14 أبريل 2024

أخلاق التاجر المسلم

 


الحمد لله رب العالمين ..خلق السماوات والأرض بالحق والعدل ووضع الميزان في الأرض ليقوم الناس بالقسط ، وأمر بعدم الطغيان في الميزان فقال تعالي }الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان (9)َ{ ]الرحمن[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... وضع الكسب الطيب في التجارة الحلال   فقال تعالي }وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ(275){ ]البقرة[ .
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله (ﷺ) حث علي الكسب الطيب .. فعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) سُئلَ: أي الكسب أطيب؟ فقال:} عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ{ ] رواه الإمام أحمد في مسنده والبزار والحاكم وصححه [
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ...
أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون ..
فإن التجارة من الكسب الطيب الذي حث عليه الإسلام وأمر به قال تعالي:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29){ ]النساء[
فالتجارة من الكسب الحلال الذي أوصى الله به في القرآن الكريم ، وجعل الصدق والأمانة سببا لرفع منزلة التجار عند الله تعالى ، لذلك كانت التجارة من الأمانات التي أُمرنا بحفظها ، لذلك كان حديثنا عن } أخلاق التاجر المسلم{. وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ أهمية التجارة في الإسلام :
2ـ منزلة التاجر الصدوق الأمين.
3ـ الضوابط الشّرعية والأخلاقية للتاجر المسلم.
4ـ أثر الالتزام بالضوابط الشرعية للتجارة .
العنصر الأول : أهمية التجارة في الإسلام:
تظهر أهمية التجارة في الإسلام فيما يلي ...
1ـ القرآن الكريم سمى التجارة فضل الله:
قال تعالى }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) 198) { ]البقرة[.
2ـ مقرونة بالجهاد في سبيل الله تعالى :
لقد قرن الله تعالى ذكر الضاربين في الأرض للتجارة بالمجاهدين في سبيل الله؛ قال تعالى }وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (20){ ]المزمل[.
لذلك قال سيدنا عمر رضي الله عنه بعدما قرأ هذه الآية :}ما من مكان أحب إلى أن يأتيني فيه أجلي بعد الجهاد في سبيل الله إلا أن أكون في تجارة أبيع وأشتري{
3ـ مقرونة بالصلاة والذكر :
قال تعالى } فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (10){  ]الجمعة[.
4ـ كثرة ذكرها في القرآن الكريم :
تظهر أهمية التجارة من خلال ذكرها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله (ﷺ).
فقد ذكرت كلمة التجارة وبمختلف اشتقاقاتها في أكثر من آية في القرآن الكريم، مرة يراد بها التجارة المعنوية (البيع والشراء المعنوي الطاعة والثواب)، والغالب يراد بها التجارة المادية (البيع والشراء المادي)
التجارة المعنوية في الآيات التالية ..
1ـ قال تعالي }أُولَئِكَ الذِينَ اشْتَرَوُا الضلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16){ ]البقرة[.
2ـ قال تعالي }إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { ]التوبة[
قال تعالي }إِن الذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصلاةَ وَأَنْفَقُوا مِما رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29){ ]فاطر[
4ـ قال تعالي }يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11){ ]الصف[
التجارة المادية (البيع والشراء ) في الآيات التالية ...
1ـ قال تعالي }وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَار كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتقُوا اللهَ وَيُعَلمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ(282){ ]البقرة[
2ـ قال تعالي }يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِن اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(29){ ]النساء[.
3ـ قال تعالي }قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَب إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبصُوا حَتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24){
]التوبة[.
4ـ قال تعالي }رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاءِ الزكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37){ ]النور[.   
5ـ قال تعالي }وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرازِقِينَ (11){ ]الجمعة[
5ـ من امتنان الله على عباده :
لقد امتنَّ الله تعالي على قريش أن كانت لهم تجارة في الشتاء والصيف:  يرتحلون من أجلها إلى الشام واليمن، فقال الله تعالى: }لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ (1) إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ (2) فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ (3) ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ (4)}[قريش]
وقال سبحانه{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(57)}[القصص].
ولعظم أهميتها كانت عمل سيد الخلق (ﷺ) ، فكان يتاجر في مال السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكان (ﷺ) وهو في مكة يرتاد الأسواق ويتاجر كسباً للرزق وطلباً للمعاش بل كان له شريك في التجارة يقال له السائب وقد عاب المشركون عليه (ﷺ) تردده على الأسواق حيث ذكر الله جل جلاله ذلك عنهم {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ(7)} ]الفرقان[
وكانت أيضا حال الأنبياء من قبل النبي (ﷺ) قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(20)} ]الفرقان[
قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون ... وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون.. من أمثال سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عثمان بن عفان وسيدنا عبدالرحمن بن عوف وسيدنا طلحة بن عبيد الله وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
وعن مجاهد عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله (ﷺ) قبل الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح جاءه فقال النبي (ﷺ) :}مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري، يا سائب قد كنت تعمل أعمالاً في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة{ ]رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد[.
وقال سعيد بن المسيب: }كان أصحاب رسول الله (ﷺ)يتجرون في بحر الروم، منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل{
وكانوا يكرهون من الرجل أن يكون عاطلا ، بل نسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: 'إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته'.
العنصر الثاني : منزلة التاجر الصدوق الأمين :
إن التاجر الأمين الصدوق له مكانة عند الله تعالى..
1ـ يستحق معية الله تعالى :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): قال الله تعالى: }أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما{ ]رواه أبو داود وصححه الحاكم[.
2ـ البركة في الرزق :
عن حكيم بن حزام  رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما{.]أخرجه البخاري ،ومسلم [
وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (ﷺ):}أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا { .
3ـ في أعلى منازل الجنة :
روى الترمذي والدارمي وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة
{. واللفظ للحاكم
4ـ هو في جهاد :
سئل بعض الصالحين عن التاجر الصدوق، أهو أحب إليه أو المتفرغ للعبادة؟ قال التاجر الصدوق أحب إلي، لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده.
العنصر الثالث : الضوابط الشّرعية والأخلاقية للتاجر المسلم :
إن الأمة الإسلامية في ربوع الأرض أصبحت تعاني كثيرا من الممارسات الخاطئة في العملية التجارية، وأصبح التجار دعاة هدم بعد أن كانوا دعاة بناء، ودعاة تنفير بعد أن كانوا دعاة تبشير ، فقديما انتشر الإسلام في بلاد أفريقيا وأسيا وكثير من بلاد العالم عن طريق التجار المسلمين ، وإن الأمة الإسلامية بحاجة إلى العودة إلى سيرتها الأولى في التمسك بأخلاقيات الإسلام في شتى مناحي الحياة، وخاصة في مجال التجارة، كما أنها في أمس الحاجة إلى بناء اقتصاد إسلامي قوي قادر على المنافسة والاستمرار، ولا يتأتى ذلك إلا بالتمسك بأخلاقيات الإسلام الحنيف ، والالتزام بالضوابط الشرعية والأخلاقية للعملية التجارية من هذه الضوابط ما يلي..
1ـ إخلاص النية:
الإخلاص من أهم ضوابط وقواعد العملية التجارية؛ حيث ينبغي للتاجر أن تكون نيته صالحة فينوي بتجارته الاستعفاف عما في أيدي الناس، وتقوية شوكة المسلمين، والمشاركة في بناء اقتصاد إسلامي قوي يعود بالنفع على جميع أفراد الأمة.
ولا شك أن الاستغناء عن الناس والسعي على النفس من أسباب عزة المسلمين أفرادا وجماعات؛ روى الحاكم عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ مَرَّةً: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ مَرَّةً: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ)، فَقَالَ: }يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ” ثُمَّ قَالَ:” يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ{ [أخرجه الحاكم في المستدرك]
قال الحسن البصري:" وقال الحسن: لا تزال كريما على الناس، أو لا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك، استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك " [جامع العلوم والحكم].
وقد كانت عزة النفس وحب الاستغناء عن الناس السبب الرئيس الذي دفع بالصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف إلى سوق المدينة حتى صار من أكبر التجار.
كذلك من النية الصالحة؛ أن ينوي بتجارته تقوية شوكة الأمة ومساعدتها على مقاومة التحديات التي تواجهها.
ويعتبر الصحابيان الجليلان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف خير مثال على إخلاص النية في التجارة؛ فقد كانت لهم مبادرات مالية أخذت بيد الأمة في أصعب فترات حياتها.
فعثمان بن عفان كان صاحب تجارة واسعة، أدرت عليه أموال طائلة سخرها في خدمة دينه ومعالجة المشكلات الملحة التي تؤرق أمته، فكانت المبادرات الخالدة التي مدحها الله ورسوله؛ ومن أهمها:
1- شراء بئر رومة:
فقد اشتراها سيدنا عثمان رضي الله عنه، مساهمة في علاج مشكلة واجهت المسلمين في المدينة؛ فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال (ﷺ):}مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ المُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ{ [أخرجه الترمذي في سننه].
وكانت لرجل من بني غفار، فقال له النبي (ﷺ): عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِشْرِ بْنِ بَشِيرٍ
الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ اسْتَنْكَرُوا الْمَاءَ، وَكَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا رُومَةٌ، وَكَانَ يَبِيعُ مِنْهَا الْقِرْبَةَ بِمُدٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (ﷺ):}بِعْنِيها بِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ{، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ لِي، وَلَا لِعِيَالي غَيْرُهَا، لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ رَضِي اللهُ عَنْهُ فَاشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ (ﷺ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَجْعَلُ لِي مِثْلَ الَّذِي جَعَلْتَهُ له عَيْنًا فِي الْجَنَّةِ إِنِ اشْتَرَيْتُهَا؟ قَالَ: “نَعَمْ” ، قَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُهَا، وَجَعَلْتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ{ [أخرجه الطبراني في الكبير ].
2- شراء الأرض لتوسعة المسجد النبوي الشريف.
3- تجهيز جيش العسرة.
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: جاء عثمان إلى النبي (ﷺ) بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره قال عبد الرحمن فرأيت النبي (ﷺ) يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين{ ]قال الترمذي حديث حسن غريب[.
وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي (ﷺ) وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله (ﷺ) ينزل عن المنبر وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه ما على عثمان ما عمل بعد هذه) رواه الترمذي.
كذلك كان الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف صاحب تجارة مباركة تقوم على الإخلاص والرغبة في خدمة المسلمين طلبا لما عند الله تعالى. ومبادراته في إنفاق المال على تجهيز جيش العسرة، وإكرام البدريين، وإكرام أمهات المؤمنين، وإنفاقه النفقات الهائلة على أهل المدينة لا تخفى.
2ـ التجارة في الحلال والمباح :
من ضوابط التجارة تحري الحلال في البيع والشراء، ويتحقق ذلك بالبعد عن بيع أو شراء ما فيه مخالفات شرعية، أو محرمات، والتورع عن الشبهات.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري أن النبي (ﷺ) قال: }فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَع{ [البخاري ومسلم]
قال ابن حجر: "وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع" [فتح الباري]
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ{[متفق عليه].
فيجب على المسلم أن يتاجر في المباح ولا يتاجر فيما يحرم شرعاً:  كالخمر أو ما فيه ضرر كالمخدرات، والتدخين ونحوه؛ لا يصح للتاجر المسلم أن يتاجر بشيء من ذلك ، حتى ولو باعها لغير مسلم ، لقول النبي (ﷺ) }لا ضرر ولا ضرار{.]رواه مالك والحاكم والبيهقي والدار قطني وابن ماجه وأحمد وغيرهم، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة [
والنبي (ﷺ) لعن في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ،وساقيها وبائعها وآكل ثمنها .. فكل من شارك فيها بجهد ما  فهو ملعون على لسان النبي (ﷺ).
وقد جاء رجل إلى النبي (ﷺ) ومعه قربة مملوءة خمرًا ليهديها إلى النبي (ﷺ)، فقال له عليه الصلاة والسلام : }إن الله قد حرم الخمر{ ، قال له : إذن أبيعها .
قال: }إن الذي حرم شربها حرم بيعها{ .
قال : إذن أكارم بها اليهود  أي يهديها لهم مجاملة فقال:}إن الذي حرم بيعها وشربها حرم أن تكرم بها اليهود { .
قال : فماذا أصنع بها ؟ قال:}اذهب فشنها على البطحاء{ ]رواه الحميدي في مسنده [ أي صبها وأهرق ما فيها على الطريق .
ومن هنا نعلم بأن صناعة الخمر ، واستيرادها ، وتصديرها ، والتجارة فيها ، وكل ما يتعلق بها فهو حرام ، بل أكثر من ذلك قال النبي (ﷺ): }من حبس العنب أيام القطاف ليبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة{ ]رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الحافظ في بلوغ المرام [ .
وقياسا علي ذلك حرمة التجارة في ما فيه ضرر للناس.
3ـ حسن التوكل علي الله تعالي :
إن الذي يتاجر في الغالب متوكل على الله تعالى، فهو لا يضمن ربحاً معيناً أو خسارة ، بخلاف الذي يعمل بأجر يومي أو شهري، والله سبحانه وتعالى يقول}وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3){ ]الطلاق[.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) }لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً (جياعاً) وتروح بطاناً (شباعاً){ ]رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة[.
فالله تعالى تكفّل بحفظه ورزقه للمتوكل، والواقع خير شاهد على ذلك ، فإن أصحاب رؤوس الأموال وهم التجار الكبار، ما بلغوا ذلك إلا مروراً بالتجارة الصغيرة حتى صاروا تجّاراً كباراً.
فعلى سبيل المثال الصحابي الجليل سيدنا عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه، أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه ، أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَآخَى رَسُولُ اللهِ (ﷺ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا؛ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ يَسِيرًا ، حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ (ﷺ) ، وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (ﷺ): مَهْيَمْ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا سُقْتَ فِيهَا؛ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ{. .
استطاع سيدنا عبد الرحمن بن عوف أن يكون ثروة واسعة، بعد أن كان صداقه ربع دينار ،وتصدق بأربعين ألف دينار وترك تركة تعادل مائتا ألف وثلاثة ملايين دينار ،وهو الذي دخل المدينة معدما فقيرا، ولكنه كان سببا في الإنعاش الاقتصادي في
المدينة ، فكل هذا من أثر توكله علي الله تعالي  .   
4ـ العلم بأصول التجارة والعلم بالضوابط الشرعية للتجارة:
إن ما يحتاجه المرء في الحال ويلزمه هو: تعلم أحكامه الشرعية احترازاً من الوقوع في المخالفات وشأن طالب التجارة كطالب الحج لزوماً يفترض عليه تعلم ما يُؤدى به الحج.
ولا بد لطالب التجارة أو أي حرفة حياتية من قدر من الضوابط ليتميز عنده المباح من المحظور، وموضع الأشكال من المسألة التجارية.
فالمكتسب عن طريق التجارة يحتاج إلى معرفة أحكام كسب التجارة وبتعلمه يحصل على ضمان رأسماله الدنيوي والأخروي:
  يقف على مفسدات المعاملات التجارية.
2ـ يقف على ما شذ من المفسدات فيدرك سبب إشكالها.
3ـ تجنب الوقوع في المعاصي والشبهات.
وليس من الصحة الانتظار حتى يقع فيها لأن يسأل عنها فكان لزامًا أن يفهم الأصول والضوابط الشرعية لتجارته ، وفي هذا فقد ذكر أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف في السوق ويقول }لا يبع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى{
بأن يتعرف على المحاذير الواضحة فيبتعد عنها ، وعن المحاذير المشبوهة فيتوقاها.
 فيكون بذلك التاجر الصادق الذي له الإحسان في الدنيا والإحسان في الآخرة.
5ـ أن لا تشغله التجارة عن الواجبات نحو الدين والأهل والوطن:
أن لا تشغله تجارته عن واجباته نحو ربه عز وجل ،كأن تشغله عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن الزكاة، وعن الحج، وعن بر الوالدين، وعن صلة الأرحام، وعن الإحسان إلى الناس.
أن مَثَل هؤلاء مَثَل من وصفهم الله تعالى بقوله}رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38){ ]النور[
وعليك أيها التاجر أن تلزم ذكر الله عز وجل عندما تدخل السوق أو محلك التجاري فقد جاء في الحديث أن رسول الله (ﷺ) قال: }من قال حين يدخل السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير كتب لله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة{ ]رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما وهو حديث حسن[
قال الطيبي: "خصه ( أي السوق) بالذكر لأنه مكان الغفلة عن ذكر الله والاشتغال بالتجارة فهو موضع سلطنة الشيطان ومجمع جنوده، فالذاكر هناك يحارب الشيطان ويهزم جنوده فهو خليق بما ذكر من الثواب" انتهى
وقد عاتب الله عز وجل الصحابة الذين تركوا النبي (ﷺ) أثناء خطبة الجمعة عندما جاءت قافلة تجارية وفيهم نزل قوله تعالى: }وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرازِقِينَ (11){ ]الجمعة[
ولقد حذر النبي (ﷺ) من الغفلة وسوء الانحراف بالتعامل مع هذا الوجه من وجوه المعاش والكسب ، فالصحابة الكرامة كانوا أتجر الناس مثل سيدنا أبو بكر الصديق ، وعثمان ابن عفان وسعد ابن أبي وقاص ، وطلحة ابن عبيد الله ، والزبير ابن العوام رضي الله عنهم جميعا ،ومع ذلك لم تشغلهم تجارتهم عن واجبهم تجاه ربهم جل وعلا .
ويحذرنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالي من الانشغال بالدنيا عن الواجب نحو الله تعالي فقال : "من شغلته أمواله عن الصلاة حشر مع صاحب المال ... مع قارون، ومن شغله ملكه عن الصلاة حشر مع فرعون، ومن شغلته وزارته عن الصلاة حشر مع هامان ، و من شغلته تجارته عن الصلاة حشر مع أمية ابن خلف في الدرك الأسفل من النار.
فاحذر أخي التاجر أن تكون من المتكالبين على الدنيا الحريصين عليها فلا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإن ذلك شر عظيم فقد روى الإمام مسلم بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه  قال:}لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته{.
سماها معركة الشيطان لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع, والأيمان الخائنة, والعقود الفاسدة, والنجش, والبيع على بيع أخيه, والشراء على شرائه, والسوم على سومه, وبخس المكيال والميزان.
6ـ عدم الغش والتدليس :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) مرَّ على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: }ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، فمن غشنا فليس منَّا{ ]رواه مسلم [
وهذا غش قصد منه إيهام الناس بأن الطعام صالح للاستعمال الآدمي، إلا أنه في الحقيقة ليس كذلك، وفيه إضرار بصحتهم وإضاعة لأموالهم، وقد نهى الإسلام عن ذلك .
فعلي البائع إظهار ما في المبيع من عيوب وهذا واجب ومن حق المسلم علي أخيه المسلم ،إذ روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ)  يقول:}المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بيّنه له{ ]صحيح ابن ماجه[
وعن أبي سباع رضي الله عنه قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع، فلما خرجت بها أدركني يجر إزاره فقال: اشتريت؟، قلت: نعم، قال: أبيّن لك ما فيها،
قلت: وما فيها؟ قال: إنها لسمينة ظاهرة الصحة، قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟، قلت: أردت بها الحج، قال: فارتجعها، فقال صاحبها ما أردت إلى هذا أصلحك الله، تفسد علي، قال: إني سمعت رسول الله (ﷺ) يقول:}لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه{ ]صحيح الترغيب[
كذلك حذر المولي سبحانه وتعالي من الغش في الكيل والميزان ،فجاءت آيات القرآن تذكر الناس بمراعاة القسط في المكاييل والموازين كما في قوله تعالى: }وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9){ ]الرحمن[.
وهدد الذين يتلاعبون بالمكاييل والموازين بعذاب أليم يوم القيامة فقال:}وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ  (1)  الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6){ ]المطففين[.
وقال النبي (ﷺ)  للوزان}زن وأرجح { ]رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح[
ففي هذا الحديث تنبيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه التاجر من السعة في الوزن، وأن وزنه محاسبٌ عليه أمام الله تعالى.
كان سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما يقول لأصحاب المكيال والميزان في السوق: "إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة قبلكم: الكيل، والميزان".
وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: "اتق الله، وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم.
وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما  قال: قال رسول اللّه (ﷺ) }يا مَعْشَرَ المهاجرينَ ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ : لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا ، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم ، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا ، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم ، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم ، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم{ ]أخرجه ابن ماجه ، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) والحاكم  باختلاف يسير[.
وهذه بعض أحوال المطففين عند الموت لعل يكون فيه العظة والعبرة:
قال بعضهم: "دخلت على مريض وقد نزل به الموت، فجعلت ألقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها فلما أفاق قلت له: يا أخي، ما لي ألقنك الشهادة ولسانك لا ينطق بها؟!
قال: يا أخي لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها!
فقلت له: بالله أكنت تزن ناقصا؟
قال: لا والله، ولكن ما كنت أقف مدة لأختبر صحة ميزاني! "
وعن "مالك بن دينار " قال: " دخلت على جار لي، وقد نزل به الموت، وهو يقول: جبلين من نار، جبلين من نار. قلت: ما تقول؟
قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان أكيل بأحدهما، وأكتال بالآخر.
قال مالك: فقمت، فجعلت أضرب أحدهما بالآخر!.
فقال: يا أبا يحيى، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد الأمر عظما وشدة، فمات في مرضه!!".
7ـ التزام الصدق والأمانة عند التعامل في البيع والشراء:
عن رفاعة بن رافع الأنصاري رضي الله عنه :}أنه خرج مع رسول الله (ﷺ) إلى البقيع والناس يتبايعون، فنادى يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله (ﷺ) ورفعوا أعناقهم وأبصارهم، فقال: }إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق{ ]رواه الترمذي[
وقد حض رسول الله (ﷺ) على الصدق عامة، فقد روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال:}إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا{ ]رواه البخاري[
ونهي عن الحلف كاذباً: فإن الحلف كاذباً حرامٌ، وأشده حرمة من أجل الكسب؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه ، يقول النبي (ﷺ): } ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ : خَابُوا وَخَسِرُوا ، قَالَ : الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ،
وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ.{
وفي رواية : ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَنْ هُمْ خَسِرُوا وَخَابُوا ؟ قَالَ : فَأَعَادَهُ رَسُولُ اللهِ (ﷺ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، قَالَ :}الْمُسْبِلُ ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ، أَوِ الْفَاجِرِ ، وَالْمَنَّانُ{.]أخرجه ابن أَبي شَيْبَة وأحمد والدارِمِي ومسلم[
فالحلف على السلعة يمحق البركة ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول:}الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب{ ]متفق عليه[.
ولقد أعطي السلف الصالح نموذجا رائعا للتاجر الصادق الأمين :
هذا يونس ابن عبيد الله رحمه الله تعالي من التجار فكان عنده حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك..
8ـ عدم الاحتكار :
وهو حبس الشيء عن العرض وقت الرخص، وبيعه وقت الغلاء في السوق، وعند اشتداد الحاجة إليه، ويتناول  كل سلعة يحتاج إليها المسلمون.
والاحتكار حرام لقول النبي (ﷺ) }لا يحتكر إلا خاطئ{  ]رواه مسلم وأبو داود[، ووصفه أنه "خاطئ" ليس هيّناً، وقد وصف الله فرعون وهامان وجنودهما فقال تعالى}إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)8){ ]القصص[
وقد وصف الله تعالي أهل النار بأنهم خاطئون فقال تعالي }وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37){ ]الحاقة[ .
وروي عن عمر رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس{ ]الترغيب والترهيب[
وروي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ﷺ) قال:}من احتكر طعاما أربعين ليلة، فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى{  ]الترغيب والترهيب[.
وذهب جمهور الفقهاء على أن ما يحرم احتكاره هو أقوات الآدميين والدواب، بينما يرى فريق من الفقهاء منهم المالكية حرمة احتكار كل ما يحتاجه الناس وإن لم يكن من قبيل الأقوات، فيدخل على هذا احتكار مواد البناء والأدوية والثياب والسلع الاستهلاكية ونحوها من كل ما يحتاجه الناس ويترتب على احتكاره ضيق لهم وعنت وأضرار بهم.
إنَّ الاحتِكار جريمةٌ ضدَّ الإنسانيَّة تستوجِبُ الطَّرد من رحمة الله؛ فعن عمر رضي الله عنه :عن النبي (ﷺ) قال : }الجالب مرزوق والمحتكر ملعون{. ]رواه ابن ماجه ، والدارمي[ .
لأنَّ المحتكرين كما يقول أحد أساتذة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية  تائِهون في مُطاردة المال الذي يَجب أن يكون الوسيلةَ إلى الحياة الطيِّبة، لا غاية في ذاته، حتى نسُوا الغاية وأمعنوا في التعلُّق بالوسيلة.
فأين أولئك المحتكرون أصحاب رؤوس الأموال في الدول الكبرى من موقفِ المسلمين في مشارِق الأرْض ومغاربِها عام الرَّمادة، يوم أن أصاب القحط الجزيرة العربية، فانْهمرت المؤن من مِصر وإفريقيا والعِراق، وكل أرْضٍ عَلَتْ فيها رايةُ الحقِّ - لتنقذ إخوةً في الإنسانية، حتَّى كانت قوافل عمرو بنِ العاص بالنَّجدة أوَّلها في المدينة المنوَّرة، وآخرها في الفسْطاط على النيل.
وأين هم من سيدنا عثمان ابن عفان رض الله عنه هذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة وقد أشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة وقالوا له تبيعنا و نزيدك الدرهم درهمين ؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها بأكثر من هذا .
فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟
فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة : فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة تجار غيرنا ؟
فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ولرسوله فهي لفقراء المسلمين ..
الله أكبر!! …
ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموالاً طائلةً ولو كانت على حساب البطون الجوعى والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات … إنه مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر الظلم إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر.
9ـ الشعور الدائم بمراقبة الله تعالي :
وهذا من منهج الإسلام الذي وضعه لتربية الناس على خلق الأمانة خاصة في البيع والشراء فقد غرس الإسلام في نفوس أتباعه الشعور الدائم بمراقبة الله تعالى، والإحساس بمعيته في جميع الأحوال في السفر والحضر، في الخلوة والجلوة، في الليل والنهار، في السرّ والعلانية، كما في قوله تعالى:}مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7){  ]المجادلة[.
كما غرس فيهم عقيدة إحصاء الأعمال وتسجيلها على أصحابها بواسطة الملائكة كما في قوله تعالى:} وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ (10) كِرَامٗا كَٰتِبِينَ (11) يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ (12){ ]الانفطار[ ..
 كما غرس فيهم عقيدة البعث والحساب على الأعمال يوم القيامة، كما في قوله تعالى:}فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8){ ]الزلزلة[.
وهكذا ربط هذا المنهج التربوي الناس بربهم فراقبوه في أعمالهم حتى أينعت ثمرات هذا المنهج، فظهرت الأمانة في أبهى صورها عبر أحداث روتها لنا كتب الحديث الصحيحة ومن ذلك ما روى عن عبد الله بن دينار أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة، فعرسنا في بعض الطريق، فانحدر بنا راعٍ من الجبل فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك فقال: قل لسيدك أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك الصدق في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن يعتقك في الآخرة.
10ـ الحذر من الربا :
الحذر كل الحذر من الربا ، فإنه بئس المكسب وبئس المنقلب: وذلك للنصوص الكثيرة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة الدالة على حرمة المعاملات الربوية، من مثل قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)}[ البقرة]
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} ]البقرة[
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لَعَنَ رَسولُ اللهِ (ﷺ) آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقالَ: هُمْ سَوَاءٌ{.] صحيح مسلم[
11ـ البعد عن الإضرار بأهل السوق من التجار :
إذا لا يجوز للتاجر أن يبيع علي بيع أخيه فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي (ﷺ):}لا يبع بعضكم على بيع بعض ]{ البخاري ومسلم[
ونهي عن النجش ،فعن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله (ﷺ):}لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه{ .]رواه مسلم[.
فلا يجوز للتاجر أن يبيع سلعته بأرخص مما يبيع أهل السوق، رغبة في الإضرار بهم، وإحداث الكساد لتجارتهم، وقد نهى سيدنا عمر رضي الله عنه خليفة المسلمين التجار عن الإضرار بزملائهم في السوق، ببيع سلعهم بأرخص مما يبيع به سائرهم، فقد روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيبا له في السوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا{ ]سنن البيهقي[
وما روي عن عمرو بن شعيب قال: وجد عمر بن الخطاب حاطب بن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟، فقال: مُدّين، فقال له عمر: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعاً وإلا فلا تبع في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم{  ]مصنف عبدالرزاق[.
وقول عمر رضي الله عنه ذلك لحاطب يدل على حرمة مخالفة بعض البائعين للسعر الذي تعارف عليه سائرهم لبيع سلعهم به في السوق، ولهذا طلب عمر من حاطب الالتزام بنظام السوق في البيع، حتى لا يضر بمن يبيعون نفس السلعة، أو يجلب سلعته ثم يبيعها في أي موضع آخر غير السوق، وفي هذا حماية للبائعين حتى من زملائهم الذين يبيعون نفس السلعة في السوق .
12ـ اليسر والسماحة في البيع والشراء :
كثيرًا ما يخسر الناس بعضهم البعض بسبب البيع والشراء؛ وذلك لأن كل طرف يُريد أن يحقِّق أكبر قدر من الربح؛
وحيث إن الكثير من البضائع ليس لها سعر محدَّد معروف يُصبح التفاوض حول الثمن أمرًا حتميًّا قد يقود إلى أزمات بين البائع والمشتري؛ ولأن رسول الله (ﷺ) يسعى دومًا إلى سلامة العلاقات الإنسانية في مجتمعه فإنه وَجَّه الجميع إلى التعامل بروح السماحة في العمليات التجارية المختلفة؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ:}رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى}  ]رواه البخاري[
وهذه السماحة تقتضي أن يتنازل كلُّ طرف عمَّا يراه مناسبًا، ولو بدرجة نسبية؛ بحيث يلتقي البائع والمشتري في منتصف الطريق؛ وذلك دون أن تضيع روح المودَّة والأدب بين الطرفين.
وفي لفظ آخر للترمذي: }غَفرَ الله لرجل كان قبلكم سهلاً إذا باع، سَهلاً إذا اشترى سهلاً إذا اقتضى { ]أخرجه الترمذي عن جابر[.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام أيضاً: }أَلا أخبركم بمن يحرم على النار، وبمن تحرم عليه النار ؟ على كل قريب هين سَهْل{[الترمذي[
ورغب النبي (ﷺ) في التجاوز عن المعسر أو إنظاره ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رجُلٌ تاجرٌ يُدايِنُ النَّاسَ فإذا رأى إعسارَ المُعسِرِ قال لفتاه: تجاوَزْ لعلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنَّا .قال رسولُ اللهِ (ﷺ): ( فلقي اللهَ فتجاوَز عنه { ] أخرجه ابن حبان في صحيحه[
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال (ﷺ): }من أنظر معسرًا أو وَضع له، أظلَّه اللهُ يومَ القيامةِ تحتَ ظلِّ عرشهِ، يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه { [ أخرجه الترمذي [
وعلى هذا صار السلف الصالح في السماحة في البيع والشراء ،فعن الحسن البصري فقد روى عنه الخرائطي أنه كان إذا اشترى شيئاً أو باع وكان ثمنه كسرا اجبره لصاحبه، إذ يعتبر الإتمام من المروءة حتى لا تهون نفس البائع أو المشتري، وهذا من حسن التعامل والسماحة اقتداء برسول الله (ﷺ):القائل «رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى».
وذات يوم وقف الحسن البصري على عبد الأعلى السمسار فقال له: يا عبد الأعلى، أما يبيع أحدكم الثوب لأخيه فينقص درهمين أو ثلاثة؟ فقال له عبد الأعلى: لا والله، ولا دانق «سدس درهم» واحد. فقال له الحسن: إن هذه الأخلاق، فما بقى من المروءة إذاً؟
واشترى أحد الناس من الحسن بغلة وقال: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: لك خمسون درهماً.. أزيدك؟ قال: لا، رضيت. فقال الحسن: بارك الله لك.
14ـ المروءة في البيع والشراء:
ينبغي للتاجر المسلم أن يتصف بالمروءة بأن يحب الخير لغيره كما يحبه لنفسه وأن ينزل البائع أو المشتري منه منزلة نفسه فكما تحب أيها التاجر لنفسك المكسب والربح أحبه لغيرك وكما لا تحب لنفسك الغبن والغش فلا تغبنن أحدا ولا تغشه.
عن أنس رضي الله عنه :عن النبي (ﷺ) قال:}لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه{ ]البخاري[.
كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله نابغة في العلم، كان تاجرا ناجحاً موفقاً نتيجة الصيت الحسن والسمعة الطيبة، وكثرة الزبائن وإقبال الناس هي المقياس الحقيقي لنجاحه، وكان منهجه مروءة البيع والشراء، وذات يوم جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فسألها: كم ثمنه؟ فقالت: مائة. فقال: هو خير من مائة، بكم تقولين؟ فزادت مائة مائة حتى بلغت أربعمائة درهم، فقال: هو خير من ذلك. فقالت أتهزأ بي؟ فقال: هاتي رجلاً يقومه، فجاءت برجل فاشتراه بخمسمائة درهم. وفي رواية لامرأة أخرى جاءته فقالت: إني ضعيفة وإنها أمانة، فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك، فقال خذيه بأربعة دراهم، فقالت: لا تسخر بي. وأنا عجوز، فقال: إني اشتريت ثوبين، فبعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فبقي هذا الثوب علي إلا بأربعة دراهم.
وأيضا نموذج آخر ،عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: }اشترى رجلٌ من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية - أي بنت؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا{.] البخاري ومسلم[
15ـ إعطاء حق الله في التجارة:
إعطاء حق الله تعالى في المال مثل الزكاة والصدقات حتى تتحقق البركات والنماء والطهارة، بأن  يقوّم بضاعته كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر، أي: 2,5%، في كل ما هو معد للبيع، ويصرفها كما أمر الله تعالى في الأصناف الثمانية، فلا يترك للشيطان مجالاً للوسوسة وللأمر بالفحشاء والتخويف من الفقر، كما قال تعالى }الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268){ ]البقرةوقوله تعالى }وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) { ]سبأ[.
 العنصر الرابع : أثر الالتزام بالضوابط الشرعية للتجارة :
 إن الالتزام بالضوابط الشرعية للتجارة يحقق المقاصد الآتية:
1- تحقيق الخير والبركة والنماء في الأرزاق .
2- تجنب الوقوع في الحرام وبالتالي عدم ارتكاب الذنوب والمعاصي والرذائل .
3- تجنب الشك والريبة بين المسلمين وتحقيق العدل بين الناس في المعاملات.
4ـ التأكيد على شمولية الإسلام وأنه دين عبادات وأنه منهج حياة .
5- الدعوة إلى الله على بصيرة وعلم وربط الأقوال بالأفعال .
6- تقديم نموذج متميز لرجل الأعمال المسلم في حلبة الحياة العملية .
7ـ التمكين لشرع الله أن يطبق ويسود لإنقاذ البشرية مما هي فيه من بؤس وشقاء وضنك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أموالنا وأن يؤلف بين قلوبنا وأن يصلح ذات بيننا واللهم اغننا بحَلالِك عن حرامك وبفضلك عمَّن سواك ، وتوفنا وأنت راض عنا يا كريم . اللهم آمين

تمت بفضل الله ورحمته

=================== 

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=735736

رابطdoc

https://www.raed.net/file?id=735738




ليست هناك تعليقات: