176){ الأعراف.

ويلحق بفتنة العلم فتنة الشهرة والظهور علي الشاشات والأضواء،  فالبحث عن الشُّهرة خلَلٌ في عقيدة التَّوحيد، وانقلابٌ في مفاهيم الغاية البشريَّة في الوجود، ونَكْسة في ترتيب الاهتمامات؛ فهو الصُّورة التطبيقيَّة للرِّياء المُحْبِط للأعمال في ميزان الشَّريعة.

وإذا كان قولُ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم (من لَبِس ثوب شُهرة ألبسَه الله يوم القيامة ثَوْب مَذَلَّة)؛ يعني به: لباس الشُّهرة المادِّي المصنوع من القماش؛ كما أن اللباس المعنويَّ للشُّهرة يمكن أن يشمله الحديثُ من باب أولى، ومن أيِّ نوع كان؛ سواء لباس التَّقوى، أو لباس العلم أو لباس الزُّهد، أو لباس الورَع، وأي لباس معنوي يتدثَّر به الإنسان بين الناس يسبِّب له الشهرة وهو يقصدها، ويتعمَّد أن يراه الناس بها، فقد قالَ البَيْهَقِيُّ: "كلُّ شيء صيَّر صاحبه شهرة، فحقُّه أن يُجْتَنَب"

لذا؛ حذَّر  صلَّى الله عليه وسلَّم  من السعي وراء الشهرة فذكر أفضل الأعمال التي يقوم بها المسلم ولكن الهدف من ورائها الشهرة والثناء من الناس ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم (إنَّ أوَّل النَّاس يُقضَى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهِد، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتَّى استُشهدت، قال: كذبتَ ولكنَّك قاتلتَ لأنْ يُقال: جريءٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به فسُحِب على وجهه حتَّى أُلقِيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلَّمت العلم؛ لِيُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثمَّ أمر به، فسُحِب على وجهه حتَّى ألقي في النَّار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنَّك فعلتَ لِيُقال: هو جوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به، فسُحب على وجهه، ثمَّ ألقي في النَّار))[رواه مسلم والترمذي والنسائي].

وقد حذَّر سلَفُنا الصالِحُ من حُبِّ الظُّهور والشهرة بين الناس لِمَن يسعى إليها، ويجعلها هدفَه، وتضافرَتْ أقوالُهم المحذِّرة من هذا الخلُق الذَّميم، فهذا سفيانُ الثوريُّ يقول: "إيَّاك والشُّهرة؛ فما أتيتُ أحدًا إلاَّ وقد نَهى عن الشُّهرة".
أمَّا من اشتهر بالعلم والزُّهد والورع، ونيَّتُه صالحة وعمَلُه خالصٌ لوجه الله، فإنه خارجٌ عن هذه الدائرة، ولكن الواجب عليه أن يتفقَّد حال قلبه بين الفينة والأخرى.

4- فتنة السلطـان:

بين المولي تعالي أن الملك والسلطان فتنة عظيمه يثبت أمامها أهل الإيمان من أمثال ذي القرنين قال تعالى :} وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85){ الكهف.
وقال تعالي } قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ.... (95)......... قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98){ تواضع لله وعلم أن هذا ابتلاء من الله تعالي .

وأيضا قال تعالي في قصة نبي الله سليمان عليه السلام نجده فهم أن الملك والتمكين ابتلاء عظيم من الله تعالي وليس شرف ووجاهة فقال تعالي } قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40){ النمل .

العنصر الخامس : مراتب الإبتلاء :ـ

الابتلاء على خمسة مراتب :ــ

1- ابتلاء (كشف)

2- ابتلاء (رفع)

3- ابتلاء (دفع)

4- ابتلاء (ردع)

5- ابتلاء (قصم وقطع وأخذ)

1ـ ابتلاء الكشف :ـ

يكون لكشف قوة الايمان والكشف عن صفات الصبر والرضا ،إظهار حقائق الناس ومعادنهم . الى غير ذلك كابتلاء الصالحين، فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن .
قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)} [العنكبوت]

إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ; وأمانة ذات أعباء ; وجهاد يحتاج إلى صبر , وجهد يحتاج إلى احتمال ، فلا يكفي أن يقول الناس:آمنا ، وهم لا يتركون لهذه الدعوى , حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه  وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب .

هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت , وسنة جارية , في ميزان الله سبحانه: قال تعالي : }وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3){. .العنكبوت .

والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ; ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله , مغيب عن علم البشر ; فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم ، وهو فضل من الله من جانب , وعدل من جانب , وتربية للناس من جانب , فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره , وبما حققه فعله ، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه ! .

قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه " .

وأخبر الله تعالي عما حدث في غزوة أحد من ابتلاءات ومصائب من أجل كشف حقيقة الإيمان وتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين فقال تعالي } إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142){ آل عمران .

وقال تعالي } مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179){ آل عمران.
فلولا المحن ما ظهر العطن ولا فاح العفن ، ولو كانت كل الأيام بدرا لكان ابن سلول سيد القوم... فكان لا بد من أحد ليخرج ما في نفسه كل أحد!!

2ـ ابتلاء الرفع :ـ

والرفع للدرجات فقد يكون عمل العبد لا يساوى درجة عالية بالجنة فيبتلى ليصبر ويرضى لينال تلك الدرجة.
إن هذا الابتلاء الذي يتعرض له المسلم في حياته بما فيه من مشقةٍ وشدةٍ وعسر ومعاناة، إلا أن فيه منح إلهية وجوائز ربانية جعلها الله لعباده المؤمنين وللمجتمع والأمة المسلمة، فمن ذلك تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات وتطهير النفوس وتزكيتها، وربطها بخالقها والتمكين والنصر والتمييز والتمحيص بين العباد ومعرفة أهل الصدق والصبر والإيمان، وكشف وفضح أهل الخيانة والكذب والنفاق قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَٰرَكُمْ (31)} [محمد]

ففي الأثر: " وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ". 

إذا وصلنا إلى القبر، وقد طهرنا الله من أدران الدنيا، من شهوات الدنيا، من شبهات الدنيا، فنحن في خير كبير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة".
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رواه الترمذي  وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة  .

وحصول الأجر ورفعة الدرجات، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) رواه مسلم .

3ـ ابتلاء الدفع :ـ

وابتلاء الدفع يكون عندما نذنب فنبتلى لندفع إلى باب التوبة ونعود لباب الجنة والدفع بعيد عن أبواب النار.
أحيانا يضعف سير المؤمن إلي الله عز وجل فيبتليه الله تعالي ابتلاء دفع إليه سبحانه وتعالي ليخرج العِجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله ، وذلك مثل ما حدث يوم حنين .

قال ابن حجر : " قَوْله : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .."

قال ابن القيم زاد المعاد: " واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " انتهى .

وأيضا مثل ما حدث مع الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك ،ابتلاهم الله تعالي بمقاطعة الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم كان دفعا لهم للتوبة الندم عما حدث منهم قال تعالي } وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119){ التوبة.

4ـ ابتلاء الردع :ـ

ابتلاء الردع عندما يتمادى العبد فى الذنوب فيبتلى ليكون الابتلاء ردع لعلهم يرجعون الى الله
قال الله عز وجل يقول : } وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ (79){ النساء. ،
ويقول سبحانه : }وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ(30){ الشورى .

وابتلاء الردع مثل ما حدث مع أصحاب الجنة في سورة القلم قال تعالي } إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ(30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَىٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33){ القلم.

فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول :} وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ (21){ السجدة .
 والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .

5ـ ابتلاء القصم والقطع والأخذ:

قد مضت سنّة الله في الأمم الكافرة أن يبتليها بالبأساء والضراء عسى أن يردعها فإذا لم ترتدع عن كفرها وغيها وترجع إلي ربها كان ابتلاء القصم والهلاك والأخذ ، قال تعالى}وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95){ الأعراف. 

والمعنى أن سنّة الله تعالى في الأمم التي كذبت رسلها أن الله تعالى أخذها بالبأساء وبالضرّاء أي بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم ، وقد فعل الله تعالى ذلك بهم لكي يتضرعوا .

وابتلاء القطع للكافرين المتكبرين الذين خلوا من الخير فيكون الابتلاء قصم وقطع دابرهم .
قال تعالي } فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45){ الأنعام.
وقال تعالي عن الأمم السابقة } فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40){ العنكبوت .
وكما حدث مع قوم سيدنا نوح عليه السلام قال تعالي } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14){ [العنكبوت].

العنصر السادس : عوامل الثبات عند الفتن والإبتلاءات :

قال تعالي { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19)} [ الشورى  ] فمن لطف الله تعالي بعباده أن لا يبتليهم إلا بما يطيقون،وأن يلطف بهم فيما ابتلاهم به ،فيعينهم و يثبتهم ،على ما يرضيه عنهم ويرتضيه لهم .
و في دينه الذي ارتضاه لعباده من العوامل المساعدة على ثبات العباد على ضراوة الفتن والبلاء الشيء الكثير ، الذي لا يستصحبه عبد في شدّة إلا خفف عنه ، وربط على قلبه ، ومن هذه العوامل :

أوّلاً : التعرف على الله في الرخاء :

من كان مع الله كان الله معه بلا ريب ، كيف و لا جزاء للإحسان إلا بالإحسان ، و من تقرّب إلى الله شبراً تقربّ إليه باعاً ، و من تقربّ إليه باعاً تقرّب إليه ذراعاً ، و من أتى ربّه ماشياً أتاه ربُّه هرولة ، كما ثبت ذلك فيما رواه الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال النبي : ( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، و إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، و إن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ، و إن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
والعمل الدائم للدين الله تعالي من عوامل الثبات أمام المحن والشدائد قال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7){ محمد .

وليعلم المؤمن أن الثبات من عند الله تعالي ، وأن الإنسان ﻻ يستطيع الثبات دون عون من الله ، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74){ الإسراء. .
وأن المواظبة على تنفيذ ما أمر الله به من عوامل الثبات، قال تعالى }وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66){ النساء.
وقال تعالي } يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27){ إبراهيم.

ثانياً : الإيمان بالقضاء والقدر :ـ

لا شيء يبعث على التسليم و الطمأنينة عند نزول القضاء مثل التسليم لله في قضائه و قدره ، و البعد عن التسخط و الضجر .
قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(22) } [ الحديد  ] .

فلا يكمل إيمان عبد و لا يستقيم حتى يؤمن بالقدر خيره و شرّه ، و يعرف أن من صفته تعالى أن يُقَّدر و يلطف ، و يبتلي و يخفف ، و من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ (100)} [ يوسف  ] .
روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن ‏عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال‏ ‏لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، و ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله ‏ ‏ ‏ ‏يقول ‏: ( ‏إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب . قال : ربِّ ! وماذا أكتب ؟ قال : اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) يا بُنَيَّ ! إني سمعت رسول الله ‏يقول : ( من مات على غير هذا فليس مني ) .

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه:‏عن النبي صلي الله عليه وسلم ‏قال:( لكل شيء حقيقة ،وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ‏ ‏ليُخطئه ،وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) . رواه الطبراني في الأوسط
وليعلم المصاب أيضا أن الله  تعالى فعال لما يريد يتصرف فيهم كيف يختار، من موت وغرق وحرق وغير ذلك مما قضاه وقدره وأمضاه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟!

فإذا تسخط الإنسان بأقوال وأفعال منكرة نهى الشرع عنها وذم فاعلها لشرعه في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله فإن سخطه هذا يكون مناف للرضا والصبر ويضر بالنفس والبدن ولا يرد من قضاء الله وقدره شيئا.

وقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسول الله أوصني ولا تكثر علي؟ قال: لا تتهم الله عز وجل  في شيء قضاه لك ".

يقول العلماء: " إن الله  تعالى عدل لا يجور، وعالم لا يضل ولا يجهل، وحكيم أفعاله كلها حكم ومصالح، ما يفعل شيئا إلا لحكمة، فإنه  سبحانه  له ما أعطى، وله ما أخذ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو الفعال لما يريد، والقادر على ما يشاء، له الخلق والأمر، وعلى المصاب أن يتكلم بكلام يرضي به ربه، ويكثر به أجره، ويرفع الله به قدره ".   

ثالثاً : النظر إلى ما حلّ بالعبد على أنّه مصيبة ولكنها أهون من غيرها :

جاء في الحكمة : ( من نظر إلى مصاب غيره هانت عليه مصيبته ) .
و من ثمرات إعمال هذه الحكمة الإقرار بأن مصيبة الدنيا أهون من مصيبة الدين ،
وقد علمنا رسول الله أن نقول في دعائنا : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما  قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ،ولا تجعل الدنيا أكبرهمنا ولا مبلغ علمنا ) (رواه الترمذي في سننه و قال : ‏هذا ‏ ‏حديث حسن غريب  و الحاكم في مستدركه).

وتحمُّل البلاء العاجل خوفاً مما يترتب على فتنة الدين من العذاب في الآجل ؛ هو اختيار الأنبياء ، ومن اتبعهم بإحسان من الصالحين الأولياء ، فقد حكى الله تعالى عن نبيه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة و السلام قوله تعالي{ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (33)} [ يوسف] ،
فقد آثر السجن على ما فيه من الكرب و الضيق واللأواء على ما كان ينتظره من نعيم الدنيا في كنف العزيز و فتنة النساء .

و لما كان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، صار اختيارَ من يدرك العواقب ، بما أوتي من بصيرة و نظر ثاقب ، كما أنّ اختيار أهون الشرين ، وأخف الضررين في أمور الدنيا هو مقتضى العقل و التشريع معاً .ولقد وضع الله تعالي قانونا في القرآن الكريم علينا أن نضعه نصب أعيننا وهو متمثل في قول الله تعالي } وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216){ البقرة

رابعاً : احتساب الأجر عند الله تعالى :

أن ينظر المسلم إلى الجزاء والثواب والأجر الذي يناله من هذا الابتلاء جراء صبره وثقته بما عند الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام:(مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) (رواه مسلم)،
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» (رواه البخاري)؛ ويريد بحبيبتيه عينيه.
عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد) (صحيح الجامع).
 يا له من أجرٍ عظيم وثواب جزيل لا يناله إلا الصابرون!
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ،عن النبي أنه قال :( أن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء ،وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ).رواه ابن ماجة والحاكم و الترمذي.

فالمؤمن يوطن نفسه على مقابلة الابتلاء في كلتي الحالتين على مرضاة الله التي في تحصيل سعادة الدارين ،
وبذلك يحوز خير الخيرَين ، وأفضل الأمرين، روى مسلم ‏عن ‏ صهيب رضي الله عنه ،‏ ‏قال ‏:‏ قال رسول الله ‏:
( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
فعلى المصاب ألا ينشغل بالجزع والشكوى عما يجب أن يلتفت إليه ، ويعلم أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته ويشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو
قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات في الأمر الديني قال النبي صلى الله عليه وسلم  " اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر ". 

 وكان السلف رحمهم الله تعالى يكرهون الشكوى إلى الخلق؛ لأنها وإن كان فيها راحة إلا أنها تدل على ضعف وخور والصبر عنها دليل قوة وعز، وهي إشاعة سر الله  تعالى عند العبد، وهي تأثر شماتة الأعداء ورحمة الأصدقاء.
وعلى المصاب أن يعلم، أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل بدون ذلك، بل يكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه و استرجاعه على مصيبته فلينظر أي المصيبتين أعظم مصيبته العاجلة بفوات محبوبة أو مصيبته بفوات بيت الحمد في جنة الخلد؟.

خامسا:  التأسي بأهل البلاء :ـ

أن يطفئ المصاب نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب:ـ 

على المصاب أن يعلم أنه في كل قرية وفي كل مدينة، بل وفي كل بيت من أصيب فمنهم من أصيب مرة ومنهم من أصيب مرارا ،وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب فيصاب أسوة بأمثاله ممن تقدمه فإنه إن نظر يمنة فلا يرى إلا محنة وإن نظر يسرة فلا يرى إلا حسرة. 
ولو نظرنا إلي حياة السلف نجد فيها الدروس والعبر والعظات ،فقد جعل الله تعالي في سيرالسابقين ما يثبت به الفؤاد فقال تعالي } وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (120){ هود .
فعلي سبيل المثال ....

أ ـ عروة ابن الزبير رحمه الله تعالي :ـ

قال الحافظ ابن كثير [ في البداية والنهاية  ] : أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد ، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة ، فجمع له الأطباء العارفين بذلك ، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها إلى وركه ، وربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته ، فطابَتْ نفسُه بنشرها .
وقالوا له : ألا نَسقيك مُرَقِّداً حتى يذهب عقلك منه ؛ فلا تُحس بألم النشر ؟ فقال : لا ! والله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يُذهِب عقله ، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة ، فإني لا أحس بذلك ، ولا أشعر به .
 قال : فنشروا رجله من فوق الأكلة ، من المكان الحي ؛ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء ، وهو قائم يصلي ، فقال : اللهم لك الحمد ، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً ، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت ، وإن كنت قد أبليت فلطالما عافيت ، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت .
قال : وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد ، وكان أحبهم إليه ، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات ، فأتوه فعزَّوه فيه ، فقال : الحمد لله كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحداً وأبقيت ستةً ، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت ، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت ،فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة . قال : فما سمعناه ذكر رجله و لا ولده ، و لا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى ، فلما كان في المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال:{ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62)} [ الكهف ] .
فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ، ويُعزُّونه في رجله  وولده ، فبلغه أن بعض الناس قال : إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه .
فأنشد عروة في ذلك أبياتاً لمعن بن أوس يقول فيها :
لعمـرك ما أهويـت كفى لريبـة *** و لا حملتنـي نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها *** و لا دلني رأيي عليها ولا عقلي
ولسـت بماش ما حييـت لمنكـر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مؤثـر نفسي على ذي قرابـة *** وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي
وأعلـم أني لـم تصبني مصيبـة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي

ب ـ عمران ابن حصين رضي الله عنه :ـ

فهذا عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي شارك مع النبي في الغزوات، وإذبه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بشللٍ يقعده تمامًا عن الحركة، ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم نقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته، فدخل عليه بعض الصحابة.. فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم وقال: أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ.. أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ .
ج ـ السيدة صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها :ـ

السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ قتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: "خلِّ سبيلها"، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت . وقالت إن حمزة في نعم الله قليل .

د ـ سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه :ـ

قال عمر رضي الله عنه: (ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربع نِعم: إذْ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثواب عليها).

سادسا : الإشتغال بالذكر والقرآن والدعاء والاستغفار :ـ

لقد جعل الله تعالي في القرآن ما يثبت به القلب أمام المحن والفتن فقال تعالي } وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32){ الفرقان .
وقال الله تعالى }قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (102){ النحل .
وأيضا علي المبتلي سواء في نفسه أو بولده أو بغيرهما أن يجعل مكان الأنين والتأوه ذكر الله تعالى  والاستغفار والتعبد خاصة في مصيبة مرض الموت.
وفي هذا روى أبو داود أن النبي  صلى الله عليه وسلم  كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ".                                                   
وقد جعل الله في الدعاء سلوة للمصاب والمبتلي وقد عد ذلك من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا (8)} [آل عمران]،
وقال تعالي {...رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا..(285)} [البقرة]،
ولما كانت «قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» (رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً تحفة الأحوذي وهو في صحيح الجامع).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ) [مسلم] 
  
وليس معني ذلك أن يتمني المسلم الابتلاء ،وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : (لأن أُعافى فأشكر أحبّ إليّ من أن أبتلى فأصبر) .

وفي الختام ..

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من الذين يثبتون في السراء والضراء، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، اللهم إنا نسألك الشوق إلى لقائك، والنظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، والحمد لله رب العالمين...
-------------------------
رابط التحميل   word  
-------------
رابط التحميل pdf  



ليست هناك تعليقات: