الحمد لله رب العالمين .. فضل الهجرة والمهاجرين ورفع درجتهم فقال تعالي (الذينَ آمَنوا وهاجَروا وجاهَدوا في سَبيلِ اللهِ بأموالِهِم وأنفُسِهِم أعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وأولئكَ هُمُ الفائزونَ)[التوبة].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤيد أوليائه ويدافع عنهم فقال تعالي (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)) الحج .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ بالأسباب واثقا في تأييد الله سبحانه وتعالي له يتضح ذلك من قوله صلي الله عليه وسلم لصاحبة في الغار ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا ) فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما بعـــد .. فيا أيها المؤمنون .
إن حدث الهجرة المباركة غير مسيرة التاريخ، وتجلت فيه قوة العزيمة، وكمال الشجاعة، وصدق الإيمان، ونهاية التضحية، وحب الإيثار، لقد كانت الهجرة مؤشراً لانطلاق الدعوة، التي ظلت حبيسة في أرض حسب أهلها أن انتهاك الحرمات إقدام، و النيل من المستضعفين جرأة و شجاعة. لقد كانت الهجرة ميلاد لأمة الإسلام وبعث حضاري جديد للأمة ولذلك كان حديثنا عن الهجرة يتناول عدة عناصر رئيسية وهي كالتالي :ــ
1ـ الهجرة من المعالم البارزة للأمة .
2ـ الهجرة وخوارق العادات .
3ـ التخطيط البشري في الهجرة ومراحله .
4ـ التأييد الرباني في الهجرة .
5ـ الخاتمة والوصايا.
العنصر الأول :ـ الهجرة من المعالم البارزة للأمة :ــ
لأهمية حدث الهجرة المباركة ومكانتها بين الأحداث الإسلامية أرخ المسلمون بالهجرة كمعلمٍ بارز في تاريخ الدعوة ؛ و لما للهجرة من آثار على انتصار الدعوة و ظهورها و لأنه بالهجرة ولدت دولة الإسلام. – وذكروا في سبب عمل عمر رضي الله عنه التأريخ بالهجرة ” أن أبا موسى كتب إلى عمر:أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم : أرخ بالمبعث، و بعضهم قال :أرخ بالهجرة، فقال عمر : الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، و ذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم : ابدؤوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه “. ومما يروى أيضاً :أنهم أعرضوا عن التأريخ بمولده و مبعثه و ومماته صلى الله عليه و سلم لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه صلى الله عليه و سلم. لقد كان عمر رضي الله عنه و من معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم، إذا لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم، بل كانوا مبدعين في كل شيء، ليسوا إمعات ولا ببغاوات، يستوردن فكرهم و ثقافتهم و تاريخهم من غيرهم. – لقد تجلى فقه الصحابة رضوان الله عليهم، في هذه الموازنة الفذة بين الأحداث، ثم اختيار الهجرة بذاتها لتكون عنواناً و رمزاً للتاريخ الإسلامي، إذ أنهم اعتبروا الهجرة بداية وجودهم الحقيقي في هذه الحياة، لقد كان هذا العمل منهم فهماً عميقاً لرسالتهم، لأن الهجرة كانت عملاً غير الله به وجه التاريخ الإنساني بعد أن مال ميلاً عظيماَ، و دفع به إلى وجهته الصحيحة مستقيماً غير ذي عوج، لقد أذن الله تعالى بهذه الهجرة أن تقوم في المدينة دولة الإسلام، فحمت المؤمنين من عربدة الجاهلية و حققت حكم القرآن في واقع الحياة، وجعلت الإسلام حقيقة بارزة ترى و تسمع في الأرض، وأقامت المجتمع الإسلامي نموذجاً متفرداً بين الأمم جميعاً، وغدت قاعدة الإسلام و داره التي يأوي إليها المعذبون في الأرض، فيجدون الأمن والإيمان، ويتعلمون الدين و يتزودون بالفضائل و الأخلاق، ثم يخرجون إلى أطراف الأرض دعاة وهداة.
العنصر الثاني :ــ الهجرة وخوارق العادات :ــ
قد يسأل سائل لماذا لم تقم الهجرة علي المعجزة الربانية مثلما حدث في رحلتي الإسراء والمعراج يأتيه البراق ويذهب به إلي المكان الذي يريده ؟ لا بد أن نحدد الفرق بين الهجرة والإسراء والمعراج : الإسراء والمعراج كانت معجزة الهدف منها التسرية والتسلية لقلب النبي صلي الله عليه وسلم وخاصة بعد الأحداث العظيمة التي حدث في عام الحزن من شدة تعذيب وفقدان زوجه خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب . أما الهجرة المباركة كان من الممكن أن يهاجر النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه الكرام بكلمة كن ولكن لم يحدث لأن الهدف من الهجرة هو تأسيس دولة الإسلام والإبقاء علي الإسلام فتأسيس دولة الإسلام لا يقوم علي المعجزات ولا خوارق العادات ، فلا بد من بذل الجهد البشري القائم علي التخطيط والأخذ بالأسباب ولكي يتعلم الناس هذه السنة الكونية التي لا ينصلح الكون إلا بها ولا يقوم الدين إلا بها .
العنصر الثالث :ـ التخطيط البشري في الهجرة ومراحله :ـ
لم تكن الهجرة فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، كلا و إنما كانت إعداداً لأعبائه، و لم تكن خوفاً من الأذى، و لكن توطيداً لدفعه، و لم تكن جزعاً من المحنة، و لكن توطيناً للصبر عليها، أجل لم تكن فراراً من القدر،ولكنها كانت فراراً إلى القدر. ولم تكن الهجرة فرارا من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، و تحويل مجرى التاريخ، و وضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، و ترتبت عليها. وبذلك كان يوم بدر و فتح مكة و ما تبعه، و تطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود و الشرك، و إسلام العرب، و دخول الناس في دين الله أفواجاً، و تقويض ممالك الفرس و الروم، و وصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة. – إن الهجرة يتجلى فيها التعامل مع الأسباب ؛ لأن ذلك من الدين، إذ الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل، إن من تأمل الهجرة، و رأى دقة التخطيط فيها، و دقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، و لابد أن نعلم أن هذه العبقرية في التخطيط، ما كان بها وحدها يكون النجاح، لولا التوفيق الإلهي، و الإمداد الرباني، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهي من خلال الأخذ بالأسباب البشرية. إذن كيف تم تخطيط النبي صلي الله عليه وسلم للهجرة المباركة ؟ لقد وضع النبي صلي الله عليه وسلم الخطوات الأساسية للخطة وهي كما يلي :ــ
الخطوة الأولي :ـ وضوح الرؤية :ــ
وضوح الرؤية لدي النبي صلي الله عليه وسلم منذ أول يوم في الرسالة أنه مبعوث للعالمين ، وأن التحديات له من أول يوم وأنه سيتحول من بلد إلي بلد وسيكون البلد الجديد مأوي جديد للدعوة وذلك من خلال حديثه مع ورقة ابن نوفل لما رجع صلى الله عليه وسلم من غار حراء وبعد حوار طويل تقول له زوجته خديجة بعد أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة:(هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا). وإدراكه أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم فتهيأ صلي الله عليه وسلم لتلك المرحلة فربي أصحابه تربية صلبة قوية تربية رجل الدولة فكرا وعقلا وممارسة ، فكان يبعث فيهم الأمل والنظرة المستقبلية يتضح من حديثه مع خباب رضي الله عنه (شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في الكعبة، فقلنا له ألا تستنصر لنا؟ ألا تدع الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
الخطوة الثانية : تحديد الأهداف :ــ
1ـ إقامة دين الله
ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله، ولذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله ، وضحي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعا من أجله فعلي سبيل المثال :ــ يقول أهل السير: كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به. وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته. ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية. وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول، وترك ماله وأرضه وداره وهاجر إلي الله ورسوله ونزل فيه قول الله تعالي (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء رضوان الله والله رؤف بالعباد ) البقرة . وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد،أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: ( صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة )، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـ في موضع عفتها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة. وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } الآية [ النحل: 106 ]. والأمثلة كثيرة والسيرة مليئة بالقدوات الرائعة في البذل والعطاء من أجل إقامة الدين وكان شعارهم :ـ
تهون الحياة وكل يهون ولكن إسلامنا لا يهون نضحي له بالعزيز الكريم ومن أجله نستحب المنون
2- حماية الفئة التي آمنت بدين الله عزَّ وجلَّ، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.
3- نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)﴾ (التوبة).
4- تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب. فالدولة إحدى ضرورات إقامة الدين في الأرض فهي حارسة له حامية لمبادئه كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي “الدين والسلطان توأمان الدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وملا حارس له فضائع” . ولقد قررعلماء السياسة الشرعية أن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية أن تقوم “دارالإسلام” أو دولة الإسلام” التي تتبنى رسالة الإسلام عقيدة وشريعة عبادة وأخلاقا, هذه الدولة ضرورة إسلامية وهي أيضا ضرورة إنسانية دولة توحد الأمة تحت راية واحدة وتنطلق بالإسلام إلى العالمية، هذه الدولة جزء من نظام الإسلام، وإذا كانت الأفكار والمعتقدات والمبادئ تحتاج إلى كيان قوي لحمايتها فهذا الكيان هوالدولة التي سعى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم.
5- الانطلاق بالإسلام إلى العالم لتكون له الأستاذية باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28)﴾ (سبأ). ومن أجل تحقيق هذه الأهداف العامة كانت الهجرة التي أُذِنَ للرسول بها، وهذا أمر مهم وإستراتيجي وعظيم يجب أن توضع له السياسات ويخطط له بحكمة، وينفذ بنظم وبرامج وبأساليب رشيدة على النحو الذي سوف نوضحه في الفقرات التالية.
الخطوة الثالثة : الوسائل والأساليب:ــ
رغم ثقة النبي صلي الله عليه وسلم بحماية ربه له فهذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري الذي يملكه ، وما أحوجنا إلي أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير علي الله تعالي ، لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا علي القدر ، ونتوجع علي عدم نصر الله تعالي لنا ،ونحن المسؤولون عن ذلك. لذلك قام النبي صلي الله عليه وسلم بوضع الوسائل للهجرة المباركة علي النحو التالي :ــ
1- التهيئة للهجرة واختيار المكان المناسب :ـ
البحث عن مراكز داعمة للحركة نحو الدولة وذلك من خلال ترتيب الهجرة إلى الحبشة قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال ابن كثير رحمه الله-: “هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة الدين… إلى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، -رحمه الله تعالى- قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه ) فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام). ولكن كان النبي صلي الله عليه وسلم يعلم من خلال خبرته للواقع أن الحبشة لا تصلح لأن تكون مقرا للدولة الإسلامية لأنها كانت في منفي واعتماد الدولة علي الملك العادل الذي إن مات ماتت الدعوة هناك ، ولكن ظل النبي صلي الله عليه وسلم يعرض نفسه علي القبائل والأسواق ، حتي قابل أولئك النفر من يثرب حتي كانت بيعتي العقبة الأولى والثانية، ولقد سجَّل القرآن ذلك، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا(18)﴾ (الفتح). وكان من إستراتجيات الرسول صلى الله عليه وسلم من تلك البيعتين هو تأسيس وطن جديد لاستقبال هذه الدعوة والانطلاق بها وحماية الفئة المؤمنة، وتلي ذلك هجرة المسلمين إلى المدينة، كما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراء يسبقونه، ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ للتمهيد لاستقباله ومن آمنوا معه.
2- التوقيت المناسب للهجرة: ـ
لقد أَوْحَى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وأخبره بمؤامرة قريش، وَأَذِنَ له في الخروج، وحدَّد له وقت الظهيرة، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في ذلك الوقت، في ساعة لا يظن أحد أن يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَكَثَ في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الأمور ويأمن الطريق، لقد اختار الله عزَّ وجلَّ لنبيه التوقيت المناسب في إطار خطة محكمة وترتيب دقيق. 3- اختيار الطريق المناسب: ـ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار نحو الجنوب إلى اليمن، ثم اتجه غربًا إلى الساحل حتى سارا في طريق لم يألفه الناس إلا نادرًا بهدف تجنب شر الأعداء.
4- كتمان الأمر :ـ
سياسة كتم الأسرار، حتى لا يعلم المشركين والكفار أي معلومات عن الهجرة، حتى وأنه قد أخفاها لمرحلة معينة عن صاحبه المخلص الأمين أبو بكر الصديق، وعن الذين سوف يكلفون بمهام خاصة فيها، تقول كتب السيرة: “لقد استعد أبو بكر للهجرة إلى المدينة؛ ليلحق بمن هاجر من قبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي”، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: “نعم”، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه..”، ولكن لم يُعْلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بميعاد الهجرة، والنموذج الثاني من كتمان أسرار الهجرة عندما ذهب النبي صلى الله علية وسلم إلى أبي بكر؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: “بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلاَّ أمر؛ قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: “أخرج مَنْ عِنْدك”، فقال أبو بكر: إنما هم أَهْلُكْ، بأبي أنت يا رسول الله، قال: “فإني قد أُذِنَ لي في الخروج”، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم” (رواه البخاري)، ويستنبط من ذلك الموقف كتمان ميعاد الهجرة عن أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر حتى ساعة التنفيذ، وهذه سياسة رشيدة عند التعامل مع الأعداء.
5- توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات:ـ
إن سياسة تحديد وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات من الأشياء المهمة في أي خطة،فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات علي هذا النحو:ـ رفيق الرحلة :ـ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول صلي الله عليه وسلم ويعاونه ويساعده ويشتري راحلتين. رد الودائع والأمانات والتعمية علي الكفار :ـ يقوم به علي رضي الله عنه ، ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للتمويه ويرد الأمانات والودائع لأصحابها. رجل المخابرات العامة ونقل المعلومات :ـ يقوم به عبد الله بن أبي بكر. فلا يكفي أن يقوم النبي صلي الله عليه وسلم في الغار مدة معينة ثم ينطلق إلي المدينة حسب تقديره وظنه فلا بد من التعرف مباشرة علي كل أسرار العدو مخططاته وتوقعاته يحيث تصل أول بأول إليه صلي الله عليه وسلم فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائما علي خبرة الواقع لا علي الظن يخطئ ويصيب فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم ، ثم يأتي بالليل إلي النبي صلي الله عليه وسلم في الغار يبيت معهم ، وقبل الفجر يذهب إلي مكة ،وكأنه نائم في مكة . ، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدري بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته ، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها .
تأمين الزاد :ـ
تقوم به أسماء بنت أبي طالب رضي الله عنها وكانت حامل في شهورها الأخيرة وكانت تصعد في الجبل اوعر الشامخ ذو الأحجار الكثيرة . إخفاء أثر الأقدام :ـ يقوم به عامر ابن فهيرة ، يقوم برعي الأغنام ليعفي أثر الأقدام ،ونجحت هذه السياسة في إخفاء محاولة المشركين في العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه . الإستعانة بالخبراء:ـ لقد اتبع النبي صلي الله عليه وسلم سياسة الاستعانة بالخبراء حتى ولو كانوا من غير المسلمين، لقد استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره من الخبراء في ذلك، تقول كتب السيرة: “لقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر عبد الله بن أريقط الليثي الكافر، وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وَأَمِنَاهُ على ذلك، وسلما إليه الراحلتين، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وجاءهما عبد الله في المكان والميعاد المتفق عليه، ولقد استنبط فقهاء الإسلام أنه يجوز الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة متى كان خبيرًا وأمينًا. لقد كان توزيع دقيق للمسئوليات في إطار سياسة رشيدة وخطة محكمة، ولذلك تحققت المقاصد والأهداف بدون ارتباك أو خلل، وهذا ما يجب الاستفادة منه في إدارة شئون حياتنا كلها وفي دعوتنا الإسلامية.
6 ـ التموية والسرية والكتمان :ـ
حرص النبي صلي الله عليه وسلم علي كتمان الأمر وأخذ السرية التامة تقول أمنا عائشة رضي الله عنها ” بينما نحن جلوس في بيتنا بمكة في حر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلي الله عليه وسلم مفبلا مغطيا رأسه في ساعة لم يأتينا فيها ..) وقد أوصي النبي صلي الله عليه وسلم بالاستعانة بالسرية فقال صلي الله عليه وسلم ” استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ” لقد مَوَّه رسول صلى الله عليه وسلم خروجه من البيت، ثم غادرهو وأبو بكر من بيت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، وسلك طريقًا غير طريق المدينة المعتاد، وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير على أطراف قدميه كي يخفي الآثار،وظل في الغار مدة ثلاثة أيام حسب التخطيط ، وهنا تبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة ، وليس علي طريق المدينة حيث احتمالات الرصد ، ولما كان النبي صلي الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجد في الطلب ، وإن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا ، فقد سلك الطريق المعاكس تماما وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أمثال حتي بلغ إلي جبل يعرف بجبل ثور وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقي ذو أحجار كثيرة فخفيت قدما رسول الله ، وأقام النبي صلي عليه وسلم ثلاثة أيام لأن الخروج إلي أي مكان في الأيام الأولي يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو كما أن المدة الزمنية كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبدالله ابن أب بكر عن خفة الطلب عليهما كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبدالله كل يوم . ـ
العنصر الرابع :ـ التأييد الرباني في الهجرة :ــ
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فإنه لم يرتكن إليها مطلقا ن وإنما كان كامل الثقة في الله تعالي ، عظيم الرجاء في نصره وتأييده ، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالي (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)) الإسراء . ويظهر التأييد الإلهي في أكثر من موقف في الهجرة :ـ
1ـ إخبار جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه و سلم بمكيدة قريش لقتله، و أمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة، قائلاً له : ” لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه “. وقد قال الله تعالي (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]. وقد فسرها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بما قاله عبد الله بن عباس فيها، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال: بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا، قال لا أدري
2ـ خروجه صلى الله عليه و سلم من بين أيديهم ويضع علي رؤسهم التراب،فألقى الله عليهم النعاس فسقطت من أيديهم السيوف وما قاموا إلا عندما طلعت الشمس كل يحتحت التراب من على رأسه، وهو يتلوا قول الله تعالي (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)) يس.
3ـ حماية الله و حفظه لنبيه صلى الله عليه و سلم في الغار. عندما خرجوا مغضبين لما رأوا عليا في فراشه صلي الله عليه وسلم فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال”. ساعتها أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلي الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه بمعية الله تعالي لهما ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قلت للنبي صلي الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .فقال : ما ظنك يا أبا بكرباثنين الله ثالثهما ؟) وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالي ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)﴾ (التوبة). ورحم الله القائل :ـ
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي :ـ
فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُمْ” “كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ
لَولا يَدُ اللهِ بِالجارَينِ ما سَلِما” “وَعَينُهُ حَولَ رُكنِ الدينِ لَم يَقُمِ
ويلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول صلى الله عليه و سلم بكافة الأسباب المتاحة، و هذا شأن المؤمن مع الأسباب، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح ثم يتوكل بعد ذلك على الله ؛ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله، فالنبي صلى الله عليه و سلم خطط و دبر للهجرة و أخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر، كل ذلك مع توكله المطلق على ربه و مولاه الذي كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد ؛ و لذلك قال لصاحبه : ” لا تحزن إن الله معنا” و لم يقل : لا تحزن إن خطتنا محكمة، و هي بالفعل محكمة، لكن الأمر كله لله من قبل و من بعد.
4 ـ مشهد آخر من مشاهد ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي تجلى واضحاً، في خبر سراقة بن مالك وهو يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه وهو طامع في المائة ناقة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنبي صلي الله عليه وسلم حيا أو ميتا، فحينما اقترب منهما، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فأخبر الرسول بذلك، لندع الصديق يقص علينا طرفاً من خبره ذاك، يقول أبو بكر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ـ “… واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض (صلبة)، فقلت يا رسول الله أُتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما ههنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا”. وأعطاه النبي صلي الله عليه وسلم كتاب أمان، ثم تبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق من نصرالله له، وقال:يا سراقة ! كيف بك إذا طوقت بسواري كسرى؟قال كسري ابن هرمز ملك الفرس قال النبي صلي الله عليه وسلم نعم . يتعجب سراقة من حال النبي صلي الله عليه وسلم وهو المطارد هو وصاحبه يبن الجبال يعد بكنوز كسري ملك الفرس وكأن النبي صلي الله عليه وسلم ينظرنظرة أمل إلي المستقبل الكبير للإسلام الذي يعم الدنيا كلها ، وفعلا تم الفتح للمسلمين في خلافة سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأخذ سراقة سواري كسري من أمير المؤمنين سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
وصدق الله العظيم إذ يقول :﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ ( سورة الطور : 48) في هذا المعلم من معالم هجرته صلى الله عليه وسلم، يقترن المادي بالغيبي، ويتزاوج الإعداد البشري بالتأييد الإلهي، وفي ذلك عبرة ودرس للمسلمين من بعد، بأنهم مكلفون بأن يتخذوا من الأسباب ما يستطيعونه ويقدرون عليه، دون تقصير أو تكاسل، أما الركون إلى ما عند الله من أسباب النصرة الغيبية، دون إتعاب النفوس، وإنفاق الأموال في نصرة الدين، فهو من إفرازات التفكير الخوارقي، الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يسمن ولا يغني . وخلاصة القول : أن الأخذ بالأسباب والتخطيط فرض وترك الأسباب معصية ، والإعتماد علي الأسباب شرك . فاللهم إنا نسألك أن توفقنا للأخذ بالأسباب ولا تكلنا إلي أنفسنا طرفة عين أو أقل من ذلك فنضل ضلالا مبينا .اللهم آمين وصل الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
انتهت بفضل الله تعالي ورحمته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق