27 مارس 2017

عناية الإسلام باليتيم

عناية الإسلام باليتيم 

 الحمد لله الكريمِ المَنَّانِ، الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، أحب من أطاعه وأعد له نعيم الجِنَانِ، وأَبْغَضَ مَنْ عصاه وَتَوَعَّدَهُ بِلَظَى النِّيرَانِ. أمر بالإحسان إلي اليتيم بعد عبادته وتوحيده سبحانه وتعالي فقال تعالي{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كلي شيئ قدير .. أرسل نبيه رحمة للعالمين فهداهم من ضلالة وعلمهم من جهالة وأخرجهم من ظلمات الجهل إلي نور العلم والإيمان فقال تعالي (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء . 

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم شملت رحمته البر والفاجر والقريب والبعيد والعدو والصديق فكان رحمة مهداه من الله عز وجل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ” . المستدرك علي الصحيحين .

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..

أما بعد: فيا أيها المؤمنون …

إن الله تعالي خلق الإنسان وأودع فيه قلبا ينبض لأنه بدون القلب أشبه بالآلة الصماء والحجر الصلد فإن حقيقة الإنسان ليست في هذا الغلاف الطيني من لحم ودم وعظم ، وإنما هي تلك الطيفة الربانية والجوهرة الروحية التي بها يحس ويشعر وينفعل ويتأثر ويتألم ويرحم هي القلب الحي . ومن أخص أوصاف المؤمن أنه يتميز بقلب حي مرهف لين رحيم يتجاوب به مع الأحداث والأشخاص فيرق للضعيف ويألم للحزين ويحنو علي المسكين ويمد يده إلي الملهوف وبهذا القلب الحي المرهف الرحيم ينفر من الإيذاء وينبو عن الجريمة ويصبح مصدر خير وسعادة وبر وسلام لما حوله ومن حوله. واعتبر اليتامى في قلب المجتمع المسلم يمثلون نقطة مُضيئة بالحسنات، والأجور العاليات، من ربِّ الأرض والسموات، وذلك لمن نَظَرَ إلى الأمر بعين قلبه، وألقى سمعه إلى أمر الله – تعالى – وبيان رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وإحساسُهُ الإيمانيُّ حاضرٌ لا يغيب.

لذلك كان حديثنا عن (عناية الإسلام باليتيم ) من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
 1ـ معاني اليتم في الإسلام ؟
 2ـ اليتم في حياة النبي صلي الله عليه وسلم.
 3ـ عناية الإسلام باليتيم .
 4ـ قصص في فضل الإحسان إلي اليتيم 
 5ـ أيتام غيروا في التاريخ .
 6ـ كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد الممات؟

 العنصر الأول : معاني اليتم في الإسلام ؟ :ـ 

اليتم: الفقد، بمعنى أنَّ اليتيم يفقد حاجيَّات يجدها غيره، يفقد ثوبًا يريد أن يسترَ به بدنَه، أو يفقد معنًى يُكسبه الشعور بالثِّقة وعدم الاضطراب، أو ربَّما يفقد مالاً يريد أن يحقق به مصلحة أو يدرك به مآرب أخرى.

 اليتيم من البشر: مَن فَقَدَ أباه وهو دون الحُلُم، ومن فَقَدَ أبويه فهو لطيم، واليتيم من الطير أو الوحش مَن فقد أُمَّه .

 * يتم الأخلاق :

وهناك أيتام يُقاسون اليتم على معنى آخر، في قلب مُجمعاتنا الكبيرة والصَّغيرة على السواء، لهم آباء ولهم أمَّهات؛ لكنهم – مع الأسف – يتجرَّعون مرارات اليتم، ويَشعرون به، ذلكم الذين يعالج آباؤهم وأمهاتهم أمورَهم من زوايا مادية أو شكلية أو مظهرية، و يهتمون فقط بملء بطونهم من جوع، أو بسترة أجسامهم من عراء، ثم لا يأبهون – بعد ذلك – بتطلعات الرُّوح وملء شآبيب القلوب رِيًّا وحنانًا، وحشو الجنان آدابًا وأخلاقًا، وببقية أمور التربية والتعليم والإصلاح، فتنشأ أجيالٌ فاقدة لحسن الخلق، بعيدةً عن ساحات المساجد، تربيها الأيام والليالي، ولا تربيها صيحات المنابر، ولا تلاوات المحاريب؛ لأنَّ الوالدين لم يكونا أَدِلاَّءَ خيرٍٍ على طريق المسجد، فصار الوالدُ والوالدة عائقًا وسببًا في عدم إكرام الأولاد، وحسن تربيتهم في الإسلام، مع أنَّهم نشؤوا على قوة البدن، لكنَّهم في ميدان التربية الخلقيَّة والرُّوحية أيتام،

وفي ذلك قول أمير الشعراء:

لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ هَمِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلاً
 إِنَّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولاَ 

حينما يترك الوالدُ ولدَه للشوارع والشاشات وعروضها الفاسدة، تُجَمِّلُ في المخيلة الساذجة منازعَ الحمق والفساد، وحثالة الأفكار، ورَدِيء الفلسفات، ثم يَمتطي هذا الوالد صهوة الفخر الكذوب، ويقول: أنا ربيت أولادي أفضلَ تربية وأكملها، ونحن بدورنا نؤكد ونوقن أن أولادَه يعانون اليُتْمَ من أعمق معانيه.
 أو حينما يكون هذا الوالد ذاته سببًا في فساد أولاده، يشكل لهم القُدوة السيئة في أبهى حللها، كأنْ يكون كذابًا، فيتعلمون منه الكذب، أو مختالاً بطرًا يتشربون منه الكبر والخيلاء والاستطالة على عباد الله، أو يأكل الحرام، ولا يبالي من أيِّ طريق قد جمع أرزاقه، فينشأ أولاده وقد مردوا منذ أزمان على أشباه هذه المعاني يومًا بعد يوم، فيترسب في قرائحهم أنَّ هذا هو الحق، وأنَّ غيره هو عين الباطل، وحال الوالد والولد كما قال الشاعر الحكيم:

 وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ 

أولادنا مُحتاجون إلى مَن يُربي عقولهم وأفكارَهم وقلوبَهم وضمائرهم بعيدًا عن التشابه في تربية الدَّواب، أو تربية الأشكال – وإلاَّ فهم أشباه الأيتام – فإنَّ الإنسان يرقى أجواز العُلا بروحه لا بجسمه وصورته. يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى لِخِدْمَتِهِ أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى الرُّوحِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لاَ بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ

** يتم القدوة :ــ 

عندما تعاني مجتمعات أو شعوب بكاملها من فَقْد القُدوات الحسنة أو ندرتهم، أو عندما يكون التَّافهون والسَّاقطون والسَّطحيُّون هم القُداوتِ والأمثلةَ – أو هكذا يُراد – بدفع حفنات من أسماء اللاَّعبين والمطربين والمستغربين إلى الأسماع والأبصار، في إصرارٍ إعلامي سمج مكرور، لا يهدأ ولا يستكين، فينجرفُ المزاج العام في مجال أخذ القُدوة إلى هوة سحيقة، بعد أنْ تصيبَ هذه السهام كثيرًا من أهدافها، ويغرق الخلق – تبعًا لذلك – في حمأة اليُتم الأخلاقي، وتعيش الشعوب في ميدان الأخلاق كالأيتام على موائد اللئام، فتتضاعف في قلوب الأمة معانيَ الإخلاد إلى الأرض والتبعية، ويزيد عدد أشباه الرجال ولا رجال، ويكون الاهتمام الأكبر بالكمالي من المطعوم والملبوس، وبقية المستهلكات في دوار لا ينتهي حتَّى آخر أرماق الحياة، ضاربين ستائر النسيان على معالي الأمور؛ لأنَّهم لم يعرفوها ولم يألفوها، تاركينَ قيادة الحياة بِيَدِ ظالم أو غاشم يعيثُ في الأرض بآيات الفساد، ومن صور المشهد التَّابع ليتم الشُّعوب أن أرض الواقع تذخر بتمجيد المدنس، أو المتاجرة بالمقدس، على حسب المآرب والرَّغائب، عندئذٍ يكون بطنُ الأرض خيرًا من ظاهرها، بالنِّسبة لمن حَرَمُوا أنفسَهم وغيرهم من خلق الله أنْ يتذوقوا طعم حياة الآدميِّين.

 العنصر الثاني :اليتم في حياة النبي صلي الله عليه وسلم :ـ 

إن اليتم ليس عيباً في الإنسان، وليس يتمُه مسبباً لتأخره، وليس يتمه قاضيا على نهضته وتقدمه، فكم من يتيم عاش بخير، ونال ما نال من الخير بفضل الله، فهذا سيد الأولين والآخرين، خير من وطئت قدمه الثرى، فيُتْمُ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم تكريمٌ إلهي، وقد تشرَّف معنى اليتم ذاته يقول الله له مذكراً نعمه عليه: قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8].

رَغْمَ أنه انتقل – صلَّى الله عليه وسلَّم في أطوار الرعاية الأولى بين حنان الأم الذي لم يدُم سوى ست سنوات من عمره المبارك، وبين رعاية الجد عبدالمطلب، والتي لم تدم بعد فَقْدِ الوالدة سوى عامين، ثم كانت الكفالة من عَمِّه أبي طالب، حتَّى شبَّ عن الطوق، ودخل في سن الشباب – صلَّى الله عليه وسلَّم – وليست هذه مصادفة وقعت في قلب الأحداث، بل إنَّها من القدر السعيد المُعَدِّ لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال الله – تعالى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] 
فلا يحدث في ملك الله إلا ما أراد، وشاءت إرادة العَلِي القدير أنْ ينشأ سيد الناس يتيمًا؛ ليجيره رب الناس من شدَّة اليتم وزيغ الآراء؛ طلبًا للهداية إلى طريقةٍ لإصلاح الذين يرتعون في عمايات الجاهليَّة، ولقد قام النبي صلي الله عليه وسلم بترية العالم بأسره فغير الله علي يديه حال أمة لم تكن تعرف إلا عبادة الأوثان وشرب الخمر ولعب الميسر وظلم الأقوياء … إلي أمة لا تعرف إلا الرحمة والعدل والمساواة والإنسانية ..

العنصر الثالث:عناية الإسلام باليتيم :ـ 

لقد كان المجتمع الجاهلي قبل الإسلام يتعامل مع اليتيم بالقسوة والعنت والظلم فكان الرَّجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة، فيُلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك بها، لم يقدر أحد أن يتَزَوَّجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهويها، تَزَوَّجَها وأكل مالَها، وإن كانت دميمة، منعها الرجال أبدًا حتَّى تموت، فإذا ماتت ورثها،فجاء الإسلام وحرم ذلك ونهي عنه فقال تعالي{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].

وعلى ضفاف المعنى الكريم لرعاية وكفالة اليتيمات في سابق الأزمان، نَجد أنَّ القرآن الكريم يرسم صورة رائعة لمجموعة من أهل الخير الذين يتسابقون فيما بينهم على كفالة يتيمتهم وبنت حبرهم مريم بنت عمران، والدة سيدنا عيسى – على الجميع السلام قال الله تعالى {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]،
فقد كان كل واحد منهم يطمع في أن يفوز برعايتها، ولم يجدوا بدًّا من الاقتراع فيما بينهم وإلقاء أقلامهم في نهر الأردن أيهم يفوز بهذا الشرف العظيم، ألا وهو كفالة اليتيمة، حتَّى فاز بذلك نبي الله زكريا – عليه السلام.

وتأمل أمر الله تعالي بالإحسان إلي اليتيم في كل العصور ،انظر إلى حال بني إسرائيل حينما وصَّاهم الله – عزَّ وجل – وأمرهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] . وفي الحديث عن عناية الإسلام باليتيم علمنا الله جلَّ وعلا بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36]،
فتأمل واربط بين الحالين؛ لتعلم أنَّ إكرام اليتامى في الإسلام وقبله في بني اسرائيل مقرونٌ بعبادة الله – تعالى – واحترام دينه. وقد أوصي الإسلام بحفظ حق اليتيم حتى يبلغ سن الرشد وهذه الحقوق تتمثل في الآتي:ـ

1ـ حفظ مال اليتيم :ـ 

وفي معرض الحديث عن إكرام اليتيم في الإسلام أمر بحفظ مال اليتيم ،قال تعالي ( وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَـٰمَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوٰنُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ) [البقرة:220].

وأمر بحفظ أموال اليتيم حتي يبلغ أشده ، فقال:( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) [الأنعام:152].
 بل أمر بإعطائهم حقوقَهم كاملة العد والقيمة بلا إبطاء؛ قال الله تعالى{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].

فوصف أكل أموالهم بالظلم الكبير، الذي لا يعلم حدوده إلا الله – تعالى ولهذا كان جزاء من يأكلون أموال اليتامى عاقبة الخسار والنَّدم. ولقد حذَّر الإسلام أشد الحذر من أكل أموال اليتامى بالباطل وعدَّه من الكبائر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) (رواه أبوداود ).

إنَّ كلمات القرآن بهذا الصدد تصور مشهدًا صعبًا عجيبًا عصيًّا على التخيُّل من شديد آلامه؛ قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

فهل لأحد طاقة على أن يأكلَ النار؟! فما بال أكلة أموال اليتامى لا يلتزمون بأوامر الله تعالى القائل{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6].
وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً”،
ومن أجلِّ المواقف الإيمانيَّة للصحابة الكرام الوقَّافين عند حدود الله، وطوع أمره: ما ورد عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: “لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ – عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]، و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الْآيَةَ، انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ، فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ، فَيُحْبَسُ لَهُ؛ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ{… وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ...} {البقرة: 220]، فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِ”؛ (رواه أبو داوود:). 2ـ حرمة قهر اليتيم :ــ القهر: هو الغلبة مع عدم القدرة على الانتصار للحق أو الأخذ علي يد المعتدي يقول تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 9).
لَقَدِ اهْتَمَّ الإِسْلاَمُ بِشَأْنِ الْيَتِيْمِ الاِهْتِمَامَ البَالِغَ مِنْ نَاحِيَةِ تَرْبَيْتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَضَمَانِ مَعِيْشَتِهِ، حَتَّى يَنْشَأَ عُضْواً نَافِعاً منتجا فِي مُجْتَمَعِهِ، يَنْهَضُ بِوَاجِبَاتِهِ، وَيَقُومُ بِمَسْؤُولِيَّاتِهِ، فَمِنَ اهْتِمَامِ القُرآنِ الكَرِيْمِ بِشَأْنِ الْيَتِيْمِ أَمْرُهُ بِعَدَمِ قَهْرِهِ، وَالْحَطِّ مِنْ شَأْنِهِ وَكَرَامَتِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: {فَأَمَا الْيَتِيْمَ فَلاَ تَقْهَرْ}، وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّيْنِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيْمَ}، فَجَعَلَ ازْدِرَاءَ الْيَتِيْمِ آيَةً مِنْ آيَاتِ التَّكْذِيْبِ بِيَوْمِ الدِّيْنِ.

 3ـ حق الإكرام:ـ

 الكرم: هو الإعطاء بسهولة دون عوض مادي أو معنوي والكرم إذا كان بالمال فهو الجود وإن كان بكف ضرر مع القدرة عليه فهو العفو وان كان ببذل النفس فهو الشجاعة. ومن صور الإكرام الإنفاق والإحسان وقد جعل الله الإحسان إلى اليتيم سبيلاً للنجاة من عذابه يوم القيامة، فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16]،
وجعل إهانته سبيل غير المتقين، كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ) (الفجر:17، 18).
قال الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] . ويقول تعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (البقرة: 177 ). 
ويقول تعالى:{قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (البقرة: 215).

ويقول تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (البقرة: 83 ).
وأمر جل وعلا بالإنفاق عليهم، وجعل ذلك من خصال البر والتقوى، لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيّينَ وَءاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبّهِ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ [البقرة:177].
وجعل لهم تعالى سهماً في فيء المسلمين فقال: وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ [الأنفال:41]، وقال جل وعلا: مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ [الحشر:7]. فالإنفاق على اليتامى من أفضل صُور العطاء؛ لأنه يسد ثلمًا، ويقضي حاجيات، ويحقق مصالح هامة في حياتهم. وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الكَثِيْرُ مِنَ الأَحَادِيْثِ الَّتِي تَحُضُّ عَلَى العِنَايَةِ بِالْيَتِيْمِ وَتُبَشِّرُ الأَوْصِيَاءَ إِنْ أَحْسَنُوا الوِصَايَةَ بِأَنَّهُمْ مَعَهُ – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيْم فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأَصبُعِهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا).

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (كَافِلُ الْيَتِيْمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتِيْنِ فِي الْجَنَّةِ)، وَأَشَارَ الرَّاوِي بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَقَالَ أَيْضاً عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (مَنْ قَبَضَ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ البَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ ذَنباً لاَ يُغْفَرُ لَهُ)، وَفِي رِوَايَةٍ: (حَتَّى يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ).
وَقَالَ صلي الله عليه وسلم 🙁مَنْ كَفَلَ يَتِيْماً لَهُ ذَا قَرَابَةٍ أَوْ لاَ قَرَابَةَ لَهُ فَأَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ أَصبُعَيْهِ ، ومَنْ سَعَى عَلَى ثَلاَثِ بَنَاتٍ فهُوَ فِي الْجَنَّة، وكَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللَهُ صَائِماً قَائِماً).
ووصف النبي الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم المنفقين على الأرامل، وهن يُربِّين أيتامهن بأنَّ لهم أجورَ المجاهدين والقائمين والصَّائمين؛ وذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال (السَّاعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار، ويقوم الليل)؛ (رواه البخاري: ومسلم ).

وَقَالَ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: (مَنْ عَالَ ثَلاَثةً مِنَ الأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِراً سَيْفَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَانِ،َمَا أَنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ)، وَأَلْصَقَ أَصبُعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالوُسْطَى، وَوَرَدَ عَنْهُ أَيْضاً صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ)،
 وَجَاءَ أَيْضاً: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ إِلاَّ أَنِّي أَرَى امْرَأَةً تُبَادِرُنِي، فَأَقُولُ: مَالَكِ وَمَنْ أَنتَ؟ تَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي)، فهذا من منزلة صبر الأم على أيتامها؛ حيث يفيء عليها الأجر العظيم من ربِّ العالمين، وهي مع ذلك تقدم حنانها ورعايَتَها لأولادها ويطمئن قلبها عليهم، إنَّها غنيمة مرْضية للقلب، وأجر من واهب النِّعم، وذلك فضل الله الكريم يؤتيه من يشاء من عباده.
 ومدح النبي نساء قريش لرعايتهن اليتامى: ” خير نساء ركبن الإبل نساء قريش،أحناه على يتيم في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده“.
وَقَالَ أَيْضاً صلى الله عليه وسلم: (الَّلهُمَّ إِنَّي أُحِرُّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيْمِ وَالْمَرأَةِ)، وَمَعْنَى أُحَرِّجُ: أَيْ أُلْحِقُ الْحَرَجَ وَالإِثْمَ بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا..

 4ـ حق الإطعام:ــ

 يقول تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) .
 ويقول تعالى{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد: 15 16).

 5ـ حق الإيواء والحنو عليه وتعليمه :ـ 

يقول تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} الضحى.

عَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلاَّ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِى الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى). أخرجه أحمد.
وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح رأس اليتيم ثلاثاً ويدعو له بالخير والبر.

وأخرج ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم باستشهاد جعفر بن أبي طالب طلب أن يؤتى بأبنائه إليه، فأتي بهم كأنهم أفراخ، فاحتضنهم وشمهم وذرفت عيناه عليهم ثم أمر بالحلاق فجئ به فحلق لهم رؤوسهم. إن كفالة اليتيم لا تقتصر على النواحي الغذائية فقط، بل يتسع معناها ليشمل احتضانه وتعليمه والاهتمام بصحته وإعداده نفسياً وتربوياً لمواجهة المستقبل، والأخذ بيده نحو الفضيلة، وتقوية روحه وعقله، وزرع الأمل في نفسه، ومعاملته بصدق وإخلاص، والحرص على مستقبله وسلوكه، كما يكون حرص الأب على مستقبل أبنائه وسلوكهم.

وجعل النبي صلي الله عليه وسلم المسح علي رأس اليتيم عطفا وحنوا عليه سبباً لجلاء ومعالجة قسوة القلب , فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ ، فَقَالَ لَهُ : إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ). (أخرجه أحمد) الألباني في “السلسلة الصحيحة”.

6ـ حق حفظ الميراث حتى بلوغ سن الرشد:ــ

 يقول تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} الكهف: 82.

 7ـ حق القسط:ـ 

القسط .بكسر القاف وسكون السين هو العدل والقسط لضم القاف هو الجور يقول تعالى{وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}النساء: 127. 

العنصر الرابع : قصص في فضل الإحسان إلي اليتيم :ـ

 ولقد جاء في فضل الإحسان إلى الأرملة واليتيم ما ذكره الإمام شمس الدين الذهبي في كتابه الكبائر ….

1ـ المرأة العلوية :ـ 

عن بعض العلويين وكان نازلا ببلخ من بلاد العجم وله زوجة علوية وله منها بنات وكانوا في سعة ونعمة فمات الزوج وأصاب المرأة وبناتها بعده الفقر والقلة فخرجت ببناتها إلى بلدة أخرى خوف شماتة الأعداء واتفق خروجها في شدة البرد فلما دخلت ذلك البلد أدخلت بناتها في بعض المساجد المهجورة ومضت تحتال لهم في القوت فمرت بجمعين جمع على رجل مسلم وهو شيخ البلد وجمع على رجل مجوسي وهو ضامن البلد فبدأت بالمسلم وشرحت حالها له وقالت أنا امرأة علوية ومعي بنات أيتام أدخلتهم بعض المساجد المهجورة وأريد الليلة قوتهم فقال لها أقيمي عندي البينة إنك علوية شريفة فقالت أنا امرأة غريبة ما في البلد من يعرفني فأعرض عنها فمضت من عنده منكسرة القلب فجاءت إلى ذلك الرجل المجوسي فشرحت له حالها وأخبرته أن معها بنات أيتام وهي امرأة شريفة غريبة وقصت عليه ما جرى لها مع الشيخ المسلم فقام وأرسل بعض نسائه وأتوا بها وبناتها إلى داره فأطعمهن أطيب الطعام وألبسهن أفخر اللباس وباتوا عنده في نعمة وكرامة قال فلما انتصف الليل رأى ذلك الشيخ المسلم في منامه كأن القيامة قد قامت وقد عقد اللواء على رأس النبي وإذا القصر من الزمرد الأخضر شرفاته من اللؤلؤ والياقوت وفيه قباب اللؤلؤ والمرجان فقال يا رسول الله لمن هذا القصر قال لرجل مسلم موحد فقال يا رسول الله أنا رجل مسلم موحد فقال رسول الله أقم عندي البينة أنك مسلم موحد قال فبقي متحيرا فقال له لما قصدتك المرأة العلوية قلت أقيمي عندي البينة إنك علوية فكذا أنت أقم عندي البينة إنك مسلم فانتبه الرجل حزينا على رده المرأة خائبة ثم جعل يطوف بالبلد ويسأل عنها حتى دل عليها أنها عند المجوسي فأرسل إليه فأتاه فقال له أريد منك المرأة الشريفة العلوية وبناتها فقال ما إلى هذا من سبيل وقد لحقني من بركاتهم ما لحقني قال خذ مني ألف دينار وسلمهن إلي فقال لا أفعل فقال لا بد منهن فقال الذي تريده أنت أنا أحق به والقصر الذي رأيته في منامك خلق لي أتدل علي بالإسلام فوالله ما نمت البارحة أنا وأهل داري حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية ورأيت مثل الذي رأيت في منامك وقال لي رسول الله العلوية وبناتها عندك قلت نعم يا رسول الله قال القصر لك ولأهل دارك وأنت وأهل دارك من أهل الجنة خلقك الله مؤمنا في الأزل قال فانصرف المسلم وبه من الحزن والكآبة ما لا يعلمه إلا الله فانظر رحمك الله إلى بركة الإحسان إلى الأرملة والأيتام ما أعقب صاحبه من الكرامة في الدنيا.

 2ـ اليتيم والنخلة :ـ 

وقد رواها الإمام أحمد وعبدُ بن حُميد والطبراني وابن حبان وأبو نُعيم في ” معرفة الصحابة ” والحاكم كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها ، فأمُرْه أن يعطيني حتى أُقيم حائطي بها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أعطها إياه بنخلة في الجنة ، فأبى ، فاتاه أبو الدحداح فقال : بِعْنِي نخلتك بحائطي ، ففعل ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي . قال : فاجعلها له ، فقد أعطيتكها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم مِن عِذق راح لأبي الدحداح في الجنة – قالها مرارا – قال : فأتى امرأته فقال : يا أم الدحداح أخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة ، فقالت : ربح البيع ، أو كلمة تشبهها . وفي رواية : كَمْ مِنْ عِذْقِ رَدَاحٍ لأَبِي الدَّحْدَاحِ . قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ، ورجالهما رجال الصحيح . وصححه الشيخ الألباني . وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .

و في صحيح مسلم من حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَة رضي الله عنه قَال : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ – وفيه – : فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لأبي الدَّحْدَاحِ .

العنصر الخامس : أيتام غيروا مجري التاريخ :ـ 

1ـ الامام سفيان الثوري :ـ 

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري توفي والده وهو دون التاسعة من عمره واعتنت به والدته خير اعتناء ، فوجهته لدراسة الحديث في المسجد ويروى أن والدته ،كانت تغزل بمغزلها ذات يوم وباعت ما غزلته بعشرة دراهم ،ثم دعت إليها ابنها سفيان وقالت 🙁 يا سفيان هذه عشرة دراهم اذهب أطلب بها الحديث في المسجد ثم انظر يا بني إن وجدت أثرا لما تعلمته ،على عقلك وقلبك وعملك فتعال أعطك عشرة دراهم أخرى حتى تطلب بها العلم وان لم تجد أثرا لذلك فاترك العلم يا بني فانه يأبى أن يكون إلا لمخلص ) كان- رحمه الله تعالى- شديد الزهد لا يقبل شيئا من أحد معتمدا على كسب يده ،فكان إذا احتاج إلى المال ينقض جذوع بيته ويبيعه ،فإذا حصل علي المال أعاد بناء السقف ،كل ذلك مخافة أن يسأل أحدا ،يروى أن رجلا دخل عليه فحدثه بحديث لم يسمعه ،وهو على فراش المرض فأخرج لوحا من تحت سريره وأخذ يكتب الحديث فقيل له ( وأنت على هذه الحالة ؟؟ ) قال ( لئن ألقى الله عز وجل وأنا أعلم هذا الحديث خير من أن ألقاه وأنا لا أعلمه )، وظل يدعو ويبتهل حتى مات ( عالم رباني ,,,,, ) كان يقول دائما 🙁 إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل ,,,, هي أن نصنعه ).

 2ـ الإمام ابن الجوزي :ـ

 توفي والد عبد الرحمن بن الجوزي وعمره ثلاث سنوات، فكفلته أمه وعمته، فأحسنتا رعايته وتربته والاعتناء به؛ ولما ترعرع ووجدت عمته فيه من النباهة والذكاء، أرسلته إلى مسجد أبي الفضل ابن ناصر (محمد بن ناصر الحافظ) وهو خاله، فلزم الشيخ ابن ناصر الحافظ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث، وقد قيل: إن أول سماعه سنة 516هـ، أي كان لابن الجوزي من العمر نحو 5 سنوات تقريبا. كانت للتنشئة الحسنة لابن الجوزي على يد أمه وعمته وشيخه ابن ناصر الحافظ أثر كبير في تكوين حياته العلمية الأولى وزرع حب العلم في قلبه، كما كان الغنى والثراء وكثرة التجارة والأموال التي تركها والده أثر كبير في تفرغ ابن الجوزي للعلم وعدم الانشغال بغيره، لذا شرع عبد الرحمن بن الجوزي في طلب العلم وهو صغير، وهذا ما جعله فريدا في عصره وبين أقرانه. ومع ما كان يتمتع به ابن الجوزي من الغنى والثراء اللذين يغريان أي شاب أن يتمتع ويتلذذ بهما ما يشاء وخاصة مع انتشار الغناء في بغداد وتعدد وسائل اللهو إلا الصبي ما كان ينظر إلى كل هذا، بل نراه –رحمه الله- يجاهد نفسه لترويضها على القليل من متاع الدنيا، بل نشأ –رحمه الله- يتيما على العفاف والصلاح. وكان ابن الجوزي في صغره وطفولته لا يحب مخالطة الناس خوفا من ضياع الوقت في الهفوات، فيقول ابن كثير: “وَكَانَ وهو صبي دَيِّنًا مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا ولا يأكل ما فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان”. ترك ابن الجوزي -رحمه الله- جملة من المصنفات والمؤلفات العلمية التي ما نال الزمان بمثلها، حتى قال ابن كثير: ” وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ مَا يَضِيقُ هذا المكان عَنْ تِعْدَادِهَا، وَحَصْرِ أَفْرَادِهَ”.

وقال ابن الجوزي: “أول ما صنفت وألفت ولي من العمر 13 سنة”. والنماذج كثيرة وكثيرة ولكن يضيق المقام بذكرها .

العنصر السادس : كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد الممات؟

 والجواب: يقول الله تعالي (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) [النساء:9] . يقول سيد التابعين سعيد ابن المسيب لولده: (إني سأكثر من الطاعات براً بك) براً بولده وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] . وفي الآية الأخرى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82].
 لقد دخل مسلمة بن عبد الملك ابن عم عمر بن عبد العزيز عليه وهو على فراش الموت، فقال له: [يا أمير المؤمنين! ألا توصي لأولادك بشيء؟ فهم كثير وقد أفقرتهم ولم تترك لهم شيئاً]
 فقال عمر بن عبد العزيز : [أتريد مني أن أوصي لهم بما ليس لي، وهل أملك شيئاً لأوصي لهم به؟ أم تريد أن أوصي لهم بحقٍ لغيرهم، فوالله لا أفعل، فإنهم أحد رجلين: إما أن يكونوا صالحين والله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أترك لهم ما يستعينون به على معصية الله عز وجل، أدخلوا أولادي عليَّ! فدخلوا عليه وهو على فراش الموت، فودعهم عمر بهذه الكلمات التي تذيب الحجارة، وتفتت الصخور، نظر عمر إلى أولاده وقال: يا بني! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل النار، وبين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وقد اختار أبوكم الجنة، انصرفوا فأنتم وديعة عند الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين].

وليس هناك مانع من الأخذ بالأسباب المادية ففى صحيح مسلم من حديث سعد بن أبى وقاص أن النبى صلي الله عليه وسلم لما دخل عليه، ليزوره فى مرض الموت قال له سعد: يا رسول الله أريد أن أتصدق بثلثى مال قال: “لا” قال: أتصدق بنصف مالى؟ قال:” لا” قال : أتصدق بالثلث قال: “والثلث كثير” ثم قال صلي الله عليه وسلم : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة- أى فقراء- يسألون الناس”). فلا حرج فهذا من التوكل على الله.
وفي الختام ..
أسأل الله العظيم أن يحفظنا ويحفظ أولادنا ويربيهم لنا وأن يعصمهم من الشيطان وشركه إنه ولي ذلك ومولاه.
                                                  انتهت بفضل الله ورحمته

19 مارس 2017

الإسلام دين اليسر والسماحة



 الحمد لله رب العالمين أرسل رسوله صلي الله عليه وسلم رحمة للعالمين فقال تعالي ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين﴾ [الأنبياء: 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... أقام الدين علي اليسر والسهولة فقال تعالي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال تعالى :{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] 

 وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم جاء بدين لا حرج فيه ولا مشقة، ولا شدّة فيه ولا تعسير، فبين للأمة يُسْرَ الدين وسماحته، ويبيِّن الحال التي ينبغي أن يكونَ عليها أهلُ الدِّين مع الدِّين، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الدين يسرٌ، ولن يُشاد الدِّين أحدٌ إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدْوة والرَّوَحَة، وشيء من الدلجة)). 
 فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .

 أما بعــــــد .. فيا أيها المؤمنون ... 

 إن من نعم الله علينا وعلى الإنسانية إرسال نبينا محمدٍ صلي الله عليه وسلم بالحنيفية السمحاء رحمة للعالمين، وهذه الرحمة ذات صور من الود والتسامح والعفو والتناصح تضافرت نصوصها من القرآن والسنة، وتجسدت في تعامل المسلمين الأوائل مع المسلمين وغيرهم فقد اجتمعت الأقوال والأفعال فإذا بقاموس يشتمل على جميع مفردات السماحة يتحرك في شتّى نواحي الحياة. ومع هذا فإن بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين يظن أن الإسلام لا يعرف العفو والصفح والسماحة، وإنما جاء بالعنف والتطرف والسماجة، لأنهم لم يتحروا الحقائق من مصادرها الأصلية، وإنما اكتفوا بسماع الشائعات والافتراءات من أرباب الإلحاد والإفساد الذين عبدوا الشهوات ونهجوا مسلك الشبهات بما لديهم من أنواع وسائل الإعلام المتطورة.

 من أجل ذلك كان لا بد من بيان الحق ودمغ الباطل بالأدلة الساطعة والحقائق الناطقة من القرآن والسنة القولية والفعلية والتاريخ الأصيل.لذلك كان موضوعنا عن سماحة ويسر الإسلام ونبذ العنف والتشدد. ويتناول هذه العناصر الرئيسية التالية :ـ
 1ـ مفهوم اليسر والسماحة . 
 2ـ الدين الإسلامي قائم علي اليسر والسماحة.
 3ـ من صور سماحة ويسر الإسلام .
 4ـ منهج الإسلام في التعامل مع غير المسلمين .
 5ـ شهادة التاريخ .
 6ـ الفضل ما شهد به الأعداء . 

 العنصر الأول :ـ مفهوم اليسر والسماحة :ــ 


 معنى اليسر: اللين والسهولة ، والانقياد ، ضد العسر . وهو: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم ، أو بعبارة أخرى : هو عمل فيه يسر وسهولة وانقياد .
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين يسر : قال ابن الأثير : " اليسر ضد العسر ، أراد أنه سهل سمح قليل التشديد " .

 وأما السماحة :ـ السمح : السهل ، والمسامحة : المساهلة .
قال ابن فارس في مادة " سمح " السين والميم والحاء أصل يدل على سلاسة وسهولة و" الحنيفية السمحة " : أي ليس فيها ضيق ولا شدة ؛ لكونها مبنية على السهولة .
 وهي : " هي السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه . ومعنى كونها محمودة : أنها لا تفضي إلى ضرر أو فساد " .

 العنصر الثاني :ـ الدين الإسلامي قائم علي اليسر والسماحة :ــ 


 لقد دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بخلق السَّمَاحَة، فإنَّ السَّمَاحَة من خلق الإسلام نفسه، فمن السَّمَاحَة عفو الله ومغفرته للمذنبين من عباده، وحلمه تبارك وتعالى على عباده، وتيسير الشريعة عليهم، وتخفيف التكاليف عنهم، ونهيهم عن الغلو في الدين، ونهيهم عن التشديد في الدين على عباد الله... - قال تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. 
 - وقال: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. 
 - وقال سبحانه: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]. 
 - ونهى النَّبي عن التنطع والتَّشدد في الدين، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون). قالها ثلاثًا رواه مسلم . 

 - ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على المسلمين فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به) رواه مسلم .
ولقد كانت رسالة النبي صلي الله عليه وسلم رحمة للبشرية رفع الله بها عن الناس الأغلال والأصار ، فقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].

فالدين الإسلامي يُسْرٌ في عقائده وأحكامه وفي أوامره ونواهيه ، فعقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها ، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها وأطيبها ، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها وأقومها . ومن تأمَّل حُسن هذا الدين ونقاءه وصفاءه وبهاءه ويسره وسهولته ازداد تمسكاً به وتعظيماً له وقياماً بعقائده وأحكامه .
 فقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم .
 معنى قوله (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ): أي ميسَّرٌ مسهَّلٌ في عقائده وأخلاقه وأعماله ، وفي أفعاله وتروكه ؛ فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب وتوصل معتقِدَها والمتمسِّك بها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب .
 وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال ؛ بها صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبفواتها يفوت الصلاح كلُّه ، وهي كلها ميسرةٌ مسهَّلة ، كل مكلَّف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه ، عقائده صحيحةٌ بسيطة ، تقبلها العقول السليمة والفطر المستقيمة ، وفرائضه أسهل شيء يكون في الفرائض وأيسره ، فانظر إلي هذه الفرائض التي فرضها الله تعالي علي عباده تجد فيها اليسر والسماحة .
 فأما الصلوات الخمس :ـ فإنها تتكرر كلَّ يوم خمس مرات في أوقات مناسبة لها ، وتمَّم اللطيف الخبير سهولتها بإيجابها جماعة والاجتماع لها ، فإن الاجتماع في هذه العبادة من المنشطات والمسهلات لها ، ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها ويحمد الله على فرضه لها على العباد ؛ إذ لا غنى لهم عنها.

 وأما الزكاة :ـ فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي ، وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم، وتنميةً لأموالهم وأخلاقهم ، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم ، وتطهيراً لهم من السيئات ، مواساةً لمحاويجهم وفقرائهم ، وقياماً لمصالحهم الكلية ، وهي مع ذلك جزء يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق .

 وأما الصيام :ـ فإن المفروض شهر واحد من كل عام ، يجتمع فيه المسلمون كلهم فيتركون فيه شهواتهم الأصلية من طعام وشراب ونكاح في النهار ، ويعوِّضهم الله عن ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم ، وزيادة كمالهم وأجره العظيم وبرِّه العميم ، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها وترك المنكرات .

 وأما الحج : ـ فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع وفي العمر مرة واحدة ، وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده ، كما قال الله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج:28] أي دينية ودنيوية .
 وهكذا بقية شرائع الإسلام كلها سهلة ميسَّرة ، وهي راجعةٌ إلى أداء حقِّ الله وحقِّ عباده ، وليس فيها أي مشقة أو حرج على المكلَّفين ، يقول الله تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] . 

 مشروعية الرخص :ـ 

الرخص نمط من التشريع يدل قطعاً على رفع الحرج والمشقة، ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف، والرخص كثيرة جداً، منها: قصر الصلاة في السفر، والمسح على الجوربين أو الخفين، والتيمم في حال فقدان الماء وعند تعذر استعماله لمرض وغيره، والفطر في الصيام للمريض أو للمسافر أو غير ذلك، وصلاة الإنسان وهو مريض جالساً أو حسب ما يستطيع، إلى غير ذلك. ولقد حث الشرع في الأخذ بهذه الرخص، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) إذاً الشرع لا يقصد بهذه التكاليف الشرعية أن يعنفنا وأن يوقعنا في الحرج وفي المشقة. وقد أجمع العلماء على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهذا يدل على عدم قصد الشارع له، وهذا متقرر باستقراء آحاد الأحكام.

 العنصر الثالث : من صور سماحة ويسر الإسلام :ـ 

 السماحة واليسر في العبادة :ـ 

جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ‏يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ‏فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ ‏تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ‏‏ ‏قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا؛ فَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ‏ ‏إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ‏"أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي ‏لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (رواه البخاري، ومسلم ،والنسائي ، وأحمد..). ورأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدودًا بين ساريتين فسأل عنه، فأخبر أنه لزينب تتمسك به إذا كسلت عن الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بإزالته وقال: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) (متفق عليه)

 وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يَا عَبْدَ الله، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟) قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: (فَلاَ تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) ( متفق عليه ).

السماحة واليسر في التعليم :ـ

 إن أساس الدعوة هو القول الليّن حتى لو كان المدعو من أعتَى الخلق، وهذا يتبين من قول الله تعالى لموسى وهارون (عليها السلام) لَمَّا أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشَى) (طه44). 
 يقول ابن كثير بعد عرض أقوال المفسرين: والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلَغ وأنجَع.

يقول تعالى مُرشداً لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بَمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدين) (النحل 125).
ويتجلّى هذا المنهج السليم في الدعوة إلى الله بالحكمة أولاً والموعظة الحسنة ثانياً. والجدال بالتي هي أحسن ثالثاً. وما وصف الموعظة والجدل بالإحسان إلا من باب تأكيد معنى السماحة في الدعوة وعدم اتخاذ العنف وسيلة لها.

 دخلَ أعرابِيٌّ المسجِدَ ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالِسٌ ، فصلَّى ، فلما فرغَ قال : اللهمَّ ارحمني ومحمدًا ، ولَا ترحمْ معنا أحدًا ، فالتفَتَ إليهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال : لقدْ تَحَجَّرْتَ واسعًا ، فلم يلبثْ أنْ بالَ فِي المسجدِ ، فأسرعَ إليه الناسُ ، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : أهْريقوا عليْهِ سَجْلًا مِنْ ماءٍ ، أوْ دلْوًا مِنْ ماءٍ ، ثُمَّ قال : إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح. 

 وصدق سيدي رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال :عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) صحيح الجامع .

 السماحة واليسر في الأحكام :ـ

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال { بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل  فقال : يا رسول الله ، هلكت . قال : ما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي ، وأنا صائم - وفي رواية : أصبت أهلي في رمضان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا . قال : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر - والعرق : المكتل - قال : أين السائل ؟ قال : أنا . قال : خذ هذا ، فتصدق به . فقال الرجل : على أفقر مني : يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : أطعمه أهلك } . رواه البخاري . 

 السماحة واليسر في البيع والشراء :ـ 

 وعن جابر رضى الله عنه رسول الله صلى الله علية وسلم قال:(رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى )رواه البخاري. (إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) أي طلب قضاء حقه بسهولة والمراد بالسماحة ترك المضاجرة ونحوهما لا المماكسة في ذلك .

 العنصر الرابع :ـ منهج الإسلام مع غير المسلم:ـ


 1ـ حرية الإعتقاد :

 لقد كفل الإسلام الحرية لكل فرد؛ فلا إكراه في الدخول في الإسلام إلا بعد القناعة التامة بهدايته؛ حيث قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256].
فدين الإسلام بيّن واضح جلي، دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحدًا على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا.

 2 ـ عدم التعرض لهم بأي أذي :ـ

 لقد حرّم الإسلام التعرض بالأذى بالقول والفعل لكل معاهد أو مستأمن دخل ديار الإسلام؛ ووعد وأغلظ في العقوبة لمن تعرض لهم بالأذى؛
 فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)

 3 ـ الإحسان إليهم :ـ

 أمر بالإحسان إلى غير المسلمين الذين لم يعرف لهم أذية للمسلمين ولا قتالهم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
بل فوق ذلك أمر بصلتهم والإنفاق عليهم، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ ( قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ).
 وأوجب على المسلمين سلوك العدل في التعامل مع غيرهم؛ ولم يجعل عدم دخولهم في الإسلام سببًا في ظلمهم أو خيانتهم، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة: 8) . 

 وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته" . (متفق عليه) 

وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم. ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" . .

 وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يُعَد إجماعًا. ورأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا، ثم نخذله عند الهرم!

 4ـ الحفاظ علي دور العبادة :ـ 

 لقد صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 – 40) 

 وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم. وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . " كما رواه الطبري .


 وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" . وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحُرمة دينهم، فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن لهم فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب. كذلك حرم التعرض لدور العبادة التي يتعبد فيها غير المسلمين عند نشوب حرب بين المسلمين وغيرهم، بل وحرم قتل من لم يشارك في تلك الحرب من النساء والأطفال؛

فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا )

 وكان من وصايا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- لأمرائه على الحرب قوله: (وستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها، فدعهم حتى يميتهم الله فيها على ضلالتهم، يا يزيد: لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا صغيرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شجرا مثمرا، ولا دابة عجماء، ولا بقرة ولا شاة إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن).

 العنصر الخامس شهادة التاريخ :ـ 

 والتاريخ خير شاهد علي سماحة ويسر الإسلام مع غيره ، وقبل أن نذكر سماحة الإسلام مع غيره لا بد أن نري .. كيف تعامل غير المسلمين مع المسلمين ....

 اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر.... ضل قوم ليس يدرون الخبر 

 هل سمعتم ماحدث في الأندولس هذه الحضارة العظيمة عندما سقطت الأندلس بعد قرون من البناء والتقدم والازدهار وإشاعة العدل والتسامح مع جميع السكان من ذوي الأديان المختلفة كانت إبادة المسلمين في الأندلس وصمة عار أخرى على النصارى الصليبيين رغم السماحة التي عومل فيها النصارى من أهل أسبانيا طوال قرون خلت، إذ سمح المسلمون لهم أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيّن لهم حكام للأقاليم من أنفسهم، فتأمل في هذه المعاملة وبين ما فعله النصارى بمسلمي الأندلس .

حيث وصف الحال الشاعر أبو البقاء الرندي هذه المأساة في قصيدته المشهورة حيث يقول فيها:


 تبكي الحنيفيـة البيضـاء من أسف           كما بكى لفراق الإلف هيمـان 
 حيث المساجد قد صارت كنائس           ما فيهـن إلا نواقيـس وصلبـان 
 حتى المحاريب تبكي وهي جامـدة         حتى المنابر ترثي وهي عيدان
 لمثل هـذا يـذوب القلب من كمـد               إن كان في القلب إسلام وإيمان 

واسمع معي شهود عيان منهم وهم يصفون ما حدث منهم مع المسلمين ...
 ذكر المؤرخ الصليبي ميشو أن المسلمين كانوا يُذْبَحُون ذبح النعام في الشوارع والمنازل، وأنهم لم يجدوا مكانًا آمنًا يَلُوذون به.
 وذكر المؤرخ النصراني وِلْيَم الصوري أن بيتَ المقدس أصبح مخاضة واسعة من دماء المسلمين، أثارت خوف الغُزاة واشْمِئْزازهم، وأنه لم يكن من الممكن النظر إلى تلك الأعداد الضخمة من القتلى دون الإحساس بالرعب، ففي كل مكان ترى بقايا جثث القتلى مقطوعي الرؤوس والأيدي، وكانت الأرضُ مغطاةً بدماء القتلى.
 ونقل المؤرخ الغربي النصراني ديورانت عمن حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها قولهم: "إنَّ النساء كن يُقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تُهَشَّم رؤوسهم بدقها بالعمد".

 وذكر صاحب كتاب "أعمال الفرنجة": "أن جثث قتلى المسلمين وُضعت في أكوامٍ حتى حاذتِ البُيُوتَ ارتفاعًا".

 وقد اختصر الصليبيّون وصف هذه المذابح العظيمة في الرسالة التي أرسلوها إلى البابا يخبرونه بما فعلوا قائلين: "إذا ما أردت أن تعلمَ ما جرى لأعدائنا الذين وجدناهم بالمدينة، فثِقْ أنَّه في إيوان سليمان أو معبده كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفّقة إلى ركبتيها".

 ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية. وما مذبحة المسجد الإبراهيمي عنا ببعيد فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ.

 وانظر أخي المسلم رغم كل ما حدث من الصليبيين تجاه المسلمين كيف تعامل معهم صلاح الدين :ـ ومع ما فعله الصليبيون في القدس فاننا نرى رحمة الإسلام ومسامحته حتى مع هؤلاء االصليبيين، فقد وصف المؤرخون ما حدث في اليوم الذي دخل فيه صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه إلى القدس فاتحـا : لم ينتقم أو يقتل أو يذبح بل اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقـامة والإنسانية .

 فبينـما كان الصليبيون منذ ثمان وثمانين سنة يخوضـون في دماء ضحاياهم المسـلمين،لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه ؛ اذ صار رجال الشرطة يطوفون بالشوارع والأبواب  تنفيذا لأمر صلاح الدين - لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على المسيحيين : وقد تأثر الملك العادل لمنظر بؤس الأسرى فطلب من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له، فأطلق العادل سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز . وأقبل نساء الصليبيين وقد امتلأت عيونهن بالدموع فسألن صلاح الدين أين يكون مصـيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم، أو وقعوا في الأسر، فأجاب صلاح الدين بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا - كل بحسب حالته - فكانت رحمته وعطفه نقيض أفعال الصليبيين الغزاة. أما بالنسبة لرجال الكنيسة أنفسهم - وعلى رأسهم بطـريرك بيت المقدس - فإنهـم لم يهتـموا إلا بأنفسهم، وقد ذهل المسلمون حينما رأوا البطريرك هرقل وهو يؤدي عشرة دنانير( مقدار الفدية المطلوبة منه) ويغادر المدينة، وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته عربات تحمل ما بحـوزته من الأموال والجواهر والأواني النفيسة .

 لماذا لا تنتقم من أعدائك؟! 

 بينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرق مدينة بيت المقدس قابله شيخ من النصارى كبير السن، يعلِّق صليبًا ذهبيًّا في رقبته، وقال له: أيها القائد العظيم، لقد كُتِبَ لك النصرُ على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزَوْا بيت المقدس؟
فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ، يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويُحَرِّم عليَّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء. فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمَّن أذنب. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم، وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحقِّ. ثم سأل: وماذا يفعل مَن يُريد الدخول في دينكم؟
فأجابه صلاح الدين: يُؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا صلي الله عليه وسلم عبده ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه. وأسلم الرجل وحَسُن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.

 العنصر السادس : الفضل ما شهدت به الأعداء :

(شهد الأنام بفضله حتى العدى والفضل ما شهدت به الأعداء) ومما يؤكد سماحة الإسلام تلك الشهادات التي نطق بها غير المسلمين وأدوها من غير إكراه؛ وإنما هو منهم إنصاف للحقيقة؛ لما رأوه في الإسلام من عدل وتسامح لا مثيل له.
 فمن ذلك يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدته المسيحية، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة".
 ويقول غوستاف لوبون: فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم.
 ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول: إن تسامح المسلم ليس من ضعف، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه، وتمسكه بعقيدته".
 ويقول الفيلسوف جورج برناردشو: "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها، ولا نجد في الأديان حسناته!
ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائمًا، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعًا؛ إذ ضم سلمان الفارسي، وبلالًا الحبشي، وصهيبًا الرومي، فانصهر الجميع في بوتقة واحدة". وبعد هذه النصوص الشرعية الإسلامية؛ والشهادات التي من غير المسلمين؛ هل يصح لأحد أن يقول أن الدين الإسلامي دين إقصائي؛ أو أنه دين يدعو إلى التطرف، أو أنه يزرع الكراهية في نفوس أتباعه؛ فما تلك الادعاءات إلا زورًا وكذبًا وبهتانًا على الدين العظيم الذي ارتضاه الله -عز وجل- للبشرية جمعاء.

 الخاتمة : أيها المسلمون :ـ 


 هذا هو الدين العظيم الذي شهد الله العظيم بصحته وكماله ، وشهد بذلك الكُمَّل من الخلق : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (آل عمران:18-19)
 وهو الدين الذي من اتصف به جمَعَ الله له جمال الظاهر والباطن ، وكمال الأخلاق والأعمال {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء:125).
فلا أحد أحسن من هذا الذي انصبغ قلبه بالإخلاص والتوحيد، واستقامت أخلاقه وأعماله على الهداية والتسديد . وهو الدين الذي أصلح الله به العقائد والأخلاق ، وأصلح به الحياة الدنيا والآخرة ، وألَّف به القلوب المشتَّـتة والأهواء المتفرقة ، فخلصها من براثين الباطل ودلَّها إلى الحق وهداها إلى سواء الصراط .
 إن الواجب علينا نحن المسلمين أن نحمد الله على هذه النعمة العظمى والمنة الجسيمة ، وأن نستشعر فضل الله علينا بها قال تعالي { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)،
وأن نقوم بحق هذه النعمة كما ينبغي ، وذلك بالتزود من علوم هذا الدين والتعرف على عقائده وأحكامه وآدابه ، مع التمسك الصادق والاستسلام الكامل ، وإقامة الوجه للدين القيم الحنيف بلا غلوٍّ ولا شطط ، وبلا إفراط أو تفريط ، وأن نطلب العون في تحقيق ذلك وتكميله من الله وحده ؛ فهو المستعان .
 انتهت بفضل الله تعالي

16 مارس 2017

وإن جندنا لهم الغالبون

   
من السنن الإلهية …
 وإن جندنا لهم الغالبون

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
سنّة الله في نصر المؤمنين لا تتخلف : إن سنّة الله تعالى في نصر المؤمنين لا تتخلف أبداً لأنها إخبار من الله تعالى والله أصدق القائلين .
وأذكر فيما يلي بعض النصوص من القرآن الكريم الدّلة على ذلك .
 أ ـ قال تعالى : (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {22} سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)الفتح .
قال القرطبي في قوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ) يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه .
وقال ابن كثير في تفسيرها : أي هذه سنّة الله تعالى وعادته في خلقه : ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل كما فعل الله تعالى يوم بدر.

 ب ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)) الأنعام. 
وجاء في تفسيرها : (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين كما قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) .

 ج ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) .
وجاء في تفسير الزمخشري في هذه الآيات : الكلمة : قوله تعالى : (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة .

 د ـ قال تعالى:(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21))المجادلة. 
وجاء في تفسيرها : أي قد حكم الله وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يُمانع ولا يُبدل بأن النصر له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة.

 هـ ـ وقال تعالي{إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَـقُومُ الأَشْهَادُ (51)}[ غافر] .
 قال ابن كثير في تفسير هذه الآية :(وهذه سنّة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقرّ أعينهم ممن آذاهم .
وقال السدّي لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا .
قال السدي : فكانت الأنبياء والمؤمنين يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها ) .
 ومعنى ذلك أن المؤمنين وهم أهل الحق هم المنصورون وإن قتلهم أهل الباطل وانتصروا عليهم في الظاهر إلا أن العاقبة والغلبة للمؤمنين ولو بعد حين ، حيث يأتي من يعاقب المبطلين ويقتلهم جزاء ما فعلوه بأهل الحق ، وهذا علامة على اندحار أهل الباطل وغلبة أهل الحق عليهم .

و ـ ولقد وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين فقال تعالي{وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ(47)}[سورة الروم. 
وجاء في تفسيرها : فيها مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم ، وإشعار بأن الانتقام لأجلهم .
وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة .
ولقد حكي الله تعالي ما حدث في بدر رغم عدم التكافؤ بين الفريقين ومع ذلك كان النصر حليف الفئة المؤمنة ذات العدة والعدد القليل ، فقال سبحانه وتعالي : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} (آل عمران). 
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: إن في ذلك لَمُعْتَبَرًا لمن له بصيرة وفَهْم، يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
 وفي قصة نبي الله موسى عليه السلام مع فرعون خير مثال على انتصار الحق في النهاية, رغم مظاهر انتصار الباطل في البداية, قال تعالى: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (122)} الأعراف.
 وقال تعالي{…وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَـلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(141)}[ النساء] . 

وقد وعد الله تعالي بأن لا يخلي الأرض من عباده المجاهدين المتمسكين بالحق, إن ذهب جيل قيض الله جيلا آخريدافع عن الحق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ذَلِكَ) رواه مسلم . وأخبر بأنها منصورة بأمره ،
 كما قال صلى الله عليه وسلم : [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ] (رواه الترمذي,وابن ماجه, وأحمد) .

الشباب أمل الأمة وسر نهضتها




 الحمد لله رب العالمين ... جعل القوة في الشباب فقال تعالي (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) الروم (54) .
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي علي شيئ قدير .. مدح الشباب في القرآن الكريم فقال تعالي (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) الكهف (13). 
  وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم حث على اغتنام فترة الشباب , فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: }لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ , وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ , وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ , وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ.] أخرجه الترمذي ، والطبراني ، والبيهقي[

  فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن والاه إلي يوم الدين ..
 أما بعـد :ــ فيا أيها المؤمنون .... 
 إن الحديث مع الشباب وعن الشباب وإلى الشباب حبيب إلى النفس قريب إلى القلب ، إن الشباب في كلِّ زمان ومكان - وفي جميع أدوار التاريخ إلى زماننا هذا  عماد أُمة الإسلام وسِرُّ نَهضتها، ومَبعث حضارتها، وحاملُ لوائها ورايتها، وقائدُ مَسيرتها إلى المجد والنصر. إن الإسلام لَم ترتفع في الإنسانية رايتُه، ولَم يمتدَّ على الأرض سُلطانه، ولَم تَنتشر في العالمين دعوته - إلاَّ على يد هذه الطائفة المؤمنة التي تَربَّت في مدرسة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتخرَّجت في جامعته الشاملة.
 والحديث عن الشباب يتناول عدة عناصر وهي :ـ
 1ـ حديث القرآن الكريم عن الشباب .
 2ـ تعامل النبي صلي الله عليه وسلم مع الشباب .
 3ـ دور الشباب في بناء الأمة.
 4ـ نماذج مشرقة من شباب الإسلام في بناء الأمة.
 5ـ نصائح عملية للشباب .

 العنصر الأول :ـ حديث القرآن الكريم عن الشباب :ــ 

 تعتبر أيام الشباب من أعز الأيام التي تبقى عالقة بذاكرة الإنسان، مهما عاش، لأنه كان فيها طليق الحرية..
 روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالما إلا شابا، ثم تلا هذه الآية:(قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال به إبراهيم) الأنبياء. 
 وقد أخبر الله تعالى به ثم أتى يحيى بن زكريا الحكمة قال تعالى: (وآتيناه الحكـم صـبيا) مريم. 
 وقال تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)وقال جل شأنه: ( إنهم فتية آمنوا بربهم) .
 وقال جل من قائل: (وإذ قال موسى لفتاه) الكهف. 
 ولقد ضرب القرآن الكريم المثل بالشباب ..
 *فكان المثال الأول هوسيدنا النبي إبراهيم عليه السلام ، فإنه كان يتطلّع إلى الآفاق الواسعة ، ويفتش عن الحقائق الناصعة ، ويملك الشجاعة العالية ، فيتأمل ويفكر في ملكوت السموات والأرض ، حتى دله الله تعالى على الحقيقة ، فآمن بالله وتبرأ من الأصنام ومن كل المشركيـن .
 فقال الله تعالى في كتابه الكريم : ( وَكَذلكَ نُري إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَمَاوَاتِ وَالأرضَ وَلِيَكونَ مِنَ المُوقِنِيـنَ ) الأنعام: 78.
 وبهذا يصبح سيدنا إبراهيم عليه السلام القدوة لكل الفتيان والشباب الموحدين الشجعان الرافضين للوثنية والشرك والانحراف والضلال .
 **والمثال الثاني الذي يضربه القرآن الكريم للفتيان والشباب هو النبي يوسف عليه السلام ، وهو الذي آتاه الله العلم والحكمة عندما بلغ أشده ، وأصبح الفتـى ، القوي ، الصابر ، الصامد أمام عواصف الشهوة ، والإغراء بالجنس ، والاغراء بالمال والجاه ، وأمام ضغوط الاضطهاد ، والقمع ، والمطاردة ، والتهديد بالسجن ، والنفي ، والفتى الثائر ، المكسر لكل القيود ، وأغلال العبودية ، وأغلال الشهوات ، وكذلك أغلال المجتمع الفاسد . قال تعالى : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَينَاهُ حُكماً وَعِلماً وَكَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ ) يوسف : 22 . 
( وَرَاوَدَتهُ التي هُوَ فِي بَيتِهَا عَن نَفسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبوَابَ وَقَالَت هَيتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحَسنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظالِمُونَ ) يوسف : 23 .

 لماذا لم يستجب يوسف لهوى المرأة؟؟ وكان يمكن أن يستجيب وربما عذره الكثيرون، قالوا إنه شاب والشباب شعلة من الجنون، وهو عبد والعبد يفعل ما يستحي منه الأحرار، وهو عزب ليس له زوجة تعفه، وهو غريب عن وطنه، والغريب يفعل ما لا يفعل الإنسان في بلده، وهو .. وهو ..، هناك أكثر من سبب كان يجعل يوسف يستجيب للمرأة ولكنه أبى كما ظهر ذلك. إنه نموذج للشاب الطاهر العفيف .
 ***والمثال الثالث هوسيدنا موسى عليه السلام الذي عاش في أحضان البيت الفرعوني والفرعونية ، وتربى في محيط الطاغوت والجبروت والتـرف ،والجاه والدلال ، فإن فرعون كان قد اتَّخَذَهُ ولداً له .
 ولكنه عليه السلام بقي متمسكاً بجذوره الرسالية ومرتبطاً بأصله الإلهي الرباني ، يتجنب معونة الظالمين ، وينتصر للمظلومين ويدافع عنهم ، ويَمُدُّ يَدَ العَونِ والمساعدة للضعفاء والمحتاجين ، وكان يتحمل الآلام والمعاناة والمطاردة والهجرة من أجل ذلك ، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة . قال الله عزّ وجل : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاستَوَى آتَينَاهُ حُكماً وَعِلماً وَكَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ ) القصص : 14. 
 ****والمثال الرابع هم أهل الكهف ، فقال الله تعالى فيهم : ( إِنَّهُم فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَاهُم هُدىً وَرَبَطنَا عَلَى قُلُوبِهِم إِذ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَن نَدعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَد قُلنَا إِذاً شَطَطاً ) الكهف : 13-14 .
 إن هذه الصور والأمثلة الواقعية الجميلة والمعبِّرة عن الأبعاد المختلفة تنطلق من مفهوم صحيح للفتوة ، والشباب ، والقوة ، وهو التوحيد في العبودية ورفض العبوديات الأخرى ، والسيطرة على الشهوات والرغبات ، ونصرة المظلومين والدفاع عنهم ، ومساعدة الضعفاء والمحتاجين ، والتمرد على الواقع الفاسد ورفضه بشجاعة وتضحية .
 **وفي المقابل نجد القرآن الكريم يضرب أمثلة أخرى للشباب المنحرف والتائه والمغرور والضال والجاهل ، وأورد ذلك في قصة ابن نوح حيث قال تعالى : ( وَنَادَى نُوحٌ ابنَهُ وَكَانَ فِي مَعزِلٍ يَا بُنَيَّ اركَب مَعَنَا وَلا تَكُن مَعَ الكَافِرِين * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ اليَومَ مِن أَمرِ اللهِ إِلا مَن رَحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ ) هود : 42-43 .
 ومثال آخر يتحدث عنه القرآن الكريم، يعبر عن حالة الانحراف في الشباب حيث العقوق للوالدين والتمرد على الله تعالى والتوغل في الجهل والغي ، فقال تعالى : ( وَالذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَن أُخرَجَ وَقَد خَلَت القُرُونُ مِن قَبلِي وَهُمَا يَستَغِيثَانِ اللهَ وَيلَكَ آمِن إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَاهَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) الأحقاف : 17.
 العنصر الثاني:تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الشباب :ــ
 لقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الثقة ومنحهم المسئولية خلافاً لما يعيشه كثيرٌ من الناس اليوم. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد منح زيد بن حارثة وهو شاب وجعفر بن أبي طالب وهو شاب وعبد الله بن رواحة وهو شاب منحهم الثقة، وسلمهم قيادة جيش مؤتة وما أدراك ما مؤتة ! أول معركة بين المسلمين والرومان!
 بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أسامة بن زيد قيادة جيش فيه رجال من كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وقد كان عمر أسامة آنذاك ثماني عشرة سنة. ويرسل معاذاً إلى بلاد بعيدة وفي مهمة عظيمة ومسئولية جسيمة يرسل معاذاً إلى اليمن ومعاذ لا يزال بعد في ريعان شبابه ويرسله على قومٍ ليسوا على مذهبه وملته وديانته ويقول له: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب -يعني ليسوا بمسلمين- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) إلى آخر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ ، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول فيما رواه الإمام أحمد في مسنده : (كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب ليس لنا نساء) يعني: لم نتزوج بعد، لا نزال فتية، لا نزال في بداية الشباب وفي مستهل حياة الشباب.
 لذا أوصي النبي صلي الله عليه وسلم بالشباب فقال صلي الله عليه وسلم ( اغتنم خمسا قبل خمس: "شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". أخرجه الحاكم في المستدرك.
 وقال صلي الله عليه وسلم ( إن الله ليعجب من الشاب الذي ليست به صبوة" .
وقال صلي الله عليه وسلم ( إن الله يحب الشباب الذي يفني شبابه في طاعة الله" البخاري.
 وقال صلي الله عليه وسلم ( من يدخل الجنة ينعم، لا ييأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" مسلم, 
 وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرح، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" متفق عليه. 
 العنصر الثالث:دور الشباب في بناء الأمة :ـ 
 لقد كان للشباب المسلم الدورالأعظم في بناء الأمم والشعوب فعلي أكتافهم قامت الحضارات ، وكان لهم أثر كبير في نهضة الأمة الإسلامية على مر العصور واختلاف المجالات، فحُق لهم أن يكونوا نماذج حسنة وقدوة صالحة لشباب الأمة في كل العصور.
 1ـ الشباب هم أسبق الأمم إلي قبول الدعوات الإصلاحية :ــ
 الشباب قديما وحديثا هم من واجهوا الباطل وكانوا أسرع إلي قبول الحق لأنهم أرق قلوبا وأهدأ نفسا وليس لهم أطماع في الحياة كحال الكبراء والسادة كلما جاءهم رسول كذبوه قال تعالي في شأن المترفون (وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) الزخرف .
 أما الشباب هم من تصدوا للباطل بإيمان وثبات كما حدث من سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه . وكما حدث من أصحاب الكهف مع الملك الظالم.
 2ـ أنهم عنوان تقدم الأمة ودعامة نهضتها:ـ

 الشباب أغلي ماتمتلك الأمة ، الأمة تمتلك كثير من المقدرات .. مقدرات اقتصادية ، ومقدرات عسكرية ، ومقدرات جغرافية ، ومقدرات إنسانية وأغلي ما تمتلك الأمة المقدرات الإنسانية وأغلي المقدرات الإنسانية هم الشباب .
 و إذا أردت أن تعرف مستقبل أي أمة فلا تسل عن ذهبها ورصيدها المالي، فانظر إلي شبابها واهتماماته ، فإذا رأيته شباباً متديناً فاعلم أنها أمة جليلة الشأن قوية البناء ، وإذا رأيته شباباً هابط الخلق ، منشغلاً بسفاسف الأمور ، يتساقط على الرذائل فاعلم أنها أمة ضعيفة مفككة ، سرعان ما تنهار أمام عدوها ، فالشباب عنوان الأمة.
 كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أُمَّةٍ عِمَادُ نهضتها، وفي كل نهضةٍ سِرُّ قُوَّتها، وفي كل فكرة حَامِلُ رَايتها: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: 13)".
 هم الذين حمَلوا راية الدعوة إلى الله، ورَفَعوا لواءَ الجهاد المقدَّس، فحقَّق الله على أيديهم النصر الأكبر ودولة الإسلام الفتيَّة. لوتصفحنا السيرة النبوية لوجدنا كل من واجهوا جبابرة مكة وكسري وقيصر هم الشباب ، السابقون السابقون هم الشباب ، انظر إلي الزبير ابن العوام رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة كم عمره 15 سنة ، وطلحة ابن عبيد الله من العشرة المبشرين بالجنة كم عمره 16 سنة ، سعد ابن أب وقاص 17 سنة ، الأرقم ابن أبي الأرقم 16 سنة وهو بني مخزوم يجعل بيته مقرا لرسول الله صلي الله عليه وسلم يعلم فيه المسلمين ويربيهم علي الإسلام لمدة 13 سنة رغم أنبني مخزوم كانت تنازع بني هاشم الشرف . الدعامة الأساسية لدين الإسلام علي وجه الأرض هم الشباب أعمارهم تتراوح من 17 :30 .
 نعم الواحد منهم صغير السن ولكنه كبير في العقل والهدف وكل شيئ.
 العنصر الرابع :ـ نماذج مشرقة من شباب الإسلام في بناء الأمة :ـ 
 وإليكم بعض القدوات الشبابية التي قدمت للأمة البطولات الرائعة :ـ
 أحبتنا في الله! نخاطب الشباب لأنهم المعنيون، عليهم تنعقد الآمال، وبهم نصعد إلى قمم الجبال. 
 الشباب في ميدان العلم والدعوة :ـ
 1ـ الإمام الشافعي :ـ 
طفل أحب العلم والعلماء، كم بحثت أمه له عن علماء يجلس تحت أرجلهم فيتربى بتربيتهم، وينهل من معينهم! فشاء الله وقدر أن يتحقق حلم الأم الحنون، فانتهى الأمر بكونه من أعظم فقهاء المسلمين في التاريخ، وإلى أن تقوم الساعة. إنه الإمام الشافعي - رحمه الله- فقد كان يكتب على الألواح، ويتنقل بين العلماء بهمة عالية بحثًا عن العلم، وقد حباه الله بإمكانيات هائلة، حتى إنه حفظ الموطأ وهو في العاشرة من عمره، وليس ذلك فحسب بل إنه جلس على كرسي الفتيا وهو في الثانية عشرة من عمره، فانتشر مذهبه وذاع صيته في العالم الإسلامي أجمع، فهو أول من أصَّل علم أصول الفقه.
 2ـ الإمام البخاري :ـ
 صبي فَقَد بصره في الخامسة من عمره، فظلت أمه تدعو الله أن يرد إليه بصره، ليس ليكون كبقية الصبيان والأطفال، وإنما ليكون عالمًا متعلمًا، فشاء الله وقدر واستجاب لدعوات أمه، فصار شيخًا للمحدثين في تاريخ الإسلام العظيم. وهو جبل الحفظ وإمام وقته أمير أهل الحديث، الذي لم يشهد تاريخ الإسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث، وفاق تلامذته وشيوخه على السواء، هو الإمام البخاري، صاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم، والذي صنفه في ست عشرة سنة، وجعله حجة فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يكاد يستغني أحد عنه، لقد كان -رحمه الله- يحفظ أكثر من مائة ألف حديث، دوّن منها في صحيحه سبعة آلاف فقط، وكان ذا منهج متميز في تخيُّر أحاديثه وقبولها. في أواخر القرن الثاني الهجري في مشرق العالم – في نيسابور – جلس محمد بن إسماعيل البخاري وعمره 17سنة بين يدي أستاذه إسحاق بن راهويه حاول الأستاذ أن يحدث تلامذته عن احتياجات الأمة فقال "والله لو أن واحدا منكم يجمع صحيح السنة في كتاب لانتفع به الناس أيما انتفاع . يقول البخاري فوقعت في نفس هذه المهمة وأقسمت أن أكون هذا الرجل فقعدت في بيتي ونمت ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو جالس على منبره الشريف ويأتيه بعض الذباب فأذهب وأهش الذباب عنه فأقمت من نومي وحكيت الرؤيا لأستاذي فأولها أنى أذب كذب الحديث عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ،فبدأت أجمع حديث النبي صلي الله عليه وسلم في كتاب (والبخاري ما كتب حديثا إلا اغتسل وصلى ركعتين. وكانت له تجارة ينفق من ريعها في هذه المهمة من ماله) .
 3ـ زيد ابن ثابت :ــ
 نموذج غاية في الروعة والجمال إنه زيد ابن ثابت ابن الضحاك الأنصاري من بني النجار يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما ، سمع أن جيش المسلمين خارج إلي بدر تحركت في قلبه مشاعر نصرة الإسلام فحمل سيفه وكان أطول منه ، وبعد ذلك خرج لينضم إلي جيش المسلمين وهو ليس بمكلف بعد لكن الرسول الرحيم بأمنه رفض زيد وقال لا زلت صغيرا يا بني. عاد الطفل حزينا إلي بيته يبكي !! لماذا البكاء ؟ لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم منعه من الجهاد ، لكن الأم المربية العاقلة قالت لا تحزن تستطيع أن تخدم الإسلام بصورة أخري .كانت خدمة الإسلام هي هدفه وطموحه ، قالت له أنت تحسن الكتابة وتحفظ كثيرا من سور القرآن ، تستطيع أن تخدم الإسلام في هذا المجال ، فذهبت به إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأوصاه أن يتعلم اللغة السريانية .
 يقول زيد عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله : "أتحسن السريانية؟" قلت: لا. قال: "فتعلمها فإنه تأتينا كتب". قال فتعلمتها في سبعة عشر يومًا. قال الأعمش: كانت تأتيه كتب لا يشتهى أن يطلع عليها إلا من يثق به، من هنا أطلق عليه لقب ترجمان الرسول . ترجمان الرسول صلي الله عليه وسلم كم عمره 13 سنة !!
 وبعد ذلك يكلف بجمع القرآن في عهد سيدنا أبو بكر. بعد وفاة الرسول شغل المسلمون بحروب الردة، وفي معركة اليمامة كان عدد الشهداء من حفظة القرآن كبير، فما أن هدأت نار الفتنة حتى فزع عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبو بكر الصديق راغبًا في أن يجمع القرآن قبل أن يدرك الموت والشهادة بقية القراء والحفاظ...واستخار الخليفة ربه، وشاور صحبه ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:(إنك شاب عاقل لانتهمك)...وأمره أن يبدأ بجمع القرآن مستعينا بذوي الخبرة. ونهض زيد بالمهمة وأبلى بلاء عظيما فيه، يقابل ويعارض ويتحرى حتى جمع القرآن مرتبا منسقا...وقال زيد في عظم المسئولية: (والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن)...كما قال: (فكنتُ أتبع القرآن أجمعه من الرّقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال).
وأنجز المهمة على أكمل وجه وجمع القرآن في أكثر من مصحف. وجمعه مرة أخري عهد سيدنا عثمان رضي الله عنهم جميعا.
 4ـ الإمام ابن تيمة :ـ 
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، هذا الشيخ كان صغيراً، وكان يحمل ألواحاً كبيرة، تخيل كيف كان يمشي مسافات بعيدة على رجليه! ما عنده دفاتر ولا ألواح خشب يحملها من أجل أن يكتب عليها الدرس، في يوم من الأيام رآه شيخ سمع أن هذا الولد نابغة -أي: عقلية جبارة، تقول له الجملة مباشرة يحفظها، هل هذا موجود فينا؟
إذا عملت اختباراً يتبين من النابغة؟ أما شيخ الإسلام فهو نابغة من نوع ثاني- جاء إليه هذا الشيخ فقال له: أنت ابن تيمية؟ قال: نعم. أنا ابن تيمية وكان صبياً صغيراً، قال: أعطني اللوح؟ قال: تفضل، فكتب عليه ثلاثة عشر حديثاً، فقال له: اقرأ، فقرأ عليه، يقول: فأخذت اللوح منه، فقلت: أسمعه عليّ، فقرأ الثلاثة عشر حديثاً كلها قراءة واحدة، حفظ الثلاثة عشر حديثاً، الآن لو أقول لكم: رددوا حديثاً واحداً عشر مرات هل تحفظونه؟ هذا قرأ ثلاثة عشر حديثاً حفظها مرة واحدة بقراءة واحدة.
 الشباب في ميدان الإمامة :ـ
 عمرو ابن سلمة :ــ 
 عن عمرو بن سلمه رضي الله عنه كما في صحيح البخاري كان عمره ست سنين أو سبع سنين " لما كان عام الفتح سارعت القبائل بإعلان إسلامها بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم فذهب أبوه "من قبيلة جرم " إلي النبي صلي الله عليه وسلم ليعلنوا إسلامهم فأمرهم بالصلاة والزكاة وغيرهما فرجع أبوه من عند النبي صلي الله عليه وسلم واستقبله القوم وفيهم عمرو بن سلمه فقال أبوه "جئتكم من عند النبي صلي الله عليه وسلم وأمرنا أن نصلى صلاة كذا في وقت كذا وصلاة كذا في وقت كذا فسألناه من يؤمنا فقال أقرؤكم للقرآن فنظروا فلم يجدوا أحدا أكثر حفظا منى لما كنت أتلقى الركبان ( وقبيلة جرم كانت استراحة القبائل التي تقصد النبي صلي الله عليه وسلم تمرعليهم وتعود عليهم ليتزودوا ,كان يسألهم عمرو بن سلمه ماذا نزل على النبي من القرآن فيحفظ منهم ). فقدموني للإمامة وعمري 6أو7سنوات وكانت على بردة قصيرة إذا سجدت تقلصت عنى فظهرت عورتي ، فنادت امرأة من خلف الصفوف داروا عنى إست إمامكم . فاشتروا لي ثوبا عمانيا فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحى بهذا الثوب " ظل إماما للقبيلة أكثر من 50سنة.
 الشباب في ميدان الجهاد :ـ
 1 ـ صقرين يقتلان فرعون هذه الإمة :ــ غلامين صغيرين كان لهما في معركة بدر موقف لا ينتهي منه العجب وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما ونترك الحديث عن هذا الموقف العجيب للصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما في صحيح البخاري قال : بينما أنا في الصف يوم بدر إذ نضرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت لو أن غيرهما كان بجواري ليحميني فغمزني احدهما فقال يا عم أتعرف أبا جهل قلت نعم وما حاجتك إليه قال سمعت انه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لأن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ثم غمزني الأخر فقال لي مثل مقالة صاحبه ثم لم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت هذا صاحبكما فانقضا عليه كالصقرين فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبراه فقال أيكما قتله قال كل منهما أنا قتلته قال هل مسحتم سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال صلى الله عليه وسلم : كلاكما قتله .( البخاري، ومسلم).
 سبحان الله فرعون هذه الأمة وطاغية زمانه يكون مصرعه على يدي غلامين شابين من شباب الصحابة الكرام !! لماذا؟ حتى تكون الصورة واضحة جلية يتبين من خلالها إلى أي حد وصل مستوى أولئك الشباب الأفذاذ.
 2 ـ عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه : 
أخو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، أسلم قديماً ، ويقول عنه سعد رضي الله عنه : رأيت أخي عميراً ، قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، يتوارى فقلت : مالك يا أخي ؟ قال : إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني ، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة . قال سعد : فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فرده ، فبكى فأجازه ، فكان سعد يقول : كنت أعقد حمائل سيفه من صغره ، أي أن قامته قصيرة لذلك يعقد حمائل السيف كي لا يلامس الأرض عندما يمشي عمير رضي الله عنه. وعندما نشبت معركة بدر الكبرى ، استشهد عمير رضي الله عنه ، قتله أحد فرسان قريش وصناديدها وهو عمرو بن عبد ود العامري الذي قتله علي رضي الله عنه يوم الخندق .
وعندما يستشهد عمير على يد فارس من قريش يعني ذلك أن عميراً رضي الله عنه كان في مقدمة الصف يصول ويجول ، حتى اهتم به ذلك الفارس الصنديد فعرج عليه فقتله .
 الشباب في ميدان القيادة :
 1ـ قاهر التتار:ـ 
 ذلك الطفل الصغير الذي تربى تربية أبناء الأمراء، ولكن ما لبث إلا أن خطفه الأعداء وبِيع بَيع العبيد، يتناقله تجار الرقيق من بلدة إلى أخرى، حتى انتهى به المقام إلى العيش وسط العبيد، يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون، ولكن الطفل كان ذا طموح جارف، وثقة بربه، وهدف جليل؛ مما قاده ليكون من أعظم القادة في التاريخ الإسلامي ،إنه سيف الدين قطز توفاه الله وهو دون الأربعين، ولكنه استطاع بهمته وتقواه أن يحقق ما عجز عنه الكثيرون، حتى قال عنه العز بن عبد السلام: لو قلت ليس هناك من هو أفضل من قطز من زمان عمر بن عبد العزيز لكنت صادقًا. إنه سيف الدين قطز الذي قال قولته الشهيرة: (من للإسلام إن لم نكن نحن).
 2ـ أصغر فاتح في الإسلام:ـ
 هو محمد بن القاسم الثقفي مؤسس أول دولة إسلامية في الهند؛ ولذلك يبقى اسمه شامخًا في سجل الفاتحين الأبطال. أودع الله بين جنبيه نفسًا بعيدة المطامح لخدمة الإسلام، والمسلمين .
 بدت عليه أمارات النجابة والشجاعة وحسن التدبير في الحرب منذ نعومة أظفاره؛ مما جعل الحجاج بن يوسف الثقفي يعينه أميرًا على ثغر السند وهو لم يتجاوز 17 عامًا، وكان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير، وفي العدل والكرم، إذا قورن بكثير من الأبطال، وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة، ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء، وقد سحر الهنود بعدالته وسماحته، فتعلقوا به تعلقًا شديدًا. وكان يتصف بالتواضع الرفيع، فكان في جيشه من يكبر أباه سنًّا وقدرًا، فلم تجنح نفسه معهم إلى الزهو والمباهاة، ولكنه لم يكن يقطع أمرًا إلا بمشورتهم، بَنَى المساجد في كل مكان يغزوه، وعمل على نشر الثقافة الإسلامية مبسطة ميسرة. اتجه نحو بلاد السند، فبدأ بفتح مدينة بعد مدينة لمدة سنتين، ثم زحف إلى الديبل، فخندق الجيش بخيوله وأعلامه واستعد لمقاتلة الجيش السندي بقيادة الملك "الراجة داهر" حاكم الإقليم، في معركة مصيرية سنة 92هـ، وكان النصر للحق على الباطل، فقد انتصر المسلمون، وقُتل ملك السند في الميدان، وسقطت العاصمة السندية في أيدي المسلمين. واستمر محمد بن القاسم الثقفي في فتوحاته لبقية أجزاء بلاد السند ليطهرها من الوثنية المشركة، فنجح في بسط سلطانه على إقليم السند، وفتح مدينة الديبل في باكستان، وامتدت فتوحاته إلى ملتان في جنوب إقليم البنجاب، وانتهت فتوحاته سنة 96هـ عند الملقان، وهي أقصى ما وصل إليه محمد بن القاسم من ناحية الشمال، فرفرف عليها علم الإسلام وخرجت من الظلمات إلى النور، وبذلك قامت أول دولة إسلامية في بلاد السند والبنجاب (باكستان حاليًّا).
 قال حمزة الحنفي فيه:
 إن المــــروءة والسماحة والنـدى *** لمحمد بن القاسـم بن محمـد 
 ساس الجيوش لسبع عشرة حجّة *** يا قرب ذلك سؤددًا من مولد 
3 ـ أقوي ملوك أوربا :ـ عبدالرحمن الناصر :ـ 
سيرته مليئة بالمواقف الرائعة ، استلم دولة ضعيفة مترهلة مشتتة تموج بالثورات والفتن يطمع فيها أهل الأرض جميعا وليس فيها أمل فيما يبدو للناس أن تقوم من جديد فإذا به بصبر عجيب وثبات وعزيمة وجهد وإخلاص يعيد ترتيب الأوراق من جديد في بلاد الأندلس ، يعيد للعلماء هيبتهم ويعيد للجيش الإسلامي رهبته ، يوحد الصفوف ، يطهر البلاد من المشركين والمنافقين، يبني حضارة عظيمة جدا في بلاد الأندلس تتفوق في كل المجالات ، حتي أصبحت الأندلس في زمانه أقوي دولة بلا منازع علي وجه الأرض ، وجاء زعماء أوربا جميعا يطلبون وده وليفوزوا برضاه .
عبدالرحمن الناصر أقوي ملوك أوربا في القرون الوسطي ، استلم الحكم وهو يبلغ من العمر 22 سنة فقط .
 هذه رسالة عظيمة أن الشباب عندهم مؤهلات وطاقات وإمكانات وقدرات عالية , وكأن التاريخ يقول لنا لا تسهينوا بقدرات الشباب ، فالشباب أمل الأمة ، الشباب أساس النهضة لهذه الأمة ، ولنعلم جميعا أن المقومات الحقيقية للشاب الناجح تكمن أساس في دين الشاب في عقله ، في علمه ، وتدريبه ، ولم تكن أبدا في عرق أو نسب أ ومال أو عنصر أو جمال صورة .
هذا هو شباب الإسلام . شبابنا هيا إلى المعـالي هيا اصعدوا شوامخ الجبال هيا اهتفوا يا معشر الرجال قولوا لكل الناس لا نبالي أحبتنا في الله! واقع شبابنا اليوم إذا قارناه بالصدر الأول والسلف الصالح وجدنا ما نخجل لذكره وما نطأطىء الرءوس خجلاً مما نراه، بل لا نستطيع أن نقارن بين أولئك وهؤلاء:

 لا تعرضن لذكرنا في ذكرهـم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

 بل ربما من العبث أن نقول: إن الرعيل الأول والجيل المتقدم كانوا أفضل من هؤلاء: ألم تر إن السيف ينقص قـدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا . العنصر الخامس :ـ نصائح للشباب :ــ لا بد أن يعلم الشباب أن الإسلام فيه الخير والعطاء والبناء لهم ، وهم بغير الإسلام تعاسة وبلاء ولا قيمة لهم، فالشباب طاقة يسخرها الله في إصلاح البشرية ،
فإليك أخي الشاب هذه النصائح التي يمليها عليك دينك حتي تستطيع أن تقوم بدورك المنوط بك. .
 1- على الشاب أن يعرف دينه ، ويمتثله في سلوكه وعمله ، ويكون على قناعة تامة به ، ولا يلتفت لأقوال الحاقدين والمشكيين ، ولعلم أن دينه أفضل دين ، وأن كل ما سواه فهو زور وباطل ، عليه أن يسخر ما أودعه الله من قوة ونشاط في خدمة هذا الدين . وليكن هذا شعارك دائما ( دينك دينك لحمك دمك ) .
 2- على الشاب أن يعلم أن أمته هي خير أمة ، وأن هذه الخيرية ثابتة لها ما دامت متمسكة بدينها ، ويعلم أن أمته بقيت دهراً طويلاً رائداً للعالم ، وأنه يجب أن تبقى لها هذه الريادة ، وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بتعاليم الإسلام.
 3- على الشاب أن تكون همته بعد إصلاح نفسه إصلاح الآخرين ، وتعبيد الناس لرب العالمين ، وليحذر أن يكون داعية سوء ، يكون عليه وزر نفسه ، ومن أوزار الآخرين.
 4- على الشاب أن يكون دائماً الارتباط بالله تعالى ، من خلال أداء الصلاة في وقتها ، وكثرة الذكر والدعاء ، والاستعانة به في جميع الأمور ، والتوكل عليه ، والمحافظة على الأوراد المشروعة كأذكار الصباح والمساء ، والدخول والخروج ، والركوب ، ونزول المكان ، وغير ذلك .
 5- على الشاب أن يعلم أن قدوته الحقيقة هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وليحذر من التقليد الأعمى الذي يفقده شخصيته وتميزه .
 6- على الشاب أن يحافظ على رجولته ، ويتجنب كل ما من شأنه أن يضعفها من ميوعة وتكسر ، وتشبه بالنساء ، وغير ذلك .
 7- على الشاب أن يصبر على مشقة فعل الطاعة ، وترك المعصية ، حتى تستقيم نفسه على ذلك وتستلذ به ، وكن من أهل الخير حتى يصبح الخير عادة لك فلا تريد بأعمالك إلا وجه الله وابتعد عن الشر فلا تدخله إلى قلبك ولا تشرح له صدرك لأنه لا يكون إلا بلجاجة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وقد قال صلى الله عليه وسلم " الخير عادة والشر لجاجة ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين .
 8- على الشاب إذا أراد أن يروح عن نفسه أن يلتزم بالحلال ، ويتجنب الحرام ، فإن في الحلال غنية عن غيره ، وإن عاقبة الحرام وخيمة ، وليكن من دعائه ( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، واغنني بفضلك عمن سواك ). (رواه الترمذي قال حديث حسن ).
9- على الشباب أن يكونوا حذرين من الأفكار الهدامة حتى ولو كان ظاهرهاً الصلاح والإصلاح فلا يقبلوا فكرة إلا بعد عرضها على العلماء والأساتذة حتى لا يقعوا فريسة في أيدي دعاة الباطل.
 وأخيرا :ـ أيها الشباب عليكم أن تعلموا أن أهمية مرحلة الشباب تكمن في السؤال عنها مرتين يوم القيامة؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : عَنْ عُمُرِهِ ، فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وعَنْ شَبَابِهِ ، فِيمَ أَبْلَاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ ، مِنْ أَيْنَ ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ ، مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ " .( سنن الدارمي)
 فليعمل الشباب وليجتهدوا، وليشحذوا هممهم؛ فنهضة الأمة لن تقوم إلا على أكتافهم. ونسأل الله أن يحفظ شبابنا من الفتن ماظهر منها وما بطن وأن يعصمهم من الخطأ والزلل ويهديهم إلي طريق الهدي والرشاد إنه ولي ذلك ومولاه .