22 مايو 2019

رمضان وصناعة الرجال







الحمد لله رب العالمين .. فرض الصيام تزكية للنفوس وتطهيرا للأرواح وتقوية للأخلاق فقال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة].
وأشهـد أن لا إله إلا الله  وحده لا شريك له ... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير ...ميز الأمة الإسلامية وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله فقال تعالي{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ...(110)}[ آل عمران].  
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله ()... ربي أصحابة علي الرجولة الحقة فخرج منهم خير الرجال  فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ:{خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ }.[رواه البخاري ومسلم] .
أما بعـد ...فيا أيها المؤمنون ..
إن الرجولة صفة امتن الله تعالي بها علي أهل الإيمان،ولأهميتها ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعًا.
فالرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته ودينه وأمته.
وإذا كانت الرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم، ما كانوا إلا رجالاً قال تعالي {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم (109)}[يوسف].
فلم يرسل الله عز وجل إلى الناس إلا رجالاً.
هذه الرجولة التي ضاعت مضامينها اليوم، وفقدت أركانها عند الكثيرين، فصاروا أشباه الرجال ولا رجال، هذه الرجولة نحتاج لنبنيها من جديد ،ولقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصي ، فمن هذه النعم شهر رمضان ...
إنه أعظم شهر في ميزان الإسلام..
فرمضان ليس مجرد شهر كباقي الشهور وإنما رمضان له دور كبير في بناء الأمة الإسلامية ، وصناعة الرجال، ولكن كيف يصنع الرجال؟؟
ولذلك كان موضوعنا عن [رمضان وصناعة الرجال ] وذلك من خلال  هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ دور رمضان في صناعة الرجال.
2ـ معيارالرجولة الحقيقية.
3ـ نماذج من الرجال خلدهم التاريخ.
4ـ وصايا عملية في غرس الرجولة عند الصغار.
=========================
العنصر الأول: دور رمضان في صناعة الرجال.
رمضان يقوم بفعل ثلاثة أشياء هامة في صناعة الرجال وهي:[التنقية والتميز والتربية!]
أولا : رمضان وتنقية الأمة الإسلامية :ـ
كثير من الناس يتسمى بأسماء إسلامية, ومحسوب على أمة الإسلام, وهو لا يحمل همها..
كثير من الناس أسلموا رغباً أو رهباً, أو ولدوا هكذا مسلمين دون  اختيار منهم ومع ذلك لم يكن لهم رغبة حقيقية في الإسلام..
كيف يمكن التفرقة بين من أسلم حقاً وقلبه مطمئن بالإيمان, والذي آمن بلسانه وقلبه مهتز مضطرب؟!
والأمور في حالات السلم والرخاء قد لا تكون شديدة الوضوح، ولكن في وقت الجهاد والجد والحرب ولقاء الأعداء لابد أن يكون المجتمع ثابتاً ، ولا يثبت في أرض الجهاد إلا صادق الإيمان..
ومن ثم فإنه قبل المواقع الفاصلة لابد من انتقاء المسلمين الصالحين للثبات والجهاد, ولابد من انتقاء المسلمين الصالحين لدخول بدر الكبرى، والصالحين لدخول ما شابه بدراً الكبرى.. 
فالكل يقول أنا مسلم ثابت.. ولكن أين الصادقون وأين الكاذبون؟!..
لابد من اختبار!..
ورمضان اختبار هام!..
رمضان يحدث خلاله وبعده "تنقية" للأمة المسلمة من الشوائب..
الذي سيفشل في الامتحان لا تبني عليه حساباتك..
والذي يثبت في رمضان سيثبت  إن شاء الله  في غيره..
ولكي يكون الاختبار حقيقياً لابد أن يكون صعباً..
فما هي صعوبة رمضان؟!
صعوبة رمضان ترجع إلى أمور عدة:ـ
1ـ منها أنه فرض.. وطبيعة الناس أن تنفر من الفروض والتكليفات..
2ـ ومنها أنه شهر كامل متصل.. والأعذار فيه محدودة، وليس لك بديل عن الصيام إلا بعذر مقبول شرعاً، وقد يأتي رمضان في الحر، أو قد يأتي في وقت تزدحم فيه الأعمال عليك، أو قد يأتي في وقت تكثر فيه مشاغلك وهمومك، وفي كل هذا هو شهر كامل متصل لا يصلح الذي قبله ولا الذي بعده..
3ـ ومنها أنه خروج على المألوف، فشهوة الطعام والشراب والجماع شهوات مزروعة في داخل كل إنسان.. وفي رمضان ستخرج خروجاً تاماً عن المألوف، ستجوع ، ستعطش، ستتعب.. ستنهك، ولكن يجب أن تصبر..
4ـ ولكن أصعب من كل ذلك أن تصوم صياماً حقيقياً كما أراد الله عز وجل،فليست المسألة مسألة طعام وشراب وشهوة فقط، ولكن الأمر أكبر من ذلك، والاختبار أصعب من ذلك..
فعلى سبيل المثال ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ():
"من لم يدع قول الزور العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه شرابه"..
وفي رواية أيضاً في البخاري وأبي داود واحمد..
"من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل (أي الجهل على الناس أو صفات الجهل بصورة عامة) فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"..
إذن لابد أن تدرك أنك في رمضان ستدخل في اختبار صعب..
إن نجحت فيه كنت مؤهلاً لحمل الأمانة ولبناء الأمة، وإن فشلت فليس لك مكان في الصرح العظيم..
ومن هنا فليس من المعقول أيها المسلمون ـ لفرد مسلم مؤمن يدخل في اختبار عظيم كاختبار رمضان ثم هو يقضي الساعات الطوال أمام التليفزيون مثلاً!!..
ليس من المعقول أن يقضي المسلم الواعي الأوقات الطويلة في لعب الكوتشينة والطاولة وما شابه بحجة أنه "يسلي" صيامه!!!..
ليس من المعقول أن يذهب الصائم إلى عمله متأخراً ويخرج منه مبكراً ويقضي نصف نهاره نائماً والسبب أنه "صائم"!!..
اعلم أخي المسلم أن رمضان اختبار لتنقية صف المسلمين..
ومن الذي يختبرك؟!
إنه الله عز وجل!!
قال تعالي {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}[الزمر].
إذن رمضان اختبار يراقب الله عز وجل فيه أفعال العباد.. فينتقي الصالحين ويطرد الفاسدين وبذلك تحدث التنقية للمجتمع المسلم..
والأمة التي تبني على أكتاف عناصر صالحة ستكون أمة قوية إن شاء الله..
ثانياً: رمضان وتميز الصف المؤمن عن غيره من الصفوف:ـ
كان المسلمون في السنة الأولى في المدينة المنورة كانوا يصومون عاشوراء مع اليهود،
وكان ذلك فرضاً على المسلمين..
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي () فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: "ما هذا؟" قالوا : يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال رسول الله ():"أنا أحق بموسى منكم فصامه, وأمر بصيامه "..
فلما فرض شهر رمضان قال: "من شاء صامه  أي يوم عاشوراء ـ ومن شاء تركه"..  أي أصبح صيام يوم عاشوراء نافلة.
الآن.. ستتميز الأمة الإسلامية عن غيرها.. ستصوم شهراً خاصاً بها.. ومن المؤكد أنها ستشعر بالعزة لهذا التميز..
فجاء رمضان ليؤسِّس مبدأ (التمايز)؛ أي: تمايز الأمَّة المسلِمة عن غيرها في كلِّ شيء: في الرِّسالة، والتشريع والمنهج، والأخلاق والسلوك، وقبلَ كلِّ ذلك التمايز في التصوُّر والاعتقاد.
لقد تخطَّى الحدثُ حدودَ الزمان؛ ليُلقي بظلاله على أيَّامنا؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ():{لتَتبعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم شِبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع؛ حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه". قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!"؛ أي: فمَن غيرهم؟!} [رواه الشيخان].
عَلِم الله  تعالى وأخبر رسوله () أنَّ كثيرًا من أبناء الأمَّة الإسلاميَّة في فترات ضَعْفهم، وسقوط حضارتهم، سيذوبون في الحضارات المنتصرة عليهم، مهما كانت ماديَّة وغير مُسلِمة؛
لذا أخبرنا الرسول  بذلك الحال المستقبلي لنتجنَّبَه.
إنَّ مظاهر الذوبان، وعدم التمايُز كثيرةٌ اليومَ بين صفوف المسلمين؛ تُشاهِدُها في ابتعادهم عن لُغة القرآن، وتعلُّقهم باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، وليست المشكلة في الحرص على تعلُّم الإنجليزية وغيرها؛ ففي زمان الضَّعْف هذا صارتْ هي لغةَ العِلْم والحضارة، ولكن المشكلة في ابتعادنا عن لُغتنا الأم، حتى صارتْ أسماء المحالِّ أجنبيَّة، وصارتْ لُغة الحياة اليوميَّة مشحونة بالألفاظ الأجنبيَّة، وصار مَقامُ الفرد في عين مُحدِّثيه يُقَيَّم بعدد المصطلحات الأجنبيَّة التي يستخدمها.
وكذلك نرى مظاهرَ الذوبان في شكل الملابس، وأنماطِها؛ فالظواهر الشاذَّة كالبِنطال الساقط وغيرِه انتقلتْ إلينا بسرعة من الغرْب، ولم تجد من كثير من الشباب إلاَّ الترحيب، بينما خفتتِ الأصواتُ المستنكرة لها شيئًا فشيئًا، كعادتنا في زمن الضَّعْف، وغير ذلك من المظاهر كثير.
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه .
فهذا التميز تلبية للشعور بالإمتياز والتفرد ; كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالإمتياز والتفرد .
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم , التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء . 
ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات ، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات ، كان نظرة إلى البواعث الكامنة  وراء الأشكال الظاهرة ، وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم , وعقلية عن عقلية , وتصورا عن تصور , وضميرا عن ضمير , وخلقا عن خلق , واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال:قال رسول الله () قال:{إن اليهود والنصارى لا يصبغون ،فخالفوهم }[رواه البخاري ومسلم ].
وقال رسول الله () وقد خرج على جماعة فقاموا له:{لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها }[رواه الترمذي] .
وقال صلوات الله وسلامه عليه:{لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا:عبد الله ورسوله }[أخرجه البخاري] . 
وعَنْ  شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ():{خَالِفُوا الْيَهُودَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ}[أخرجه أبو داود].
نهى عن تشبه في مظهر أو لباس ،ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك ، ونهى عن تشبه في قول
أو أدب . .
إنَّ الأمم التي تُريد أن تنهض لا بدَّ أن يكون التمايز مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّنات مشروعها الحضاري النهضي. 
ثالثاً:رمضان وتربية المجتمع المسلم:ـ
ماذا يربي رمضان فينا؟!
1ـ رمضان يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر..
فالله عز وجل يحب من عبده أن ينصاع له دون جدل, وأن يطيعه دون تردد ،والله تعالي يٌظهر لنا أحيانا الحكمة من وراء الأمر, ولكنه أحيانا أخرى يخفيها, ومع ذلك فإنه في كل الحالات على المؤمنين أن يطيعوا..كما قال تعالي {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}[الأحزاب].
ـ لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب, وليس من الفجر إلى العصر أو إلى العشاء, أو من الشروق إلى الغروب؟!.
وهناك أسئلة بلا إجابات.. ومقصود أن لا يكون لها إجابات..
والغرض منها: تربية المؤمنين على الطاعة الكاملة لله عز وجل, ولرسوله الكريم (
وحتى وإن ظهر لعيوننا القاصرة طرف من الحكمة فهي ليست كامل الحكمة, أو قد لا تكون الحكمة مطلقاً.
هذه واحدة من تربويات رمضان.. ومعنى ذلك أنه لا يستقيم بعد رمضان أن تسمع حكماً من أحكام الله ثم تجادل.. أو تسمع حكماً من أحكام الرسول () ثم تجادل..
قال تعالي{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}[النساء]
2ـ رمضان يربي المسلمين على كبت شهواتهم, أو قل على "التحكم" في الشهوات إلى أن تصرف في المكان الصحيح..
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال :قال رسول الله():{من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه اضمن له الجنة}[رواه البخاري ومسلم].
لحييه هما العظمات في جانبي الفم, والذي بينهم هما اللسان والفم, فيشتمل ذلك الكلام والطعام والشراب, أما ما بين الرجلين فهو الفرج..
فرمضان يدرب المؤمن تدريباً عظيماً على حفظ هذه الأشياء.. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ():{الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه (لاحظ الصيام منع الطعام"ما بين لحييه", ومنع الشهوات "ما بين رجليه") ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه (أي قيام الليل) فيشفعان} [رواه الإمام احمد بسند صحيح]
تدريب عظيم على التحكم في الشهوات..
نلاحظ أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال ، ولكنها حرمت في نهار رمضان فقط, وهي حلال طوال العام, بل هي حلال حتى في ليل رمضان، وذلك مثل الطعام بأنواعه, والشراب بأنواعه, والجماع مع الزوجة..  فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد عليها سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام والشراب الحرام والعلاقات المحرمة وهكذا..
وهذا أقدر في بناء الرجال ، لانه من استطاع أن ينتصر علي نفسه وشهواته فيكون أقدر في الانتصار علي الأعداء ، وتحمل المشاق في الأزمات والشدائد .
الجهاد مشقة كبيرة.. وستأتي على الأمة المجاهدة أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة, ومن كان معتاداً على الصيام فهو على الجهاد أقدر من غيره..
ففي غزوة خيبر قل الطعام جداً في أيديهم حتى ذبحوا الحمر الأهلية, وطبخوها, وهموا بأكلها فعلاً, ولكن رسول الله () منعهم من ذلك, وحرمها عليهم.. 
وهذه فتنة كبيرة لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء, فمن الله عليهم بالثبات في أيام الشدة..
والصيام بصفة عامة سواء في رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي..
دور التدريب على التحكم في الشهوات.. ومن هنا نستطيع أن نفهم النصيحة النبوية الغالية من رسول الله () إلى عامة الشباب... عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله () قال:{يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء}[ رواه البخاري ومسلم].
ومن أجل ذلك أيضاً حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين على كثرة الصيام طوال العام.. ولكن من رحمته لم يجعل ذلك فرضاً عليهم..
وهكذا يصبح المؤمن مدرباً طوال العام على التحكم في شهوته, والتحكم في فطرته تحكماً سليماً.. وما أنفع ذلك في بناء الرجال.
ثالثاً: رمضان يربي المؤمنين على التحكم في الأعصاب, والقدرة على كظم الغيظ :.
وهذا أمر من أعظم الأمور في بناء الرجال بناءاً سليماً..  لأن الفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمم..
ما هو دور رمضان في هذا الموضوع؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ():{قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة.(أي الصيام وقاية وحماية للإنسان), فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم, إني صائم}[رواه البخاري ومسلم].
إذن الصيام يربي على التحكم في الأعصاب, وعلى عدم انفلات اللسان, وعلى كظم الغيظ,
وعلى العفو عن الناس, وكلها صفات أساسية للرجال..
فالإسلام دين راق جداً.. يدرب أتباعه على حسن معاملة الآخرين حتى في حال العداوة والكراهية..قال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}[المائدة].
والصيام يقوم بهذا التدريب بصفة مستمرة ، فتستفيد الأمة من هذا حتى في أوقات السلم, وتخيل معي أمة أو شعباً يغلب عليه هدوء الأعصاب, والتحكم في اللسان, وكظم الغيظ..
وكل هذا من تربية الصيام..
رابعاً: رمضان يربي على الجود والكرم..
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله () أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة}[رواه البخاري ومسلم]..
هل يمكن لأمة بخيلة شحيحة أن تبني رجال يسودون ويقودون ؟ مستحيل!!..
البناء يحتاج إلى إنفاق وبذل وعطاء،  ومدرسة الصيام تعلم الناس الإنفاق والعطاء, وانتظار الأجر من رب العالمين فقط..
خامساً: رمضان يربي التقوى في قلوب المسلمين..
وهذا أمر هام جداً جداً.. فالتقوى هي لب الصيام.. وهي الغاية الرئيسية منه..قال تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}[البقرة].
التقوى هي وصية الله عز وجل إلى الأولين والآخرين..قال تعالي {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ(131)}[النساء].
التقوى هي وصية رسول الله () لأمته، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه :{اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}[ رواه الترمذي]..
التقوى هي أن تتقي غضب الله عز وجل في السر والعلن..
إذا كنت في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد.. وأنت صائم.. وبجوارك الطعام الشهي والماء العذب, وأنت جائع عطش, فلا تقرب الطعام ولا الشراب مخافة الله عز وجل, فهذه هي التقوى..
التقوى كما قال عمر بن العزيز رضي الله عنه ليست بقيام الليل أو بصيام النهار, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله..
عندماً تكون راجعاً من عملك وأنت متعب منهك, فتسمع آذان العصر فتنزل لتصلي في المسجد من أجل الحسنات المضاعفة, فهذه هي التقوى..
عندما يجهل عليك أو يسبك بل يقاتلك أحد في شغلك أو في بيتك أو في الشارع فتقابل جهله بالحلم, وتقابل أذاه بالعفو, وتقول إني صائم.. فهذه هي التقوى..
عندما تضبط المنبه قبل الفجر بساعة أو ساعتين لكي تقوم لتناجي ربك في جوف الليل حيث لا يراك أحد إلا الله ولا يسمع بك أحد إلا الله.. فهذه هي التقوى..
عندما تشعر بالفقراء والمساكين والمحتاجين فتخرج من جيبك إلى هذا وإلى ذاك وتخفي صدقتك, فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك.. تفعل ذلك رغبة في الجنة, وخوفاً من النار.. فهذه هي التقوى..
عندما تكون حريصاً كل الحرص على أن تعرف رأي الدين في أمر من الأمور, وتتبع كلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم () دونما جدل لا تردد.. فهذه هي التقوى..
التقوى هي كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "تمام التقوى أن يتقي العبد الله عز وجل حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً"..
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال لسائله: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم, قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه (تجنبته) أو جاوزته (قفزت من فوقه) أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر), قال أبو هريرة: ذاك التقوى..
الشوك هو الذنوب والمعاصي.. وهو كل ما حرم الله عز وجل..
خلّ الذنوب صغيرها               وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض        الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة         إن الجبال من الحصى
ترى ماذا يحدث لو أن الأمة أصبح رجالها أتقياء يخافون الله تعاليويقدرونه حق قدره؟!..
والله ينجو الفرد وينجو المجتمع!..
قال تعالي {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ(3)}[الطلاق].
هذا ليس للأفراد فقط بل للأمة جميعاً..
يجعل الله عز وجل للأمة مخرجاً من همومها ومشاكلها ومصاعبها، يرزق الله الأمة من حيث لا تحتسب، تٌرفع الأزمات الاقتصادية ، ويكثر الخير في أيدي الناس، ويهابها أهل الأرض جميعاً..
قال تعالي {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}[آل عمران].
وقال تعالي {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}[النحل].
وتخيل أمة يكون الله معها.. فمن يكون عليها؟! لا أحد!..
فرمضان فرصة حقيقية..
فرصة للأمة أن تبني نفسها من جديد..
فرصة للصالحين أن يزدادوا قرباً من الله..
فرصة للعصاة أن يعودوا إلى ربهم..
فرصة لرفع البلاء..
العنصر الثاني : معيار الرجولة:ــ
1ـ يخرجون من المساجد:ـ
يقول الله تعالى واصفاً المسجد الذي ينبغي أن يكون حاله الصحيح، ومن هو بداخله، يقول الله تعالى:{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}[التوبة].
أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة، لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى لوجه الله عز وجل.
أين مكان أولئك الرجال؟
أين مكانهم؟ هل هم في الأندية؟ أو في الحفلات؟ هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟ هل هم في المجتمعات الفارغة التي تفرغ الرجولة من معانيها؟
كلا !! فِيهِ رِجَالٌ، في هذا المسجد رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ، ويأتون إلى المسجد على طهارة،
والله يحب هؤلاء الرجال .
2- الرجولة: صدُق في العهود، ووفاء بالوعود، وثبات على الطريق:ـ
قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)}[الأحزاب].
3- الرجولة: هي تحمُّلُ المسئولية، والنصح في الله، والدفاع عن أولياء الله:ـ
رجل واحد يفعل أفعال لا تفعلها أمة بأسرها، رجل واحد يعدل غثاء، بل إنه يرجح عليهم،
قال الله تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}[القصص].
ما جعله يأتي من أقاصي المدينة، وما جاء يمشي بل جاء يسعى لماذا ؟ دفاعاً عن أولياء الله والدعاة إلى الله، إنها الرجولة الحقة بكل معانيها.
قال ابن كثير رحمه الله: وصف بالرجولية لأنه خالف الطريق يعني الطريق الجادة التي تسلك في الشارع ، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، يأتي هذا الرجل يسعى يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام، تقديم النصيحة حتى في حالة الخوف هذه من صفات الرجولة.
ـ وأيضا يصف الله تعالي هذا الرجل مؤمن آل يس بالرجولة الحقة في تأييد الرسل في دعوتهم، ومناصرتهم، ويبين للناس أن من جاءت به الرسل هو الحق، يعين الرسل ويساعدهم.
قال تعالي {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}[يس].
ومن تحمل المسئولية مسئولية القوامة في البيت
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ....(34)} [النساء].
 والقيِّم أي الرئيس، الذي يحكم أهله ويُقوِّم اعوجاجهم إذا اعوجوا، وهو المسؤول عنهم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته " أخرجه البخاري ومسلم.
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يعين أهله، وأن يلاطفهم وأن يداعب أبنائه وأن يقبلهم.
عندما سئلت السيدة عائشة عن فعل رسول الله () في بيته، قالت:{كان رسول الله () إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكًا بسّامًا، وما كان إلاّ بشرًا من البشر، كان يكون في مهنة أهله - يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا أحضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادمًا}.
4- الرجولة: قوةٌ في القول، وصدعٌ بالحق
قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون وهو يصدع بكلمة الحق : {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)} [غافر]
5- الرجولة: صمودٌ أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات
الرجال يصمدون أمام الملهيات ويستعلون علي المغريات ،حذراً من يوم عصيب يشيب فيه الولدان وتتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}[النور].
6- الرجولة: تظهر عندما تشتد الأزمات وعند الفتن :ـ
قد تمر بالمسلمين شدائد وضائقات، قد يمر بالمسلمين عسر شديد، تنقطع بهم السبل فيتحير الناس
ويضطربون، ويميدون ويحيدون عن شرع الله، فترى الناس متفرقين شذر مذر، لا يرى أحدهم
الحق ولا يتبعه، حيرتهم فتن الحياة الدنيا، فاضطربوا اضطراباً شديداً، وتبعثروا وتفرقوا، من الذي يثبت في هذه الحالة؟
من الذي يقوم بواجب التثبيت في هذه الحالة التي تقع فيها الفتن بالمسلمين، نحتاج إلى عناصر مثبتة، تثبت المسلمين على المنهج الرباني، من الذي يثبت؟
في حالة الأزمات تٌكتشف معادن الرجال، يٌفضي كل رجل إلى معدنه الخالص؛ ليستبين أمام الناس هل هو من أهل العقيدة أم لا؟
في حالة الأزمات يتبين الرجال الذين يقفون على منهج الله بأقدام راسخة.
وقف الصديق رضي الله عنه متوعدًا مانعي الزكاة قائلاً قولته المشهورة: {وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ () لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ}، وبذلك قضى على مانعي الزكاة الذين كانوا يريدون أن يتملصوا من تعاليم الدين، ويتحللوا من فرائضه رويدًا رويدًا، لكنه رضي الله عنه أدبهم فأحسن أدبهم، وردهم إلى الجادة، وجعلهم يسيرون في قافلة التوحيد مرة
أخرى، بعدما كادوا أن يَضلوا ويُضلوا.
فلولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقوفه في وجه المرتدين لكان حال الإسلام في الجزيرة العربية، بل والعالم أجمع غير تلك الصورة التي نعيشها الآن.
وكذلك الحال مع المتوكل الذي أبطل فتنة القول بخلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة، واحتضنها ثلاثة من خلفاء بني العباس، وهم: المأمون، والمعتصم، والواثق.
هذه الفتنة التي لم يثبت أمامها من العلماء إلا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل طيب الله ثراه الذي رفض الإذعان لأهل السلطان، ولم يخش الصولجان، وضحك في وجه المنايا بعين راضية، ونفس أبية، وشخصية قوية، وعقيدة صافية لا دخن فيها ولا شوائب، وتصدى لأعدائه وهو شامخ البنيان، ثابت الجنان، فصيح اللسان؛ فقد حاول أعداؤه أن يفرضوا عقيدتهم السقيمة بالقوة، واستعانوا بذوي المناصب، فأدخل أبو عبد الله السجن، وتكسرت السياط على البساط، وهو كالجبل الأشم الذي يصعب على الأعاصير المسمومة أن تنال منه شيئًا، وبعد ذلك منَّ الله تعالى عليه، وخرج من تلك المحنة مرفوع الرأس، مشرق الوجه، عالي الجبين، وثبت الله به المؤمنين، وهذا ما حدا بعلي بن المديني أن يقول: أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة ]
7ـ الرجولة توزن بميزان الإيمان والتقوى:ـ
الرجولة هي قوة الإيمان قبل قوة البنيان، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله (): مم تضحكون؟، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: "والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد"، رواه أحمد..
ميزان النبي () للرجال لا ينظر إلى الفوارق في اللون والجنس والنسب، ولا يرجع إلى الجاه والمال والمنصب، فالناس كلهم لآدم، وآدم خُلِقَ من تراب.. وإنما التفاضل فيه بتقوى الله والعمل الصالح, كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}[الحجرات].
قال ابن تيمية: "ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ، ولا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان ".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله () وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال:{أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، ألا هل بلَّغتُ ؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليُبلِغِ الشَّاهدُ الغائبَ }[رواه أحمد].
 الرجولة ليس لها سن معين وليست مرتبطة بنوع:ـ
الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ طاعن في السن وقلبه في سن الطفولة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير... ولكنه ذو لحية وشارب.
لقد مر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مجموعة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك ؟
فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
قال تعالى: {... وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}‏ [المنافقون ].
وجاء في الحديث الصحيح يقول (): { يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: " فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)}[الكهف]
والرجولة الحقيقية ليست قاصرة على الرجال ، لقد سطر التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً نماذجاً نسائية قدمنا أمثلة من الشجاعة والجرأة والإقدام ما يعجز عليها الكثير ممن يدعون الرجولة على مر العصور منهم :
السيدة صفية بنت عبد المطلب:
في غزوة الخندق، وضع النبي ()النساء والأطفال في الحصون لحمايتهم، فكانت صفية وأمهات المؤمنين في حصن حسان بن ثابت، وكان من أمنع حصون المدينة.
وبينما كان المسلمون منشغلون بقتال عدوهم، تسلل يهودي وطاف بالحصن يتجسس أخباره، فأدركت أنه يريد معرفة أفي الحصن رجال أم إنه لا يضم غير النساء والأطفال. فحملت عمودًا وتلطّفت حتى كانت في موضع تمكنت فيه من عدوها، ضربته على رأسه فوقع فانهالت عليه حتى مات، لكي لا ينقل خبرهم إلى قومه. ثم حزّت رأسه بسكين، وقذفت بها من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج حتى استقر بين أيدي يهود كانوا يتربصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم؛ قالوا: (قد علمنا إن محمداً لم يكن ليترك النساء والأطفال من غير حماة)، فعادوا أدراجهم.
ولو كان النساء كمثل هذي **** لفضلت النساء على الرجال
فما التانيث لاسم الشمس عييب **** ولا التذكير فخر للهلال
العنصر الثالث :نماذج من الرجال خلدهم التاريخ:ـ
1- حاصر خالد بن الوليد (الحيرة) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل!
2- لما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه: "أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد".
3- في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر رضي الله عنه: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
* رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة. إنهم الرجال أقوياء الإيمان أقوياء العزائم فهم أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين.
فإن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم.
إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة، ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال. إننا نحتاج إلى الرجال الذين يثبتون وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيراناً، نحتاج إلى رجال يبصرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يُثبِّتُون الناس على شرع الله عز وجل. 
العنصر الرابع : وصايا عملية في غرس الرجولة عند الصغار
1ـ إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس:ـ
عن سَهْلِ بْنِ سَعْد (رضي الله عنه ) قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ () بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ:يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ}[رواه البخاري].
2ـ منعه من الكسل والبطالة، والتقليل أحياناً من حياة التّرف:ـ
قال سيدنا عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.
3ـ تجنيب الطفل أسباب الفساد والميوعة:ـ
مثل مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى، ورقص النساء وتمايلهن، والميوعة في اللباس وقصّات الشّعر والحركات والمشي، فإنها منافية للرّجولة ومناقضة للجِد.
4ـ استكتامه الأسرار:ـ
كما روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قَال: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ () وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه () لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟
قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّه (عليه الصلاة والسلام ) أَحَدًا.
5ـ تربية الطفل على العزة والشجاعة، وتحديثه عن أمجاد المسلمين، ومواطن عزتهم وانتصاراتهم .
جاء في البخاري أن الزبير بن العوام رضي الله عنه خرج بابنه عَبْد اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً .
فاللهم احفظ أولادنا من المعاصي ما ظهر منها وما بطن ، وتقبل منا الصيام والقيام زاجعلنا من الفائزين برمضان .


رابط doc


رابط pdf

ليست هناك تعليقات: