10 يوليو 2023

التوبة والاستغفار طريقك إلى المعالي



الحمد لله رب العالمين .. ذل كل شيء لعزته ،وتواضع كل شيء لعظمته ، واستسلم كل شئ لقدرته ، وخضع كل شيء لملكه ،
لا يعذب عباده ما داموا يستغفرونه فقال تعالى }وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (33){ ] الأنفال[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . يحب التوابين  النادمين ..فقال تعالي }إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) {البقرة
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. كان حاله دائما التوبة والإستغفار فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة " رواه مسلم
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . 
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
فإن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها.
وحاجتنا إلى التوبة ماسة، بل إن ضرورتنا إليها مُلِحَّة؛ فنحن نذنب كثيراً، ونفرط في جنب الله ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين الذنوب.
ثم إن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون؛ فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
ولقد جرت سنة الله أنه كلما دعت الحاجة إلى أمرٍ ما يسره الله، وأعان عليه بلطفه وجوده وكرمه.
ولقد يسر الله أمر التوبة، وفتح أبوابها لمن أرادها؛ فهو عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وباب التوبة مفتوح للكفار، والمشركين، والمرتدين، والمنافقين، والظالمين، والعصاة، والمقصرين.
والحقيقة أن الحديث عن التوبة ذو شجون، والكلام عليها متشعب طويل؛ فللتوبة فضائل وأسرار، ولها مسائل وأحكام، وهناك أخطاء تقع في مفهومها، وهناك أسباب تعين عليها.
فإن العبد مهما بلغ في هذه الدنيا، فهو مبتلى بفعل المعاصي التي لا يمكن الفكاك منها إلا بالتوبة إلى الله تعالى، وأداء حقوق الخلق.
فالله تعالي يريد من عبادة التوبة ويحب ذلك منهم فقال تعالي  {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 27]، وقال تعالي : {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] ....
 فالتوبة واجبة علي المسلم في كل وقت ،فالأصل في الإنسان أنه دائما مع الله عز وجل ولكن إذا بعد عن الله وشرد عن الطريق فلابد أن يعود إلي أصله بالتوبة إلي الله تعالي .
ولكن هل يكفي أن أقول نويت التوبة ومازال القلب مصر علي المعصية ، توبة من غير ندم وإقلاع عن الذنب فهذه توبة الكذابين .
فلأهمية التوبة كان حديثنا عن التوبة وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1 ـ حقيقة التوية .
2ـ التوبة حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
3ـ مــن أي شــيء تكــون التـــوبة؟
4 ـ أركان التوبة . 5ـ شروط التوبة . 6ـ  فوائد التوبة. 7ـ موانع التوبة .
8ـ  من قصص التائبين.  9ـ الطريق إلي التوبة . 10ـ الخاتمة .
العنصر الأول : حقيقة التوبة :ـ
تعريف التوبة في اللغة: التوبة مصدر الفعل تاب، وأصل هذه المادة: التاء، والواو، والباء، وهي تدور حول معاني الرجوع، والعودة، والإنابة، والندم.
وقال ابن منظور: وتاب إلى الله يتوب توباً، وتوبة، ومتاباً: أناب، ورجع عن المعصية إلى الطاعة.
والتوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدِّيت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى.
قال الله تعالى: }إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17){] النساء.
وقال عز وجل: }وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31){] النور. وقال:}وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71){] الفرقان.
وقال ابن القيم في تعريف التوبة: فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل.
وقال أيضاً: حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛
فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها،
والرجوع عن المكروه الجزء الآخر.
وقال: التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً.
وقال ابن حجر: والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه.
وفي الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، وردُّ المظلمة إن كانت، أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ وجوه الاعتذار.
ويمكن أن تعرف التوبة بأنها: ترك الذنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها. لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"
وقد أمرنا الله تعالي بالتوبة النصوح فقال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا (8) { التحريم .
فما معني التوبة النصوح ؟
التوبة النصوح : هي الخالصة من الشوائب وهي التي لا غش فيها ولا دخل .
التوبة النصوح : هي التوبة التي لا رجوع عنها ، والتوبة الأولى هي أهون توبة على المذنب ، كأن الحجاب الذي كان بينه وبين الله يهتك في ثانية ، وكأن الله عز وجل يلقي في روعه أنه غفر له ، وأنه قبل ، وكأن أحمالاً كالجبال أزيحت عن
كاهله ، ذلك أن الإنسان حينما يسأل الله قبول التوبة يجيبه الله عز وجل بقبولها ، يقول : يا رب ، لقد تبت إليك ، يقول : عبدي ، وأنا قد قبلت ، وقد ورد في بعض الآثار أن الله عز وجل يخاطب بعض أنبيائه وهو سيدنا داود عليه السلام  يقول : يا داود ، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي في المعرضين فكيف في المقبلين ؟ وهو الغني عن عباده ! 
التوبة النصوح من ثمارها اليانعة أن الله ينسي بقاع الأرض والملائكة جميعاً كلهم خطايا المذنب وذنوبه ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً ، فقد اصطلح مع الله .
 التوبة النصوح : هي عرس المؤمن ، يوم الفرحة الكبرى ، أنه فتح مع الله صفحة جديدة ، أن هذا الماضي كله أصبح في طي النسيان ، لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي } قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (53){ ] الزمر[ ،مهما يكن ذنبك كبيراً فرحمة الله أوسع من ذنبك ! ألم يقل الله عز وجل :
( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ (156) ) الأعراف .
فالتوبة النصوح : هي التوبة التي تعقد من قبل عبد تألم أشد الألم من ذنبه ، ثم عقد العزم على ألا يعود لمثل هذا الذنب مادام حياً ، هذه التوبة النصوح تشعر التائب أن جبالاً كانت جاثمة على صدره وأزيحت عنه .
فالتوبة النصوح:  توبة في الأعماق ، ويسبقها ندم شديد ، وتتبعها سعادة لا توصف ، ومن ألطف ما قاله العلماء في التوبة النصوح قول ابن القيم رحمه الله تعالى : " ما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً أسره عدوك ، وحال بينك وبينه ، وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ، ويعرضه لأنواع الهلاك ، وأنت أولى به منهم ، وهو غرسك وتربيتك ، ثم إنه انفلت من عدوه ، ووافاك على غير ميعاد ، فلم يفاجئك إلا وهو على بابك يتملقك ، ويطربك ، ويستعينك ، ويمرغ خديه على تراب أعتابك ، فكيف يكون فرحك به ، وقد اختصصته لنفسك ، ورضيته لقربك ، وآثرته على سواه ؟ ولست الذي أوجدته ، وخلقته ، وأسبغت عليه نعمك ، والله عز وجل هو الذي أوجد عبده ، وخلقه ، وكونه ، وأسبغ عليه نعمه ، وهو يحب أن يتمها عليه ، فيصير مظهراً لنعمه قابلاً لها شاكراً لها ، محباً لوليها مطيعاً له عابداً له معادياً لعدوه مبغضاً له عاصياً له ".
العنصر الثاني : التوبة حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :ـ
من حيث التسلسل التاريخي نجد أنّ طلب التوبة والاستغفار من الأنبياء من أهم الأولويات وأولى المهمات فبها تذلل الصعاب وينكشف العذاب.
ـ سيدنا آدم عليه السلام :
فعن الأبوين عليهما السلام، لما أهبطا إلى الأرض بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة عليهم {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)} [الأعراف].
ـ سيدنا نوح عليه السلام :
وعن نوح عليه السلام من أولى العزم من الرسل، قد بذل في دعوة الله كل جهد صابرا محتسبا ولم يؤمن معه إلاّ قليل وكان ابنه ممّن أعرض عن دعوته {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ(27)} [المؤمنون]، تاقت نفسه بأن يكون ابنه معه وعلل عاطفة الأبوة الفطرية كوالد رحيم على ولده {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)} [هود]، فقال الله له: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46)} [هود]، فامتثل وبادر بسرعة عالية على مكانته وقدره عندالله ولم يقل (أنا أنا وفعلت وفعلت).
فأين بعض الدعاة عن هذا المسلك النبوي القويم في الآية التي تليها {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ(47)} [هود]، كيف يقول هذه الكلمات مع أنّه لم يعص الله وبذل في الدعوة ألف سنة إلاّ خمسين عاما لم يتملكه الغرور واستكثار العمل العظيم فطلب العفو والمغفرة من الله باستجابة سريعة، وخشي من كلمة قد تذهب به كل مذهب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليتكلم الكلمة ما يتبين فيها يزل أبعد ممّا بين المشرق» وحاشاه عليه السلام، ولكن كما قيل حسنات الصالحين سيئات الأبرار. وطلبه المغفرة في آخر آية من سورة نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً (28)} [نوح]، دليل نقاء السريرة والطهر الذي كملهم الله به.
ـ سيدنا موسي عليه السلام :
وموسى الكليم عليه السلام لما قتل الفرعوني من غير قصد، حيث قال لفرعون مبينا أنّه ما قتله متعمدا {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20)} [الشعراء]. أي: من المخطئين غير عامد للقتل، وكان إنابته لله سريعة {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً (33)} [القصص].
وقال في معرض إنكاره على قومه لما عبدوا العجل وغضبته الشديدة عليهم وعلى أخيه هارون ظنا منه التقصير، وكانت بيده الألواح فألقاها من يده مع أنّ الله كتب التوراة بيده، وناوله إيّاه من يده إلى يده، أناب بسرعة لهذا الظن الخاطئ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ (151)} [الأعراف]، ثم لما ذهب معتذرا مع السبعين من خيار قومه وحصل ما حصل لهم من العقوبة قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(155)} [الأعرافّ].
ـ سيدنا داود عليه السلام
 وأمّا داود عليه السلام فقد بادر إلى الاستغفار بسبب عدم تثبته في الحكم بين المتخاصمين.
وترد هنا شبهة،كيف وقد عصمه الله من الذنب ولكنّه لا يدل على ذلك، لم يكن قضاؤه باتاً خاتماً للشكوى، ففوجئ بدخول الخصمين عليه من غير سابق استعداد ليحكم بينهم {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21)} [ص] ، وكان قصره منيعا بالحرس فلم يظهر منه التثبت اللائق به. ولمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع، كان فتنة وامتحاناً من اللّه بالنسبة إليه {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ(24)} [ص]، تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه، أوّلاً، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة،
قال السعدي رحمه الله في قوله تعالى {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(40)} [ص] "منزلة عالية وقربة منا {وَحُسْنَ مَآبٍ} والفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وإنابته وأنه ارتفع محله فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها". انتهى كلامه.
فأين هؤلاء الظانين بإخوانهم وأهليهم ظن السوء حتى أصبحت حياتهم جحيما بل وافتراء وعدوانا وتشويها لسمعة إخوانهم... أين توبتهم وتصحيح مسارهم.
هكذا ينبغي لمن دون الأنبياء أن يتأسوا بأفعالهم بسرعة الرجوع والتوبة بصدق حتى يبارك الله لهم في حياتهم.
ـ سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم
وأمّا خاتم الأنبياء والمرسلين الذي غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر ‏يقول: «‏والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» [رواه البخاري عن أبي هريرة].
والمعنى: يطلب المغفرة ويعزم على التوبة. أخرج النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم وأتوب إليه» في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وتراه برحمته الكبيرة صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين أين هي الخيرية لأمته التي بحث ويبحث عنها الكثير، يبحثون عن السعادة وها هو النبي الكريم يرشدهم لها. أخرج النسائي من طريق عطاء عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع النّاس فقال: «يا أيّها النّاس توبوا إلى الله، فإنّي أتوب إليه في اليوم مائة مرة».
وإلى حرصه عليه السلام على قلبه الشديد تأمل ما يقول: عند مسلم بلفظ «إنّه ليغان على قلبي وإنّي لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ».
والمراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر مباح كالأكل والجماع ومصالح النّاس ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك ممّا يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي فاستغفر عنه وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس.
 قال ابن بطال:"الأنبياء أشد النّاس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير".
العنصر الثالث : مــن أي شــيء تكــون التـــوبة؟
التوبة تكون من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولا بد للتائب من معرفة ما يتاب منه ولو على سبيل الإجمال.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالي "اعلم أن التوبة ترك الذنب، ولا يمكن ترك شيء إلا بعد معرفته.
وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً؛ فمعرفة الذنوب إذاً واجبة، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل.
العنصر الرابع : أركان التوبة :ـ
فأول أركان التوبة وأعظمها : الندم ، والندم عمل من أعمال القلوب ،ليس من أعمال اللسان ولا من أعمال الجوارح .والندم هو احتراق القلب من الداخل لما فات من تقصير في حق الله تعالي واستشعار الإنسان مرارة المعصية واستحضار ذلك في قلبه و نصب عينيه  وقد جاء في الحديث ( التوبة ندم ) وهو الركن الأعظم من أركان التوبة  .
هاهو [دينار العيَّار]، كان مسرفًا على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة ، فتذكر مصيره ، وتذكر نهايته ، وتذكر أنه على الله قادم ، أخذ عظْمًا نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفسي، كأني بك غدًا قد صار عظمك رفاتًا، وجسمك ترابًا، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ألك قوة على النار؟
 يا دينار ألك قوة على النار؟  كيف تعرضت لغضب الجبار؟
وظل على ذلك أيامًا يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلا، فقال: يا أماه دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي موقفًا بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: بنياه أكثرت من إتعاب نفسك؟، قال: راحتها أريد، يا أماه ليتك كنت بي عقيمًا، إن لابنك في القبر حبسًا طويلا، وإن له من بعد ذلك وقوفًا بين يديْ الرحمن طويلا، وتمر ليالٍ وهو يقرأ قول الله، ويقوم ليله، بقول الله ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشيًا عليه. 
وحقيقة الندم أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتي تظن أن لاقرار لك  وتضيق عليك نفسك كما وصف الله تعالي نفسية أولائك التائبين في سورة التوبة التي سميت بوصفهم قال تعالي }وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ...{ علي سعتها كأن الدنيا أصبحت كأنها أضيق من حلقة خاتم   } .... وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118){ التوبة.
فوقفوا علي بابه مستغفرين تائبين نادمين .
فالله يفرح بتوبة العبد ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. حتى تطلع الشمس من مغربها ..  )
 وأما الركن الثاني وهو العزم المصمم ،أن يعزم الإنسان علي ترك الذنب ،علي اجتناب المعصية ،علي أن يبدل حياته ويستبدل بصفحته صفحة جديدة . .
فى الحديث المتفق عليه من الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ قال : لا،  فقتله ، فكمل به مائة . ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ قال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله . وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط . فأتاهم ملك فى صورة آدمي فجعلوه حكما بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى  فهو له . فقاسوا ، فوجوده أدنى إلى الأرض التى أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ))  وفى رواية (( فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها )) وفى رواية (( فأوحى الله تعالى الى هذه أن تباعدى وإلى هذه أن تقربى ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر ، فغفر له ))
وأما الركن الثالث  فهو الإقلاع عن المعصية : يغير من حاله إذا كان اقترف ذنبا يبدله بطاعة وهكذا يحاول أن يجدد إيمانه من جديد وكما قال الله تعالي (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ...) وقال تعالي } وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82){ طه .
 دائما تقترن التوبة بالإيمان والعمل الصالح .
 العنصر الخامس : شروط التوبة :ـ
وأما شروطها : أن ترد المظالم والحقوق إلي أصحابها  : حقوق العباد لا تسقط بالتقادم ولا بمضي السنين وإنما تؤدي يوم القيامة ويومها ليس هناك دينار ولا درهم العملة يومها هي الحسنات والسيئات ولابد لكل إنسان أن يأخذ حقه لا تسامح ولا تنازل كل إنسان ، يقول نفسي ..نفسي  ( لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ....) 
ويقول النبي صلي الله عليه وسلم (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها الآن قبل أن لا يكون دينار ولا درهما .......)
ويقول (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين  )  فعليه أن يدفعها إليهم أو إلي ورثتهم ، أو يتصدق بمثلها أو يستحلهم . هذا بالنسبة للحقوق المادية .
فالتوبة من حقوق العباد تحتاج إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، قال النبي صلي الله عليه وسلم "من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلَّلْه اليوم؛ قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات"
ولكن من لم يقْدر على الإيصال بعد بذله الوسعَ في ذلك فعفو الله مأمول؛ فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات، ومما يدخل في الحقوق والمظالم التي يجب التحلل منها مايلي:
أـ الحقوق المالية:
فإن كان لدى التائب مظلمة مالية لأحد من الناس فليردها عليه، سواء كانت تلك المظلمة غصباً، أو سرقة، أو جحداً لأمانة مالية، أو نحو ذلك.
وبعض الناس قد يستحيي من رد تلك المظلمة، وخصوصاً إذا كانت سرقة.
والحل في مثل هذه الحال يسير بحمد الله فإما أن يذهب لصاحب الحق بنفسه، ويخبره بما كان من أمره، ويرد عليه ما أخذ منه ويتحلل من الحق الذي عليه.
وإن كان لا يعرف صاحب تلك المظلمة، أو أن يكون قد بحث عنه فلم يجده، ولم يعرف أحداً من أقاربه، أو أن يكون مع ذلك قد نسي مقدار ما أخذ منه، أو أن يكون نسي صاحب المظلمة فَلْيُقَدّرْ ما أخذ منه، وليتصدق به عنه؛ فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان لأهل الأموال الخيار، بين أن يجيزوا ما فعل، وتكون أجورها لهم، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم، ويكون ثواب تلك الصدقة له؛ إذ لا يبطل الله عز وجل ثوابها، ولا يجمع لأربابها بين العوض والمُعَوَّض، فيغرمه إياها، ويجعل أجرها لهم، وقد غرم من حسناته بقدرها.
بل إن صاحب المال قد يَسُرُّه وصول ثواب ماله إليه أعظم من سروره بوصوله إليه في الدنيا
ب ـ الحقوق في الأبدان:
فإن كانت المظلمة من نوع الجراحات في الأبدان فالتوبة منها أن يُمَكِّن التائبُ صاحبَ الحقّ من استيفاء حقه، إما بالمال، وإما بالقصاص، فإن لم يعرفه، أو لم يتمكن من لقائه فليتصدق عنه، وليدْعُ له.
فكان النبي صلي الله عليه وسلم يضرب المثل للأمة في ذلك، قال ابن إسحاق : و حدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، و في يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية - حليف بني عدي بن النجار - و هو مستنتل من الصف ، فطعن في بطنه بالقدح ، و قال : " استو يا سواد " ، فقال : يا رسول الله ! أوجعتني و قد بعثك الله بالحق و العدل ، فأقدني . قال : فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، و قال : " استقد " ، قال : فاعتنقه فقبل بطنه ، فقال:  " ما حملك على هذا يا سواد ؟ "
قال : يا رسول الله ! حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك : أن يمس جلدي جلدك ! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير و قال له : فذكره .
وهذا هو الفاروق عمر رضي الله عنه نموذج رائع في التحلل من المظالم ..
أخرج الطبري عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في السوق ومعه الدِّرَّة، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال: أمط عن الطريق. فلما كان في العام المقبل لقيني فقال: يا سلمة تريد الحج؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال: استعن بها على حجَّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك. قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها. قال: وأنا ما نسيتها.
جـ ـ المظالم في الأعراض:
وإذا كانت المظلمة في الأعراض، كأن تكون بقدح في أحد بغيبة، أو قذف، أو نميمة، أو أن تكون بإفساد لذات البين فليتحلل ممن أساء إليه، وليصلح ما أفسد قدر الإمكان.
فإن كان إذا أخبر من أساء في حقهم لا يغضبون منه، ولا يزيدون حنقاً عليه، ولا يورثهم ذلك غماً صارحهم، وطلب منهم المسامحة بعبارات عامة كأن يقول: إني أخطأت في حقك في الماضي، وأسأت فهمك فظلمتك بكلام تبين فيما بعد خطؤه، وإنني تبت الآن فسامحني فلا بأس في ذلك؛ فقد يكون المُخْبَرُ رجلاً كريماً يقيل العثرة، ويتجاوز عن الزلة.
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم، أو قذفهم به حنقوا عليه، وازدادوا غماً وغيظاً، أو أنه إذا أخبرهم بالعبارات العامة لم يقنعوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية لهذا الشخص فإنه حينئذ لا يخبرهم، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المُساء إليه بخير كما ذكره بشر، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه بما هو أهله، ويستغفر له بقدر ما اغتابه؛ فهذا هو المتعين في مثل هذه الحالة؛ ذلك أن الإعلام والحالة هذه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يزيده إلا أذىً وحنقاً، وغماً، وكان مستريحاً قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وربما أورثه ضرراً في نفسه أو بدنه.
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه، ويأمر به.
وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل؛ فلا يصفو له أبداً، بل يورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف.
وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم، والتعاطف، والتحابب.
وإذا كانت مظلمة الأعراض متعلقة بالمحارم ثم تاب منها فشأنها شأن الغيبة، والنميمة، والقذف من جهة الاستتار، وترك الإعلام؛ فتكون توبة الإنسان فيما بينه وبين ربه.
بل إن مصلحة الإخفاء ههنا أكبر؛ لأن مصلحة الإعلام لا تكاد تذكر. فإذا تاب الإنسان من معاكسة إحدى محارم المسلمين، أو حصل بينهما ما لا يرضي الله عز وجل فليستتر بستر الله، لأنه إذا أخبر وَلِيَّها؛ ليتحلل منه حصل مفسدة كبرى؛ فقد يسعى الولي للتشفي، والانتقام، وقد يتأذى كثيراً بمجرد علمه، وقد يحصل طلاق، وقتل، وفساد عريض.
أما إذا كان في الإخبار مصلحة، كأن تكون المرأة التي حصل منها ما حصل مستمرة على غيها، ثم تاب من يعاكسها، أو يجتمع بها فلا بأس من إشعار وليها أو أحد معارفها العقلاء عبر الهاتف أو الرسالة؛ حتى يقف الفساد عند حد.
هذا هو المتعين في مظالم الأعراض، والفرق بينها وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه؛ فلا يجوز إخفاؤها عنه؛ فإنه محض حقه؛ فيجب عليه أداؤه إليه.
بخلاف جنايات الأعراض من غيبة أو نميمة أو ما تعلق بالمحارم؛ فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره، وتهييجه فقط؛ فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بجنايات الأموال أو الأبدان لم تؤذه، ولم تُهجْ منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سره ذلك وفرح به ، بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلاً ونهاراً من أنواع القذف، والغيبة، والهجو؛ فاعتبار أحدهما على الآخر اعتبار فاسد.
دـ المظالم العامة: فإذا كانت المظلمة عامة، يتضرر منها عموم الناس فالتوبة في حق من يقوم بذلك أوجب؛ لأن ضررها متعدٍّ.
وذلك كحال من كان صحفياً يبث سمومه عبر الصحافة، أو كان ممثلاًِ يغري بالرذيلة من خلال تمثيله، أو كان مطرباً يؤدي الأغاني الخليعة الماجنة، أو كان أديباً أو كاتباً ينشر الخنا وما ينافي الفضيلة، أو كان مبتدعاً في دين الله ناشراً لبدعته، أو أياً كان ممن يستخدم مواهبه وإمكاناته لمحاربة الخير، ونشر الشر على عامة الناس؛ فالواجب على هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وتوبتهم تكون بالندم على ما فات، وإظهار الندم، وإعلان الخطأ، والرجوعِ عنه، والقيام بنشر الخير قدر المستطاع، والإكثار من فعل الطاعات، والحرص على هداية من تسببوا في إغوائهم، وتسخير الموهبة لخدمة الدين.
ومما يلحق بالمظالم العامة التي يجب أن يتاب منها بيع الخمور، والمخدرات، والدخان، وبيع الأفلام الهابطة، والمجلات الخليعة.
ولا يلزم من توبة هؤلاء أن يعلنوا بها، فقد لا يترتب على ذلك مصلحة، اللهم إلا إذا كان ذلك من باب أن يقتدي بهم غيرهم.
فالتوبة في حقهم أن يَدَعُوا ما قاموا به، وأن يحرصوا كل الحرص على إصلاح ما أفسدوه، وأن يقبلوا على الله، ويكثروا من الاستغفار وسائر الطاعات.
وبالجملة فكل مظلمة يستطيع الإنسان أن يتحلل منها فليفعل، وما لم يستطع فلا حرج عليه؛ فعفو الله مأمول، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. 
 فالتوبة ليست كلاما يقال وإنما عمل عظيم تغيير في حال الإنسان في فكره وقلبه وعمله وسلوكه وحياته كلها هذه هي التوبة .
العنصر السادس : فوائد التوبة :ـ
هذه هي التوبة النصوح : ندم ، وعزم ، وإقلاع ، ورد الحقوق والمظالم إلي أهلها ، إذا فعل ذلك فإن الله تعالي أهل لأن يتوب عليه وأن بمنحه هذه المنح والعطايا والكرامات ..
1- سبب لمحبة الله جل وعلا:
أن يجعله من أهل محبته قال تعالى: }إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222){ [البقرة]. لذلك يريدها الله تعالي ويحبها منهم قال تعالى: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً (27)} [النساء]،
قال بعض الصالحين : سألت الله عدة سنين أمرا سهلا ولم أره استجاب لي !
فقال له بعضهم : وماذا سألته ؟ قال : سألته أن يتوب علي  ..أن يرزقني توبة نصوحا ، قال أتظن هذا الأمر سهلا أوهينا ؟ أتدري ماذا تسأل الله ؟ إنك تسأله أن يحبك ،إنك تطلب محبة الله لأن الله تعالي يقول (  إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) فأنت تطلب درجة من الدرجات العلي منزلة من المنازل التي لاتتطاول إليه الأعناق أن يحبك الله وإذا أحبك الله كان سمعك الذي تسمع به ، وبصرك الذي تبصر به، أصبحت عبدا ربانيا
2- سبب للخروج من دائرة الظالمين:
قال تعالى: }وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) { [الحجرات].
3- طاعة لأمر الله:
قال تعالى: }وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31){ [النور].
4- سبب لمحو الذنوب:
أخرج ابن ماجة في سننه بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب حبيب الله ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) [حسنه الألباني في صحيح الجامع].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(الله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل
نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومه فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه ، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته) وفي بعض الألفاظ (( قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله: أنا ربك وأنت عبدي)) رواه مسلم
5- سبب للفلاح في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67){ [القصص].
وقال تعالى:}إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) {مريم.
وقال تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)] النور.
قال أبو السعود تفوزون بذلك بسعادة الدارين.
وقال ابن كثير أي افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن_إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يتلذذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه.
6- بالتوبة تكفر السيئات:
 فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه. قال تعالى : [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)] الزمر.
وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ(8)] التحريم.
7ـ تبدل السيئات إلى حسنات:    
فإذا حسنت التوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات، وذلك فضل من الله، وتكرم.
قال تعالى: }إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71){ [الفرقان].
قال ابن القيم في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت النبي"فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر(2)] الفتح
قال ابن القيم : واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة.
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة.
ثم قال ابن القيم بعد أن تكلم على القولين السابقين:  إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول.
وقال: التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها.
8- التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين:
قال تعالى على لسان هود عليه السلام : [وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)] هود.
وقال عز وجل على لسان نوح عليه السلام  [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12)] نوح.
9ـ سبب في الحياة الهادئة المطمئنة:
قال تعالى: }وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3){ [هود].
10- تطهر قلب التائب:
أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله تعالى:}كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14){ [المطففين].
11ـ التوبة توجب للتائب آثاراً عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدون التوبة:
فتوجب له المحبة، والرقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرضا عنه؛ فَرُتِّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها.
12ـ حصول الذل والانكسار لله:
ففي التوبة من الذل، والانكسار، والخضوع، والتذلل لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة فالذل والانكسار روح العبودية، ولبُّها.
وحصول ذلك للتائب أكمل له من غيره؛ فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
وقد يكون الذنب أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات: ذلك أن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة.
وهذه العبوديات لها أسباب تُهَيّجها وتبعث عليها، وكلما قيض الرب تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له فهو من أسباب رحمته، ورُبَّ ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي.
قال ابن القيم :وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصْبَ عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى ذكر ذنبه؛ فيحدث له انكساراً، وتوبة، واستغفاراً، وندماً؛ فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً، ومِنَّةً، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجباً لتَرَتُّب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه مُنَكِّساً رأسه خجلاً، باكياً، نادماً، مستقيلاً ربَّه.
وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبراً وازدراءً للناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المانِّ بها وبحاله على الله وعلى عباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك؛ فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك.
13ـ أن يعرف العبد حقيقة نفسه:
وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة وتقوى_فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه.
فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فَرُتّب له على ذلك حكم ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها.
14ـ التوبة سبيل لإغاظة الشيطان ومراغمته:
فالقلب يذهل عن عدوه؛ فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حُرَّاً كريماً، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجاً، طالباً، مقداماً.
والقلب المهين كالرجل الضعيف المهين؛ إذا جرح ولى هارباً، والجراحات في أكتافه.
وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوٍّ له؛ فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه، حتى يقول الشيطان يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه؛ فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: إن المؤمن لَيُنْضِي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره.
والله عز وجل يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظَه.
وهذه العبودية من أسرار التوبة؛ فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة، والتدارك، وحصول محبوب الله من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال ما يوجب جعلَ مكانِ السيئةِ حسنةً، بل حسنات.
العنصر السابع : موانع التوبة : ـ
 ولكن ... ما الذي يُعجز الناس عن التوبة؟
 ما الذي يُؤخرهم أن يتوبوا؟ هذه مسألة لا بد أن نعرفها.
إن الذي يُؤخر الناس عن التوبة عدة أمور:
المانع الأول : التسويف
التسويف ... طول الأمل ... اعتقاد الإنسان أنه لا يزال له في العُمر مُتسع، وفي الحياة مدى بعيد.  إن ابن العشرين يظن أن أمامه مُتسع ... وابن الثلاثين يقول ... وابن الأربعين ... فإذا بلغ الخمسين ... للستين ...
كل إنسان عنده أمل ... وهذا للأسف يُضيِّع على الناس فُرص التوبة، فمَن الذي يدري أيعيش اليوم أم لا يعيش؟
مَن الذي يدري إذا خرج من بيته أيعود إليه حيا أم يعود إليه ميتًا؟ أيعود إليه حاملاً أم يعود محمولاً؟
تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري             إذا جنَّ ليل هــل تعيش إلى الفجر؟
فكم من سليم مات من غير عِلَّة            وكم من سقيم عـاش حينًا من الدهر
وكم من فتى يُمسي ويُصبح آمنًا                    وقد نُسجت أكفانه وهو لا يــدري
فالتوبة واجبة على الفور؛ فأوامر الله ورسوله"على الفور ما لم يقم دليل على جواز تأخيرها ، بل إن تأخير التوبة ذنب يجب أن يستغفر منه.
قال الغزالي رحمه الله تعالي : أما وجوبها على الفور فلا يُسْتراب فيه؛ إذ معرفة
كون المعاصي مهلكاتٍ من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور.
وقال ابن القيم: المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها؛ فمتى أخّرها عصى بالتأخر، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة.
وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة.
أخرج ابن أبي الدنيا في قصر الأمل عن عكرمة في قوله تعالى : [وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)] سبأ . قال: إذا قيل لهم: توبوا، قالوا: سوف.
فعلى العبد أن يعجل بالتوبة؛ لوجوب ذلك؛ ولئلا تصير المعاصي راناً على قلبه، وطبعاً لا يقبل المحو، أو أن تعاجله المنية مصراً على ذنبه.
ثم إنَّ تركَ المبادرة للتوبة مدعاة لصعوبتها، وسبب لفعل ذنوب أخرى.
قال النبي : "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإذا تاب، ونزع, واستغفر صقل قلبه منها، وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه؛ فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14)] المطففين.
قال ابن الجوزي : يا بطَّال إلى كم تُؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور؟
 إلى متى يقال عنك: مفتون مغرور؟
 يا مسكين ! قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور، أترى مقبول أنت أم مطرود؟
 أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركبُ النُّجبَ غداً أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب القصور.
وقال: ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون؟ ما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون؟ كيف نسيتم الزاد وأنتم راحلون؟ كم آبَ مَنْ قبلكم ألا تتفكرون؟ أما رأيتم كيف نازَلهم نازل المنون؟ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
المانع الثاني: هو الاستهانة بالمعصية
الاستهانة بالمعصية ... الاستخفاف بها، استصغار المعصية ... يظن أن هذا شيء بسيط، وهذا ليس من شأن المؤمن، فقد جاء في حديث البخاري: "المؤمن يري ذنبه كالجبل، يخاف أن يقع عليه، والمنافق يري ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال هكذا وهكذا". أطاره من على أنفه ...
مرض بعض الصالحين، فدخل عليه مَن يعوده، فوجده يبكي بكاءً حارًا، فقيل له:
 يا أبا فلان ... مالك تبكي؟ وأنت الذي فعلت وفعلت ... ما رأينا عليك حُرمة انتهكتَها، ولا فريضة تركتَها ... فقال: والله ما أبكي على ذلك، ولكن أبكي لأني أخاف أن أكون قد أتيت ذنبًا أحسبه هينًا وهو عند الله عظيم).
وقد قال بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، وانظر إلي كبرياء من عصيته.
فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بالمعصية، فقد قيل: أن الذنب الذي يخشى ألا يغفر هو الذي يقول فيه صاحبه، ليت كل ذنب فعلته مثل هذا. استصغارًا له، واستهانة بشأنه.
المانع الثالث: الاتكال على عفو الله
ثم هناك مانع نفسي آخر ... هو ... الاتكال على عفو الله، وهذه أمنية يبذُرها الشيطان في قلب بعض الناس: {يأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا (169)} [الأعراف]، هكذا كان يفعل اليهود ... يأخذون متاع الحياة الدنيا ويقولون: سيغفر لنا، ينظرون إلى جانب العفو والمغفرة، ولا ينظرون إلى جانب البطش والعقاب، والله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر].
صحيح أن رحمته وسعت كل شيء، ولكن لمَن كتب هذه الرحمة؟ إنه تعالي يقول: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)} [الأعراف]،
ويقول تعالي: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف].
فإذا نظر الإنسان إلى قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، فيكمل الآية {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)} [غافر].
المؤمن بين الرجاء والخوف : وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن بين الرجاء والخوف، {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ (9)} [الزمر]، كالذين حدَّث الله عنهم: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(57)} [الاسراء].
كان بعض الصالحين يقول:
ما بال قلبك ترضى أن تُدنِّسه              وثوبك الدهر مغسول من الدَّنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها               إن السفينة لا تجري على اليبس
المانع الرابع : الاغترار بإمهال الله للمسيئين:
 فمن الناس من يسرف على نفسه بالمعاصي؛ فإذا نصح عنها، وحُذِّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاجُ الأرض بمفاسدهم، ومباذلهم، وظلمهم، وقتلهم الأنفس بغير الحق، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأكلهم الربا وقد نهوا عنه، ومع ذلك نراهم وقد درت عليهم الأرزاق، وأنسئت لهم الآجال، وهم يعيشون في رغد ونعيم بعيد المنال؟ . ولا ريب أن هذا القول لا يصدر إلا من جاهل بالله، وبسننه عز وجل.
ويقال لهذا وأمثاله: رويدك، رويدك؛ فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن أحب، ولمن لا يحب؛ وهؤلاء المذكورون مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون؛ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ فما الذي هم فيه من النعيم إلا استدراج، وإمهال، وإملاء من الله عز وجل حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال صلي الله عليه وسلم "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)] هود.
وقال عليه الصلاة والسلام"إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج  ثم تلا قوله عز وجل : [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)] الأنعام.
قال ابن الجوزي: فكل ظالم معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنبٍ ذنباً، وهو معنى قوله تعالى : [مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (123)] النساء.
وربما رأى العاصي سلامة بدنه؛ فظن أن لا عقوبة، وغفلتُه عما عوقب به عقوبة.
وقد قال بعض الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة، وربما كان العقاب العاجل معنويَّاً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب ! كم أعصيك، ولا تعاقبني ! فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري؟ ! أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟
قال ابن الجوزي: الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة.
وقال: قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة؛ فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل. وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النُّهى، فتكون كالمعاندة والمبارزة ، فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق، أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا تُتلافى، خصوصاً إذا وقعت من عارف بالله؛ فإنه يندر إهماله.
وقال: فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدار البدار إلى محوها بالإنابة؛ فإن لها تأثيراتٍ قبيحةً إن أسْرَعَتْ، وإلا اجتمعتْ وجاءتْ.(صيد الخاطر لابن الجوزي)
يا من غدا في الغي والتيه   وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته    ولم تخف غِبَّ معاصيه
المانع الرابع : أرض المعصية والبيئة  وعدم تغيير الأصحاب التي يعيش الإنسان معهم  كما في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس .  
المانع الخامس : نسيان الموت والخاتمة
أيها الإخوة: ينبغي أن نُسارع بالتوبة ... ينبغي أن نُبادر فنُراجع حسابنا مع الله عز وجل، ونصحح أخطاءنا، ونقف على باب ربنا مُستغفرين تائبين، نقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)} [الأعراف]، خير ما نخرج به من رمضان توبة صادقة نصوح، نكفر بها سيئاتنا، ونغسل بها أوزارنا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ(8)} [التحريم].
فالعبد إذا تاب من ذنب ثم عاد إليه مرة أخرى يكون ناقضاً للتوبة؛ فيلزمه حينئذ أن يجدد التوبة.
 قال تعالى: في وصف المتقين في سورة آل عمران: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135){] آل عمران. 
العنصر الثامن : من قصص التائبين :ـ
توبة العبد العاصي :  حكي ابن قدامة في كتاب التوابين ...
روي أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السلام فاجتمع الناس إليه فقالوا يا كليم الله ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفا أو يزيدون فقال موسى عليه السلام إلهي اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع فما زادت السماء إلا تقشعا  والشمس إلا حرارة ، فقال يارب دعوناك كما فلم تستجب لنا كما وعدتنا ، فقال يا موسي : إن فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم فقال موسى إلهي وسيدي أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفا أو يزيدون فأوحى الله إليه منك النداء ومني البلاغ فقام مناديا وقال يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدا خرج فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل وإن قعدت معهم منعوا لأجلي فأدخل رأسه في ثيابه نادما على فعاله وقال إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة وأمهلتني) وقد أتيتك طائعا فاقبلني فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب فقال موسى إلهي وسيدي بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد فقال يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم فقال موسى إلهي أرني هذا العبد الطائع فقال يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني أفضحه وهو يطيعني.
توبة مالك بن دينار
وروى عن مالك بن دينار أنه سئل عن سبب توبته فقال كنت شرطيا وكنت منهمكا على شرب الخمر ثم إنني اشتريت جارية نفيسة ووقعت مني أحسن موقع فولدت لي بنتا فشغفت بها فلما دبت على الأرض ازدادت في قلبي حبا وألفتني وألفتها قال فكنت إذا وضعت المسكر بين يدي جاءت إلي وجاذبتني كان عليه وهرقته من ثوبي فلما تم لها سنتان ماتت فأكمدني حزنها فلما كانت ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة الجمعة بت ثملا من الخمر ولم أصل فيها عشاء الآخرة فرأيت فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامت ونفخ في الصور وبعثرت القبور وحشر الخلائق وأنا معهم فسمعت حسا من ورائي فالتفت فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مسرعا نحوي فمررت بين يديه هاربا فزعا مرعوبا فمررت في طريقي بشيخ نقي الثوب طيب الرائحة فسلمت عليه فرد السلام فقلت أيها الشيخ أجرني من هذا التنين أجارك الله فبكى الشيخ وقال لي أنا ضعيف وهذا أقوى مني وما أقدر عليه ولكن مر وأسرع فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه فوليت هاربا على وجهي فصعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى هولها وكدت أهوي فيها من فزع التنين فصاح بي صائح ارجع فلست من أهلها فاطمأننت إلى قوله ورجعت ورجع التنين في طلبي فأتيت الشيخ فقلت يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل فبكى الشيخ وقال أنا ضعيف ولكن سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك أبو قال فنظرت إلى جبل مستدير من فضة وفيه كوى مخرمة وستور معلقة على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلة باليواقيت مكوكبة بالدر على كل مصراع ستر من الحرير فلما نظرت إلى الجبل وليت إليه هاربا والتنين من ورائي حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه فإذا الستور قد رفعت والمصاريع قد فتحت فأشرف علي من تلك المخرمات أطفال بوجوه كالأقمار وقرب التنين مني فتحيرت في أمري فصاح بعض الأطفال ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه عدوه فأشرفوا فوجا بعد فوج وإذا أنا بابنتي التي ماتت قد أشرفت علي معهم فلما رأتني بكت وقالت أبي والله ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يدي فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى فتعلقت بها ومدت يدها اليمنى إلى التنين فولى هاربا ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي وقالت يا أبت }أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (16){ الحديد
فبكيت وقلت يا بنية وأنتم تعرفون القرآن فقالت يا أبت نحن أعرف به منكم قلت فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني قالت ذلك عملك السوء قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم قلت فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي قالت يا أبت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء قلت يا بنية وما تصنعون في هذا الجبل قالت نحن أطفال المسلمين قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم قال مالك فانتبهت فزعا وأصبحت فأرقت المسكر وكسرت الآنية وتبت إلى الله عز وجل وهذا كان سبب توبتي.
العنصر التاسع : الطريق إلي التوبة :ـ
من المعينات علي التوبة أشياء كثيرة نذكر بعضا منها ....
1ـ الإخلاص لله، والإقبال عليه عز وجل :
 فالإخلاص لله عز وجل أنفع الأدوية، فإذا أخلص الإنسان لله، وصدق في طلب التوبة أعانه الله عليها، ويسره لها، وأمده بألطاف لا تخطر بالبال، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه، وتصده عن توبته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قَطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذّ، ولا أمتع، ولا أطيب.
والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحبَّ إليه، أو خوفاً من مكروه؛
فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال الله تعالى في حق يوسف:}كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24){ يوسف.
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها؛ فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر بلا علاج.
وقال عن سيدنا يوسف عليه السلام: فأخبر سبحانه أنه صرف عن يوسف السوء من العشق، والفحشاء من الفعل بإخلاصه؛ فإن القلب إذا أُخْلِص وأَخْلَص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور؛ فإنه إنما يتمكن من القلب الفارغ.
وقال: وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى:[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)] يوسف.
2ـ امتلاء القلب من محبة الله عز وجل:  فالمحبة أعظم محركات القلوب؛ فهي الباعث الأول للأفعال والتروك.
وما أُتي من اسْتُذِل واستعبد لغير الله بمثل ما أُتي من باب المحبة؛ فالقلب إذا خلا من محبة الله تناوشته الأخطار، وتسلطت عليه سائر الرغائب والمحبوبات، فشتَّتته، وفرقته، وذهبت به كل مذهب.
فإذا امتلأ القلب من محبة الله بسبب العلوم النافعة والأعمال الصالحة كَمُلَ أنسه، وطاب نعيمه، وسلم من التعلق بسائر الشهوات، وهان عليه فعل سائر القربات؛ فمن المتقرر أن في القلب فقراً ذاتياً، وجوعة وشعثاً وتفرقاً.
ولا يغني هذا القلب، ولا يلم شعثه، ولا يسد خلته إلا عبادة الله، و محبته.
فأجدر بمن يريد الإقبال على الله، والإنابة إليه أن يملأ قلبه من محبة الله؛ ففي ذلك سروره، ونعيمه، وأنسه، وفلاحه.
قال ابن تيمية: والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة، وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة.
وقال رحمه الله أيضا عن محبة الله عز وجل : وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها، وفَرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده.
3ـ المجاهدة: فالمجاهدة عظيمة النفع، كثيرة الجدوى؛ معينة على الإقصار عن الشر، دافعة إلى المبادرة إلى الخير؛ ذلك أن النفوس طلعة إلى الشرور، مؤثرة للكسل والبطالة؛ فإذا راضها الإنسان، وجاهدها في ذات الله فليبشر بالخير، والإعانة والهداية.
قال تعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)] العنكبوت.
قال أحد السلف :
ومن يطعم النفس ما تشتهي     كمن يطعم النارَ جَزْل الحطب
وقال سليمان بن عبدالملك:   
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى        إلى بعض ما فيه عليك مقال
ولا تعني المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرات، وإنما يجاهدها في ذات الله حتى الممات.
فإذا وطن نفسه على المجاهدة أقبلت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات.
ولو لم يأت الإنسان من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى إلا أن يتحرر من رق الهوى، وسلطان الشهوة.
4ـ قِصَر الأمل وتَذَكُّر الآخرة: فإذا تذكر المرء قِصَرَ الدنيا، وسرعة زوالها، وأدرك أنها مزرعة للآخرة، وفرصة لكسب الأعمال الصالحة، وتذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، وما في النار من النكال والعذاب الأليم أقصر عن الاسترسال في الشهوات، وانبعث إلى التوبة النصوح وتدارك ما فات بالأعمال الصالحات.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله"بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
قال الإمام ابن رجب تعليقاً على هذا الحديث: وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها.
ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيىء جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم.
وقال ابن الجوزي: من تَفَكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
5ـ العلم: فالعلم نور يستضاء به، ويُنظر من خلاله إلى الأمور على حقيقتها.
والعلم يَشْغَل صاحبه بكل خير، ويُشْغله عن كل شر؛ فإذا فُقِد العلم فقدت البصيرة، وحل الجهل، وانطمست المعالم أمام الإنسان، واختل ميزان الفضيلة والرذيلة عنده؛ فلم يعد يفرق بين ما يضره وما ينفعه، فيصبح بذلك عبداً للشهوة، أسيراً للهوى؛ فما أتي الإنسان من باب كما يؤتى من باب الجهل؛ فحري بالعاقل الناصح لنفسه ألا يبخس حظه من العلم، وأن ينال ولو قدراً يسيراً منه.
ومن العلم في هذا السياق العلم بعاقبة المعاصي، وقبحها، ورذالتها، ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضره.
6ـ  الاشتغال بما ينفع، وتجنب الوحدة والفراغ: ذلك أن الفراغ يأتي على رأس الأسباب المباشرة للانحراف؛ فالقطاع الكبير من الشباب يعاني من فراغ قاتل يؤدي إلى الانحراف والشذوذ، وإدمان المخدرات، ويقود إلى رفقة السوء، وعصابات الإجرام، ويتسبب في تدهور الأخلاق، وضيعة الآداب.
فإذا اشتغل الإنسان بما ينفعه في دينه ودنياه قلَّت بطالته، ولم يجد فرصة للفساد والإفساد.
قال ابن القيم: ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولابد.
7ـ البعد عن المثيرات، وما يذكر بالمعصية: فيبتعد عن كل ما يثير فيه دواعي المعصية، ونوازع الشر، ويبتعد عن كل ما يثير شهوته، ويحرك غريزته من مشاهدة للأفلام الخليعة، وسماع للأغاني الماجنة، وقراءة للكتب السيئة، والمجلات الداعرة.
كما عليه أن يقطع صلته بكل ما يذكره بالمعصية من أماكن الخنا، ومنتديات الرذيلة التي تذكره بالمعصية، وتدعوه إليها؛ فالشيء إذا قطعت أسبابه التي تمده زال واضمحل؛ فالقرب من المثيرات بلاء وشقاء، والبعد عنها جفاء وعزاء؛ فكل بعيد عن البدن يؤثر بعده في القلب؛ فليصبر على مضض الفراق صبر المصاب في بداية المصيبة، ثم إن مر الأيام يهون الأمر، خصوصاً إذا كان ذلك مما يثير العشق والغرام.
ومن البعد عن المثيرات أن يبتعد الإنسان عن الفتن؛ لأن البعد عنها نجاة وسلامة، والقرب منها مدعاة للوقوع فيها.
قال ابن الجوزي:من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وكل إلى نفسه، وربَّ نظرةٍ لم تناظِر.
ومن المثيرات التي يجدر بالإنسان تجنبها فضول الطعام، والمنام، ومخالطة الأنام؛ فإن قوة المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب مَصْرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام.
8ـ غض البصر: فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته، وقد مر فيما مضى ذكر لغض البصر وأثره على قلب الإنسان، والحديث في هذه الفقرة إكمال لما مضى.
قال تعالى: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ (30)] النور
قال ابن تيمية: فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس.
وزكاةُ النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.
وأن غض البصر  يورث القلبَ نوراً، وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.
كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه؛ ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (35)] النور. عقيب قوله: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ(30)] النور.
9ـ  مصاحبة الأخيار: فمصاحبة الأخيار تحيي القلب، وتشرح الصدر، وتنير الفكر، وتعين على الطاعة؛ فجليس الخير ينصح لك، ويُبَصّرك بعيوبك، ويعينك على تلافيها.
كما أنه يَدُلُّك على أهل الخير، ويكفك عن أهل المعاصي؛ فقد تتركها حياء منه، ثم تنبعث بعد ذلك إلى تركها بالكلية.
وجليس الخير يذكرك بالله، ويحفظك في حضرتك ومغيبك، ويرفع من قدرك، ويحافظ على سمعتك.
ومجالس الخير تغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة، وتتنزل عليها السكينة.
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم     ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
10ـ مجانبة الأشرار: لأن رفقة السوء تحسن القبيح، وتقبح الحسن، وتجر إلى الرذيلة، وتزري بالفضيلة.
ثم إن المرء يتأثر بعادات جليسه؛ فالصاحب ساحب، والطبع استراق.
ولو لم يأت من مجالسة هؤلاء إلا أن الإنسان يقارن أفعاله بأفعالهم، فيتقالّ سيئاته بجانب سيئاتهم؛ فيقوده ذلك إلى الجرأة والإقدام على فعل الموبقات والآثام.
فرفيق السوء يفسد على المرء دينه، ويخفى على صاحبه عيوبه، ويصله بالأشرار، ويقطعه عن الأخيار، ويقوده إلى الفضيحة والخزي والعار. كما أنه يهون عليه شأن المعاصي، ويجرؤه على ارتكابها.
ثم إن صحبة الأشرار عرضة للزوال في أي لحظة، وعند أدنى خلاف، ولو دامت في هذه الدنيا فسرعان ما تزول في الآخرة. ثم إن مجانبة الأشرار من أعظم ما يعين على التوبة.
ولهذا جاء في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أنه لما أتى إلى الرجل العالم وسأله: هل له من توبة.
 قال له: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء.
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائبِ المواضعَ التي أصاب بها الذنوب، والأخدانَ المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح، والعلماء، والمتعبدين الورعين، ومن يقتدى بهم، ويُنتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك.
فإذا تبين ذلك فما أحرى بذي اللب أن ينأى عن الأشرار، ويفر منهم فراره من الأسد.
11ـ النظر في العواقب: فذلك يوقف الإنسان على حقائق الأشياء، ويريه الأمور كما هي، وبذلك يقصر عما يهوى؛ خشية من سوء العاقبة.
وما أتي أكثر الناس إلا من قبل غفلته وجهله بالعواقب، ولو أوتي حظاً من النظر لما آثر اللذة العاجلة الفانية على اللذات الآجلة الباقية.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالي : لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظةً، وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه، ولو أعطي الدنيا، غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك.
وقال: تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي، فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة في طلب اللذات، فنظرت في اللذات فإذا هي خِدعاً ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها نغصاً، فتخرج عن كونها لذاتٍ؛
 فكيف يتبع العاقل نفسه، ويرضى بجهنم لأجل هذه الأكدار؟
وقال: إنما فَضُل العقلُ بتأمل العواقب؛ فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها؛ فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد، والبطَّال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم، وكسب المال؛ فإذا كبر فسئل عن علم لم يدرِ، وإذا احتاج سأل فذلَّ؛ فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
وكذلك شارب الخمر يلتذ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة.
وكذلك الزنا؛ فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد، وربما كان للمرأة زوج، فألحقت الحمل من هذا به، وتسلسل الأمر.
فقس على هذه النبذة، وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوِّت خيراً كثيراً، وصابر المشقة تُحصِّل ربحاً وآفراً.
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالي يتمثل بهذين البيتين:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها     من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها       لا خير في لذة من بعدها النار.
12ـ هجر العلائق: قال ابن القيم رحمه الله تعالي وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا، وشهواتها، ورياساتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم.
ولا سبيل إلى قطع هذه الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع؛ فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، وآثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره وكذا بالعكس.
والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به، وشرفه، وفضله على ما سواه.
12ـ  استحضار فوائد ترك المعاصي: قال ابن القيم رحمه الله تعالي : سبحان الله رب العالمين! لو لم يكن في ترك المعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق، وجواز القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي أو ظلم، وذَبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به لقدومه على ربه، ولقائه له، ومصيره إليه، وصِغَرُ الدنيا في قلبه، وكِبَرُ الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة، وَوَجْدُ حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به، ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له، وإقباله عليه، وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه.
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا، فإذا مات تَلَقَّتْه الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش، فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين، }ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4){ الجمعة.
13ـ استحضار أضرار الذنوب والمعاصي: فإن للذنوب والمعاصي أضراراً عظيمةً، وعقوباتٍ متنوعةً، سواء في الدنيا أو في الآخرة، على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات.
فمن أضرارها حرمان العلم والرزق، والوحشةُ التي يجدها العاصي في قلبه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ومنها تعسير الأمور، وسواد الوجه، ووهن البدن، وحرمان الطاعة، وتقصير العمر، ومحق بركته.
ومنها ظلمة القلب، وضيقه، وحزنه، وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه، واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعَرِّيه من زينته.
ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها، وتقوي في القلب إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنسلخ إرادة التوبة من القلب بالكلية، فيستمرىء صاحبها المعصية، وينسلخ من استقباحها.
14ـ الدعاء: فهو من أعظم الأسباب، وأنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل.
قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (60)] غافر.
وقال: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي (186)] البقرة.
ومن أعظم ما يُسأل، ويدعى به سؤال الله التوبة؛ وذلك بأن يدعو الإنسان ربه أن يمن عليه بالتوبة النصوح، مهما كانت حاله.
ولهذا كان من دعاء نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل_عليهما السلام: [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)] البقرة.
وكان من دعاء نبينا محمد صلي الله عليه وسلم "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم"
وكان من دعاء عباد الله المؤمنين: [رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] آل عمران:
فحري بمن أراد التوبة أن يسأل ربه أن يرزقه إياها، وأن يلح عليه بذلك، وأن يتحين الأوقات، والأحوال، والأوضاع، التي هي مظان الإجابة، كالدعاء في السجود، وفي آخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي حال إقبال القلب، واشتداد الإخلاص، والاضطرار إلى غير ذلك. 
قال ابن الجوزي: أيها المذنب قف بالباب إذا نام الناس، وابسط لسان الاعتذار، ونكس الرأس، وامدد بعد السؤال ولا بأس، وقل ليس عندي سوى الفقر والإفلاس.
15ـ الحياء: فهذا الخلق إذا غَزر في النفس، ونمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاءً، ونفض على ظاهر صاحبها مآثر خَيْراتٍ حِسان.وإذا انتُزع من شخص فقد فقَدَ المروءة، وثكل الديانةَ التي هي الجناح المبلغ لكل كمال؛ ذلك أن الحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح، وهو عبارة عن انقباض النفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح.
فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النفس اختلت هيئة الإنسان بالضرورة، وبقي صاحبها سائماً في مراتع البغي والفسوق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.
وبالجملة فالحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء خلق الإسلام، وشعبة من شعب الإيمان. قال النبي صلي الله عليه وسلم "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"
هذا وإن أعظم الحياء أن يستحي العبد من ربه جل وعلا وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ فإن العبد متى علم بنظره إليه، ومقامه عليه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وكان حيياً استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
ومن الحياء الحياءُ من الناس بترك المجاهرة بالقبيح أمامهم.
ومن الحياء أيضاً حياء الإنسان من نفسه بأن لا يرضى لها بمراتب الدون، وهذا حياء أهل النفوس الأبية.
ولئن كان الحياء جبلياً فإنه يزيد ويتأتى بالأخذ بالأسباب، ومن ذلك مطالعة أخلاق الكمل، واستحضار مراقبة الله؛ فمن ذلك يتولد الحياء؛ إذ كيف يتقلب في نعمه ويستعين بها على معصيته؟ فإذا شعر العاقل بذلك استحيى من الله.
فإذا اتصف المرء بالحياء قرب من الكمال، ونأى بنفسه عن النقائص.
الخاتمة: فما أحوج الأمة اليوم أن تعود إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها
 فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من ربا، ومجون، وفسق وشرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة.
فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض.
قال تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (55)] النور.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا ويتقبل منا ويحفظنا من المعاصي ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك ومولاه .
آمين يا رب العالمين
=========
رابط pdf

رابط doc









ليست هناك تعليقات: