26 سبتمبر 2018

بِرُ الوَالدينِ دِينٌ وَدَيْنٌ





بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قرن طاعته بطاعة الوالدين ، وألزم حقوقه بحقوق الوالدين فقال تعالي } وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23){ الإسراء .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. قرن برالوالدين بعبادته وطاعته ،فقال تعالى{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) }النساء .

وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم ... بين أن بر الوالدين من أفضل الأعمال ،فعن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت النبي  صلي الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال:( الصلاة على وقتها ) قلت ثم أي ؟ قال:( بر الوالدين ) قلت ثم أي ؟ قال :( الجهاد في سبيل الله) [ متفق عليه] .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .

أما  بعــــد ... فيا أيها المؤمنون

فإن للوالدين مكانةً كبيرة في الإسلام ،لذلك عني الإسلام بهما عناية بالغة، وحض الأبناء على حسن معاملتهما وألزمهم بالبر بهما وطاعتهما، وفعل كل ما يرضيهما إذ أن برهما حق واجب ، وأكد أن بر الوالدين دِينٌ ندين به لله تعالي ودَيْنٌ يُرَد لمن قام به ، أولمن قصر في أدائه ،

فبر الوالدين دِينٌ ودَين فالأول يأخذك إلى الجنة  والثاني يردهُ لك أبنائك ،فاحفظ الأول لتفز بالجنان الوارفة ، واحفظ الثاني لتكون لك الذرية الصالحة ، لذلك كان حديثنا عن (بِرُ الوَالدينِ دِينٌ وَدَيْنٌ) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية .....

1ـ منزلة بر الوالدين في الإسلام.

 من صور برالوالدين.

3ـ قصص في بر الوالدين .

4ـ حرمة العقوق .

5ـ من صور العقوق .

6 ـ عقوبة عقوق الوالدين  .

7ـ قصص في عقوق الوالدين

8 ـ الخاتمة .

العنصر الأول : منزلة بر الوالدين في الإسلام :ـ

1ـ بر الوالدين ميثاق بين العبد وربه تعالي:ـ  
لقد جعل الله تعالي برالوالدين من أهم المهمات، وأعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، وأوجب الواجبات، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم، وأبشع المهلكات؛وقد جعل الله تعالي للوالدين على الأبناء حقوقاً كثيرة لا تعد ولا تحصى مكافئة لما قاما به من مساعٍ حميدة من أجل راحة الأبناء ، وتنشأتهم تنشأة إسلامية ، راجين بذلك ما عند الله والدار الآخرة ، ثم راجين من الله تعالى حسن الرعاية من أبنائهما إثر تربيتهما لهم....

لقد أخذ الله تعالي علي الميثاق والعهد علي عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأيضا من ضمن الميثاق والعهد علي عباده هو الإحسان إلي الوالدين فقال عز وجل: }وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83){ البقرة .

2ـ بر الوالدين طاعة لله تعالي :ـ  

قرن الله حق الوالدين والإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى, كما قرن شكرهما بشكره؛ لأنه الخالق وحده، وقد جعل الوالدين السبب الظاهر في وجود الولد، وهذا يدل على شدة تأكد حقهما والإحسان إليهما: قولاً, وفعلاً؛ لأن لهما من المحبة للولد والإحسان إليه في حال صغره وضعفه ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر، وتحريم أدنى مراتب الأذى: وهو التضجر أو التأفف من خدمتهما، وزجرهما بالكلمة العالية، أو نفض اليد عليهما.
قال تعالي } وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36){ النساء .

لذلك كان رضا الوالدين من رضالله تعالي وسخطهما من سخطه تعالي، فعن عبدالله بن عمرو ابن العاص  رضي الله عنهما، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:(رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد) (رواه الترمذي).

3 ـ بر الوالدين قضاء من الله تعالي :ـ

قضي الله تعالي وحكم ببرالوالدين وقضاء الله تعالي نافذ قال تعالي }وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23){الإسراء.

فأمره الله عز وجل أن يتواضع لهما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة احتساباً للأجر, لا للخوف منهما، وأمره عز وجل أن يدعو لهما بالرحمة: أحياءً, وأمواتاً،جزاءً على تربيتهم وإحسانهم، فقال عز وجل:} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24){ الإسراء.

يقول أحد العلماء لو كان هناك أقل من كلمة أف لقالها الله عز وجل .
ولقد خص الله حالة الكبر للوالدين بمزيد من الأمر بالإحسان، والبر، واللطف، والشفقة والرحمة؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف، والكبر، فألزم سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلًّا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما لقلة دينه وضعف بصيرته، وأقل المكروه ما يظهر بتنفسه المتردد من الضجر، وقد أمر الله أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب.

4 ـ بر الوالدين وصية الله تعالي :ـ

- لقد أوصي الله تعالي ببر الوالدين في القرآن ثلاث مرات في مواضع مختلفة وهذا دليل علي عظم حق الوالدين فقال تعالي } وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8){ العنكبوت .

- وقال تعالي في لقمان } وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} )لقمان).

- وقال تعالي في الأحقاف } وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15){ الأحقاف.
فهي أي الأم في تعب وجُهد من قبل الولادة ثم أثناءها ثم بعدها، وكذلك الأب يسهر لتعب الابن ويحزن لمرضه ، ويقلق ويخاف عليه أثناء غيابه ، فاستحقا بذلك البر بهما ، فهما أي الأبوان ربيا أطفالهما صغاراً واعتنوا بهما كباراً، فاستحقا بذلك الشكر والبر جزاء ما قدما وقاما به من حسن التربية والتنشئة ، واستحقا البر جزاءً موفوراً ، فبرالوالدين واجب وفريضة على الأبناء ، وفي برهما أجر كبير وثواب عظيم ، فبرهما من أفضل الأعمال وحقهما هو الحق الثالث بعد حق الله تعالى وحق نبيه صلي الله عليه وسلم .

وبر الوالدين مقدم على بر غيرهما من الناس ، سواءً الأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء ، أوغير أولئك من الناس ، بر الوالدين مقدم على أولئك جميعاً .

ومن كمال عظمة هذا الدين أن أمر بالإحسان للوالدين مع اختلاف الدين ، فالله تعالى أَمَرَنَا بالإحسان إليهما من غير وجوب لكن لايطيعهما في كفرهما ولا في معاصيهما، وهذا معنى قوله تعالى } وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (15){ (لقمان ) .

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا طاعة لمخلوق في معصية الله” رواه الإمام أحمد.

وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام مع والده المشرك  ، كان في قمة البر والمودة ، حتي في استخدام الألفاظ ..                             
تأمل في سورة مريم ..تأمل أيها الشاب يا من ترفع صوتك علي والديك لمجرد اختلاف في الرأي وتصفه بالجهل والتأخر والرجعية ، يقول الله تعالي }وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48){مريم.

يا أبت !!هل هناك نداء ألطف من هذا النداء ومن هذه العبارة ؟ والده مشرك !! مشرك ويعبد الأصنام ومع ذلك يقول له إبراهيم يا أبت .

وعن أسماء رضي الله تعالى عنها قالت: «قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة (في النوال والبر والإحسان) أفأصل أمي أحسن استقبالها؟ قال: نعم صلي أمك» [متفق عليه].

وسئل الحسن : ما بر الوالدين ؟ قال : أن تبذل لهما ما ملكت ، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية ، قيل : فما العقوق ؟ قال : أن تهجرهما وتحرمهما ، ثم قال : أما علمت أن نظرك في وجوه والديك عبادة ، فكيف بالبر بهما ؟
وبر الوالدين يكون بكل ما تصل إليه يد الأبناء من طعام وشراب وملبس وعلاج وكل ما يحتاجانه من خدمة وبر ومعروف .

 وقد أعطي الله عز وجل أجرا عظيما علي الإحسان للوالدين .  
                                  
5ـ أعلي مراتب الجهاد :ـ

بر الوالدين أفضل من الجهاد، وأعلا مراتب الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلي الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال:(أحيٌّ والداك؟) قال: نعم، قال:(ففيهما فجاهد).                   

وفي لفظ لمسلم: أقبل رجل إلى نبي الله صلي الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحدٌ حيٌّ؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: تبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: (فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).

قال ابن حجر رحمه الله:(أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الـجهاد) ؛
لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد, والوسع, والطاقة في برهما؛ ولأهمية ذلك بين العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الأبوين بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإن تعين الجهاد وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضاً على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدوِّ على البلاد، أو حضور الصف.

6ـ من أفضل الأعمال :ـ

بر الوالدين أفضل الأعمال، وأقرب الأعمال إلى الجنة، وأحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة, التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أخبر بذلك ورتبه بـ (ثم) التي تعطي الترتيب والمهلة، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلي الله عليه وسلم أيُّ العَمَلِ أفضل؟ قال:(الصلاةُ لوقتها) قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال:(ثم بر الوالدين))، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: (الجهاد في سبيل الله).

7ـ باب من أبواب الجنة

 فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:(الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).

 وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنهما أن جاهمة جاء إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك فقال صلي الله عليه وسلم: (هل لك من أمٍّ؟) قال: نعم. قال:(فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها) .

ولفظ الطبراني: (ألك والدان؟) قلت: نعم. قال:(الزمهما؛ فإن الجنة تحت أرجُلِهما) .
لذلك لما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها فقيل له في ذلك فقال : كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما

وخفض الكلام ولين الكلام للوالدين يدخل الجنة؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما لرجل أصاب ذنوباً, وذكرها لابن عمر، فقال له ابن عمر: (ليست هذه من الكبائر)، ثم قال ابن عمر رضي الله عنهما عن الكبائر:(هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق).
ثم قال ابن عمر:(أحي والدك؟) قال الرجل: عندي أمي، قال ابن عمر:(فوالله لو ألنت لها الكلام, وأطعمتها الطعام, لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر)

8ـ دعوة الوالدين مستجابة.

ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً عابداً، وكان في صومعة له، فأتته أمه وهو يصلي, فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني، فقال: يا ربِّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثاني كذلك فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثالث أتته، فقال: ربِّ أمِّي وصلاتي فأقبل على صلاته، قالت: (اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات) فاستجاب الله دعاءَها فبهتته بغي من بني إسرائيل حامل من الزنا، وقالت: هو الذي فعل بها، فعذب وهدمت صومعته، وأخيراً أنجاه الله بعد العقوبة العاجلة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي  صلي الله عليه وسلم (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)

9 ـ بر الوالدين كفارة للذنوب :ـ

لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: (هل لك من أمٍّ؟) قال: لا، قال:(هل لك من خالةٍ؟) قال: نعم، قال: (فَبِرَّها)

10ـ بر الوالدين من أخلاق الأنبياء :ـ

لقد امتدح الله تعالي بعض أنبيائه، وأثنى عليهم لبرهم والديهم..

 قال تعالى عن سيدنا يحي عليه السلام }وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14){ مريم

وقال تعالي عن سيدنا عيسى عليه السلام }وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32){مريم.

 وقال تعالي سيدنا عن يوسف عليه السلام وبره بوالديه، }وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ..(100){ يوسف

وقال تعالي عن سيدنا إسماعيل عليه السلام واصفاً أدبه وبره بأبيه}  يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102){الصافات.

وهذا نوح عليه السلام يدعو للوالدين ويقول { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}نوح .

تلك هي أخلاق الأنبياء التي يجب أن يتأسى بها كل مسلم على وجه الأرض والتطبيق العملي لتعاليم الإسلام في حياتنا يكون سبباً في إسعاد البشرية واستقرارها وإزالة التردي الحادث في العالم بسبب الإبتعاد عن هذه الأخلاق العظيمة .

11ـ بر الوالدين سعة في الرزق وبركة في العمر:ـ

 فهو أن يبارك الله له في عمره، وينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويرفع ذكره، وييسر أمره، ويفرج كربه، ويغفر ذنبه، ويجيب دعاءه، ويكافئه ببر أولاده به.

أما مباركة الله له في رزقه وزيادة عمره، فعن أنس بن مالك  رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه"[ رواه البخاري ومسلم].

ويقول أيضًا " صلة الأرحام وحسن الجوار، وحسن الخلق تُعمر بها الديار وتزداد بها الأعمار"[رواه أحمد].

• قال الإمام النووي (رحمه الله): وأما التأخير في الأجل، ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدَّرة لا تَزيد ولا تنقص؛ قال الله تعالى} فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34){ [الأعراف].
وأجاب العلماء بأجوبةٍ، الصحيح منها:

الأول: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك.

والثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ، ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنةً إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله تعالى ما سيقع له من ذلك، وهو مِن معنى قوله تعالى:} يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (39){ [الرعد]،

فبالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق قدره لا زيادة، بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين يتصور الزيادة، وهو مراد الحديث.

والثالث: أن المرادَ بقاءُ ذِكره الجميل بعده، فكأنه لم يمُتْ؛ (مسلم بشرح النووي).
ومن أراد أن يبره أبناؤه فعليه ببر والديه ، فعن جابر ابن عبدالله رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم... " (أخرجه الحاكم في المستدرك).
والابن البار يهنأ بعمره، ويطمئن في عمله، وتحفه السعادة من كل جانب..

العنصر الثاني :من  صور برالوالدين :ـ

1ـ توقيرهما:ـ

 ومن صور برهما أن لا يجلس الابن وأبواه واقفان ، وأن لا يمشي أمامهما ، ولا يركب السيارة حتى يركب أبوه وأمه قبله ، ويساعدهما في النزول والقعود والنهوض والوقوف إذا احتاجا إلى ذلك ، ويجلس معهما حال مرضهما ويسعى جاهداً لعلاجهما ، ولا يبخل عليهما بمال ولا وقت ، ولا يدخر جهداً في إرضائهما . 
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً, وإن والدي يجتاحُ مالي؟ قال: (أنت ومالك لوالدك؛ فإن أولادكم من أطيب كسبكم, فكلوا من كسب أولادكم). 

وفي لفظٍ لابن ماجه: إن أبي اجتاح مالي، فقال: (أنت ومالك لأبيك)
قال أبو هريرة وهو يعظ رجلاً في بر أبيه : لا تمش أمام أبيك ، ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه
وقال طاووس : من السنة أن يوقر أربعة : العالم ، وذو الشيبة ، والسلطان ، والوالد ، ومن الجفاء أن يدعوا الرجل والده باسمه .

2ـ إدخال السرور عليهما

 لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلي الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال:(ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما)
وما ذاك إلا لعظم حقهما على أبنائهما ، فالأم حملت ووضعت وأرضعت وأطعمت وسقت وسهرت وتعبت ، فكان لبنها الغذاء والطعام ، وحجرها  المرقد والمنام ، والأب يعطي وينفق ويعمل ليل نهار من أجل توفير المسكن والملبس والمطعم والمشرب فوجب برهما .

3ـ الإنفاق عليهما

 الإنفاق عليهما وشراء الطعام والشراب الذي يشتهيانه لهما ، وإدخال الفرح والسرور عليهما ولو كان ذلك على حساب الأبناء ، ومساعدتهما في كل ما يحتاجانه من أعمال .

4ـ أن لا يتعرض لسبهما, ولا يكون سبباً في شتمهما

 عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:(من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله، هل يشتم الرجل والديه؟! قال: (نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه).
ولفظ أبي داود:(إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه) قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال:(يلعن أبا الرجل فيلعن أباه، ويلعن أمه فيلعن أمه) رواه الشيخان .

5ـ الدعاء لهما ، وصلة أهل وُدّهما ، وإنفاذ عهدهما، والصلاة عليهما:ـ 

لقد حثنا المولي تبارك وتعالي على الدعاء للوالدين في كل وقت وحين ، ويدعوا هو لهما لعل الله أن يرحمها بكثرة دعاءه لهما

فعن عبدالله بن دينار عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبدالله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال عبدالله بن دينار: أصلحك الله إنهم الأعراب, وإنهم يرضون باليسير، فقال عبدالله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب, وإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:( إن أبرالبرصلة الرجل أهل ود أبيه ) [ مسلم ] .

وعن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه ،قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: (نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما). رواه أبو داود.

6ـ من صور برهما الاعتراف بفضلهما:ـ

فعن أبي مرة مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالب: (أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـ [العقيق] فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليكِ السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه يا أمَّتاه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمكِ اللهُ كما ربيتيني صغيراً، فتقول: يا بُنيَّ! وأنت، فجزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً).

العنصر الثالث : قصص في بر الوالدين:ـ

وروي أن رجلاً طاف بأمه حول الكعبة سبعة أشواط وهو يحملها على ظهره يقول:

إني لها بعيرها المذلل     إن أُذعرت ركابها لم أذعر

وعندما انتهى سأل بن عمر رضي الله عنهما ، فقال :يابن عمر أتراني قد جزيتها قال : لا ،ولا بزفرة من زفراتها .

حديث الثلاثة الذين أغلقت عليهم الصخرة باب الغار ذكر أحدهم فقال : (اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فأنفرجت شيئاً.....)  [ البخاري ومسلم ] .

كان عمر رضي الله عنه إذا أتى عليه أفراد اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر ؟
حتى أتى عليه ، فقال : أنت أويس بن عامر ؟
قال : نعم ، قال ، من مراد ثم من قرن ؟
قال : نعم ، قال : فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم ؟
قال : نعم ، قال : لك والدة ؟
قال : نعم ، قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفرلك فافعل ، فاستغفرلي ،, فقال له عمر : أين تريد ؟
 قال : الكوفه ، قال : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟
 قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي فلا إله إلا الله انظر إلى هذه المنزلة التي بلغها وحظي بها هذا البار بأمه حتى أن النبي صلي الله عليه وسلم أخبر عنه وعن بره بأمه ، وقال لعمر فاروق الأمة أحد المبشرين بالجنة  : إن استطعت أن يستغفر لك فافعل .

العنصر الرابع : حرمة العقوق :ـ

عقوق الوالدين من الكبائر التي توعَّد الله فاعلَها بالعذاب الشديد في النار.
ومعنى العقوق أن يؤذيَ والديه أذًى ليس بهيّن، ومع ذلك فإيذاء الوالدين سواء كان أذًى شديدًا أو خفيفًا فهو حرام.

 ومن الأمثلة على العقوق شتمُ الأم أو الأبِ أو ضربُ الأم أو الأبِ أو إهانتهما أو أحدهما.

ومن جملة العقوق أن يطيع الولد أمه على ظلم أبيه أو يطيع الولد أباه على ظلم أمه، ولا ينفعه عند الله تعالى إن أطاع أمه وظلم أباه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ونُصرةُ أحدِ الأبوين في ظلم الآخر حرام.

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التعاون على الظلم، وورد في النهى عن الظلم
أحاديث عدة، منها ما جاء عن أبي ذرّ الغِفاريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها يرويه عن رّبه عزّ وجلّ أنه قال:”يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظَّالموا” رواه مسلم.
 ومعنى "إني حرّمت الظلم على نفسي” أي نزّهت نفسي عن الظلم، فربّنا منزّه عن الظلم.
فلا يُتَصَوَّرُ منه ظلم لأنَّ الظلم محال في حقّ الله قال الله تعالى } وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(46){ (فصلت).

والظلم لغة وضع الشيء في غير محله، وهو مجاوزة الحدّ أو التصرف قي حق الناس بغير حق، وهذا مستحيل على الله، أي لا يجوز في حق الله لأن الله هو المالك المطلق يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد. أما نحن فإننا نملك أشياء مَلَّكنا الله أياها ولا بد أن نلتزم أحكامَ الشرع كما أمرنا الله.

واعتبرالإسلام عقوق الوالدين من أكبر الكبائر ،وقرن النبي صلي الله عليه وسلم  عقوقهما بالشرك بالله عز وجل، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً.
قالوا: بلى يا رسول الله، قال:الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئاً, فقال: ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) (البخاري و مسلم).

وعن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي صلي الله عليه وسلم عن الكبائر قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور .

وعن المغيرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات, ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال). رواه البخاري.

قال الإمام ابن حجَر العسقلاني رحمه الله: قيل: خصَّ الأمهاتِ بالذِّكر؛ لأن العقوق إليهن أسرعُ من الآباء؛ لضعف النساء، ولينبِّهَ على أن برَّ الأم مقدَّم على برِّ الأبِ، في التلطف، والحُنوِّ، ونحو ذلك.

العنصر الخامس : من صور العقوق :

للعقوق صوره كثيرة منها:ـ                                                                  

 1ـ السب واللعن.

2ـ التبرؤ من والديه.

 3ـ تقديم الصديق على الأب والزوجة على الأم.

 4ـ الكذب عليهما.

 5ـ غيبتهما. 

6ـ التكبر والترفع عليهما.

 7ـ التسبب في بكائهما.

8ـ عدم طاعتهما في ترك المباحات والمستحبات.

العنصر السادس :عقوبة عقوق الوالدين :ـ

1ـ الحرمان من الجنة :ـ

ولْيُعْلَمْ أن عذاب عقوق الوالدْينِ المسلمَيْنِ عند الله تعالى عظيم حيث إن عاقَّهما لا يدخل الجنَّة مع الأوّلينَ، بل يدخلها بعد عذاب شديد مع الآخرين، وذلك لأنَّ هذا الذنب هو من كبائر الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: }لا يدخل الجنة عاقٌّ{ رواه البخاري ومسلم، أي لا يدخلها مع الأوّلين وليس المعنى أنه كافر محروم من الجنة. من عظم حقهما .

- ولقد دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم على من لم يبر والديه عند الكبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (رَغِمَ أنْفُهُ، ثم رَغم أنفه، ثم رغم أنفه) قيــل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر: أحَدَهُما, أو كليهما ثم لم يدخل الـجنة.

- وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ثلاثة قد حرَّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاقُّ, والديُّوثُ الذي يقر في أهله الخبث.

2ـ الحرمان من نظر الله تعالي 

 ولعظم حق الوالدين أن الله لا ينظر إلى من عقَّ والديه يوم القيامة؛ لحديث عبدالله بن عمر
رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم عز وجل يوم
القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنَّان بما أعطى).

3ـ تعجيل العقوبة في الدنيا :ـ

عَن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ ذُنُوبٍ يُؤَخِّرُ الله مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا الْبَغْيُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ يُعَجِّلُ لَصَّاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَوْتِ".أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وصححه الألباني
وورد عند الحاكم بسند صحيح مرفوعاً: (بابان معجّلان عقوبتهما في الدّنيا: البغي والعقوق).

4ـ عقوق الوالدينِ سبب غضب الله تعالى على الأبناء.

روى الترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رضا الربِّ في رضا الوالد، وسَخَط الربِّ في سَخَط الوالد) ؛ (رواه الترمذي).

5ـ عقوق الوالدينِ يمنَع قبول العمل الصالح:ـ

 روى الطبراني عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ثلاثة لا يقبَل الله منهم صَرْفًا (فرضًا)، ولا عدلًا (تطوعًا): عاقٌّ، ومنَّانٌ، ومكذِّبٌ بالقدر) (حديث حسن) (صحيح الجامع للألباني).

6ـ عمَى القلوب:

وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل:} فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46){ [الحج].

العنصر السابع :قصص في عقوق الوالدين :ـ 

 ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب ، لا يفيق عنه وكان له والد صاحب دين ، كثيراً ما يعض هذا الابن ويقول له : يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته ، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد ، وكان إذا ألح عليه زاد في العقوق ، وجار على أبيه ، ولما كان يوم من الأيام ألح على أبنه بالنصح على عادته فمد الولد يده على أبيه ، فحلف الأب مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ، فيتعلق بأستار الكعبة ويدعوا على ولده ، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول :
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا                    عرض المهامه من قرب ومن بعد
إني أتـيـتك يا من لا يخيب من                      يدعـوه مبتـهلاً بالواحـد الصمد
هذا منازل لا يرتـد من عقـقي                      فخذ بحـقي يا رحمن من ولـدي
وشـل منه بحـول منك جـانبه                      يا من تقدس لم يولـد ولـم يـلد
فقيل أنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن .

 قال الأصمعي رحمه الله: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجتُ من الحي أطلب أعَقَّ الناس، وأبرَّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة، والحر شديد، وخلفه شاب في يده رِشاء (الحبل) من قِدٍّ (جلد مدبوغ) ملويٍّ يضربه به، قد شق ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت، فهكذا كان هو يصنَع بأبيه، وهكذا كان يصنَع أبوه بجده، فقلت: هذا أعَقُّ الناس؛ (مساوئ الأخلاق للخرائطي).

وكان هناك رجلاً يحث ابنه على طريق الهداية والاستقامة ولبث على هذه الحال سنين، ولما كبر الأب، تأفف منه الابن ولم يحسن إليه في كبره، بل حمله على جمله وذهب به إلى الصحراء ولما توسط الصحراء، سأله الوالد فقال : يابني أين تريد الذهاب بي؟
 قال : يا أبي لقد مللتك ولقد سأمتك، قال : وماذا تريد ؟
قال : أريد أن أذبحك، قال يابني ماذا تقول ؟
 قال أريد أن أذبحك لقد مللتك ياأبي، فقال الأب : إن كنت ولابد فاعلاً ، فاذبحني عند تلك الصخرة ، قال : ولم ياأبي ، قال : فإني قد قتلت أبي عند تلك الصخرة فاقتلني عندها وسوف ترى من يقتلك من أبنائك عند تلك الصخرة .
لأن الجزاء من جنس العمل .
وقال تعالى{ من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً(123) } [النساء].
 وقال صلي الله عليه وسلم:( بروا أباءكم تبركم أبناءكم ) .
فالبر والعقوق دين ، ولا بد من الوفاء بالدين ، وكما تدين تدان
( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ،ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) [ الزلزلة7/8 ] .
إنها الحكمة الإلهية والعدل الإلهي، فكما تدين تدان.

وفى ذلك يقول الإمام شمس الدين الذهبى في كتابه الكبائر :

بر الوالدين عليك دين ، وأنت تتعاطاه باتباع الشين، تطلب الجنه بزعمك ،وهى تحت أقدام أمك ،حملتك فى بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج ، وكابدت عند الوضع ما يذيب المهج ، وأرضعتك من ثديها لبنا ، وأطارت لأجلك وسنا ، وغسلت بيمينها عنك الأذى ، وآثرتك على نفسها بالغذا ، وصيرت حجرها لك مهدا ، وأنالتك إحسانا ورفدا .
فإن أصابك مرض أو شكاية ،أظهرت من الأسف فوق النهاية ، وأطالت الحزن والنحيب ، وبذلت مالها للطبيب ، ولو خيرت بين حياتك وموتها ، لطلبت حياتك بأعلى صوتها .
هذا ....وكم عاملتها بسوء الخلق مرارا ، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا ، فلما احتاجت عند الكبر اليك ،جعلتها من اهون الاشياء عليك ، فشبعت وهى جائعة ، ورويت وهى قانعة ، وقدمت عليها اهلك واولادك بالاحسان ، وقابلت اياديها بالنسيان ، وصعب لديك امرها وهو يسير ، وطال عليك عمرها وهو قصير ، وهجرتها ومالها سواك نصير.
هذا ...ومولاك قد نهاك عن التأفيف ، وعاتبك فى حقها بعتاب لطيف ، ستعاقب فى دنياك بعقوق البنين ،وفى أخراك بالبعد من رب العالمين ، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد " ذلك بما قدمت يداك وان الله ليس بظلام للعبيد ".

وفي الختام ...

أيها المؤمنون ...
إني أدعو نفسي وإياكم أيها المؤمنون إلى بر والدينا أحياء وأمواتا ، وأن من كان بينه وبين والديه قطيعة أو خلاف فليبادر بإصلاح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصراً في بر والديه عليه أن يبذل ما بوسعه في برهما وإسعادهما .
ومن كان باراً بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة .

فاللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعاً على بر والدينا، اللهم إن كنا قد قصرنا في برهما، أو أخطأنا في حقهما فاغفر لنا نقصيرنا واجبر الله كسرنا ، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرفنا وما أعلنا،

اللهم اغفر لها وارحمهما، وأعنا على الإحسان إليهما في حياتهما وبعد مماتهما .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم .

تمت بفضل الله ورحمته

تحميل word


تحميل pdf