1 أبريل 2024

قيام الليل مدرسة الصالحين

 

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبعفوه تعفر الذنوب والسيئات وبكرمه تقبل العطايا والقربات وبلطفه تستر العيوب والزلات، مدح عباد الرحمن بقيام الليل فقال تعالى } وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدٗا وَقِيَٰمٗا (64){ ] الفرقان[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ..مدح المتقين في كتابه الكريم فقال تعالى } إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ (15) ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ (16) كَانُواْ قَلِيلٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ (17) وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (18){ ] الذاريات[
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) أرسل نبيه (ﷺ) رحمة للعالمين ، كان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، قالت عائشة رضي الله عنها: }كان النبي (ﷺ) يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً{. ]متفق عليه[.
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً..
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
إن المنهج الإسلامي منهج عبادة، والعبادة فيه ذات أسرار ، ومن أسرارها أنها زاد على طريق الحق وأنها مدد الروح ، وأنها جلاء القلب ، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر ، لذلك نجد أن الله سبحانه حينما انتدب نبيه (ﷺ) للدور الكبير الشاق الثقيل , قال له:
}يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ (1) قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا (2) نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا (3) أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا (7) وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا (8) رَّبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذۡهُ وَكِيلٗا (9) وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرٗا جَمِيلٗا (10){ ] المزمل[.
فكان الإعداد للقول الثقيل ,والتربية الروحية للتكليف الشاق , والدور العظيم ، وتتمثل هذه التربية الروحية في وسائل وأساليب متعددة منها... قيام الليل.
جاء الأمر للنبي (ﷺ) أن قم، فقام وظل بعدها قائماً أكثر من عشرين عاما، لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام وظل قائما على دعوة الله يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوؤ به، عبء العقيدة كلها.
نزل الأمر بالقيام فلم يعد هناك نوم، بل جاء التكليف الثقيل والجهاد الطويل والكد والجهد، منذ ذلك النداء الذي لم يفارقه ولم يدعه ينام.
فقام بالحركة والدعوة إلى الله تعالى ، وجعل الله تعالى من المعينات على عبء الدعوة قيام الله ، فقيام الليل مدرسة روحية يتربى فيها المسلم على الإيمان واليقين بالله تعالى، فكان القيام في أول الأمر فرض ، ومر بمراحل ..
أولها: الليل إلا قليلا ، ثانيها: نصفه ، ثالثها: أقل من النصف بقليل ،رابعها: أزيد من النصف بقليل، وفي آخر السورة جاءت مدد أخرى: أولها: أدنى من ثلثي الليل
ثانيها: نصف ، ثالثها: ثلثه، وفي الختام جاء التخفيف ( فاقرؤوا ما تيسر منه )، وكثير من الناس يظنون أنه يجزئ عن القيام ركعتين خفيفتين ، أو ركعات خفيفات يركعها العبد من الليل.
وقيل: كان التهجد فرضا على النبي (ﷺ) وعلى أمته، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج، فصار نافلة وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: }وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (79){ [الإسراء]
وروى الإمام أحمد ومسلم عن حكيم بن حزام: "أنه أتى السيدة عائشة رضي الله عنها فقال أخبريني عن قيام النبي (ﷺ) فقالت: ألست تقرأ سورة المزمل ؟ قال: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي (ﷺ) وأصحابه سنة كاملة وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة". 
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن قيام الليل كان فريضة في أول الأمر على النبي (ﷺ) وأصحابه سنة كاملة حتى نسخ الله هذا في آخر السورة.. يعني سورة المزمل.
والليل له خاصية من جانبين:
الأول : أن مغالبة النوم وجاذبية الفراش إعلان لسيطرة الروح واستجابة لدعوة الله. والثاني : أن الليل هو الوقت الأنسب لتلقي أنوار الوحي فكما أن الفلاَّح يسقي أرضه بالليل كان حتما على المسلم أن يسقي قلبه بالليل كذلك.
فضل قيام الليل
1ـ شرف المؤمن:
جاء في فضل قيام الليل ،أنه جاء جبريل إلى النبي (ﷺ) فقال:}يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس{  ]حديث حسن كما في صحيح الجامع وصحيح الترغيب[.
في هذا الحديث يبين النبي (ﷺ) أن قيام الليل عز للقائمين وشرف ، وهو كذلك. لأنَّ فيه دليل على قوَّة إخلاصه، دليل على قوَّة ثقته بالله، دليلٌ على قوَّة إيمانه، فالله عزَّ وجلَّ يرفعه ويعلي من مكانته ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى.
فقيام الليل سنة نبوية عظيمة، ولذة للقلوب عجيبة، وجنة تدخلها نفوس المؤمنين في هذه الحياة قبل أن تدخل جنة الآخرة.
2ـ مدرسة الصالحين :
قيام الليل مدرسة تربي فيها النفوس، وتهذب فيها الأخلاق، وتزكى فيها القلوب.
وقد بين النبي صلوات ربي وسلامه عليه بعض فوائد قيام الليل في حديث أبي أمامة الباهلي حيث قال: }عليكمْ بقيامِ الليلِ؛ فإنَّه دأبُ الصالحينَ قبلكمْ، وقربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومنهاةٌ عنِ الإثمِ، وتكفيرٌ للسيئاتِ، ومطردةٌ للداءِ عنِ الجسدِ{  ]وهو حديث حسن أو صحيح حسنه المنذري في الترغيب والترهيب والسيوطي في جامعه الصغير، وكذا الألباني في صحيح الجامع[.
يا رجال الليل جِدوا     رب داعٍٍ لا يُرد
لا يقوم الليل إلا        من له عزم وجَد
3ـ نيل الثناء والمدح من الله تعالى :
من فضائل قيام الليل أنَّ الله جلَّ وعلا  يمدح من يقوم بين يديه سبحانه وتعالى في الليل، قال الله جلَّ وعلا: } تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (17){ ] السجدة[
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى في هذه الآية: "أي أنَّهم لمَّا أخفوا أعمالهم لأنَّ قيام الليل بينك وبين الله، لا أحد يعلم أنَّك تقوم الليل أخفى الله لهم من النعيم ومن اللذَّات ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن".
4ـ  من صفات المتقين :
قيام الليل من علامات المتَّقين ، يقول ربُّنا جلَّ في علاه: } إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ (15) ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ (16) كَانُواْ قَلِيلٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ (17) وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (18){ ] الذاريات[
قال الإمام الحسن البصري: يعني لا ينامون من الليل إلا قليلاً، فهم يكابدون الليل في القيام والركوع والسجود، ومع ذلك يختمون هذه العبادة بالاستغفار، سبحان الله! وقدوتهم في ذلك سيِّدهم محمَّدٌ (ﷺ) حيث كان (ﷺ) يقوم الليل حتى تتفطَّر قدماه.
5ـ لا يستون مع غيرهم :
من فضائل قيام الليل أنَّهم لا يستوون عند الله، نعم لا يستوون عند الله كما قال الله جلَّ وعلا: }أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (9){ ] الزمر[ .
هل يستوي إنسانٌ قضى ليله غافلاً هائمًا نائمًا بين السهرات والقيل والقال ، ومضيعة الأوقات ، بين إنسان قائمٍ في ليله يدعو ربه سبحانه وتعالى ويبكي من خشية الله جلَّ وعلا ويخضع لله سبحانه وتعالى، لا يستوون عند الله، وهكذا القلب الحي، سبحان الله!
القلب الحي إذا سمع آيات الله عزَّ وجلَّ تُتلى عليه فتجده -سبحان الله- يتفكَّر ويتدبَّر ويتأمَّل ويخضع ويخشع وينصت ويستمع ويطبِّق، هذا هو القلب الحي.
أمَّا القلب الميت -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يسمع آيات الله تُتلى عليه آناء الليل وأطراف النهار ولا يتأثَّر ولا يتفاعل، بل تجده والعياذ بالله مُعرضًا عنها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6ـ صلاة القيام أفضل بعد الفريضة :
من فضائل قيام الليل أنَّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال (ﷺ): }أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل{
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى صلاة الليل أفضل لثلاثة أمور: أولاً: لأنَّ فيها الإسرار فهي أقرب إلى الإخلاص، إذا أردت الإخلاص، إذا أردت أن تقوِّي إخلاصك لله عزَّ وجلَّ فعليك بقيام الليل، فقيام الليل لا أحد يعلم عنك، لا أحد يدري عنك، أقرب الناس إليك لا يدري عنك، إذن هي أقرب إلى الإخلاص. ثانيًا: قال: ولأنَّ صلاة الليل فيها مشقَّة، فيها مشقَّة على النفوس؛ لأنَّ الإنسان يقوم من فراشه الدافئ الجميل ويقوم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه مشقَّة، فيه تعب، فيه معاناة، بينك وبين نفسك وبين شيطانك.
ثالثًا: قال: لأنَّ صلاة الليل القراءة فيها أقرب إلى التدبُّر والتفكُّر والخشوع؛ لأنَّ الإنسان بينه وبين الله سبحانه وتعالى فهو تجده يتأمَّل ما يقرأ.
7ـ قيام سبب من أسباب دخول الجنة :
روى الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في سننه من حديث عبد الله بن سلام قال (ﷺ): }أطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام { "تدخلوا الجنة بسلام" يعني: بلا عذاب.
8ـ سادسًا: وقت إجابة الدعاء:
من فضائل قيام الليل أنَّ الإنسان إذا قام الليل سوف يوافق وقت الزول الإلهي، حيث قال (ﷺ): }ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة في الثلث الأخير من الليل{ الملك العظيم الكبير المتكبِّر الرحمن الرحيم الوهَّاب المنَّان ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ماذا يقول ربُّنا سبحانه وتعالى؟ فيقول: "هل من داعٍ فأستجيب له، هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له" الله أكبر! يا لها من لحظات مباركة، الله عزَّ وجلَّ وهو الغنيُّ عنَّا ونحن الفقراء إليه، الله عزَّ وجلَّ ينادي عباده: "هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من سائلٍ فأعطيه"،
ولهذا نجد أنَّ طاووس بن كيسان رحمه الله تعالى، أحد التابعين أو تابعي التابعين مرَّ على رجلٍ في وقت السَّحَر فضرب عليه الباب فقال أهله: إنه نائم، فتعجَّب طاووس قال: كيف ينام؟! هل هناك إنسان ينام في هذا الوقت؟!"
أي: وقت النزول الإلهي، وقت استجابة الدعاء. فلا ينبغي لعاقل أن يغيب وقت توزيع العطايا
9ـ  الرجولة الحقيقية :
جاء في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنَّ النبي (ﷺ) قال: }نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلِّي من الليل{
قال سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :" فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً " يعلِّق الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على هذا الحديث، قال: فمقتضى هذا الحديث أنَّ من كان يقوم الليل يوصف بأنَّه (نِعم الرجل).
10ـ من أسباب رحمة الله سبحانه وتعالى:
قيام الليل أنَّه سبب من أسباب رحمة الله سبحانه وتعالى، قال(ﷺ):}رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ امرأته...{
فوائد قيام الليل
ولقيام الليل فوائد ومنافعه كثيرة تعود على القائمين في دينهم ودنياهم وأبدانهم.. فمن هذه المنافع: أنه يورث الإخلاص: لأن العمل كلما كان بعيدا عن أعين الناس وعن مراقبة الناظرين كان أدعى للخشوع وأقرب للإخلاص؛ ولذلك كان السابقون يحبون عبادة السر، صدقة أو صياما أو صلاة، وكانوا يستخفون بأعمالهم قدر استطاعتهم حتى لا يداخلها الرياء والسمعة..
وروى الطبراني في معجمه الكبير وابن المبارك في الزهد: }فضل صلاة الليل على صلاة النهار، كفضل صدقة السر على صدقة العلانية{.
فمن أراد أن يتعلم الإخلاص ويحققه فعليه بقيام الليل.
ومن فوائده ومنافعه أنه أدعى للتدبر والتفكر، قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا (6)} ]المزمل[؛أي أعمق أثراً في تهيئة النفوس لاحتمال التكاليف
وذلك لأن تمام التذكر والتدبر يكون مع الهدوء والسكون وانقطاع الشواغل، فيكون القلب أكثر استعدادا للفهم والتقبل والتأمل فيما يسمعه، فيواطئ القلب اللسان فيحس بلذة العبادة، وحلاوة المناجاة، ويعرف معنى الأنس بالله.
ولهذا سُئل الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما بال المتهجِّدين الذين يصلُّون بالليل وجوههم فيها النور، فيها الضياء؟ فقال الإمام رحمه الله: "لأنَّهم خلوا بالرحمن فأعطاهم من نوره".
إن الفتوحات الربانية والمواهب الإلهية تتنزل في الأسحار عندما ينزل ربنا جل وعلا إلى سماء الدنيا فيفتح على القائمين من أبواب الفهم والمعرفة والحكمة والرحمة ما ليعلمه إلا الله؛ ولهذا قال النبي (ﷺ): }أقرب ما يكون العبد من ربه في  جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن{
]رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح[.
فآخر الليل هو وقت التنزل الإلهي حيث ينادي على عباده ليقوموا إليه فيسألوه ما أرادوا ويطلبوا منه ما يحتاجون، ويناجونه بكل ما يحبون.. ففي الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم  يقول (ﷺ):}ينزلُ اللهُ كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا، حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ، فيقولُ: من يدعوني فأستجيبُ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرُني فأغفرُ له{.
فيَنزِلُ ربُّنا سُبحانَه إلى السَّماءِ الدُّنيا نُزولا يَليقُ بجلاله مِن غَيرِ تَكْييفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تمثيلٍ، ويُناديُ: }مَن يَدْعوني فأسْتَجيبَ له؟ ومَن يَسأَلُني فأُعطيَه، ومَن يَستغفِرُني فأغفِرَ له؟{
وإنما خص هذا الوقت بهذا النداء لأنَّه وَقتُ غَفلةٍ واستِغراقٍ في النَّومِ واستلذاذٍ به، ومُفارقةُ اللَّذَّةِ والرَّاحةِ صَعبةٌ على العِبادِ؛ فمَن آثَرَ القِيامَ لمُناجاةِ ربِّه والتَّضرُّعِ إليه في غُفرانِ ذُنوبِه، وفَكاكِ رَقبتِه مِن النَّارِ، وسَأَله التَّوبةَ في هذا الوقتِ الشَّاقِّ، كان ذلك دَليلا على خُلوصِ نيَّتِه، وصِحَّةِ رَغبتِه فيما عندَ ربِّه.. فيمن الله تعالى بالقبول تفضلا وتكرما سبحانه؛ ولهذا كان الأخيار يفضلون القيام والدعاء بالأسحار..
كما كان ينادي بعضهم:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا.. وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
فقلت يا عــدتي في كل نـائبــة .. .. ومن عليه لكشف الضــر أعـتمد
أشكو إليك ذنـــوبا أنت تعلمها .. .. ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يــدي بالذل مفتــقرا .. .. إليك يا خــير من مدت إليه يــد
فــلا تردنـــها يا رب خــائــبــة .. .. فبـحر جودك يروي كل من يرد
فمن أراد أن يربي نفسه ويزكيها، وأراد الفوز بالجنة وبالفضائل العظيمة، فعليه بقيام الليل؛ فإنه الطريق الموصل إلى الفضائل العظيمة.
الأسباب المعينة على قيام الليل
1ـ صدْق النيَّة، والعزم على القيام، ومُجاهَدة النفس في ذلك:
وهذا مِن أعظم الأسباب؛ فإنَّ الله تعالى إذا علم مِن عَبدِه الصدق، أعطاه فوق ما يُريد؛ قال تعالى: }وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17){ [محمد].
ومَن أراد شيئًا وأحبه سعى في نيله، واجتهد في تحصيله؛ قال تعالى:}وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69){[العنكبوت]،
وقال تعالى:}وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19){ [الإسراء].
فكل من صدق الله صدَقَه الله؛ فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: }مَن سأل الله الشهادة بصدْق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه{؛ ]رواه مسلم[.
2ـ ترك الذنوب والمعاصي:
لأنَّ الذنوب والمعاصي تحجب الإنسان عن ربه تبارك وتعالى، الذنوب والمعاصي هي سبب كل بلاءٍ وشقاءٍ ونكدٍ وحرمانٍ في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا لم تستطع على صيام النهار ولا قيام الليل فاعلم أنك محروم مكبَّل كبَّلتك ذنوبك، ولقد شكى بعض الناس لعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل قالوا: إنَّنا لا نستطيع أن نقيم الليل، قال: أقعدتكم ذنوبكم. حتى قال الإمام الحسن البصري: إنَّ الرجل ليذنب الذنب فيُحرم قيام الليل، فإذا حُرمت قيام الليل يا عبد الله ففتِّش عن نفسك، فتِّش عن واقعك، عن حياتك، ما الذي فعلته في نهارك؟ لعلك اغتبت أحدًا، لعلك وقعت في النظر إلى حرام، لعلك فعلت ذنب أو معصية، هذا الذنب وهذه المعصية تجعلك تُحرَم من قيام الليل.
3ـ  ترك فضول الطعام:
فإن مَن أثقلَ معدته بالطعام ثَقُل عليه القيام، وهذا أمر معروف، وفي الحديث:}ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلُثٌ لشَرابه، وثلُثٌ لنفَسِه{، وكان بعضهم يقول: مَن أكل كثيرًا، نام كثيرًا، فخسر كثيرًا.
4ـ الدعاء:
لأنَّ قيام الليل توفيقٌ من الله، هبةٌ ربَّانيَّةٌ، عطيَّةٌ رحمانيَّةٌ، فالله عزَّ وجلَّ لا يهب هذه العبادة إلا بتوفيقه لمن يحب ، فتدعو الله سبحانه وتعالى وتتضرَّع إلى الله أنَّ الله يوفِّقك ويعينك، قبل أن تنام تدعو الله وتتضرَّع: يا ربّ، يا الله، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا ربّ العرش العظيم، اللهم أعنِّي في هذه الليلة، اللهم أكرمني ووفِّقني وأعنِّي في هذه الليلة على الوقوف بين يديك. فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: }مَن تعارَّ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهمَّ اغفر لي، أو دعا، استُجيب له، فإن توضَّأ وصلى قُبلتْ صلاته{؛ ]رواه البخاري[.
والإكثار من ذكر الله جلَّ وعلا؛ لأنَّ الإكثار من ذكر الله يعطي الإنسان قوَّةً، ويعطي الإنسان توفيقًا، وانتصارًا على النفس والهوى والشيطان، ولهذا أوصى رسول الله (ﷺ) عليَّ بن أبي طالب وفاطمة رضي الله تعالى عنهما قبل النوم أن يسبِّحا الله سبحانه وتعالى عندما طلبت فاطمة خادمة أن تعمل في البيت لها، فالرسول (ﷺ) أوصاهما أن يسبِّحا التسبيحات المعروفة سبحان الله 33، والحمد لله 33، والله أكبر 34.
5ـ تحري الحلال:
قال الله جلَّ وعلا: } يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ (51){ ] المؤمنون[
6ـ الوضوء قبل النوم، والمحافظة على أذكار النوم:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ):}إذا أتيتَ مضجعَكَ، فتوضَّأ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجِع على شقِّك الأيمن، ثم قل: اللهمَّ أسلمتُ وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظَهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا مَنجا منك إلا إليك، اللهمَّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلتَ، فإن متَّ مِن ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهنَّ آخِرَ ما تتكلم به))، قال: فرددتُها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتُ: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: ((لا، ونبيِّك الذي أرسلتَ{ ]رواه الشيخان[.
7ـ القيلولة، أي: أنَّ الإنسان ينام في وسط النهار:
جاء في بعض الآثار: استعينوا بالقيلولة على قيام الليل.
8ـ طهارة القلب، وسلامة النفس من الحقد والحسد والضغينة:
لا شكَّ أنَّ أصحاب القلوب المريضة لا يوفَّقون إلى أجلِّ الطاعات وأعظم العبادات، فلا بدَّ أنَّ الإنسان ينقِّي قلبه، يصفِّي نفسه من هذه الأمراض: الحقد والحسد والأنانية والبغضاء والكراهية، حتى يوفِّقه ربُّه سبحانه وتعالى إلى هذه العبادة العظيمة.
أسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يوفِّقني وإيَّاكم لما يحبُّ ويرضى.




ليست هناك تعليقات: