الحمد لله رب العالمين الذي بعث نبيه محمداً (ﷺ) في خير القرون، واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولاً وأقومهم ديناً وأغزرهم علماً وأشجعهم قلوباً، قوماً جاهدوا في الله حق جهاده فأقام الله بهم الدين وأظهرهم على المشركين والكافرين فقال تعالي }وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100){ ]التوبة[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت .. رضي عن أوليائه ورضوا عنه وأعد لهم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر فقال تعالي }وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72){ ]التوبة[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) ربي خير أمة أخرجت للناس فقادوا الدنيا فسعدت بوجودهم فكانوا خير الناس بعده (ﷺ) فقال }خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم{ ]أخرجه الإمام أحمد[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبة وسلم تسليما كثيرا ....
أما بعـد: فيا أيها المؤمنون .....
قد تمر بالمسلمين شدائد وضائقات ، تنقطع بهم السبل، فيتحير الناس ويضطربون، ويميدون ويحيدون عن شرع الله، فترى الناس متفرقين شذر مذر، لا يرى أحدهم الحق ولا يتبعه، حيَّرتهم فتن الحياة الدنيا، فاضطربوا اضطراباً شديداً، وتبعثروا وتفرقوا، فمَن الذي يثبِّت في هذه الحالة؟ ومَن الذي يقوم بواجب التثبيت؟
لذا فنحن في أمس الحاجة لمعرفة الرجال الذين دافعوا عن الإسلام وبذلوا الغالي والنفيس من أجل دين الله عز وجل ،ووقفوا بجانب رسول الله (ﷺ) وهو يبلغ رسالة الإسلام السامية قال تعالي }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ...( 111 ){[يوسف].
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا
لأن أمر آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، ولا يشك عاقل يؤمن بالله ورسوله أن أصحاب النبي (ﷺ) هم خير الخلق بعد رسول الله (ﷺ) ، وأنه (ﷺ) سيد ولد آدم، وصحابته أفضل قرن من أمة وجدت على وجه الأرض، وإن معرفة أحوالهم وأخلاقهم وسيرهم لتضيء الطريق أمام المؤمن الذي يريد أن يعيش أسوة محمد (ﷺ) ، ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة أخبارهم وسيرهم، ونشرها بين المسلمين عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
إن أخبار هؤلاء الأخيار دواء للقلوب، وجلاء للألباب من الدنس والعيوب، وقدوة في زمن كادت القدوات أن تغيب، فمنهم مثال يحتذى، ونبراس يقتدى، ليعرف المتأخر للمتقدم فضله، ويسعى على دربه ونهجه.
فإلى صور من أولئك الأخيار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وهم الصحابي الجليل عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية رضي الله عنهما
أولا : عمير بن وهب الجمحي: شيطان الجاهلية وحواري الإسلام
شيطان قريش الذي أحبه عمر أكثر من بعض أبنائه
هو عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي.
واحد من المبارِزين المعدودين المشهورين بحدَّة البصر؛ لذا كان من جملة المقاتلين في غزوة بدر ضد الإسلام والمسلمين، بل كان عينًا لقريش يخبرهم بما للمسلمين من عدة، فقد صال بفرسه حول جيش المسلمين، ثم عاد قائلاً: "إنهم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون"، وكان الأمر كما أخبر.
وسألوه: هل وراءهم أمداد لهم؟، فأجابهم قائلاً: "لم أجد وراءهم شيئًا، ولكن يا معشر قريش، رأيت المطايا تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير لعيش بعد ذلك، فانظروا رأيكم".
وكان كلامه مؤثرًا في كثير من زعماء قريش، وكادوا يرجعون إلى مكة بلا قتال، إلا أن عدو الله أبا جهل حفزهم وحرَّضهم على القتال، حتى ساروا إليها، ورجعوا أذلاء خاسرين.
وكان من نتائج الغزوة أن ترك عمير ابنه أسيرًا في أيدي المسلمين، وذات يوم جلس عمير إلى صفوان بن أمية، وقد فقد الثاني أباه "أمية بن خلف"، يجترَّان أحقادهما.
قال صفوان وهو يذكر قتلى بدر: "والله ما في العيش بعدهما خير".
وقال له عمير: صدقت، ووالله لولا دَين عليَّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي عنده علة أعتل بها عليه، أقول: قدمت من أجل ابني هذا الأسير.
فاغتنمها صفوان، وقال: عليَّ دَينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا.
فقال له عمير: إذًا فاكتم شأني وشأنك.
ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ له وسُمّ، ثم رحل إلى المدينة حتى قدمها.
وكان عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون نصر الله لهم، ثم نظر عمر فرأى "عمير بن وهب"، وقد أناخ راحلته على باب المسجد، متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عمير بن وهب - عدو الله - والله ما جاء إلا لشر؛ فهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله (ﷺ) فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله "عمير بن وهب"، قد جاء متوشحًا سيفه، فقال رسول الله (ﷺ):}أدخله عليَّ{، فأقبل عمر، حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلببه بها، وقال لرجال مما كانوا معه من الأنصار: "ادخلوا على رسول الله (ﷺ) فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون.
ودخل به عمر على النبي (ﷺ) وهو آخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلما رآه الرسول قال:}دعه يا عمر، ادنُ يا عمير{، فدنا عمير، وقال: أنعموا صباحًا وهى تحية الجاهلية - فقال له النبي (ﷺ) }قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة{،
فقال عمير: أما والله يا محمد، إن كنت بها لحديث عهد.
قال الرسول (ﷺ)} فما جاء بك يا عمير؟{، قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.
قال الرسول (ﷺ) }فما بال السيف الذي في عنقك؟{ قال عمير: "قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟!".
قال الرسول (ﷺ) }اصدقني يا عمير، ما الذي جئت له؟{، قال: ما جئت إلا لذلك، قال الرسول (ﷺ) }بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القَلِيب من قريش، ثم قلت: لولا دَين عليَّ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بدَينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك{
وعندئذٍ صاح عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله؛ هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله ما أنبأك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.
فقال الرسول (ﷺ) لأصحابه: }فقهوا أخاكم في الدين، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره{
إنها هداية يمنحها الوهَّاب الكريم لمن أحب من عباده المؤمنين: } إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56){[القصص].
وهكذا شاء الباري أن ينتقل "عمير بن وهب" من شيطان قريش كما لقبوه إلى واحد من أنصار الإسلام والمسلمين.
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الشأن: "والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحبَّ إليَّ من عمير حين طلع علينا، ولهو اليوم أحبُّ إليَّ من بعض ولدي".
ولم يكتف عمير بإسلامه، بل أراد أن يقدم للإسلام مثلما كان يقدم للكفر، فقال: "يا رسول الله، إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى وإلى رسوله، وإلى الإسلام؛ لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم، كما كنت أوذي أصحابك في دينهم"، ثم يقول: "والله لا أدع مكانًا جلست فيه بالكفر، إلا جلست فيه بالإيمان"، متمثلاً في ذلك ما قاله الفاروق عمر - يوم أسلم.
ولم يكتف عمير بإسلامه ونصرته للإسلام والمسلمين، بل صار واحدًا من الدعاة الصادقين إلى دين الإله الواحد القهار.
ثانيا: إسلام صفوان بن أمية
لم يكن صفوان بن أمية بن خلف يختلف كثيرًا عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه؛ فقد كان أبوه من أشد المعاندين للرسول (ﷺ) ، ومن الذين قُتِلُوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية من أبيه للإسلام والمسلمين، وحارب الرسول (ﷺ) بكل طاقته، وكان ممن التفَّ حول ظهر المسلمين في غزوة أحد هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه، واشترك اشتراكًا كبيرًا في قتل سبعين من شهداء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، واشترك أيضًا في غزوة الأحزاب، وكان من الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة.
بل إن صفوان بن أمية كان قد دبَّر محاولة لقتل الرسول (ﷺ) ، وكانت هذه المحاولة بينه وبين ابن عمه عمير بن وهب، وكان وقتها لا يزال كافرًا.. وفيها تعهَّد صفوانُ بن أمية لعمير بن وهب أن يتحمل عنه نفقات عياله، وأن يسدِّد عنه دَيْنه، في نظير أن يقتل عميرٌ رسول الله (ﷺ)..!!
غير أن المحاولة فشلت، وذلك عندما أسلم عمير بن وهب رضي الله عنه في المدينة المنورة بعد أن أخبره الرسول (ﷺ) بما دار بينه وبين صفوان في حجر الكعبة!!
بر الرسول (ﷺ) مع صفوان بن أمية :
ومرَّت الأيام، وجاء فتح مكة، وفرَّ صفوان بن أمية، ولم يجد له مكانًا في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يُسْتَقْبَلَ في أي مكان في الجزيرة العربية؛ فقد أصبح الإسلام في كل مكان، فقرَّر أن يُلقِي بنفسه في البحر ليموت، فخرج صفوان في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، وهو في أشد حالات الهزيمة النفسية، ورأى صفوان من بعيد أحد الرجال يتتبعه، فخاف، وقال لغلامه: ويحك! انظر من ترى؟
قال الغلام: هذا عمير بن وهب.
فقال صفوان: وماذا أصنع بعمير..؟! والله ما جاء إلا يريد قتلي، فهو قد دخل في الإسلام، وقد ظاهر محمدا عليَّ.
ولحق عمير بن وهب رضي الله عنه بصفوان بن أمية، فقال له صفوان: يا عمير، ما كفاك ما صنعتَ بي! حمَّلتني دَيْنَك وعيالَكَ، ثم جئتَ تريد قتلي.
فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِدَاكَ..! قد جِئتُكَ من عِنْدِ أَبَرِّ الناس، وأوصل الناس.
لقد رأى عمير بن وهب ابن عمه وصديقه القديم صفوان يهرب من مكة فَرَقَّ له، وأشفق عليه، فأسرع إلى رسول الله (ﷺ) ، وقال له: يا رسول الله، سيِّد قومي خرج
هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألاَّ تُؤَمِّنَهُ، فداك أبي وأمي.
فقال الرسول (ﷺ): «قَدْ أَمَّنْتُهُ»!! هكذا!!
وتمامًا مثلما فعل (ﷺ) مع قرينه «عكرمة رضي الله عنه».
إنها ليست أبدًا مواقف عابرة، إنه باختصار منهج حياة..!
قال عمير بن وهب رضي الله عنه لصفوان: إن رسول الله قد أمَّنَكَ.
فخاف صفوان، وقال: لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامةٍ أعرفها.
فرجع عمير بن وهب إلى الرسول (ﷺ) ، وقد بذل مجهودًا كبيرًا في السعي من البحر الأحمر إلى مكة، وهي مسافة تقرب من ثمانين كيلو مترًا ذهابًا فقط!
قال عمير رضي الله عنه لرسول الله (ﷺ): يا رسول الله، جئتُ صفوانَ هاربًا يريد أن يَقْتُلَ نفسه، فأخبرته بما أَمَّنْتَهُ، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها.
فقال الرسول (ﷺ) في منتهى التسامح: «خُذْ عِمَامَتِي إِلَيْهِ»!!
فأخذ عمير العمامة، وذهب إلى صفوان بن أمية، حتى وصل إليه، وأظهر له العمامة وقال له: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعِزُّه عزك، ومُلْكُهُ مُلْكُكَ، ابنُ أمِّك وأبيك، أُذكِّرك اللهَ في نفسك.
فقال له صفوان في منتهى الضعف: أخافُ أن أُقتل!
قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سَيَّرك شهرين!!
ولننظر إلى هذا العرض السخي من رسول الله (ﷺ)، فلو أسلم صفوان لانتهت القضية، وأصبح له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن أراد أن يأخذ شهرين كاملين يفكر فيهما، فهو في أمان!
فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله (ﷺ)، ودخل الحرم، والرسول (ﷺ) يصلي بالناس صلاة العصر فوقفا معًا، حتى ينتهي الرسول (ﷺ) من الصلاة، فقال صفوان لعمير بن وهب: كم تُصلون في اليوم والليلة؟
قال: خمس صلوات.
قال: يصلي بهم محمد؟
قال: نعم.
فلما سلم الرسول (ﷺ) وانتهى من صلاته، صاح صفوان يخاطب النبي (ﷺ) من بعيد: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني بعمامتك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا وإلا سَيَّرْتَنِي شهرين.
فقال (ﷺ) في رفق وسهولة: «انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ». (وانظر إليه يُكَنِّيهِ ويَتَلَطَّفُ إليه!).
فقال صفوان في خوف: لا والله حتى تُبيِّن لي!!
فقال الرسول (ﷺ): «بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»!
وبالفعل أطلق الرسول (ﷺ) صفوان بن أمية أربعة أشهر كاملة ليفكر..!!
ثم كان خروج رسول الله (ﷺ) إلى حنين، واحتاج إلى الدروع والسلاح كما مر بنا، وكان صفوان بن أمية من تجار السلاح المعروفين في مكة، ومع ذلك لم يأخذ رسول الله (ﷺ) السلاح منه عنوةً، إنما استقرضه بالثمن! ولم يستغل ضعفه، وقِلَّةَ أعوانه، وإسلام مكة كلها تقريبًا إلا هو.
وخرج صفوان مع المسلمين إلى حنين ليرعى أسلحته، وانكسر المسلمون في أول الأمر، ثم أُتبع الانكسار بانتصار مهيب، وجمع المسلمون غنائم لم يسمع بها العرب قبل ذلك، وقام رسول الله (ﷺ) بما لم يقم به قائد في تاريخ البشرية؛ إذ وقف يقسِّم الغنائم بكاملها على كثرتها على الجنود دون أن يحتفظ لنفسه بشيء!
وكان (ﷺ) يُعطي المؤلفة قلوبهم من المسلمين مائةً مائةً من الإبل والشياه، وحقَّق المؤلفة قلوبهم من الثروة ما أذهل عقولهم، حتى تنازل السادة عن كبريائهم وعِزَّتهم، وذهبوا يطلبون العطاء المرة تلو المرة! والرسول (ﷺ) لا يردُّ سائلاً، ولا يمنع طالبًا.
ومن بعيد يقف صفوان بن أمية متحسِّرًا وهو يشاهد توزيع الغنائم، فهو ما زال من المشركين، وليس له إلا إيجار السلاح ، ولكنْ حَدَثَ في لحظةٍ ما أذهل صفوان، وأذهل المشاهدين للموقف والسامعين عنه، وسيظلُّ مذهلاً للناس إلى يوم القيامة!!
لقد نادى رسولُ الله (ﷺ) صفوانَ بن أمية، وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى الزعماء المسلمين من أهل مكة!!
أيتوقع إنسان أيًّا كان كرمه أو سخاؤه أن يحدث منه مثل هذا..؟!!
ولم تكن ذلك نهاية الموقف!
لقد وجد رسول الله (ﷺ) أن صفوان ما زال واقفًا، ينظر إلى شِعْبٍ من شِعاب حُنين، قد مُلِئ إبلاً وشياه، وقد بَدَتْ عليه علامات الانبهار والتعجُّب من كثرة الأنعام، فقال له (ﷺ) في رِقَّة: «أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْبُ؟».
قال صفوان في صراحة شديدة: نَعَمْ.
إنه لا يستطيع أن يترفع وينكر.. إن المنظر باهر حقًّا!!
قال الرسول (ﷺ) في بساطة وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: «هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ»!!
أذهلت المفاجأة صفوان، ووضحت أمام عينيه الحقيقة التي ظلت غائبة عنه سنين طويلة، ولم يجد صفوان بن أمية نفسه إلا قائلاً: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا
نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله!!
وأسلم صفوان رضي الله عنه في مكانه!!
يقول صفوان بن أمية رضي الله عنه: والله لقد أعطاني رسول الله (ﷺ) ،وأعطاني،
وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ!!
أيُّ خير أصاب صفوان رضي الله عنه..!!
أيُّ خير تحقق لقبيلة بني جُمَح عندما أسلم زعيمها..!!
وأيُّ خير تحقق لمكة..!!
وأيُّ خير تحقق للمسلمين، وقد أضيفت إليهم قوة الزعيم المكي المشهور صفوان بن أمية رضي الله عنه، والذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله؟!
إن كل هذا الخير قد تحقق بوادٍ من الإبل والشياه!
وما هي قيمة هذه الإبل والشياه؟!
إنها إمَّا أن تؤكل أو تموت..
إن الدنيا بكاملها وليست الإبل والشياه فقط- تفنى وتزول، ولكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، وكم من البشر سيخلد في نعيم الجنة؛ لأنه أُعطى ذات يوم مجموعة من الإبل والشياه!
أليس هذا فهمًا راقيًا من رسول الله (ﷺ) لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟!
أليس هذا تقديرًا صائبًا من الرسول الحكيم (ﷺ) في هذه المقارنة السريعة التي عقدها؟!
الأغنام في مقابل الإسلام..!!
الدنيا في مقابل الآخرة..!!
لقد وجد الرسول (ﷺ) أن الأغنام مهما كثرت ثمن زهيد جدًّا للإسلام، فهانت عليه، بل هانت عليه الدنيا بكاملها، فأعطاها دون تردُّد، فالدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يَمٍّ واسع، والدنيا عنده أهون من جَدْيٍ أَسَكَّ(مَيِّتٍ)، ولم يكن هذا كلامًا نظريًّا فلسفيًّا، وإنما كان حقيقة رآها كل المعاصرين له (ﷺ) بعيونهم، كان واقعًا في حياته (ﷺ) ، وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، وحياة من عاملهم من المسلمين وغير المسلمين.
ولم يتبقَّ في يده شيء لنفسه (ﷺ)!!
لم يتبق ما يُعَوِّضُ به فقر السنين، وانقضاء العمر، وقد بلغ الستين بل تجاوزها!
لم يحتفظ بشيء، ورأى الناس منه ما جعل عقولهم تطيش، وأفئدتهم تضطرب، فانطلق الأعرابُ يزدحمون عليه (ﷺ) يطلبون المال والأنعام لأنفسهم قبل أن تنفد، حتى اضطروه (ﷺ) وهو الزعيم المنتصر والقائد الأعلى أن يلجأ إلى شجرة، وانتزع الأعراب رداءه، فقال في أدبٍ ورفقٍ، ولينٍ يليق به كنبيٍّ، ويجدر به كمُعَلِّمٍ: «أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلاَ جَبَانًا، وَلاَ كَذَّابًا».
وصدق (ﷺ).. فما كان بخيلاً، ولا جبانًا، ولا كذابًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق