17 ديسمبر 2018

المعايشة الإيمانية لاسم الله العَفُو





الحمد لله رب العالمين ...العفو الكريم يعفو عن عباده ويتجاوزعنهم فقال تعالي } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30){ الشوري .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ...لا شيء مثله،ولاشيء يعجزه، ولا إله غيره قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء،لا يفنى ولا يبيد ،ولا يكون إلا ما يريد ،لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام ،حي لا يموت، قيوم لا ينام، له الأسماء الحسني والصفات العليا منزه عن كل نقص،هوالقائل سبحانه وتعالي} وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ (180){ الأعراف.

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله () علمنا الطمع في عفو الله تعالي فكان حريصاً على طلبِ العفوِ والعافية، وكان يسألُ الله حين يُصبِحُ وحين يُمسِي: «اللهم إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في ديني ودُنياي، وأهلي ومالي».(سنن أبوداود).

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلي يوم الدين ....

أما بعد : فيا أيها المؤمنون ..

إن العلمُ بالله أحَدُ أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَةُ أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول.
قال ابن القيّم رحمه الله:أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته.
والقرآنُ كلّه يدعو الناسَ إلى النظر في صفات الله وأفعالِه وأسمائه، بل ودعاء الله بها؛ قال تعالي }وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (180){[الأعراف].
والله يحبُّ من يحبُّ ذكرَ صفاته، وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقرَأ سورةَ الإخلاص يختم بها في قراءته في الصلوات بأنَّ الله يحبّه لـمّا قال: إني لأحِبّها لأنها صِفةُ الرحمن. رواه البخاري.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي () قال: « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ » رواه البخاري ومسلم
قال أهل العلم: أحصاها يعني: علمها وآمن به وعمل بمدلولها.
وأسماء الله سبحانَه أحسَنُ الأسماء، وصفاته أكمَلُ الصفاتِ، }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11){[الشورى].
وحقيقٌ بكلِّ مسلمٍ معرفتُها وفهم معانيها، والعمل وفقها، والدعاء بها.
إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لهي من أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد ، وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :ـ
"ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات، كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه، وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه".
فمن أسماء الله الحسني اسم الله العفو، وذلك كان موضوعنا (المعايشة الإيمانية لاسم الله العَفُو) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....

1ـ من معاني العَفُو.

2ـ اسم الله العَفُو في القرآن الكريم.

3ـ الفرق بين العفو والغفران .

4ـ من مظاهر العَفوالإلهي.

5ـ موجبات العفو الإلهي.

6ـ التخلق بخلق العفو.

7ـ فوائد خلق العفو.

8ـ ضوابط في العفو .

9ـ الخاتمة .
===========
العنصر الأول : معاني العَفُو :ـ
من معاني العفو :ـ
يرى الإمام الرازي أنَّ العفوَ له معنيان..
" المعنى الأول هو المحو والإزالة "..
يقال عفت الديار إذا دَرَسَت وانطمست معالمها، وذهبت آثارُها.. وعلى هذا فالعفو في حقِّ الله تعالى عبارةٌ عن إزالة آثار الذنوب، آثار الذنوب أي تذكُّرها، وتذكُّر الذنب يحجب عن الرب لو أنَّ الله لم يُعاقب، لكن لمجرَّد أن تذكر ذنبك تستحي من ربِّك، فمن أسماء الله الحُسنى أنَّه عفو يُنسيك هذا الذنب، وهذه من رحمة الله بنا.
فهل هناك أحد لم يقُل كلمةً غير مناسبة طوال حياته ؟
العفو هو التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه، وأَصله المَحْوُ والطمْس ..
المعنى الثاني في حقِّ الله تعالى:
العفو يأتي على معنى الكثرة والزيادة، فعَفوُ المالِ هو ما يَفضُل عن النَّفقة كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ(219) } [البقرة]
فالعفوَ أي الفضل، فالله عزَّ وجلَّ يمحو ذنوب عباده ويتفضَّل عليهم بفضله، هذا أسموه التخلية والتحلية، التطهير والتعطير، العفو والرحمة، يمحو ويُكرم، يطهِّر ويعطِّر، يشفي ويزكِّي..
فالعفو لا يعني أنه محى الذنوب، وستر العيوب فقط، لا.. بل أعطاك من فضله ما شاء فوق ما محا .
وقال بعضهم " العفو هو أن تزول عن النفوس ظلمة الزلاَّت برحمته، ووحشة الغفلات عن القلوب بكرامته ".
وقيل "العفو الذي أزال الذنوب من الصحائف، وأبدل الوحشة بفنون اللطائف ".. إزالة، وعطاء.
قال الإمام القشيري: " العفوُّ هو الذي يمحو آثار الذنوب، ويُزيلها بريح المغفرة، فهو يمحو الذنوب من ديوان الحفظة حتى إنّه يُنسيها من قلوبهم ومن قلوب المذنبين..
أو هو الذي يترك المؤاخذة على الذنوب ولا يُذكِّر بالعيوب ".
وَ العَفْو فِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ : " ((سلوا اللهَ العفوَ والعافية؛ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية))..." [رواه الترمذي وصححه الألباني]،
فأَما العَفْوُ: فَهُوَ مَا وصفْناه مِنْ مَحْو اللَّهِ تَعَالَى ذُنوبَ عَبْدِهِ عَنْهُ.
وأَما الْعَافِيَةُ: فَهُوَ أَن يُعافيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُقْمٍ أَو بَلِيَّةٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ ضدُّ المَرَض.
يُقَالُ: عافاهُ اللَّهُ وأَعْفَاه أَي وهَب لَهُ الْعَافِيَةَ مِنَ العِلَل والبَلايا.
وأَما المُعافاةُ: فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ ويُعافِيَهم منكَ، أي: يُغْنيك عَنْهُمْ وَيُغْنِيَهِمْ عنك ويصرف أَذاهم عَنْكَ وأَذاك عَنْهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ مُفاعَلَة مِنَ العفوِ، وَهُوَ أَن يَعْفُوَ عَنِ النَّاسِ ويَعْفُوا هُمْ عَنْهُ. [لسان العرب]
هذه كلُّها من معاني العفو.. فما عليك إلا أن تقول يا رب لقد تُبت إليك..
وقد ورد أنَّه إذا قال العبد: يا ربِّ وهو راكع. قال الله: لبَّيك يا عبدي.
وإذا قال العبد: يا ربِّ وهو ساجد. قال: لبَّيك يا عبدي فإذا قال العبد وهو عاصٍ: يا ربِّ تبتُ إليك وأنا عاصٍ. قال: لبيِّكَ ثم لبَّيك ثم لبَّيك.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (): " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ ، وَمِنَ الضَّالِّ الْوَاجِدِ ، وَالظَّمْآنِ الْوَارِدِ " (رواه مسلم)

العنصر الثاني :اسم الله العفوُّ في القرآن الكريم :ـ

ورد اسم الله العفوُّ في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة تزيد عن تسعٍ وثلاثين آية..
ومن هذه الآيات...
 قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} [النساء].
وقوله تعالي{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)} [النساء].
وقوله تعالي {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء]
وقوله عزَّ وجلَّ {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60)} [الحج].
وقوله تعالى {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(2)} [المجادلة]
ولو نظرنا في القرآن الكريم نجد أن اسم الله العفو لا يأتي إلا مع الذنوب الكبيرة الرهيبة،
كـ بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، " وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن 
بَعْدِهِ وَأَنتُمْ  ظَالِمُونَ " (البقرة:51)
هذه لا تكفيها توبة عادية، ولذلك قال بعدها: " ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (البقرة:52).
وكذلك الذين تولوا عن رسول الله في معركة أحد } إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ...(155){(آل عمران).
فلو صار الحاجز كبيراً فأنت بحاجة لاسم الله العفو.
انظروا لهذه الآية ما أجملها! }وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30) { (الشورى).
انظروا لقوله: يعفو عن كثير! فلو حاسب الله الناس بما كسبت أيديهم لما بقوا في الدنيا يوماً واحداً، ولكنه سبحانه يعفو عن كثير، لأن الكثير بحاجة إلى عفو، فيقود إلى توبة.
قال تعالي } وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45){ فاطر.

العنصر الثالث : الفرق بين العفو والغفران :ـ

يتمثّل الفرق بين العفو والغفران في أمور عديدة أهمّها:
ـ أنَّ الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثّواب، ولا يستحقّه إلّا المؤمن ولا يكون إلّا في حقّ الباريء سبحانه وتعالى {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ..(135)} [آل عمران]
ـ أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاط اللّوم والذَّمُّ، ولا يقتضي نيل الثَّواب ويستعمل في العبد أيضًا.
ـ العفو قد يكون قبل العقوبة أو بعدها، أمّا الغفران؛ فإنّه لا يكون معه عقوبة البتَّة ولا يوصف بالعفو إلّا القادر عليه.
ـ في العفو إسقاط للعقاب، وفي المغفرة ستر للذّنب وصون من عذاب الخزي والفضيحة.
يقول الإمام القرطبي : العفو أن الله سبحانه وتعالى يعفو عن خلقه، وقد يكون هذا العفو بعد العقوبة أو قبلها.
أي هذا الذنب يستحق عقاباً معيناً، هذا المذنب يتحمل وزر هذا الذنب، العفو هو الذي لا يعاقب على هذا الذنب، أو يعاقب في الدنيا ويعفو في الآخرة، من أقيم عليه حدّ يعد إقامة الحد عليه سبباً لعفو الله عنه في الآخرة.
أما المغفرة لا يوجد معها عقاب، المغفرة أوسع من العفو، المغفرة لا عقاب معها أما العفو قد يكون عفواً في الدنيا قبل العقاب وقد يكون عفواً في الآخرة بعد العقاب.
العفو إسقاط العقاب والغفران ستر للذنب وصون عن الفضيحة.

العنصر الرابع: من مظاهر العَفوالإلهي:ـ

تأمل الآيات والأحاديث التي تتحدث عن عفوالله الكريم، وتأمل حركة الكون تجد كرما عظيما من الله تعالي ليس له نظير:

فمن مظاهر العفو الإلهي :ـ

1ـ رحمة الله تعالي بالعصاة والمذنبين :ـ

ورد في الأثر :} أوحى الله لداود : يا داود لو يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم ورغبتي في توبتهم،لذابوا شوقاً إليَّ ، يا داود هذه رغبتي في المدبرين عني فكيف محبتي في المقبلين عليَّ ؟{ (احياء علوم الدين)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): «للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه المؤمن من رجُلٍ في أرضٍ دوِّيَّةٍ مهلِكة، معه راحلَتُه عليها طعامُه وشرابُه، فنامَ فاستيقظَ وقد ذهبَت، فطلبَها حتى أدركَه العطش، ثم قال: أرجعُ إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأنامُ حتى أموت، فوضعَ رأسَه على ساعِدِه ليموت، فاستيقظَ وعنده راحِلتُه وعليها زادُه وطعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فرحًا بتوبة العبدِ المؤمن من هذا براحلتِه وزادِه». رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ()يقول: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وصححه ابن القيم وحسنه الألباني.
وتأمل في كرم الله وعفوه وهو يقول لسيدنا موسي وأخيه هارون عليهما السلام :}اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) {( سورة طه)
إذا كانت رحمتك بمن قال أنا ربكم الأعلى هكذا فكيف رحمتك بمن قال سبحان ربي الأعلى ؟
إذا كانت رحمتك بمن قال ما علمت لكم من إله غيري فكيف رحمتك بمن قال لا إله إلا اله ؟
ومن سعَة عفوِ الله تعالي مُناداةُ الكافرين إلى التوبة: قال تعالي }قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ(38){[الأنفال].
فإذا كان يُغفَرُ للكفار ما قد سلَف؛ فكيف بعُصاة المؤمنين إذا تابُوا؟!
ويقول سبحانه في الحديث القدسي: «قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك»
فالكون كله ناقم على الكافرين، متمرد على العصاة، مغتاظ منهم، فماذا قال الحق  تبارك وتعالى  لهم؟ قال سبحانه: دعوني وخَلْقي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنْ تابوا إليَّ، فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم )
ـ وجاء رجل إلى النبي()، فقال: يا رسول الله، إني شديد الذنوب، أرأيتَ إن تبتُ إلى الله الليلة يعفو عني؟
فقال له النبي: نعم، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟
قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟ قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فمضى الرجل وهو يقول: الله أكبر! الذي يعفو عن الغدرات والفجرات).
لذلك طمع السلف في عفو الله وكرمه ،حيث جاء أعرابي إلى النبي() فقال: (يا رسول الله، من سيحاسب الناس يوم القيامة؟
فقال النبي: الله، فقال: بنفسه؟
فقال النبي (): بنفسه، فقال الأعرابي: الله أكبر! وابتسم، فقال النبي (): لِمَ يبتسم الأعرابي؟
قال: يا رسول الله، إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح، فابتسم النبي وقال: فَقِهَ الأعرابي أي فهم ألا لا كريم أكرم من الله عز وجل.
وهذا سليمان الدارني أحد التابعين يقول: لئن سألني يوم القيامة عن ذنوبي لأسألنه عن عفوه، لأني لا أجد لي مخرَجاً إلا أن أسأله عن عفوه.

2ـ سَترُه سبحانه وتعالي للعبد:ـ

أن الله تعالي ينسيك الذنب، وينسيه للملائكة وملَك الشمال، ويُمحَى من صحيفة السيئات، وتأتي يوم القيامة لا يذكّرك به ولا يسألك عنه،أنت لم تخطئ، قال تعالي}وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21){ (ق).
أحياناً يكون للإنسان في جهة من الجهات صحيفة مسجلَّة فيها سيِّئاته وسلبياته فإذا أُحرِقت، أو شُطبت، أو طُويت، أو أهمِلت، انتهى الأمر وغدا أبيض الحائف، العفوُّ هو الذي يمحو السيِّئات لهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تاب العبدُ توبةً نصوحا، أنسى الله حافظيه، والملائكة، وبقاع الأرض كلُّها خطاياه وذنوبه)
وعن ابنُ عمرَ رضي الله عنه قال النبي(): (يُدنى المؤمن من ربه حتى يضَع عليه كنَفَه، فيقرِّرُه بذنوبه: تَعْرِفُ ذَنّبَ كذا وكذا ؟ فيقول: أعرف ربِّ، أعرفُ، فيقول سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأغْفِرُها لك اليومَ، ثم تُطوى صحيفةُ حسناته.) [ البخاري]
لاحظوا أن الذنوب موجودة في الصحيفة  فيقول: نعم يا رب، فيظن العبد أنه هالك، فيقول له الله: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أغفرها لك اليوم) هذه مغفرة.
كل إنسان سيرى عمله يوم القيامة عملاً عملاً قال تعالي }مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) { (الكهف )
لكن العفُوّ ماذا يقول لك يوم القيامة؟ ( يا فلان، إني راضٍ عنك لما فعلت في الدنيا، قد رضيت عنك وعفوت عنك، اذهب فادخل جنتي)
أرأيت الفرق بين هذه وتلك؟ فأي منزلة تريد أنت؟
والعفُوّ تلقاه يوم القيامة فيقول لك: ( تمنَّ يا عبدي واشتهي، فإني قد عفوت عنك، فلن تتمنى اليوم شيئاً إلا أعطيتك إياه).

3ـ من سعَة عفوِ الله مُضاعفةُ الحسنات، والثوابُ على الهمِّ بها دون السيئات :ـ

فعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ،عن النبي ()فيما يروِي عن ربِّه عز وجل  قال: «إن الله كتبَ الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلها كتبَها الله له عندَه حسنةً كاملةً، فإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله له عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعمَلها كتبَها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله له سيئةً واحدةً».

4ـ من جميل عفوِ الله أن يُبدِّلُ السيئات حسنات:ـ

فإذا أقلَع العبدُ عن الحرام، وباشَرَ أسبابَ التوبة والطاعة؛ ازدادَ إيمانًا مع إيمانِه؛ فتقوَى شواهِدُ الإيمان في قلبِه، فيُكرِمُه الله بجميلِ عفوِه، قال الله تعالى:}لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35){ [الزمر].
فما أوسعَ وأجملَ عفوه سبحانه، المرءُ يعصِي، ويُذنِب، ويسرِق، ومع ذلك يُبدِّل الله السيئات حسنات.. أيُّ كرمٍ هذا؟! وأيُّ فضلٍ أعظمُ من هذا الفضل؟!
قال تعالي }إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70){ [الفرقان].

5ـ من سعَة عفوِ الله أن رحمتَه تسبِقُ غضبَه، وعفوَه يسبِقُ عقابَه:ـ  

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعتُ رسولَ الله ()يقول: «إن الله لما قضَى الخلقَ، كتبَ عندَه فوقَ عرشِه: إن رحمتِي سبقَت غضبِي». أخرجه البخاريُّ
وعن أبي سعيدٍ الخُدري وذكرَ من يشفعُ بإذن الله في إخراجِ أقوامٍ من النار، فيقول الله عز وجل -: «شفَعَت الملائكة، وشفَعَ النبيُّون، وشفَعَ المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين. فيقبِضُ قبضةً من النار، فيُخرِجُ منها قومًا لم يعمَلوا خيرًا قطُّ، قد عادُوا حممًا، فيُلقِيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّة يُقال له: نهرُ الحياة، فيخرُجون كما تخرُج الحِبَّة في حَميل السَّيل».رواه مسلم.

6ـ من سعَة عفوِ الله إمهالُ عبادِه قبل مُؤاخَذَتهم:ـ

فالله سبحانه يُقابِلُ جهلَ العباد بالحِلمِ، والذنوبَ بالمغفرة، والمُجاهَرةَ بالسَّتر، والجُحودَ بالإنعام، كما في الحديث: «لا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه من الله عز وجل؛ إنه يُشرَكُ به، ويُجعلُ له الولد، ثم هو يُعافِيهم ويرزُقُهم».رواه مسلم.
قال تعالي } وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61){ النحل .

7ـ من سعَة عفوِ الله تنوُّع مُكفِّرات الذنوب:ـ

من سعة عفو الله تعالي أن فتح للعبد أبواب كثيرة يدخل منها علي الله تعالي وتكون تكفيرا لذنوبه فمن مُكفِّرات الذنوب:
إسباغُ الوضوء، وذِكرُ الله عقِبَ الفرائِض، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، وصيامُ رمضان، وصيامُ يوم عرفة، ويوم عاشُوراء، وقول: سبحان الله وبحمده مائة مرَّة، ودُعاء كفَّارة المجلِس، والعُمرةُ والحجُّ، وأداءُ الصلاة المفروضة، والصدقةُ، والصبرُ، وحضورُ مجالِس الذِّكر، والصلاةُ على النبي  ()؛ كلُّها من مُكفِّرات الذنوب.

8ـ من سعَة عفوِ الله أن الشرَّ يخُصُّ صاحبَه، والخيرَ يعمُّ حاضِرَه:ـ

قال الله تعالى:}فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40){ [العنكبوت].

العنصر الخامس : موجبات العفوالإلهي:ـ

من الأشياء التي يستوجب بها العبد عفو الله تعالي ......
1ـ كثرة الدعـــاء باسم الله العَفْوُّ وسؤال الله العفو والعافية ..
عن أبي بكر قال: قام رسول الله ()على المنبر ثم بكى، فقال "سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية" [رواه الترمذي وصححه الألباني، مشكاة المصابيح]
وعن ابن عمر قال :  لم يكن رسول الله () يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وطلبُ العفوِ  في المواسِم الفاضِلة، ومواطِن الإجابة أولَى وأعظم،فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: يا رسولَ الله ! أرأيتَ إن علِمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقولُ فيها؟ قال: «قُولي: اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي».[رواه ابن ماجه وصححه الألباني]

2ـ الاستغفار والتوبـة والعمل الصالــح ..

فمن كمال عفوه سبحانه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثمَّ تاب إليه ورجع، غفر له جميع جُرْمِهِ  كما قال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر]
ومن داومَ على طاعة الله فازَ بعفوِ الله؛ فعن أبي طويلٍ شَطبِ الممدود رضي الله عنه، أنه أتى النبيَّ ()فقال: أرأيتَ رجُلاً عمِلَ الذنوبَ كلَّها، فلم يترُك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترُك حاجةً ولا داجةً إلا أتاها؛ فهل له من توبة؟ قال: «فهل أسلمتَ؟»
قال: أما أنا فأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسولُ الله ()،..قال: «نعم، تفعلُ الخيرات، وتترُك السيئات، فيجعلهنَّ الله لك خيراتٍ كلهنَّ»، قال: وغدَراتي وفجَراتي؟!
قال: «نعم» قال: الله أكبر، فما زالَ يُكبِّرُ حتى توارَى) رواه الطبراني.
فكلنا نذنب و نخطئ فنحن بشر وما أحوجنا إلى رحمة الله ومغفرته وعفوه وإلا هلكنا ،ولهذا شرع الله تعالى لنا التوبة كي يرحمنا ،وشملنا بعفوه ومنه وكرمه فالعفو من القدير قمة العظمة والقوة ، فالله تعالى قادرأن يهلكنا ،ولكنه يعفو ويسامح ،لأنه يمتلك كل شيء، فالكون كله ملكه ،والأمر أمره، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير .
قال ابن القيم في قصيدته النونية:
وَهْوَ العَفُوُّ فعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى ... لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بالسُّكَّانِ
فالعفوُّ سبحانه هو الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها ويستر العيوب ولا يحب الجهر بها ، يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلاً وإنعامًا، حتى يزول اليأس من القلوب وتتعلق في رجائها بمقلب القلوب ..
ولنحذر كثرة الذنوب فإنها تنشئ حجابا بين العبد وبين ربه ،وهذا الحجاب ما الذي يَهتكه ؟
العمل الصالح.. فعوِّد نفسك أن تعمل العمل الصالح كلَّما غفلت، أو أخطأت، أو تسرَّعت، أو تكلَّمت كلمةً، أو فعلت شيئاً لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ.
لذلك قال تعالى: }وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114){ (هود)
وقال عليه الصلاة والسلام:(عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ()قَالَ سِتَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَقُولُ لَكَ بَعْدُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلانِيَتِهِ وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ وَلا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ وَلا تَقْبِضْ أَمَانَةً وَلا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ ).

3ـ اعفُ يُعْفَ عنك ..

وقد حثَّ الله تعالى عباده على العفو والصفح وقبول الأعذار، فاعفُ يُعْفَ الله عنك ،وقد كان أبو بكر الصديق يتصدَّق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، فلما شارك المنافقين في اتهام أم المؤمنين عائشة بالإفك وبرأها الله عزَّ وجلَّ، قال أبو بكر "وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَال لعَائِشَةَ"، فَأَنْزَل اللهُ سبحانه وتعالى {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)} [النور]، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: "بَلى، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لي"، فَرَجَعَ إِلى مِسْطَحٍ الذِي كَانَ يُجْرِي عَليْهِ. [صحيح البخاري] .
وعاد إلى ما كان عليه وهذا شيء فوق طاقة البشر.. إنسان روَّج عن ابنته الخبر السيِّء وأرجف في المدينة، ثم يُعاتبه الله لماذا كفَّ عن مساعدته ؟
هكذا أخلاق المؤمنين... وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
وقال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى]
فاعْفُ عن الظالمين، وأَعْرِض عن الجاهلين، ويَسِّر علي المعسرين طلبًا لعفو الله عند لقائه،،
وفي المستدرك للحاكم ،عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينا رسول الله ()جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟
قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذلي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك و تعالى للطالب : فكيف بأخيك و لم يبق من حسناته شيء ؟
قال : يا رب فليحمل من أوزاري قال : و فاضت عينا رسول الله ()بالبكاء ثم قال : إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب و قصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن قال : يا رب و من يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه قال : بماذا قال : بعفوك عن أخيك قال : يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله عز و جل : فخد بيد أخيك فادخله الجنة فقال رسول الله ()عند ذلك : اتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين .

4ـ التجاوز عن المُعسِر والعفو عنه، وعدم مؤاخذته على عدم استطاعته سداد الدّين ..

عليك أن تتجاوز، حتى يتجاوز الله تعالى عنك .. عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ "أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟، قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي". فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ . [صحيح مسلم].

5ـ عدم المجاهرة بالذنــب ..

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ () يَقُولُ "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" [متفق عليه]

العنصر السادس: التخلُّق بخلق العفو:ـ

أمرنا الله تعالي أن نتخلق بخلق العفو فقال تعالي } وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35){ (فصلت)
أن تعفو عمن ظلمك، وأن تُعطي من حرمك، وأن تصل من قطعك، هذه أخلاق المؤمنين .
الحقيقة أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يأمرنا أن نعفو عن المسيء فحسب بل أمرنا أن نُحسن إليه، فقد قال تعالى:﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾ (سورة آل عمران)

نماذج يُقتدي بها في العفو:ـ
النبي () يعفو عن أهل مكة :ـ

أيها المؤمنون ... لقد صنع لنا لنا النبي () نموذج عالي في العفو عند المقدرة وهذا من شيم الكرام ، نراه  وهو يدخل مكة فاتحاً،التي ائتمرت على قتله،والتي أخرجته، والتي عذبت أصحابه، والتي قاطعته وكذبته، والتي ألبت عليه العرب جميعاً.
 لقد ألقى أهلها السلاح، ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيهم ما يرى، إنهم في قبضته، أمره نافذ في رقابهم، حياتهم جميعاً معلقة بين شفتيه، وهذه عشرة آلاف سيف تتوجه يوم الفتح فوق رُبي مكة، تأتمر بأمره، وتنتظر إشارةً منه، إنها تستطيع أن تهلكهم في لمح البصر.
لقد سار النبي () في موكب النصر يوم فتح مكة حانياً رأسه حتى تعذر على الناس رؤية وجهه، وحتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، مردداً بينه وبين نفسه ابتهالات الشكر المبللة بالدموع.
سأل أعداءه بعد أن استقر به المقام: يا معشر قريش، ويا أهل مكة فاشرأبت إليه الأعناق، وزاغت الأبصار، سألهم ما تظنون أني فاعل بك؟
وصاحت الجموع الوجلة بكلمة واحدة، كأنما كانوا على اتفاق في ترديدها، قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٌ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
لقد غُمر المذنبون الذين كانوا ينتظرون القصاص، ويستحقونه بأنبل عفو، وأجمل صفح، حتى قال أبو سفيان الذي ناصب رسول الله () العداء أعواماً طويلة، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أرحمك! وما أحلمك! وما أحكمك! وما أوصلك! وما أكرمك!
 يا سيدي يا رسول الله؛ ما أجمل عفوك عند المقدرة، وما أعظم نفسك التي سمت كل هذا السمو فارتفعت فوق الحقد، وفوق الانتقام، لقد ترفعت عن كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان، لم تكن تعرف العداوات، بل لم تكن تريد أن تقوم بين الناس، لقد مكنك الله من عدوك فقدرت وعفوت، فضربت بذلك للعالم كله ولأجياله مثلاً أعلى في العفو والصفح، فلم تجعل من يوم فتح مكة يوم تشفٍ ولا انتقام بل جعلته يوم برٍّ ورحمة وعفو وسلام.

سيدنا يوسف يعفو عن إخوته :ـ

تآمر عليه إخوته بأن وضعوه في الجب ليموت،فلما دخلوا عليه وهو عزيز مصر،قال تعالي:
}فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(88) {(يوسف)
ضعاف فقراء وهو عزيز مصر:
قال تعالي }قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ(89)قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ (90){ (يوسف) هو في الجب وانتهى ومات.
منتهى الكمال أن يعفو الإنسان عمن ظلمه:لذلك قال تعالي:}وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(21){( يوسف)
قال تعالي }قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا (91) { (يوسف)
إذا كان الله معك فمن عليك في الجب:قال تعالي }وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91) { (يوسف)
اسمعوا العفو: قال تعالي }قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92) { (يوسف)
قال تعالي }فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ(99)وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي(100) {( يوسف)
لم يقل عليه السلام من الجب، بل قال: من السجن، لئلا ليذكرهم بفعلتهم، هذا منتهى الكمال أن تعفو، وألا تذكر الذي عفوت عنه بجريمته،قمة العفو ألا تذكر المذنب بجريمته.
ما قال هم بحقي خاطئون لا، لا، قال: دخل بيننا الشيطان هذه قمة العفو، ألا تذكر المذنب بذنبه، ألا تمن عليه بعفوك، ألا تذكره بجريمته: قال تعالي }مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(100) { (يوسف )
هذه القصص من أجل أن نتعلم منها العفو والنبل والسماحة ، ومكارم الأخلاق ، لذلك اعفُ عمن ظلمك تكون كبيراً ولا تنتقم فتغدو صغيراً، الله عز وجل يحبنا إذا كان العفو سجيتنا .

العنصر السابع : فوائد خلق العفو:ـ

1ـ العفو يُثْمِر محبة الله تعالي ومحبة الناس..
فإذا كنت من العافين عن الناس فإن الله تعالى سيحبك، ويجعلك من أهل الإحسان الذين هم أعلى الناس إيمانًا .. كما في قوله تعالى{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران].
إن الإنسان إذا عفا عن أخيه كان أقرب إلى ربه مما لو انتقم منه، لأن الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وفي الحديث القدسي: }إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي {[البخاري].

2ـ الترقِي في الأخلاق :ـ

إن الإنسان إذا اتصل بالله العفو الكريم اشتق منه بعضاً من هذا الخلق العظيم، وإذا استقرت
الرحمة في قلب الإنسان فإنها تفيض على خصومه بالعفو والغفران، فيصبح العفو أحبَ إليه من الانتقام، وإذا علم الإنسان أن خصمه بشكل أو بآخر أخٌ له في الإنسانية فإذا انتقم منه خسره، وإذا عفا عنه ربحه، ولأن يربح الإنسان أخاه خير له من الدنيا وما فيها عندئذ يرى في العفو غُنْماً، وفي الانتقام غُرْماً.
أيها المؤمنون : إذا أيقن الإنسان أن العفو سلم يرقى به إلى عز الدنيا والآخرة، وأن الانتقام دركات يهوي بها إلى ذلٌ ومقت يلاحقانه حتى الممات، آثر العفو على الانتقام، وإذا علم أبناء المجتمع الواحد أنه بالعفو تتسع دائرة الصداقات والمودات فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص، وبالانتقام تفشو العداوات والأحقاد حتى تصل بالمجتمع إلى أحط الدركات صار العفو ديدنهم.

3ـ العفو جلاءٌ الهُموم والغُموم:ـ

ففي غزوةِ أُحُد أصابَ الصحابةَ غمٌّ وحُزنٌ بعد مُخالفة الرُّماةِ لأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: } وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152) {[آل عمران].
عفا عنكم لكي لا تحزَنوا، ولتكون حلاوةُ عفوِه تُزيلُ عنكم ما فاتَكم من غمِّ القتل والجرحِ.

4ـ العفو يُورث التقوى :ـ

يقول الله تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (237)} [البقرة]، فالعفو عن الناس من الأسباب التي تجعل العبد تقيًّا نقيًّا.

4ـ العفو يزيد الإنسان عزًّا :ـ

يقول النبي ()".. وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا" [صحيح مسلم] .. فكلما عفوت، ازددت عزًّا عند الله تعالى.

5ـ إبراز ما في النفوس البشرية من خير:ـ

حينما تصح التوبة، ويتحقق الندم، وتصدق العزيمة على ترك الذنب، عندئذ يصبح العفو حياة للمذنب، كما كان القصاص حياة للمجتمع، ويغدو فرصة ثمينة ينالها المذنب، ليؤكد صحة توبته، وعظيم ندمه، وصدق عزيمته على ترك ما اقترفت يداه، وليؤكد أيضاً الجانب الخَيِر في الإنسان، وربما كان هذا المذنب الذي عُفي عنه علماً من أعلام الأمة، ومصلحاً من كبار مصلحيها، وقائداً فذاً من قادتها، والتاريخ الإسلامي حافل بمثل أولئك الذين أصبحوا من قادتها الأبطال وعلمائها الأعلام، وأوليائها المقربين كعكرمة بن أبي جهل.
مَنْ عكرمة بن أبي جهل ؟
هو الذي عادى النبي ()أشدَّ العداء، وآذى أصحابه أفدح الإيذاء، وهو أحد
صناديد قريش المعدودين، وأبرز فرسانها المرموقين، وهو ابن أبي جهل، وجبَّار مكة الأول،
وزعيم الشرك الأكبر، ولم يكتف الني ()بالعفو عنه بل وجه أصحابه قائلاً:
عن عبد الله بن زبير رضي الله عنه قال رسول الله (( سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً فلا تسبُّوا أباه فإن سبَّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت )) [رواه الحاكم ]
وقد عاهد رسول الله () قائلاً: لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته صداً عن سبيل الله إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله.
 وفي اليرموك لما اشتدَّ الكرب على المسلمين نزل عن جواده، وكسر غُمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادر إليه خالد بن الوليد، وقال: لا تفعل يا عكرمة فإن قتلك سيكون شديداً على المسلمين، فقال: إليك عني يا خالد، لقد كان لك مع رسول الله ()سابقة أما أنا وأبي فقد كنَّا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعني أكفِّر عما سلف مني..
لقد قاتلت رسول الله ()في مواطن كثيرة وأفرُّ من الروم اليوم؟إن هذا لن يكون أبداً..
العنصر الثامن: ضوابط في العفو :ـ

1ـ أن يكون العفو عند المقدرة :ـ

وبهذا الأمر تتبين قوة ومهابة العافي عن المسيء من المستحقين للعفو ، فعندما تظهر قدرته على الانتصار والانتقام ويعفو عنه : يكون قد حقق لنفسه المهابة وحاز فضل وأجور العفو .
قال تعالى :} فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43){  الشورى.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
" ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب وندبهم إلى العفو والإصلاح ، وأما قوله (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) ، فليس منافياً للعفو ؛ فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ثم يقع العفو بعد ذلك فيكون أتم وأكمل .
قال النخعي في هذه الآية : " كانوا يكرهون أن يُستذلوا فإذا قدروا عفَوا " .
وقال مجاهد : " كانوا يكرهون للمؤمن أن يُذل نفسه فتجترئ عليه الفساق " ، فالمؤمن إذا بُغي عليه يُظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك ، وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف منهم عطاء وقتادة".
وهذا نموذج عظيم في هذا الشأن ، حيث يتجلى عفوه النبي () بالصفح عن نفر من المشركين بالغوا في عداوتهم وأذيتهم، ويوم فتح مكة ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وهاموا على وجوههم، ومن هؤلاء: صفوان بن أمية، الذي شدّ رحاله صوب جدة، ليبحر منها إلى اليمن ، واشتد إشفاق عمير بن وهب عليه، وصمم أن يسترده من يد الشيطان بكل وسيلة، وذهب مسرعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه إلى البحر فأمنه صلى الله عليك؟
فقال عليه الصلاة والسلام: هو آمن، قال: يا رسول الله هو آمن ؟
ثم قال: يا رسول الله أعطني آيةً يعرف بها أمانك؟
أعطاه النبي () عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر، قال: ياصفوان فداك أبي وأمي، الله اللهَ في نفسك أن تهلكها، هذا أمان رسول الله () قد جئتك به، إن رسول الله () أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، عزه عزك، وشرفه شرفك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك وأكرم.
فرجع معه حتى دخل به على رسول الله () ، فقال صفوان للنبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق. قال صفوان: فاجعلني في الخيار شهرين، فقال رسول الله (): أنت في الخيار أربعة أشهر. وفيما بعد أسلم صفوان.

2 - أن يترتب على العفو إصلاح ،ولا يترتب ضرر:ـ

قال تعالى : } وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) { الشوري.
فلا يعفو عن مجرم معروف بالشر وإيقاع الضرر بالناس ،لما يترتب على العفو عنه من إطلاق يديه في الشر والسوء ، لذا لا يشرع العفو عنه ، بل تجب عقوبته وكف يده عن الناس بما يُستطاع.
لذلك شرع الله تعالي القصاص زجرا للمجرم ، قال تعالى:}وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179){ ﴾ [البقرة]
ويحكي سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه ، أنه كان أبو عزة الجمحي الشاعر من أسرى بدر، وكان النبي () قد حدد مبلغ أربعة آلاف درهم فداءً لكل أسير، فكلم أبو عزَّة رسول الله ()، فقال: يا رسول الله، لقد عرفتَ ما لي من مال، وإني ذو حاجة، وذو عيال، فامنن عليَّ، فمنَّ رسول الله ()عليه، وأخذ عليه العهد ألا يظاهر عليه أحداً لكنه نقض العهد، وعاد إلى ما كان عليه من سب النبي ()، وهجاء أصحابه، وحضِّ الناس على قتاله.
وفي يوم أحد ظفر به النبي () فقال: يا رسول الله لا تقتلني وامنن عليَّ ودعني لبناتي، وأعاهدك ألا أعود، فقال له النبي (): }لا والله لا أدعك تمسح عارضيك بأستار الكعبة وتقول للناس: خدعت محمداً مرتين، إن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين { [ رواه مسلم] ولم يعف عنه.
ومن ذلك نفهم أنه لهذا ليس من العفو أن نستسلم لعدو غاصب، سلب الأرض، وانتهك الحرمات، وأفسد العقائد، وأفرغ القيم، وزور التاريخ، فالمؤمنون الصادقون إذا أصابهم البغي هم ينتصرون .كما قال تعالي }وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39){ الشوري.

3ـ أن يعفو عن حقِّه قاصداً الأجر والفضل من الله تعالي :ـ

أن يعفو عن حقِّه قاصداً الأجر والفضل من الله ،فيترك الانتصار والانتقام لله تعالى .
عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : رَسُولِ اللَّهِ () (يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ : مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً) رواه أحمد وحسَّنه المحققون ، وجوَّد إسناده الألباني في " السلسلة الصحيحة ".

الخاتمة ..

أيها المؤمنون ...
ومع هذا الفضل العظيم والعفو الجَزيل..فلنحذر من الاغتِرار بعفوِ الله وعظيم كرمِه، قال الله تعالى:}يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6){ [الانفطار].
سُئِل الفُضيل بن عياض: يا فُضيل! لو وقفتَ بين يدَي مولاك سبحانه وسألَك: عبدي!
ما غرَّك بي؟ ماذا كنتَ تقول؟ قال: "أقولُ: غرَّتني سُتورُك المُرخاة"؛ أي: سترُك عليَّ غرَّني.
لذلك كان النبي () لا يغتر بعفو الله تعالي ويحذر من تحول العافية ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ )) [مسلم]
فيجب علي المسلم أن يكون علي حذر فالله تعالي عفو وكريم وشديد العقاب ،فكثير من الناس يقضي عمره يجمع المعاصي والسيئات، ومع ذلك يتعلق بحبال الأماني، وعنده أمل في أن يدخل الجنة بغير حساب، أو لا تمسه النار إلا أيامًا معدودة.
وتجد هؤلاء يتعلقون بأن الله عز وجل غفور رحيم، وأنه يتجاوز عن السيئات ويعفو ويصفح ويغفر، وينسون أن الله عز وجل كما أنه غفور رحيم لمن تاب وأناب، فهو سبحانه وتعالى منتقم جبار لمن عصى واستكبر. وقد قال تعالي } نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50){ الحجر .
نسألك يا ربنا يا من أظهرَ الجميل، وستَرَ القبيحَ .. يا من لا يُؤاخِذُ بالجَريرة، ولا يهتِكُ السِّتر، ياعظيمَ العفو .. يا حسنَ التجاوُز .. يا واسِع المغفرة .. يا باسِط اليدَين بالرحمة .. يا صاحِبَ كل نجوَى .. ومُنتهَى كل شكوَى .. يا كريم الصفح .. يا عظيمَ المنِّ .. يا مُبتدِئ النِّعَم قبل استِحقاقِها، نسألك العفوَ والعافيةَ في الدين والدُنيا، والآخرة .
=============================
تحميل pdf

تحميل word



ليست هناك تعليقات: