13 ديسمبر 2018

نعمة الهداية وسبل تحقيقها








الحمد لله رب العالمين .. خَلَقَ فَسَوَّى وقَدَّرَ فَهَدَى وأضحك وأبكي وأمات وأحيا  هدي من شاء من الناس إلي صراطه المستقيم ، فقال الله تعالى }وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(25){ يونس .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شئ قدير ..جعل الإيمان سببا من أسباب الهداية الهداية فقال تعالي }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9){ يونس .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله () كان دائما يسأل الله الهداية والرشاد، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي () أنه كان يقول: " اللهمَّ إني أسألُك الهدى والتقى، والعفافَ والغنى " رواه مسلم.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثير ا إلي يوم الدين ....

أما بعـد ... فيا أيها المؤمنون .
لقد أنعم الله تعالي علينا بنعم لا تعد ولا تحصي فهو القائل سبحانه وتعالي }  وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) { إبراهيم.
وقال تعالي }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18){ النحل .
وقال تعالي } أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ (20){ لقمان .
ومن أعظم النعم التي أنعم علينا بها نعمة الهداية للإسلام فقال تعالي } يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(17){ الحجرات.
وامتن الله علينا بسبب الهداية الأكبر وهي بعثة المصطفى () فقال جل وعلا:
} لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) {[آل عمران].
وافترض سبحانه على عباده أن يتضرعوا إليه بطلب الهداية في اليوم مرات ومرات وذلك في كل ركعة من ركعات الصلاة في قراءة الفاتحة حيث نقرأ قوله تعالى:} اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6){[الفاتحة].
فالهداية نعمة عظيمة ، ومنَّةٌ جسيمة ، فلا تحصل إلا بفعل الأسباب ، وببذل الوسع في تحصيلها .
لقد ازدادت الحاجة إلى معرفة نعمة الهداية وتوفيق الله للمرء بالثبات عليها ، لأننا جميعاً إلا من رحم الله جمعنا بين تقصير في طاعة الله وأمن من عقابه ، في زمن تعددت فيه الأفكار وتنوعت فيه الشهوات والشبهات ، ولقد كان سلفنا الصالح يجمعون بين طاعة الله والخوف على أنفسهم من الزيغ في مجتمع يعينهم على ذكر الله سبحانه فما أحرانا أن نقتدي بهم .
لذلك كان كان حديثنا عن (نعمة الهداية وسبل تحقيقها) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ حقيقة الهداية .
2ـ أصناف الناس .
3ـ حاجة الناس إلي الهداية .
4ـ مراتب الهداية.
5ـ أسباب الهداية .
6ـ موانع الهداية .
7ـ ثمرات الهداية .
8ـ الخاتمة .
-----------------
العنصر الأول : حقيقة الهداية :ـ
الهداية : هي الإرشاد والدّلالة والوصول إلى المطلوب.
وقيل : سلوك طريق يوصل إلى المطلوب .
وعرّفها ابن القيم بقوله : هي معرفة الحق والعملُ به .
فَعُلِمَ من هذا أن الهداية تُستطاع بفعل الأسباب بعد توفيق الله ، ولذا قال سبحانه : }قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) { يونس.
وقال عز وجل }مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15){ الإسراء.
العنصر الثاني : أصناف الناس :ـ
لقد قسّم الإمام ابن رجب الحنبلي الناس إلى ثلاثة أصناف..(راشد ، وغاو ، وضال )
فالراشد عرف الحق واتبعه .
والغاوي عرفه ولم يتبعه.
والضال لم يعرفه بالكلية .
فكلُّ راشدٍ هو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد ؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا . اهـ .
وقال رحمه الله : وإنما وَصَفَ  النبيّ صلى الله عليه وسلم الخلفاءَ بالراشدين  ؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به ، والراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه . اهـ
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين ، فقال تعالى :} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42){ الحجر.
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين ، فقال تعالي :}وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176){ الأعراف.
وفَرْقٌ بين الغواية والضلالة .
ولذا لما قال الله تعالي علي لسان فرعون لموسى عليه السلام : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19){ فردّ عليه موسى السلام بقوله }قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20){ الشعراء.  أي قبل النبوة وقبل مجيء الرسالة .
وقد امتـنّ اللهُ تبارك وتعالى على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة العظيمة ، والمِنّـةِ الجسيمة فقال :}وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7){الضحي.
العنصر الثالث : حاجة الناس إلي الهداية :ـ
لقد دعانا الله إلى سؤاله وحثنا على التضرع إليه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم كما ندعو في الفاتحة قائلين } اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7){ [الفاتحة].
قال سيدنا علي ابن أبي طالب: الصراط المستقيم القرآن.
وقال ابن عباس: الصراط المستقيم هو الإسلام.
وقال ابن الحنفية: الصراط المستقيم هو دين الله الذي لا يقبل غيره أبدًا.
فحاجة العبد إلى سؤاله الهداية وطلبها من مولاه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والهواء، لذا لم يقل الله تعالى في الفاتحة اهدنا النصر المبين، ولا اهدنا الرزق الكثير ولكن قال ربنا: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ "
لأن هذه الهداية فيها فلاح وصلاح الدنيا والآخرة فاللذة والسعادة كلها في هداية الله لنا للإسلام والعمل بطاعته وفي طاعته فمن كان من أهل الهدى كان سعيداً قبل الموت وبعده ولهذا كان سؤال الهداية أعظم الأدعية.
لذلك كان طلب الهداية حاضراً في أدعية النبي () ، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي () أنه كان يقول: " اللهمَّ إني أسألُك الهدى والتقى، والعفافَ والغنى " رواه مسلم.
وعن أبي سلمةَ بن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ قال سألتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين: بأيِّ شيءٍ كان نبيُّ اللهِ () يفتتحُ صلاتَه إذا قام من الليلِ؟
قالت: كان إذا قام من الليلِ افتتح صلاتَه: " اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنت تحكم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ".(رواه مسلم) .
هذه مقدمة صلاتِه عليه الصلاة والسلام وهو يستقبل ربَّه في جوف الليل، ولسانُه يلهَجُ بقوله: "اهدني".
وعند النسائي وغيره بسند صحيح من حديث جابر رضي الله عنه  قال: كان النبي () إذا استفتَح الصلاة كبَّر، ثم قال:(إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين، اللهم اهدِني لأحسنِ الأعمال، وأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت).  
ومما يبين أهمية الهداية أن النبي () أرشد عليًّا إلى سؤالها ؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي رسولُ اللهِ () " قل: اللهمَّ اهدِني وسدِّدْني. واذكر، بالهدى، هدايتَك الطريقَ. والسَّدادَ، سدادَ السَّهمِ ". أخرجه مسلم.
ومـن دعائه () (اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين) . رواه أحمد والنسائي
وكان من أكثر أدعية النبي () " يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي علَى دينِكَ "
كما في ثبت السنن، واستعاذ عليه الصلاة والسلام من الحور بعد الكور،
وأخبرنا سبحانه عن دعاء الراسخين في العلم } رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8){ [آل عمران].
فإذا كان هذا دعاء الراسخين في العلم فغيرهم أولى بسؤال الله الهداية .
وانظروا إلى خليل الله إبراهيم عليه السلام كيف دعا الله أن يجنبه شركاً أكبر: }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ(35){ [إبراهيم].
وكان من دعائه عليه السلام كما قال الله تعالي } لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77){ الأنعام .
وتأمَّل معي حال نبي الله موسي عليه السلام عندما ذهب إلي فرعون يدعوه إلي عبادة الله الواحد الأحد وهو يسألك كما قال تعالي :}قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50){[طه]
وحين أراد الذهاب إلى مَدْيَنَ كما قال تعالي }وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22){ [القصص].
يقول أهل التفسير: إن نبيَّ الله موسى لم يكن يعرفُ طريق مَدْيَنَ، لكنه توجه تلقاء تلك القرية، وسأَل ربه الهداية، فكانت المعجزةُ مباشرة بعدها: }وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ(22){ [القصص]، فوصَل القرية بعد أن سأل اللهَ الهداية إليها، ويوم أن أدرَكه فرعونُ بجنوده: } قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62){[الشعراء].
لذلك كان السؤال الذي طلبه أصحاب الكهف حين أووا للكهف وهم في شدة البلاء والملاحقة ؟ إنهم سألوا اللّه " الرُشد" دون أن يسألوه النصر، ولا الظفر، ولا التمكين !!!
قال تعالي }إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10){ الكهف.
وبهذا يوصيك اللّه أن تردد:قوله تعالي }وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا(24)  {الكهف.
فمَن هداني يوم أن خلَقني، وأنجاني وأرشدني، لن يُضيعَني؛ فهو الهادي  سبحانه.
فما أحوجَنا اليوم إلى سؤال الهداية بصدق، وخصوصًا في زمان كثرت فيه الفتن وتشعبت الأهواء وانقلبت فيه الموازين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
العنصر الرابع : مراتب الهداية:ـ

إنَّ أفضلَ ما يقدِّره الله للعبد هو الهُدَى؛ فهو مِن أعظمِ النِّعَم، وأعظمُ ما يبتَلِيه به ويقدِّره عليه هو
الضَّلال، وقد اتَّفقَتْ رسُل الله جميعًا، وكذلك كُتُبه المنزلة على أن الله يُضِلُّ مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء، فالهدَى والإضلال بيده، لا بيدِ العبد.
قال الله تعالى:} مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17){ [الكهف].
وقال تعالي }وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا (13){ [السجدة].
أمَّا طلَب الهداية والسعي إليها مِن طلَب العبدِ وكسبه.
لذلك كان مِن الضروري ذكْر مَراتِب الهداية كما وردَتْ في القرآن الكريم، وتتلخَّص في أربع مَراتِب؛ هي:ـ
1- الهداية العامَّة.
2- هداية الدلالة والبيان، والإرشاد والتعليم.
3- هداية التوفيق والمعونة.
4- الهداية إلى الجَنَّة والنَّار يوم القيامة.
==============
المرتبة الأولى: الهداية العامَّة:
وهي هداية عامَّة لجميع الكائنات، فاللهُ قد هَدَى كلَّ نفس إلى ما يُصلِح شأنها ومعاشها، وفطَرَها على جلْب النافع، ودفْع الضارِّ عنها، وهذه أَعمُّ مَراتِب الهداية } سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) {[الأعلى].
وفيها ذَكَرَ اللهُ أربعة أمور عامَّة وهي: الخلْق، والتسوِيَة، والتقدير، والهداية، وجعَلَ التسوِيَة مِن تَمام الخلْق، والهداية مِن تَمام التقدير، وبذلك تَكُون التسوِيَة والهداية كمالَيْن للخلق والتقدير.
فالخلق والتسوِيَة يشمَل الإنسان وغيره؛ قال تعالي } ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29){ [البقرة].
وقال تعالي }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7){[الشمس].
وقال سبحانه: } وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10){  [البلد].
ومِن أمثلة ومعاني الهداية العامَّة الخاصَّة بالتسوِيَة والتقدير للمخلوقات عامَّة: الإنسان والحيوان، والطير والدوابُّ، فإنَّ الله قد خَلَقَ الذكر والأنثى، فهَدَى الذكر للأُنثَى كيف يتعايشان معا بطريقة منظمة نظمها الله تعالي ، وكذلك تقديرالله تعالي للجَنِين في الرَّحِم كيف يعيش هذه الفترة الزمنية، ثم هَداه للخُروج.
وكذلك كيف هدي الله تعالي النحل إلى سلوك السُّبُل التي فيها مَراعِيها على تبايُنِها واختلافها، ثم عَوْدها إلى بيوتها مِن الشجر والجبال وما يَعْرِشُ بنو آدم؛ قال تعالي } وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68){[النحل].
وكذلك هدايته سبحانه للنملة كيف تخرج مِن بيتها وتطلُب قُوتَها مِن هنا وهناك، وكيف خاطبَتْ أصحابَها، وأَمَرَتْهم بأن يدخلوا مساكنهم؛ قال تعالي } قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(18){ [النمل].
ولله در القائل
ولله في الآفاق آيات لعل          أقلها هو ما إليه هداكَ
ولعل ما في النفس من آياته    عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا      حاولت تفسيراً لها أعياك

قال الإمام ابن القيم: "من تأمل بعض هداياته سبحانه في خلقه علم أنه الإله الواحد الأحد الحق الذي يستحق أن يعبد ويوحد بلا منازع أو شريك".
هذه هي الهداية العامة التي لو تدبرنا نظام كل شيء في هذا الكون العجيب الغريب لوصلنا إليها ووقعنا عليها.
ومِن أثرِ هذه الهداية الفطرية أنها قادَتْ كلَّ كائنٍ إلى الاعتِراف برَبِّه وذكْره؛ قال تعالى: }تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44){[الإسراء].

كل الوجود على وجودك شاهد      وكل الكائنات لك تقر وتشهد
فواعجبًا كيف يعصى الإله         أوكيف يجحده الجاحد
وفى كل شيء له آية                تدل على أنه الواحد

المرتبة الثانية: هداية الدلالة والبيان والإرشاد:
وهذا النوع هو وظيفة الرسل والكتب المنزلة مِن السماء، وهو خاصٌّ بالمكلَّفين، وهذه الهداية هي التي أثبَتَها لرسوله () بقوله}وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52){ [الشورى]،
كما أنَّ هذا النوع مِن الهداية أخصُّ مِن التي قبْلَها، فهي مصدر التكليف ومَناطُه، وبها تقوم حُجَّة الله على عِباده؛ فإن الله تعالى لا يُدخِل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسل الذين يُبيِّنون للناس طريق الغيِّ مِن الرشاد: قال تعالي }وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15){[الإسراء]،
وقال تعالي }أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57){[الزمر]،
وقال تعالي }رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(165){ [النساء].
يقول ابن كثير: أي: إنه تعالى أنزَلَ كُتبَه، وأرسَلَ رسُلَه بالبشارة والنذارة، وبيَّن ما يحبُّه ويَرضاه ممَّا يكرهه ويأباه؛ لئلَّا يبقى لمُعتَذِر عذر،قال تعالي }وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134){ ﴾ [طه].
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): (لا أحد أغيَر من الله عز وجل، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين) رواه البخاري ومسلم.
والله تعالى لم يمنع أحدًا هذه الهداية، ولم يَحُلْ بين أحدٍ مِن خلْقه وبين هذه الهداية، بل خلَّى بينهم وبينها، ومَنَحَهم مِن الوَسائل والأدوات التي تُساعِدهم على تقبُّلها والاستِفادة بها؛ كالعقل والفطرة، وأقام لهم بذلك أسبابَ الهداية ظاهرةً وباطنةً، ومَن حَرَمَه مِن خلْقه بعضًا مِن هذه الأدوات والوسائل؛ كزوال العقل أو الصِّغَر أو المرض، فقد حطَّ عنه مِن التكاليف بحسب ما حرَمَه من ذلك؛ قال تعالى: } لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ  (61){ [النور].
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي ()أنه قال: (رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق)أخرجه الترمذي والنسائي.
كما اتَّفق رِجالُ الأصول على أنه: (إذا أخَذَ ما وهب انقَطَع ما وجب).
وهذه الهداية لا تستَلزِم حُصُول التوفيق، واتِّباع الحقِّ مِن العِباد؛ بدليل أنَّ بعض الناس آمَن بدعوة الرسُل، وبعضهم كفَر بها، ولكنَّها سببٌ في حصول الاهتِداء، والسبب هنا قد اكتَمَل بإرسال الرسُل، ووصول دعوة وبلاغ الرسل إلى أُمَمِهم، فلا نقص إذًا في السبب، إنما النقص يرجع إلى العبد الذي لم يَقبَل، ولم يَنتَفِع بما جاءَتْ به الرسل بسب فساد الفطرة، وطغيان المادَّة؛
قال تعالى: } وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17){ [فصلت]، ﴿ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾؛ أي: بَيَّنَّا لهم ودعوناهم، فاستحبُّوا العَمَى على الهدى؛ أي: بصَّرناهم وبيَّنَّا ووضَّحنا لهم الحقَّ على لسان نبيِّهم صالح، فخالَفُوه، وكذَّبُوه، وعَقَروا ناقة الله تعالى، التي هي بُرهان على صدْق نبيِّهم، فعَدَمُ الاهتِدَاء واقِعٌ بسبب القُصُور الحادِث في المحلِّ القابِل للأثر وهو الإنسان، وليس في قُصُور السبب، فكانت النتيجة أنْ أضلَّهم اللهُ عقوبةً على ترْك الاهتِداء، وعدم الاستِجابة لما جاءَتْ به الرسل.
وهذا شأنُ الله في كلِّ نعمة أنعَمَ بها على عباده إذا كفروا؛ فإنه يَسْلبها منهم بعد أن كانَتْ حظًّا لهم: قال تعالي }ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53){ [الأنفال]،
والقرآن الكريم قد قصَّ علينا ما كان مِن الأُمَم التي أَرسَل اللهُ إليها رسُلًا فلم تستَفِد بهَديِهم؛ فقال تعالي  يصِف حالهم في نار جهنم:} كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9){[الملك].
فالذي حدَث مِن الله هو الهداية، وكان مِن العبد التكذيب والضلال، رغم أنه كان في مَقدُورِه أن يَتَّبِع الرسول، ويُؤمِن بما جاء به، وليس ذلك شيئًا خارجًا عن قُدرته أو فوق طاقته، ففي مثل هذه الحالة فإن الله يُخلِّي بين العبد ونفسِه، والنفس بطبعها أمَّارة بالسوء إلا ما رحمَ ربي، فإذا وُكِل الإنسان إلى نفسه قادَتْه إلى الهلاك، وهو بذلك يكُون قد قُطِع عنه تَوفِيقُه، ولم يُرِد اللهُ أن يُعِينَه على نفسه ليُقبِل العبدُ بقلبه إلى الله، وهو سبحانه إذا فعَل ذلك بأحدٍ مِن خلْقه فليس ظالمًا؛ لأنه لم يَسْلبه حقًّا له، ولم يمنعه مِن الدلالة أو البيان، وهذا في مَقدُور العبد فعْلُه، ولكنَّه حرَمَه التوفيق والسداد عدلًا منه في خلْقه.

المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام والمعونة:

وهذه المرتبة أَخَصُّ مِن التي قبْلها، فهي هداية خاصَّة تأتي بعد هداية البيان؛ تحقيقًا لقوله تعالى: }وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76){ [مريم].
فلا تكون لملَكٍ مُقرَّب، ولا نبيٍّ مُرسَل، إنما هي خاصَّة بالله وحدَه، فلا يَقْدِر عليها إلا هوسبحانه وتعالي، ولا يُعطِيها إلا لِمَن حقَّق شروطها واستَوفَى أسبابها.
قال تعالي }قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16){ [المائدة].
وهذا النوع من الهداية هو الذي نَفَاه الله عن نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم : قال تعالي }إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56){ [القصص]،
وقال تعالي }إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37){ [النحل].
وهذا النوع من الهداية يستَلزِم أمرَيْن:
أحدهما: فعْل الربِّ تعالى، وهو الهدى بخلْق الداعية إلى الفعْل والمشيئة له.
الثاني: فعْل العبد، وهو الاهتِداء، وهو نتيجة للفعل الأول "الهدى"؛ قال تعالى: } قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73){  [آل عمران]،
وقال تعالي } مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17){[الكهف]،
ولا سبيل إلى وجود الأثر الذي هو الاهتِداء مِن العبد إلا بعد وُجود المؤثِّر الذي هو الهداية مِن الله، فإذا لم يحصُل فعْل الله لم يحصُل فعْل العبد، وهذا النَّوْعُ مِن الهداية لا يَقْدِر عليه أحدٌ إلا الله سبحانه، قال أهل الجنة: } الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ (43){ [الأعراف].

المرتبة الرابعة: مرتبة الهداية إلى الجَنَّة والنار يوم القيامة:

وهذه المرتبة، وهي آخِر مَراتِب الهداية، وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجَنَّة، وهو الصراط
المُوصِل إليها، فمَن هُدِي في هذه الدار الدنيا إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسُله وأنزل
به كُتبه، هُدِي يوم القيامة إلى الصراط المستقيم، المُوصِل إلى جَنَّته ودارِ ثوابه، وعلى قدْر ثُبُوت قدَم العبد، وسَيْرِه على هذا الصراط الذي نصَبَه الله لعباده في هذه الدار الدنيا، يكُون ثُبُوت قدَمه وسَيْره على الصراط المنصوب على متْن جهنم؛ قال تعالى: } احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22)مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23){[الصافات].
وقال تعالي}وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6){ [محمد].
فهذه هداية بعد قتلهم؛ ﴿ سَيَهْدِيهِمْ ﴾؛ أي: إلى الجَنَّة، وذلك يفسِّره قوله} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9){ [يونس]
 ﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾؛ أي: أَمْرَهم وحالَهم ويَعصِمهم أيَّام حياتهم في الدنيا، ﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾؛ أي: عرَّفهم بها وهَداهم إليها.

العنصر الخامس : أسباب الهداية:ـ

الهداية هي قصة حياة الإنسان، لذلك لا ينالُها إلا من سعى إليها قال تعالي في الحديث القدسي الجليل:}يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هدَيْتُه؛ فاستهدوني أَهْدِكم{.
يقول ابن الجوزي رحمه الله : تفكرت في سبب هداية من يهتدي وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته ، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص ، كما قيل:إذا أرادك لأمر هيأك له
فإن الله هو الهادي، وقد جعل سبحانه للهداية أسباب توصل إليها منها ....
1ـ التوحيد والإخلاص لله تعالى:ـ
التوحيد والإخلاص لله تعالي أعظم أسباب الهداية ، فمن وحد الله هدى ،ولذا لما ذَكرَ الله الشرك قال تعالي }وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) {النساء
فالموحِّد على خير ، وهو إلى الخير أقرب .
وقال تعالي على لسان خليله إبراهيم}الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) { الأنعام .
فهذا وعدٌ بالهداية لأهل التوحيد .
فإن من عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته أحبه ورجاه وخافه واتقاه وعمل على عبادته وتعظيمه وخشيته وهذه هي الهداية قال سبحانه: قال تعالي} وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (11){ [التغابن].
لذلك ما اختارت عاد وثمود الشرك علي التوحيد كانت النتيجة الضلال قال تعالى }وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17){ [فصلت]. يعني بيّنا لهم ودَلَلْناهم وعرّفناهم ، فآثروا الضلالة والعمى .
وقال تعالي } وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38){ العنكبوت.
فإن الشرك بالله أعظمُ أسباب الضلال ، قال الله على لسان نبيه ومُصطفاه محمد ()} قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56{( الأنعام .
وقال جلّ }قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71){ الأنعام .
وكذلك من أسباب الهداية أن يكون العمل خالص لوجه الله تعالي ويتجنب المسلم الرياء والشرك فإن المسلم يعمل العمل ، ويظن أنه على شيء وهو ليس كذلك، كما قال تعالي : } يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18){ المجادلة .
وإن أقواماً يأتون يومَ القيامة ، فيبدوا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ، كما قال الحق سبحانه }وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47){ الزمر
وإن آخرين يَظُنّون أنهم يُحسنون صُنعا ، وليسوا كذلك ،قال سبحانه وتعالي} قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) { الكهف .
فإذا لم يكـن العمل خالصاً لله عز وجل كان سبباً في ضلال وانتكاس صاحبِه ، وكان وبالاً على صاحبه يوم القيامة .
كما أن الإنابة والتوبة والرجوع إلى الله جل جلاله  من أسباب الهداية ..
قال تبارك وتعالى } قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27){ الرعد. 
وقال تعالي: }اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) {الشوري .
وهذه الثلاث : أعني التوحيد والسلامة من الشرك ، وفعل الطاعات وما أُمِرَ به العبد ، والإنابة إلى الله يجمعها قولُه تعالى:  }وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ )17 ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (18){ الزمر .
فالذين اجتنبوا الشرك ، وأنابوا إلى الله ، واستمعوا القول فاتّبعوا أحسنه ، هم أهل الهداية .
والله تبارك وتعالى يُحبُّ التوابين ، كما في قوله تعالى} إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) { فإذا أحبّهم هداهم .
فمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى أحبّه الله ، ومَن أحبّـه الله هداه بهداه
الإمتثال الكامل لله تعالي ورسوله () :ــ  
قال عز وجل}وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66)وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا {  النساء
قال ابن جريررحمه الله :  يعني بذلك جل ثناؤه ولو أنهم فعلوا ما يوعظـون به لكان خيرا لهم لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا أجراً يعني جـزاء وثوابـا عظيمـا وأشد تثبيتا لعزائمهـم وآرائهـم وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما ، يعني طريقا لا اعوجاج فيه ، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم ،وذلك الإسلام ، ومعنى قـولـه ولهديناهم : ولوفّقناهم للصراط المستقيم . اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما يُنهون عنه لكان خيراً لهم أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي وأشد تثبيتا .
قال السدي : أي وأشد تصديقا ، وإذا لآتيناهم من لدنا أي من عندنا أجرا عظيما يعني الجنة ، ولهديناهم صراطا مستقيما أي في الدنيا والآخرة . اهـ .
وإذا كانت الذنوب سبباً لسوء الخاتمة ، وللطبع على القلب ، كان تركها سبباً للهداية ، وأشد في الثّبات على دين الله فالمحافظة على الصلاة  مثلاً  وإقامتها كما أمر الله ، مما أُمِرَ به المسلم ، ثم هي سبب في الابتعاد عن الفواحش والمنكرات } وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ{.
فالاستجابة والإمتثال لله ورسوله () من أسباب الهداية كما قال تعالي }فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158){[الأعراف: 158].
وقال عز وجل: } وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17){ [محمد].
إذا كانت الاستجابة لله وللرسول سبيل الهداية ، فعدم الإستجابة سبب في الضلال،  كما قال سبحانه} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا )167( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) النساء .
وقال جل ذكره } إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104){النحل.
كما أن إقامة الصلوات في بيوت الله مع جماعة المسلمين وإيتاء الزكاة سبب في الهداية كما قال تعالي} إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18){  [التوبة].
فمن حافظ على الصلوات في المسجد في الجماعة هدى الله قلبه وثبته وأوصله إلى حيث يريد من مرضاته .
فعن ابن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف).رواه مسلم]
فمن حافظ على الصلوات رزقه الله الهداية.
والإكثارمن  ذكر الله تبارك وتعالى من سبل الهداية كما أن الإعراض عن ذكر الله سبب في الضلال ، كما في قوله تعالى } وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37){ الزخرف.
فالهداية لا تكونُ مهيأةً في كلِّ وقتٍ للعبدِ المسلم ، فإن الحقّ سبحانه وتعالى قال  }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24){ الأنفال .
وفي هذا حثٌ على المبادرةِ بالاستجابة لله ولرسوله ، قبل أن يأتي يومٌ يَبْحَثُ فيه المسلمُ عن قلبه فلا يجده ، أي أنه يُحالُ بينه وبين قلبه .
وإليك هذه القِصّةً التي تدل على صحة هذا القول، وأنه قد يُحال بين المرء وبين قلبه .
هذه القصة لرجلٍ كان من ملوك النصارى فأسلم . وهو جبلة بن الأيهم .
أسلم في أيامِ عمر ، وحج معه فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطئ إزاره رجلٌ من بني فزارة ، فانحلّ إزارُه فرفع جبلةُ يده فهشم أنف الفزاري ، فاستعدى عليه عمر ، فاستحضره عمر فاعترف ، ثم طلبه للقصاص فاستنكف واستكبر ، وسأل عمرَ أن يمهله ليلته تلك ، فلما ادْلَهَمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه وسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم وراجع دينه دين السوء ، أي أنه ارتد عن دين الله .
ولما بدا له أن يعود حِيْلَ بينه وبين ما أراد ، فكان مما قال :
تنصَّرتْ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ وما كان فيها لو صبرتُ لها ضـررْ
تكنّفني فيهـا اللجـاجُ ونخـوةٌ وبِعْتُ بها العينَ الصحيحةَ بالعَـوَرْ
فيا ليت أمي لـم تلدني وليتني رجعتُ إلى القول الذي قاله عمـرْ
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعـة أو مضـر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ أجلس قومي ذاهب السمع والبصر.

3ـ الاعتصام بالكتاب والسنة .

قال تعالي} وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101){ [آل عمران].
وقال جل جلاله}فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175){ النساء.
والاعتصام بالله يكون بالتمسك بحبل الله المتين ، التمسك بالقرآن العظيم .
قال سبحانه } إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا { الإسراء .
والتمسك بكتاب الله أمان بإذن الله من الضلال ، لقوله (): (تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله) . رواه مسلم  .
وقال جلّ ذكره في وصف كتابه } يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {.المائدة
والقرآن يهدي للتي هي أقوم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فواضحٌ مما تقدّم
وأما في الآخرة فلقوله (): يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها. رواه أحمد وأصحاب السنن .
وتكرر في الكتاب العزيز وصف القرآن بأنه هُدى للمؤمنين .
وبين النبي صلي الله عليه وسلم أن التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده سبب في الهداية من الضلال وعاصنم من الوقوع في الفتن ، فعن أبي نجيحٍ العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسول الله () موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، فأوصنا، قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ)؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ولما ذكر الله تبارك وتعالى جملة من أنبيائه ورسله قال لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم }أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ{ الأنعام.

4ـ الصحبة الصالحة:

أن تصحب رجلاً يذكرك بالله إذا نسيت ويعينك على ذكر الله إذا ذكرته، وقد ذكر الله تعالى ما يبلغ أثرُ الصاحب في صاحبه فقال تعالي: }وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29){ [الفرقان].
لذلك يؤكد النبي () على خطورة وأهمية الصحبة فعن أبي هريرة رضي الله عنه:أن النبي () قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»أخرجه الترمذي وأبوداود
وعن أَبِى مُوسَى الأشعري رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ () " مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ، وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً ". [رواه البخاري]
ولهذا أوصى النبي () فقال: "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقيّ"
فالصحبة الصالحة من أعظم أسباب الهداية.

5ـ المجاهدة :ـ

ومن أعظم أسباب الهداية كذلك، المجاهدة..
مجاهدة النفس لتتعلم عن الله ورسوله، ومجاهدتها لتعمل بهذا العلم، ومجاهدتها على الدعوة إليه بالحق، ومجاهدتها على الصبر والأذى في سبيل الدعوة إليه، لأن من تعلم وعمل وعلّم لابد أن يتعرض للأذى قال تعالى:} الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(6){ [العنكبوت].
فمن جاهد نفسه وشيطانه ورفقة السوء وصّله الله تعالى وأخذ بيده إلى الهداية قال سبحانه وتعالي: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69){ [العنكبوت].

العنصر السادس : موانع الهداية

الغفلة عن الدار الآخرة:ـ
إن الغفلة عن الآخرة يحول بين العبد وبين الهداية ، حيث ينخدع الإنسان بالدنيا وزينتها الفانية فينشغل بها عن الآخرة ، ولقد وصف الله الغافلين عن الآخرة بأنهم }يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7){ [الروم].
غفلوا عن الآخرة فنسوا ربهم، وجهلوا حقيقة مهمتهم، شرعوا لأنفسهم واستبدوا في أحكامهم وعتوا عتواً كبيراً، لقد استغلوا  ذكاءهم وسخروا علومهم ووظفوا مخترعاتهم في الإفساد في الأرض .
قال ابن كثير: في قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) “أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشئونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة.
قال الحسن البصري: واللَّه ليبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي.
2ــ قسوة القلب …
فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تُنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبُذر فيها كل بذر، فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئا وكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابـة فيه ولا قوة ولا عزيمـة  لم يؤثر فيه العلم .
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ():} مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به { (البخاري ومسلم )
3ـــ الحسد والكبر :ــ
الحسد والكبرمنع إبليس من الانقياد للأمر ،وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله ، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله () وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم .
ومن ذلك ما ذكره الله عن المشركين } وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) {الإسراء.
فكان الجواب (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)) الإسراء.
وحقيقة المسألة تعنّت واستكبار ، وإلا لو جاءهم ملك لقالوا : هذا تختلف طبيعته عن طبيعتنا ، فهو من عالَم آخر،ويُطيق ما لا نُطيق !
وقد قال الله تبارك وتعالى } وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9){. الأنعام فسيقولون حينها هذا ليس بِمَلَك !
مانع الرياسة والملك:ــ 
لقد أخبر الله تعالي عن فرعون أنه ما مَنَعَه من الإسلام والانقياد له إلا تعلقه بالملك والرياسة ، وإلا فقد أيقن بصدق رسالة سيدنا موسى عليه السلام ، قال الله عز وجل} فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14){ النمل.
ومثله الملأ الذين حكى الله أخبارهم ، فكانوا يخشون إن آمنوا أن تذهب هيمنتهم ، ويذهب جاههم ، ويتساووا بالعبيد ، قال الله جل جلاله} وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )4( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ )5( وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ )6( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ )7( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8){ ص.
5ــ الشهوة والمال:ــ
وهو الذي منع كثيراً من آهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته ، فيدخلون عليه منها ، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا : إن محمدا يُحَرِّم الزنا ويحرم الخمر .
وهذا الذي مَنَع أبا جهل من الإسلام ، فإنه لما أتاه الأخنس فدخل عليه في بيته قال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ، قال : تنازعنا ونحن بنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكُنّا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ، ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس ، وتركه .
6ــ  محبة الأهل والأقارب والعشيرة
يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم ، وهذا سبب بقاء خلقٍ كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم .
ومن ذلك أن بعض أهل الباطل ممن انتحلوا مذاهب هدّامة لما تبيّن لهم الحق ما منعهم أن يتّبعوه ويهتدوا إلا أنهم يخشون أن تذهب مكانتُهم أو تتلاشى .
قال تعالى: } قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24){ [التوبة].
صحبة السوء والخوف من مذمة الناس:ــ
وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال .
عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ونزلت إنك لا تهدي من أحببت) أخرجه الصحيحين.
فالقرين والصاحب السيئ سواء كان من شياطين الإنس أو الجن يعوق صاحبه عن كل ما هو خير وصالح، ويصدونهم عن الهدى والنور. قال تعالي : } وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (36){ الزخرف .
أي الشياطين يصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحقّ، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون إليهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته.
فصُحبة السوء تمنع من الهداية والاستقامة والالتزام والتمسّك بشرع الله .
فيُسمعون صاحبهم الذي ربما أراد الاستقامة على دين الله عبارات النبز والاستهزاء والسخرية حرصاً منهم على بقاءه ضالاً كحالهم .
8ــ مانع الإلف والعادة والمنشأ :ــ
فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه إلا عليها ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال وهذا السبب وإن كان اضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل ليس مع أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربي تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية . اهـ .
وقد أخبر الله عن المشركين أنهم ما منعهم من الهداية وإتباع الرسول إلا أنهم وجدوا آبائهم على هذا الدين وهم ألِفوه ونشأوا عليه }وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25){ الزخرف .
وهذا المانع لم يكن ليمنع الصحابة رضي الله عنهم مِن مُتابعة النبي ()، وتصديق خَبَرِه ، وامتثال أمره ، ولو كان مُخالِفاً لطبائع نفوسهم ، كما في خَبَرِ تحريم الخمر .
قال أنس رضي الله عنه:إني لقائم أسقيها أي الخمر أبا طلحةَ وأبا أيوبَ ورجالاً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ، إذ جاء رجلٌ فقال :هل بلغكم الخبر قلنا :لا. قال : فإن الخمر قد حُرِّمَتْ .
فقال : يا أنس ! أرِقْ هذه القِلال ، قال : فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبرِ الرجل) . متفق عليه .
9ـ اتِّباع الهوى:ــ
 قال سبحانه وتعالى لنبيِّه داود عليه الصلاة والسلام (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 
وحذّر الله عباده المؤمنين أن يكونوا كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، وبيّن تبارك وتعالى أن سبب زيغه وضلاله هو اتّباع الهوى ، فقال جل جلاله} وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176){ الأعراف.
وقد حذّر الله تبارك وتعالى من الزيغ الذي هو نتيجةٌ لإتباع الهوى ، فقال سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  .
إن اتباع الهوي يصد عن الحق قال تعالي }فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50(  {القصص   
بل ربما يصير معبود  من دون الله تعالي قال تعالى }أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)23( { سورة الجاثية .
فيؤدي بالإنسان إلي الهلاك والعياذ بالله تعالي ، كما جاء في الحديث ،عن عبد الله بن عمررضي الله عنهماقال: قال رسول الله () (ثلاث مهلكات :شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه...)

العنصر السابع : ثمرات الهداية:ـ

1ـ التخلّص من القلق والاضطراب والحِيرة؛ فالمرء المرتبط بالله تعالى يكون على يقين بأن أمره متعلّق بمشيئة الله تعالى.
2ـ علوّ المكانة ببن النّاس؛ فالله تعالى يرفع أهل الدّين والإيمان والتقوى، ويجعل لهم القبول بين النّاس بعلمهم وتقواهم وصلاحهم.
3ـ ضبط السّلوك والحماية من الأخطاء؛ فالمسلم المتّصل بالله تعالى يحفظ حركاته ويضبط انفعالاته وغضبه، فيبتعد عن عدّة مشاكل، فغالب زلّات النّاس تكون بسبب الغضب والانفعال الخاطئ.
4ـ البَسْط والسّعة في الرّزق؛ حيث قال الله تعالى: }وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3){ الطلاق.

8ـ الخاتمة :ـ

إذا علمنا أن سبيل الحق وطريقه واحد لا يوصل إلى الله غيره، وأن سبل الغواية كثيرة متعددة وطويلة متشعبة ومن سلكها هلك في أوديتها فلا أمل له في الوصول ولا بلوغ المأمول كما في حديث ابن مسعود عند ابن ماجة وغيره قال: [خط لنا رسول الله () خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل قال يزيد: متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}الأنعام .
فإذا علمنا هذا علمنا مدى الحاجة إلى سؤال الله الهداية إلى هذا السبيل دون غيره من سبل الغواية والضلال.
فمن أراد نجاة الآخرة فليسأل ربه الثبات على صراط الدنيا، ولا يفتر لسانه عن سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم .
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.

 =====================
تحميل pdf
=========
تحميل word



ليست هناك تعليقات: