الحمد لله رب العالمين ..ميزنا وشرفنا وجعلنا خير أمة أخرجت للناس فقال تعالي ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) آل عمران (110).
وأشهد أن لا إله إلا الله ..وحده لا شريك له ..له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير. وصف المسلمين بالإيجابية .. فقال تعالي (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) (التوبة 71 ).
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرنا بالإيجابية .. فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا.) الترمذي. فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعـد :ـ فيا أيها المؤمنون...
إن الهجرة موسم عظيمٌ من مواسم التحولات الإيمانية والتربوية والحضارية، موسمٌ يتجدَّد ولا يتوقَّف أبدَ الدهر، فلا زمن يَحُدُّه، ولا مكان يُحيطه، بل إن الهجرة تَنبِض في قلوبنا وتَدفعنا للتغيير والإصلاح الذي نَنشُده، فنتَّخذ من إيماننا وعقيدتنا الصافية زادًا نسعى لترجمته في منجزات حضارية تَخدُم الأُمة، وتَغرِس في صحرائها الأزاهير، وتبني في مُدنها القِلاع والحصون قلاع العلم، وحصون المعرفة فتدفع عن شبابنا الغزو الهدَّامَ، وتُزوِّدهم بأسلحة من العلم والمعرفة؛ تُؤهِّلهم لاختراق الآفاق، ونشْر العلم والدين ومكارم الأخلاق، وتُحصِّنهم من نوازع الشيطان ودعواته الهدَّامة. إن الأمة تحتاج لاستحضار معاني الهجرة؛ لتكون نِبراسًا يُضيء لها كلَّ تحوُّلاتها ومواقفها الإيجابية. فإن الله تعالي خلق الإنسان وندبه للعمل والسعي في الحياة وذم فيه السلبية واللامبالاة فأمر المسلم أن يكون إيجابيا نحو المجتمع..
لذلك كان حديثنا عن (الهجرة والإيجابية نحو التغيير ) وذلك من خلال هذه العناصرالرئيسية التالية:ـ
1ـ مفهوم الإيجابية والهجرة.
2ـ قيمة الإيجابية وأهميتها .
3ـ نماذج إيجابية في الهجرة النبوية المباركة .
4ـ الإيجابية في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
5ـ دوافع الإيجابية .
6ـ إيجابية أحيت أمـــــــة
العنصر الأول : الإيجابية و الهجرة:ــ
الإيجابية :هي الرغبة الحقيقية في إصلاح الذات وإصلاح المجتمع ، ووجود إرادة التغيير للأفضل ، والقدرة على التفاعل الجيد مع الآخرين . وذلك أن الهجرة لم تكن فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، كلا و إنما كانت إعداداً لأعبائه، و لم تكن خوفاً من الأذى، و لكن توطيداً لدفعه، و لم تكن جزعاً من المحنة، و لكن توطيناً للصبر عليها، أجل لم تكن فراراً من القدر،ولكنها كانت فراراً إلى القدر. ولم تكن الهجرة فرارا من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، و تحويل مجرى التاريخ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، و ترتبت عليها. وبذلك كان يوم بدر و فتح مكة و ما تبعه، و تطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود و الشرك، و إسلام العرب، و دخول الناس في دين الله أفواجاً، و تقويض ممالك الفرس و الروم، و وصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة.
العنصر الثاني : قيمة الإيجابية وأهميتها :ــ
الإيجابية هي الروح التي تدب في الأفراد فتجعل لهم قيمة في الحياة وتدب في المجتمع فتجعلة مجتمعا نابضا بالحياة . وهي الدليل الهادي والخريت الحاذق الذي لا يضل الطريق والأمل الذي لا يتبدد والمطية التي لا تكبو. وهي صمام أمان للجميع ، وهي جماع عدة أمور من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وبر ووفاء وصدق وعهد مع الله …… الخ .
ومن أهميتها :ــ
1ـ تمنع من عذاب الله عز وجل :ــ
المسلم الفطن هو الذي يعرف كيف يقي نفسه من السوء، بل ويقي غيره منه، وأعظم السوء أن يحل بقوم غضب الله وعقابه وانتقامه لذنوب اقترفوها ولم يرجعوا عنها. ولا يحل العذاب بقوم إلا إذا فشا فيهم المنكر غير عابئين بنصح ناصح أو إرشاد مرشد، والطامة الكبرى أن يقع الجميع في المنكر ولا يوجد من يردهم عنه. ولاشك أن الذي يتحرك لتغيير المنكر هو الذي ينجيه الله عزوجل من سوء العذاب، ويتضح هذا من تلك القصة التي أمر الله عزوجل رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكّر يهود بها، فقال: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) { الأعراف .
انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم:ـ
1ـ أمة عاصية محتالة.
2ـ وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة.
3ـ وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي..
وهي طرائق متعددة من التصور والحركة، تجعل الفرق الثلاث أممًا ثلاثًا! فلما لم يُجْدِ النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره. فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء. وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب .. فأما الفرقة الثالثة أو الأمة الثالثة- فقد سكت النص عنها.. ربما تهوينًا لشأنها وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ إنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب. فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب.. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره.. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع وهناك إلى جانب آيات الله أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تدل على هذا الباب؛ حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ- فَلاَ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ). فهذا الحديث الشريف يبين لنا فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة إلا إذا انتشر المنكر بين الناس وأقروه ولم يحاولوا مقاومته، فهنا ينزل العذاب على العامة جزاءً وفاقًا؛ لأنهم لم تتغير وجوههم، ولم تحزن قلوبهم على حرمات الله المنتهكة. وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حديث يبين هذا حينما سألته أمنا زينب بنت جحش -رضي الله عنها- فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: “نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَث. فالإيجابية تحمي العامة من عذاب الله؛ حيث إنها تعد بمثابة الشمعة المضيئة التي تهدي الحيارى، وترشد التائهين إلى طريق رب العالمين .
2ـ تمنع من الانحراف في الدين :ــ
لو أن هذا الدين الذي ختم الله به الرسالات، وأكمل به الشرائع، تُرك لكل واحد أن يدلو فيه بدلوه بالزيادة أو النقصان، ماذا سيكون حال هذا الدين؟! لابد أن النتيجة الحتمية هي التحريف في هذا الدين، وضياع صورته الحقيقية، وتشويه شكله، وطمس معالمه الأصيلة، وتزييف أهدافه النبيلة. ولكن لو أن كل مسلم علم أنه على ثغر من ثغور الإسلام، وأنه مطالب بالحفاظ على هذا الدين من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، لظل هذا الدين في حصن منيع يستعصي على من يتربصون به الدوائر. ومشكلة أي دين تكمن في الابتداع فيه؛ لذلك حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه، بل هدد وأوعد من يقدم على هذا الفعل فقال: “مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا”). أخرجه ابن ماجه وصح عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ )، أي: مردود عليه غير مقبول منه. أخرجه البخاري . فإيجابية صديق الإسلام وثاني رجل في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم- إيجابية مشرقة، فهو مثال ونموذج أعلى في الإيجابية، فقد وقف الصديق رضي الله عنه متوعدًا مانعي الزكاة قائلاً قولته المشهورة: (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ)، وبذلك قضى على مانعي الزكاة الذين كانوا يريدون أن يتملصوا من تعاليم الدين، ويتحللوا من فرائضه رويدًا رويدًا، لكنه رضي الله عنه أدبهم فأحسن أدبهم، وردهم إلى الجادة، وجعلهم يسيرون في قافلة التوحيد مرة أخرى، بعدما كادوا أن يَضلوا ويُضلوا. فلولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقوفه في وجه المرتدين لكان حال الإسلام في الجزيرة العربية، بل والعالم أجمع غير تلك الصورة التي نعيشها الآن. وكذلك الحال مع المتوكل الذي أبطل فتنة القول بخلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة، واحتضنها ثلاثة من خلفاء بني العباس، وهم: المأمون، والمعتصم، والواثق. هذه الفتنة التي لم يثبت أمامها من العلماء إلا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل طيب الله ثراه- الذي رفض الإذعان لأهل السلطان، ولم يخش الصولجان، وضحك في وجه المنايا بعين راضية، ونفس أبية، وشخصية قوية، وعقيدة صافية لا دخن فيها ولا شوائب، وتصدى لأعدائه وهو شامخ البنيان، ثابت الجنان، فصيح اللسان؛ فقد حاول أعداؤه أن يفرضوا عقيدتهم السقيمة بالقوة، واستعانوا بذوي المناصب، فأدخل أبو عبد الله السجن، وتكسرت السياط على البساط، وهو كالجبل الأشم الذي يصعب على الأعاصير المسمومة أن تنال منه شيئًا، وبعد ذلك منَّ الله تعالى عليه، وخرج من تلك المحنة مرفوع الرأس، مشرق الوجه، عالي الجبين، وثبت الله به المؤمنين، وهذا ما حدا بعلي بن المديني أن يقول: أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة).
3ـ أنه صمام أمان للمجتمع يقيه ويحفظه من كل نازلة :ـ
فالإيجابية هي التي تبني الفرد بناءًا سليما وإذا شعر الفرد بمسئوليته تجاه مجتمعه أهمه ما قد يجده من سلبيات فيه فيعمل علي تغييرها أو إزالتها بالتعاون مع من ينتهجون نفس المنهج وتجمعهم نفس التصورات . وقد صور النبي صلي الله عليه وسلم في تصوير دقيق حال الأفراد إذا كانوا إيجابيين ونتيجة ذلك علي المجتمع الذي يعيشون فيه والذي صوره بسفينة تسير وسط الأمواج المضطربة وحالهم إذا كانوا سلبيين وأثر ذلك علي المجتمع نفسه فقال :ـ فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهٌ عَنْهُمَا ـ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ:[ مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ ، وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا علَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا]) رواه مسلم.
أما إذا أصبح الناس سلبيين غير مبالين بما يحدث لهم وحولهم، فهنا يتحقق فيهم قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم عند خطابه للمهاجرين: “يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ”. (رواه ابن ماجه في سننه).
ففي هذا الحديث إنذار شديد اللهجة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم- يحذر فيه الأمة من انتشار السلبية واللامبالاة، ويحثها على الإيجابية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فانظر كيف أن السلبية مقيتة، وأن عواقبها وخيمة .
4ـ تجعل المرء يتحمَّل مصاعب الحياة ويتغلَّب عليها:ــ
الحياة لا تسير دائمًا على وتيرةٍ واحدة؛ فيوم حلو وآخر مر، وكما قال الشاعر أبو البقاء الرندي:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
والإنسان السلبي هو الذي تغلبه الأزمات، وتصرعه الملمات، وربنا عز وجل يأمر المسلمين بقوله: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ (آل عمران:139) تهنوا: أي تضعفوا؛ فالوهن هو سبب تكالب الأعداء علينا؛ فالهزيمة داخلية قبل أن تكون خارجية، وهذا هو الواضح من قوله- صلى الله عليه وسلم ( يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا”. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ:بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِعَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ” فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ. وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)( أبو داود وأحمد). فما قيمة العدد الكثير الذي لا يقوى على تحمُّل المشاق، وينكص على عقبيه عند ملاقاة الأهوال؟!
4- تسهم في البناء الحضاري للإسلام:ــ
الحضارة الإسلامية أسمى الحضارات التي وُجدت في هذه الحياة الدنيا؛ فهي حضارة طارت بجناحين: جناح السمو الروحي والأخلاقي، وجناح الرقي المادي، فلم تهمل جانبًا على حساب آخر؛ فالحضارة التي تهمل الروح والقيم والأخلاق وتمضي في التقدم المادي إلى أوج ما يمكن أن يتوصل إليه هي حضارة خداج لا تلبث أن تطير حتى تقع من شاهق.
وعندما فرَّق المسلمون بين العلم والعمل، وبدأ الجمود والتقليد يحل فيهم، عندها كانت الحضارة الإسلامية قد بلغت منتهاها في المد وبدأت في الجزر، وحينها أخذت موقع الصدارة منها الحضارة الغربية التي بلغت أوج الرقي المادي مع انحدارٍ وتدنٍّ في المستوى الروحي والأخلاقي. وحضارةٌ كالحضارة الغربية لن تستمر طويلاً إن شاء الله تعالي. والحضارة الإسلامية اليوم تحتاج من أبناء الإسلام أن يرجعوا إلى ربهم، وأن يتفوَّقوا في كل ميادين العلوم؛ لا فرقَ بين علم شرعي وعلم دنيوي ، فالكل يخدم الإنسان المسلم في دنياه وآخرته، فلو علم كل مسلم أنه على ثغر من ثغور الإسلام لأدَّى ما عليه من واجبات على أحسن ما يكون الأداء، ولأدَّى ذلك إلى الارتقاء بالمجتمع والنهوض بالأمة واستعادة مجدها التليد المفقود ، فما فقدت الأمة السيادة وما نزلت عن عرش الريادة إلا بعدما شبَّت فيها نيران السلبية فحوَّلتها من أمة قوية فتية إلى أمة مغصوبة منكوبة ، انشرخ جدارها وانكسر ساقها، ولا سبيل إلى رفعتها واسترداد مكانتها إلا بالعودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يحكمنا شعب ملكناه استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه إنا مشينا وراء الغرب نقتبس من ضيائه فأصابتنا شظاياه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه كنا أسوداً ملوك الأرض ترهبنا والآن أصبح فأر الدار نخشاه يا من رأى عمر تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من بأسه وملوك الروم تخشاه
العنصر الثالث : نماذج إيجابية في الهجرة النبوية المباركة :ـ
يتجلى لنا في الهجرة المباركة نماذج إيجابية رائعة مثل ..
1ـ علي بن أبي طالب:ـ
والذي ضرب مثالا للجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح والتغيير، والذي يفدي قائده بحياته، حين بات رضي الله عنه ليلة الهجرة على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأسه انتقاما منه، لأنه سهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاة، ولكن عليا رضي الله عنه لم يبال بذلك، ولم يرهبه بريق السيوف ولا أخافه لقاء الحتوف، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة.
2ـ عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه :ـ
الذي كان يقوم بمهمة رجل الإستخبارات للهجرة ، فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم ، ثم يأتي بالليل إلي النبي صلي الله عليه وسلم في الغار يبيت معهم ، وقبل الفجر يذهب إلي مكة ،وكأنه نائم في مكة . ، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدري بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته ، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها . فكان لعبدالله دور عظيم في نصرة هذا الدين ونجاح الدعوة إلى الله فبهمتهم واندفاعهم للتضحية والعمل الدؤوب وبتعلمهم كيف يكونون أعضاء صالحين في مجتمعهم ووطنهم وأمتهم تتقدم الأمة سريعا نحو النجاح والغلبة والتمكين بإذن الله.
3ـ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها :ـ
وكانت أسماء بنت أبي بكر تجهز الطعام وتذهب به إليهما، فتشق نطاقها نصفين، تتحزم بواحد، وتحزم الطعام بالآخر حتى سميت ذات النطاقين، وكانت إذ ذاك بنت سبع وعشرين سنة.
4ـ عامر ابن فهيرة :ـ
وكان عامر بن فهيرة وقد أسلم وهو في بحر العشرين من عمره يرعى الغنم حتى يأتي بها إلى الغار فيحلب للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولأبي بكر رضي الله عنه، فنجحت الهجرة على أيدي هؤلاء الشباب.
العنصر الرابع : الإيجابية في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ــ
القرآن الكريم مليء بالأمثلة الإيجابية، بل إن المُتتبِّع للقرآن الكريم يجد أن مِن أكثر الأمثلة ضربًا في القرآن هي الإيجابيَّة. مؤمِن ياسين:ـ قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 20 – 25].
إنها استجابة الفِطرة السليمة لدعوة الحق المُستقيمة؛ فيها الصدق، والبساطة، والحَرارة، واستِقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القويِّ للحق المبين، فهذا رجل سَمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها مِن دلائل الحقِّ والمَنطِق ما يتحدَّث عنه في مقالتِه لقومه، وحينما استشعَر قلبُه حقيقة الإيمان، تحرَّكت هذه الحَقيقةُ في ضميره فلم يُطقْ عليها سكوتًا، ولم يقبَع في داره بعقيدته وهو يرَى الضَّلال مِن حوله والجُحود والفُجور، ولكنه سعى بالحق الذي استقرَّ في ضميره وتحرَّك في شُعوره، وظاهرٌ أن الرجل لم يكن ذا جاهٍ ولا سُلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منَعة مِن عشيرته، ولكنها العقيدة الحيَّة في ضميره تَدفعُه وتجيء به مِن أقصَى المدينة إلى أقصاها.
مؤمن آل فرعون:
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28].
انتدب الله عزَّ وجل رجلاً مِن آل فرعون، وقع الحق في قلبه، ولكنه كتَم إيمانه، انتدب يدفَع عن موسى، ويَحتال لدفع القوم عنه، ويَسلُك في خطابه لفرعون وملَئِه مسالكَ شتَّى، ويتدسَّس إلى قلوبهم بالنصيحة، ويُثير حساسيتها بالتخويف والإقناع، إنها جَولة ضخمَة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المُتآمِرين مِن فرعون وملئه، وإنه مَنطِق الفِطرَة المؤمنة في حذر ومَهارة وقوة كذلك، وقد سجَّل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.
إيجابية هدهد سليمان:
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 20 – 26]. ونحن نجد أنفسنا أمام هُدهدٍ عجيب، صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبَراعة في عرض النبأ، ويقَظة إلى طبيعة مَوقفِه، وتلميح وإيماء أريب، فهو يُدرِك أن هذه مَلِكَة وأن هؤلاء رعيَّة، ويُدرِك أنهم يَسجُدون للشمس من دون الله، ويُدرِك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وأنه هو ربُّ العرش العظيم، وما هكذا تُدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاصَّ، على سبيل الخارِقة التي تُخالِف المألوف، ولكن الأعجب من ذلك المجهود الجبَّار الذي قام به الهُدهد، ولكي ترى كم مِن المسافات قطَع، وكم مِن الجهْد بذَل وضحَّى، لك أن تَعرِف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسِعة والفيافي وبلَّغ قائده بما رأى.
3 – الإيجابيَّة في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم :ــ
قال ابن عمر: “ما رأيت أشجع، ولا أنجَد ولا أجوَد، ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم “، وقال علي – رضي الله عنه : (إنَّا كنَّا إذا اشتدَّ البأس واحمرَّت الحدق، اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتُني يوم بدر ونحن نَلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقرَبُنا إلى العدو، وكان مِن أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا). وقال أنس رضي الله عنه :}كان عليه الصلاة والسلام أشجَع الناس، وأحسنَ الناس، وأجوَد الناس، لقد فَزِع أهل المَدينة ليلةً، فانطلَق ناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقَّاهم عليه الصلاة والسلام راجعًا قد سبَقهم إلى الصَّوت، واستبرأ الخبَر على فرس لأبي طلحة عُرْي والسيف في عُنقِه وهو يقول:(لن تُراعُوا){.
وعندما نعيش مع سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نجد الحثَّ على الإيجابيَّة والإرشاد إليها،
ومِن ذلك:ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم }لا تزال طائفة مِن أمَّتي ظاهِرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذَلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك{ (رواه مسلم ).
وقوله صلى الله عليه وسلم :(خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلمه) (رواه البخاري).
وقوله صلي الله عليه وسلم – صلى الله عليه وسلم :(بلِّغوا عنِّي ولو آية) ( رواه البخاري).
ونجد في أمور الدنيا يأتيه سائل يَطلُب عونًا فيُرشِده النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى إيجابيَّة العمل..
فعن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال أما في بيتك شيء قال بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء قال ائتني بهما قال فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال من يشتري هذين قال رجل أنا آخذهما بدرهم قال من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع) سنن أبو داود.
العنصر الخامس: دوافع الإيجابية :ــ
1ـ دافع الإيمان :ـ
الإيمان بالله هو منبعُ النُّور في الإنسانيَّة، يُضيء لها جوانبَ النَّفس والحياة، وهو المنار الهادِي إذا تاهتِ المعالم، والربْوة العالية العاصِمة من طوفان المبادئ الهدَّامة والأحقاد الطَّامعة، إذا أردْنا الإصلاح فإنَّه لن يَجري في حياتِنا إلاَّ إذا نبع من نفوسِنا، فإذا استنارتِ النُّفوس بنور الإيمان وأشْرقت بضياء الحبِّ والنيَّات الطيِّبة، ساد الخير وبسط السلامُ جناحيْه على هذا الكون. أما إذا أقْفرت النُّفوس من الإيمان، ساءت الفِتَن، وأظلم حاضر النَّاس ومستقبلهم، وصدق الله حيث يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فحياة النَّاس صورة ظاهرة لما في قلوبِهم، وسلوكُهم يتلوَّن باللَّون الَّذي يبعثه ما في القلب من كُفر أو إيمان، من غيٍّ أو رُشْد، من خيرٍ أو شرٍّ، من هُدًى أو ضلال، فتغْيِير الصُّورة الظاهريَّة أمر سهل ميْسور، ولكنَّ تغْيير صورة الباطن من الصُّعوبة بِمكان تغْييرها بين ليلة وضحاها بغير الإيمان، وليْس سهلاً أن نبْني سدًّا منيعًا يقِي النُّفوس من نوازِعها الشّرّيرة، فتغْيِير صورة الباطِن لا يتمُّ ولا يكون إلاَّ إذا اتَّخذ الإيمان قاعدة بواسطتِها يَحدثُ انقلابٌ شاملٌ في الكون، ويُحوِّل الإنسانَ الشرِّير إلى إنسان خيِّر يَجعله مهيَّأً لقبول الحقِّ وتحمُّل تبعاته.
في صحيح الإمام مسلم: رُوي أنَّ رجلا كافرًا نزل ضيفًا على رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فأمر له الرَّسول بِحلب شاةٍ، فشرب لبنَها ولم يشبع، فأمر له بحلب ثانية فلَم يشبع، وهكذا حلبت له ثالثةٌ ورابعة إلى سابعة، فشرب لبنها ولم يشبعْ، ثمَّ بات ليلته فلمَّا أصبح تفتَّحت نفسُه للإيمان فآمن، فقدّم له لبن شاة فشرِبه، وقدم له لبن شاة ثانية فلَم يستتمَّ شرْب لبنِها وشبع، فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم (إنَّ المؤمنَ ليشربُ في معًى واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء).
فما بين يومٍ وليلةٍ استحال الرَّجُل من إنسانٍ شرِه لا همَّ له إلاَّ بطنُه، إلى إنسانٍ قاصدٍ عفيفٍ، فما الَّذي تغيَّر فيه؟ تغيَّر قلبُه وعقيدته، كان كافِرًا يُسارع في إرْضاء شهواته، فأصبح مؤمنًا حسْبه من الطَّعام ما يُعينه على الحياة. فأكبر دافع للإيجابية هو الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر ، لذلك يسعي المرء بدافع الإيمان لذلك جعل الإسلام الحنيف خيرية المسلم في الإنطلاق نحو المجتمع لإصلاحه وتغييره فقال تعالي } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ … } (آل عمران110 ).
وقال صلي الله عليه وسلم :(المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) (ابن ماجة وأحمد) .
2ـ دافع حب الناس والحرص عليهم والرغبة في تقديم الخير لهم ، والطمع في الأجر والثواب:
كان الدافع للرسل عليهم السلام في دعوتهم للناس هو حبهم والحرص عليهم والشفقة بهم لذلك قال تعالي:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة128)، وما الشرع : إلا تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله ، وقال تعالي{...إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } (هود84 ) وكان الأجر والثواب عظيم، كما ورد في قوله صلي الله عليه وسلم: ( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في الجحر والحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير ) (الترمذى : حسن صحيح) وقوله صلي الله عليه وسلم: ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحد خيرٌ لك من حمر النعم ) (رواه البخاري). 4ـ دافع الرغبة في بيان الحق وإقامة الحجة والإعذار إلى الله : ـ كما في قوله تعالى:{ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأعراف164 ) .
5ـ دافع المسئولية الفردية :ـ
استشعار المسئولية أمام الله عز وجل لأن السؤال يكون لكل فرد علي حده .( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95))مريم وقوله تعالي (لا تكلف إلا نفسك ) (84 النساء). وقال تعالى : (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } (الإسراء : 14). والقرآن الكريم يؤكد علي هذه المسئولية الفردية ، والتي لا يتحمل فيها أحد وزر أحد ، فيقول سبحانه وتعالي : ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: من الآية21) ويقول تعالي : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (النجم 36 :41)
العنصر السادس: إيجابية أحيت أمـــــــة :ـ
إنها امرأة ضعيفة ولكنها اتصفت بالإيجابية فأحيا الله علي يديها الأمة وكانت عاملا من عوامل النصر العظيم والفتح المبين .
اسمها ميسون،
تعيش في دمشق ، سنة 607هـ .
عاشت هذه المحنة العظيمة وهي : هجوم الصليبين الغزاة كالطوفان يُدمِّر كلَّ مَن يقف أمامه ، وقد استشهد إخوتها الأربعة في الجهاد المقدس
ولكن ماذا يمكن أن تفعل امرأة عزلاء في مواجهة هذه الحجافل؟ نعم.. امرأة وحدها لا تقوى على عمل شيء لكنها امرأة صاغها الإيمان خلقًا آخر، فقلبت الموازين وأدارت دفة الأمور وغيرت مجرى الأحداث، نزل الإيمان قلبها فإذا بها تحس أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزًّا وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل والمدد الذي لا ينقطع والبأس الذي يفل الحديد ويدك الحصون.
تلك المرأة جمعت النساء اللاتي حضرن يواسينها ويعزينها، وقالت لهن: إننا لم نخلق رجالاً نحمل السيوف، ولكن إذا عجز الرجال لم نعجز نحن عن العمل، وهذا والله شعري أثمن ما أملك، أنزل عنه اجعله قيدًا لفرس تقاتل في سبيل الله لعلي أحرك به هؤلاء الأموات.. وأخذت المقص فجزَّت شعرها وصنعت النساء صنيعها، ثم جلسن يضفرن لجمًا وقيودًا لخيل المعركة الفاصلة، لا يضفر ليوم زفاف أو ليلة عرس وأرسلت هذه اللجم والقيود إلى خطيب الجامع الأموي “سبط بن الجوزي” فحمله إلى الجامع يوم الجمعة، وقعد في المقصورة (المنبر) وحبس هذه اللجم والقيود بين يديه والدمع يترقرق من عينيه ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله وينظر بعضهم إلى بعض، حتى قام وخطب خطبة حروفها من نار تلدغ أكباد من يسمعها وكلماتها سحر.
ومما قام الإمام “سبط بن الجوزي”: –
يا مَن أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم ويهدوا البشر إلى دينهم فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم في دينهم.
– يا مَن باع أجدادهم نفوسهم لله بأن لهم الجنة وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة. يا أيها الناس: – ما لكم نسيتم دينكم وتركتم عزتكم وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين.
– أما يهز قلوبكم ويزيد حماستكم إخوان لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف؟!!.
– أما في البلد عربي؟! أما في البلد مسلم؟! أما في البلد إنسان؟!.
– أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يسربلون باللهب ويخوضون النار ويتألمون على الجمر؟!.
– مَن لم يهب لنصرة فلسطين فلن يكون عربيًّا ولا مسلمًا ولا إنسانًا.
يا أيها الناس: إنها قد دارت رحى الحرب ونادى منادي الجهاد وفُتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، وخذوا أنتم المجامر والمكاحل..
فإلى الخيول وهاكم لجمها وقيودها.. يا ناس أتدرون مم صُنعت هذه اللجم والقفيد؟!..
لقد صنعتها النساء من شعورهن؛ لأنهن لا يملكن شيئًا غيرها يساعدن به فلسطين، هذه والله ضفائر النساء التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظًا قطعنها؛ لأن تاريخ الحب قد انتهى، وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة الحرب في سبيل الله والأرض والعروبة. فإذا لم تقدروا على الخيول تقيدونها بها فخذوها واجعلوها لكم ذوائب وضفائر، فإنها من شعور النساء.. ألم يبق في نفوسكم شعور؟!. وألقاها من فوقِ المنبر على رءوس الناس وصرخ: تصدعي يا قبة النسر، وصيدي يا عُمد المسجد، وانقضى يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم.
فصاح الناس صيحةً ما سُمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت.. فجاء النصر المبين على يد امرأة واحدة أيقظت أمةً نائمة .
انتهت بفضل الله تعالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق