الشيخ / محمد الغزالي
إنَّ إذلال الشعوب جريمة هائلة،
وهو في تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدوَّ ويضرُّ الصديق.
بل هو عمل يتمُّ لحساب إسرائيل
نفسها، فإنَّ الأجيال التي تنشأ في ظلِّ الاستبداد الأعمى تشبُّ عديمة الكرامة،
قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والردِّ.
ومع اختفاء الإيمان المكين
والخلق الوثيق والشرف الرفيع.
ومع شيوع النفاق والتملُّق
والدناءة.
ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجُّح
الفارغين المتصدرين.
مع هذا كله لا
تتكوَّن جبهة صلبة، وصفوف أبيَّه باسلة!
وذلك أمل “إسرائيل”
حين تقاتل العرب؛ لأنَّها ستمتدُّ في فراغ، وتشتبك مع قلوب منخورة وأفئدة هواء!
والواقع أنَّ قيام
“إسرائيل” ونماءها لا يعود إلى بطولة مزعومة لليهود قدر ما يعود إلى عمى بعض
الحكام العرب المرضى بجنون السلطة، وإهانة الشعوب.
ولو أنصف اليهود
لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيل، ترمز إلى ما قدَّموا لـ”إسرائيل” من عون ضخم، ونصر
رخيص!
إنَّ جماهير العرب
عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بُذلت جهود هائلة لمنعها من الحقِّ والجدِّ،
وتعويدها عبادة اللذَّة، إلى جانب عبادة الفرد، ولكن جوهر الأمة تأبى على هذه
الجهود السفيهة، وإن كانت طوائف كثيرة قد جرفتها هذه المحن النفسية، فهي تحيا في
فراغ ومجون مدمِّرين، لا تبقى معهما رسالة، ولا ينخذل عدو.
ومِن ثمَّ كان العبء
على المصلحين ثقيلًا، ولكن ما بدٌّ منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا.
ولقد تبعت الصراع بين
الحكام المستبدين والرجال الأحرار منذ نصف قرن، ودخلت في تلك المعمعة؛ لأذوق بعض
مرِّها وضرِّها.
وكنت أُردِّد بإعجاب
صيحات الرجال الكبار، وهم يهدمون الوثنية السياسية، ويلطمون قادتها، ولو كانوا في
أعلى المواضع.
ولا أزال أُكرِّر ما ذكرتُ في
بعض كتبي من أنَّ الحريات المقررة هي الجوُّ الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره!
وإنَّ أنبياء الله لم يضاروا بها
أو يهانوا إلا في غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديمًا لم ينشأ ويستقرَّ إلا
في مهاد الذلِّ والاستبداد، فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلَّا حيث تموت الكلمة
الحرة، وتلطم الوجوه الشريفة، وتتحكَّم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب
والأهواء.
إنَّ البيئات التي تستمتع
بمقادير كبيرة من الحرية، هي التي تنضج فيها الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهي
السناد الإنساني الممتدُّ لكلِّ رسالة جليلة وحضارة نافعة.
ذلك أنَّه يستحيل أن يتكوَّن في
ظل الاستبداد جيل محترم، أو معدن صلب، أو خلق مكافح.
وتأمَّل كلمة عنترة
لأبيه شدَّاد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة، قال: إنَّ العبد لا يحسن الكرَّ
والفرَّ، ولكنَّه يحسن الحلب والصرَّ! فأجاب الوالد: كرَّ وأنت حرٌّ!
أما أهل الرأي والخبرة والعزم
والشرف، فإنَّ فضائلهم تُحسب عليهم لا لهم، وتُنسج لهم الأكفان، بدل أن تُرفع لهم
الرايات..
والويل لأُمَّة يقودها التافهون،
ويُخزى فيها القادرون..
ما أكثر العلماء في بلادنا لو
أريد توسيد الأمر أهله، ولكن العلماء ليسوا موضع ثقة لصغار المتصدرين؛ لأنَّ
العالم يستنكر المتناقضات، ويكره الدنية، ويقول بغضب:
أأشقَى به
غرسًا وأجنيه ذلَّةً إذن
فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أحزمَا
أما وقد أزال الله الغمَّة، وعلت
كلمة الأُمَّة، فلنعُدْ بالأمور إلى أوضاعها السليمة، ولنُوفِّر الحريات التي طال
إليها الشوق، واشتدَّ الحنين.
لقد كان الاستبداد قديمًا أقلَّ
ضررًا من الاستبداد الذي نظمته الدولة الحديثة في هذه الأعصار، فإنَّ الدولة في
العصر الحديث تدخَّلت في أدقِّ شؤون الفرد، وبسطت نفوذها على كلِّ شيء.
لتبكِ على
الفضلِ بنِ مروانَ نفسُه فليس
له باكٍ مِن الناسِ يُعرفُ
لقد صحِب
الدُّنيا منُوعًا لخيرِها وفارَقها
وهو الظَّلومُ المعنفُ
إلى النارِ
فليذهبْ ومَن كان مثله على
أيِّ شيءٍ فاتنا منه نأسفُ؟
اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى،
وأنت المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق