15 سبتمبر 2017

الشكر قيد النعم


الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله الولي الحميد، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يُريد، أحمده – سبحانه – وأشكرُه وعدَ الشاكرين بالمزيد فقال تعالي ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]. لك الحمدُ ربَّنا بالإسلام، ولك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالأهل والمال والمُعافاة. كبَتَّ عدوَّنا، وبسطْتَ رزقَنا، وأظهرتَ أمنَنا، وجمعتَ فُرقتَنا، وأحسنتَ مُعافاتَنا، ومن كل ما سألناك ربَّنا أعطيتَنا. فلك الحمدُ على ذلك كثيرًا، كما تُنعِمُ كثيرًا، لك الحمدُ بكل نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديثٍ، أو سرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصَّةٍ أو عامَّةٍ، أو حيٍّ أو ميِّتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ. لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيت، ولوجهِك الدائِم الباقي الحمدُ. فالحمدُ لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. أنعم علينا بالنعم التي لا تعد ولا تحصي حتي نشكره سبحانه وتعالي فقال تعالي (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
 وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم سيد الشاكرين وإمام الذاكريقومُ لربِّه من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟». فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين …
 أما بعـــــد .. فيا أيها المؤمنون 
إن حال المسلم دائما بعد كل عبادة أن يقدم الشكر والإعتراف لله بالفضل أن وفقه لأداء العبادة ، فبعد عبادة الصوم قال تعالي (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ) البقرة ، وقال تعالي في معرض الحديث عن الأضحية (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) الحج . وبعد أداء كل عمل صالح وكذلك كل عبادة حاله لك الحمد والشكر يارب أن وفقتني لهذا العمل وحاله قول الله تعالي الحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) الأعراف . فمقامُ الشكرمن أعلي المقامات ومنزلة من أرفع المنازل التي يتحلي بها السائرين إلي الله تعالي ..ونِعَم الله تترى على العباد في كل لحظة ، بل مع كل نَفَس ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )إبراهيم. وواجب العبد نحو نِعمِ ربِّه أن يَشْكرَهـا ولا يكفرها. لأن النِّعم إنما تدوم وتُستدرّ بالشُّكر . لذلك كان حديثنا عن الشكر بعد الانتهاء من أعظم عبادة وهي عبادة الحج الأعظم وحديثنا يتناول هذه العناصرالتالية :ــ
1 ـ تعريف الشكر . 
2 ـ الفرق بين الشكر والحمد. 
3 ـ فضل الشكر والشاكرين .
4ـ قواعد في الشكر . 
5ـ ذم الجحود والنكران وعاقبته في الدنيا والآخرة .

العنصر الأول :ــ تعريف الشكر:ـ

 الشكرُ اعترافٌ من العبد بمنَّة الله عليه، وإقرارٌ بنعمِه عليه من خيرَي الدنيا والآخرة في النفس، وفي الأهل والمال والأعمال، وفي شأن العبد كلِّه ،والشكرُ دليلٌ على أن العبدَ راضٍ عن ربِّه. وقيل : هو تصورُ النعمةِ وإظهارُها . و قال سهل بن عبد الله : الشكر : الاجتهاد في ذل الطاعة ، مع اجتناب المعصية في السر والعلانية . وقال الجُنيد : الشكر ألاّ يُعصى اللهَ بِنِعَمِه . وقال الشِّبلي : الشكر : التواضع ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة جبار الأرض والسماوات . ( ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله ) . وهل هناك أكثرُ إحساناً عليك وإنْعاماً ممن رزقك وأنت في بطن أمك ؟ وسوّغ لك الطعامَ والشراب ؟ وألبسك لباسَ الصحة والعافية ؟ وأعطاك المال والأهل والولد ؟ وذكّرك مولاك بنعمته فقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) وقال ابن مسعود في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) : قال : حقّ تقاته : أن يُطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر .
العنصر الثاني :ــ الفرق بين الشكر والحمد :ــ
الفرق بين الشكروالحمد من وجهين:ـ الأول: الشكر يكون بالجوارح، والحمد يكون باللسان وبالقلب. ولذلك نسمع بسجود الشكر، ولا نسمع بسجود الحمد، لأن الشكر يكون بالجوارح. ومضى في أركان الشكر أنه يكون بتسخير النعمة في طاعة الله، وهذا عمل، والعمل بالجوارح.
الثاني: الشكر يكون عند البلاء، والحمد يكون على كل حال، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته سراء قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»، وإن نزل به بلاء قال: «الحمد لله على كل حال».
 العنصر الثالث :ـ فضل الشكر والشاكرين:ــ
 الشكرُ أولُ وصيَّةٍ وصَّى بها الإنسان:ـ 
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
 نصف الإيمان :ـ 
فالشكر من أهم الأعمال الصالحات التي يتقرب بها العبد المسلم إلى نيل رضا ربه سبحانه وتعالى، ومنزله في الدين عظمية فهو نصف الإيمان فالإيمان نصفان، الصبر نصف، والشكر نصف فعن أنس-رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أنس, الإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر) . 
سبب في رضا الله تعالي :ـ
 أخبرَ – عزَّ شأنه – أن رِضاه في شُكره، فقال: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]. 
سبب من أسباب الأمن من عذاب الله:ـ 
يقول عزَّ شأنه (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147]. 
منة الله تعالي علي عباده :ــ 
بل لقد خصَّ الله الشاكرين بمنَّته عليهم من بين سائر عباده، فقال – جل وعلا -: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53]. ولا يعبده حق العبادة إلا الشاكرين فيقول – عز شأنه -: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، فلا يعبُده حقَّ عبادته إلا الشاكرون.
الشكرُ حياةُ القلب وحيَّويَّتُه :ـ 
الشكرُ دليلٌ على صفاء النفس، وطهارة القلب، وسلامة الصدر، وكمال العقل؛ بل إن الله جل وعلا خلقَ الناسَ من أجل أن يشكُروه، يقول – جل وعلا -: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
 أساس من أسس الدين :ـ 
لقد تعبدنا ربنا سبحانه بالشكر له واعتبره أحد أسس الدين فقال تعالي“فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ” لكن كثيرين جعلوا عبادة الشكر عبادة ممسوخة بلا روح، فإما أن يكفر بها أو ينساها أو يرددها بحركات لسان مع قلب غافل وعقل لا يعي معنى شكرها .
 اسم من أسماء الله الحسني :ـ 
لقد سمى سبحانه نفسه “بالشاكر والشكور” أي: الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب، ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة، تقرب الله منه أكثر. 
الجزاء الحسن :ــ 
ان الله تعالى وعدنا بمضاعفة الأجر من الحسنات، واتبع الزيادة بالمغفرة للسيئات، والشكر على ذلك كله، فقال تعالى: “وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ” وقال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145], وقال سبحانه: ﴿وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]. 
مرتبط بطيبات الحياة :ـ 
كذلك أذن الله لعباده المؤمنين بالتمتع من طيباته التي رزقنا إياها بالحلال الطيب، ومتابعة التمتع بها بالشكر له، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ” 
حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :ـ 
والشكرُ أمرٌ مستقرٌّ في سُلوك المُتعبِّدين، ونهجٌ راسِخٌ في نفوس الصالحين، تمتلِئُ به قلوبُهم، وتلهَجُ به ألسِنتُهم، ويظهرُ على جوارِحهم. 
وأولُ أنبياء الله نوحٌ – عليه السلام -، وصفَه ربُّه بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء: 3]،
 والخليلُ إبراهيم صاحب الملَّة الحنيفية قال فيه ربُّه: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 121]، 
ويقول سليمان – عليه السلام – وهو ينظرُ فيما خصَّه به ربُّه من نعمه وسخَّر له من مخلوقاتِه: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19]، ويقول: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)[النمل: 40].
 ولقد حرِصَ أنبياءُ الله – عليهم السلام – على تذكير أقوامِهم بهذا المقام العظيم من مقامات العبودية؛ 
فها هو هودٌ – عليه السلام – يقول لقومه: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف: 69].
ويقول صالحٌ – عليه السلام – وهو يُعدِّدُ على قومِه ما منحَه ربُّهم من مظاهر النِّعَم والقوة: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف: 74].
 أما نبيُّنا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي قد غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، فيقومُ لربِّه من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟».
والشُّكر مما أهمّ الأنبياء كيفية أدائه ، يُروى أن موسى عليه الصلاة والسلام قال يوم الطور : يا رب إن أنا صليت فَمِنْ قِبلك ، وإن أنا تصدقت فَمنْ قِبلك ، وإن أنا بلغت رسالتك فَمِنْ قِبلك ، فكيف أشكرك ؟ قال : الآن شكرتني . 
 أهل الشكر هم المنتفعون من الآيات:ـ 
قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: 31], 
وقال -عز وجل-: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [سبأ: 19], 
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5], فهم أهل الانتفاع الحقيقي من هذه الآيات المبثوثة في أرجاء هذا الكون العظيم، لذلك تجدهم يلهثون بذكر الله، ويسبحون بحمده ويقدسون، ويشكرونه على ما أنعم عليهم بهذه النعم. 
أهل الشكر هم المنتفعون بالشكر :ــ 
صاحب الشكر هو المنتفع الحقيقي بالشكر، فلا ينتفع بالشكر إلا أهل الشكر قال سبحانه: ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾[لقمان: 12].
 من صفات أهل الإيمان:ـ
 فقد أثنى الله – عز وجل- على أهل الإيمان وهم أهل الشكر فسعيهم مشكور قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾ [الإسراء: 19], وقال- عز وجل-: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾ [الفرقان: 62]، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾ [الإنسان: 22].
العنصر الرابع :ـ قواعد في الشكر :ــ

 القاعدة الأولى : الشكر قيد النعم :ـ
فمن كان ذا مال أو صحة أو مكانة أو نحوها ، فليحطها بسياج الشكر، و ليدفع عن حياضها بسلاحه ، و ليعلم بأنها لن تبقى إذا لم يؤد حق الله فيها ، فإذا أردنا المحافظة على نعمة و بقاؤها ، فعلينا بالشكر فإنه ” قيد النعم ” كما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.
وروي أيضا :ـ أحسِنوا جوارَ نعم الله؛ فإنها قلَّ ما نفَرَت عن أهل بيتٍ فكادَت أن ترجِع إليهم.
 القاعدة الثانية : ( و لئن شكرتم لأزيدنكم ):ـ
و هذا من فضل الله و رحمته ، فالشكر يحافظ على بقاء النعم ، ثم لا يكتفي بذلك فقط بل يزيدها ، فهل بعد هذا البيان عذر في التقصير ؟! أم هل هناك مبرر للتقاعس و عدم النفير ؟! 
فإن هذا مما يستنهض الهمم ، و يجعلها تعرف قدر عبادة الشكر و تقدره قدره. قال ابن القيم : ” والشكر معه المزيد أبدا لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر ” ا.هـ فمن لم يلمس الزيادة في إيمانه و عبادته ، فليراجع نفسه ، و من لم ير البركة في ماله و عياله ، فليراجع نفسه ، فإن الله وعد الشاكر بالمزيد ، و الله لا يخلف الميعاد.
القاعدة الثالثة ً: 
احذر الاستدراج:ـ 
قال أبو حازم: إذا رأيت الله عز وجل سابغ نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره ا.هـ و ذلك حين ترى زيادة النعم و إسباغها بدون شكر لله عز وجل. فهذه علامة خطر ينبغي الوقوف عندها، كما قال الله عز وجل ( أيحسبون أنما نمدهم بهم من مال و بنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) و لذا فسر سفيان ابن عيينه قول الله عز وجل: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) قال: نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر ا.هـ نعوذ بالله من ذلك.
القاعدة الرابعة: كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية :ـ
كما قال ذلك أبو حازم رحمه الله تعالى، و قال الحسن – رحمه الله – : إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر قلبها عليهم عذابا.هـ وانقلاب النعمة عذاباً مما نراه في واقعنا، فكم رأينا صاحب المال يعذب بماله، و ذا العيال يشتكي من عقوق أبنائه، و صاحب المنصب و الجاه ينكوي بلظى النعيم الذي يراه الناس يتقلب فيه.
القاعدة الخامسة: لا تعصيه بنعمه:ـ
 وهذه قاعدة متينة من قواعد الباب، لذا عرف كثير من السلف الشكر بذلك، فقد سئل الجنيد عن الشكر فقال: أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه ا.هـ . وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه: أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته ا.هـ. 
ومن أقوال سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه :ـ 
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وكان مخلد بن الحسين يقول: كان يقال : الشكر ترك المعاصي ا.هـ فهل من الأدب أن نستعين بنعم الله على معصيته ! فنعمة البصر ينظر بها للحرام، و نعمة السمع لا تسمع الذكر و القرآن، و المال لا يزكى و لا ينفق منه في سبيل الرحمن ، و تستغل المناصب و الجاهات و القدرات و المواهب في غير ما يحب واهب النعمة ، فلنسأل أنفسنا إذاً : هل نحن ممن يشكر الله أم ممن يعصيه بنعمه ؟!
 القاعدة السادسةً: الشكر بالعمل:ــ
 وذلك بالعبودية لله عز وجل و التقرب إليه بأداء الفرائض أولا، فلم يشكر الله عز و جل من لم يؤد فرائضه، ثم بأداء النوافل و القربات ، ثم بحسن التعامل مع خلقه ولين الجانب لهم والبعد عن ما يضاد ذلك من سوء الأخلاق والظلم والشطط . ثم بصرف النعم في مصارفها، واستغلالها فيما يناسبها ، فكيف يكون شاكراً من يلهج لسانه بالحمد و الشكر على نعمه ثم ترمى بعد ذلك النعم في النفايات ! أو يصرف نعمة البصر والمال والصوت والسمع.. إلخ في غير ما يحب الله عز وجل ثم يحمده و يشكره عليها بعد ذلك.
وأيضا يكون الشُّكرُ في ثلاثة مواضع :ـ بالقلب وباللسان وبالجوارح .
 فبالقلب اعتقاداً أن الله وحدَه هو المنعمُ المتفضّلُ بـهذه النِّعم لقوله تبارك وتعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) وأن من سوى الله من الخلق إنما هم سببٌ لجريان شيء مِن النِّعم على أيديهم . ويكون الشكر باللسان لقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) فيتحدّث العبدُ بنعمة ربِّه عليه اعترافاً بـها ، وقبولاً لها ، وشكراً لمن أسداها ، وأنعمَ عليه بـها. فيتحدث العبد بنعمة الله عليه بلسان مقاله ، وبلسان حاله .
 وفي صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : سيدُ الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . تضمّنَ الحديثُ الاعترافَ بنعمةِ اللهِ عليه .
فكلُّ نعمةٍ فمن الله وحدَه حتى الشكر فإنه نعمةٌ وهي مِنْـهُ سبحانَه ، فلا يطيقُ أحدٌ أن يشكرَه إلا بنعمته ، وشكرُه نعمةٌ مِنْهُ عليه ، كما قال داود عليه الصلاة والسلام : يا رب كيف أشكرُك وشكري لك نعمةٌ من نعمك عليّ تستوجبُ شكراً آخر ؟ فقال : الآن شكرتني يا داود .
ذكره الإمام أحمد في الزهد . ويكونُ الشكرُ عَمَلاً بالجوارح بأن لا تعملِ الجوارحُ إلا بما يُرضي مولاها سبحانه . فيعمل العبدُ بطاعة ربِّه ، خِدمةً لسيِّدِه ، لا يرى أنه صاحب معروفٍ بعمله ، بل ينظر إلى أعماله كلِّها على أنـها قطرةٌ في بحر جودِ مولاه جل جلاله ، وأنه مهما عمِلَ من عملٍ فإنه لا يؤدّي شُكرَ أقلَّ نعمةٍ يتقلّبُ بـها ، ولذا قام النبي صلى الله عليه و سلم الليل حتى تفطرت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال: ( أفلا أكون عبداً شكورا) ،( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )فيجب أن يتواطأ القلب و اللسان و الجوارح بالشكر، فهي منظومة متكاملة، آخذ بعضها بآخية بعض، وقد أنعم الله عز وجل على العبد بالجوارح والأعضاء التي لا تُقدّر بثمن ، ولو كانت تُباع أو تُتشرى لكان الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال أكثر الناس تمتعاً بالصّحة !
القاعدة السابعةً : لا يشكر الله من لا يشكر الناس :ـ 

فمن قواعد الشكر أن تكافئ من أسدى لك معروفاً أو خدمة ومعونة ، مهما كان حجمها وقدرها ، فإن لم تستطع مكافأته حسياً ، فلتشكره بلسانك و تثني عليه خيراً بما قدم لك ، كما في حديث جابر مرفوعا : ( من صُنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ) .
 وهذا هو التوازن المطلوب من المسلم ، الذي حين فقدناه سقطنا في قاع الانفصام النكد ، فتجد من يتورع عن الربا و لكن لا يبالي بمال اليتيم. ومن تورع عن الكذب وهو يفري أعراض الناس، و التوازن هو منح الناس حقهم من الشكر والإحسان ” لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه وأبي أن يقبلهما إلا معاً لأن أحدهما دليلٌ على الآخر وموصولٌ به‏ فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع وبشاهده استخف‏ ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة قائم في العقل‏:‏ أن من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة وثقل العطية على القلوب والله يعطي بلا كلفة‏ ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه ‏” .‏
القاعدة الثامنة: ( و لتسألن يومئذ عن النعيم ):ـ 

فهذه الآية فيها ما يكفي من الحث على الشكر و الاهتمام به ، لأنها تشمل كل نعمة على العبد قد تمتع بها كما قال الطبري رحمه الله ” فالله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم، لا عن بعض دون بعض ” .
 و قال ابن كثير ” أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ما قابلتم به نعمه من شكره وعبادته “ا.هـ.
فيا لله ما أعظم غفلتنا عما يراد بنا ! فإن كان ربنا يقول : ( و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) فلو مكث أحدنا عمره ليعد نعم الله عداً فقط بدون أن يشكرها فإنه لا يحصيها فمتى و كيف يشكرها. ثم ما من نعمة إلا و نحن نتمتع بها وإن لم نعلم بها أو نستشعرها، ثم بعد هذا التمتع السؤال عن هذا النعيم، فهل أعددنا لهذا الموقف جواباً، وهل نبدأ بمراجعة أنفسنا ومحاسبتها لنذوق بعد طعم المزيد الذي وعدنا به لندرك بعد ما فاتنا من خير ونعيم (وما تقدموا من خير فلأنفسكم ).
العنصر الخامس :ـ ذم الجحود والنكران وعاقبته في الدنيا والآخرة :ــ 

وكما ألزمنا سبحانه بالشكر له , فقد حذرنا من الكفر بنعمته وجحودها. وحذرنا من أن نسلك مسلك من قبلنا، من أتباع الشرائع الأخرى، أن كفروا بنعم الله وجحدوها، فقال تعالى: ” سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”
وقال تعالى: ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ” ,
فبالشكر تدوم النعم ويزيد الخير وبكفرها تزول النعم ويكثر الخبث . غافلون هم الذين يتنعمون بنعم ربهم سبحانه ويلتهون عن شكره , وخاسرون هم الذين ألهتهم النعم عن ذلك الشكر , فتقلبوا فيها ليلا ونهارا بينما هم لا يؤدون حق شكرها من صالح العمل قال سبحانه واصفا حال قرية كانت مرفهة منعمة تتقلب في أنعم الله فغفلت عن شكره وكفرت بأنعمه … :” وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ” النحل .
وبينما قوم آخرون يرتعون في النعيم , فيطغون مستكبرين عن شكر ربهم بالعمل الصالح , إذ يقلب سبحانه نعيمهم نقمة , ورغدهم خسرانا قال سبحانه : ” لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور . فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قلبل , ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور
قال ابن كثير :” كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم ، وبلقيس – صاحبة سليمان – منهم ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم ، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم . وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ، ويشكروه بتوحيده وعبادته ، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد ، شذر مذر .. وعوقبوا بالقحط والجذب .. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله ، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل”
وفي الختام :ـ أيها المؤمنون

 إذا كان الشكر بهذه المكانة فحري بنا أن ندعوا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» [أبو داود].
 قابِلوا إحسانَ ربِّكم بالإحسان، واحفَظوا النِّعَم بالطاعة والعِرفان؛ ففضلُ الله عظيم، وإنعامُه جسيم، وخيرُه عميم، وكل شكرٍ وإن قلَّ ثمنٌ لكل نوالٍ وإن جلَّ. ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقعٌ أوشكَ ألا يشكُر الكثير.
جعلني الله وإياكم من خير الشاكرين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات: