الحمد لله رب العالمين ..كرم الإنسان وفضله على سائر المخلوقين فقال تعالى } وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا (70){ ] الإسراء[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله والحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير.. جلت قدرته وعظمت إرادته ،صاحب الإرادة الفاعلة ، والمشيئة المطلقة ، خلق الناس أشكالاً متباينة ، وألواناً متنوعة ،وألسنة مختلفة ، فقال تعالي {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) } ]الروم[.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) صاحب الخلق العظيم ، أعلى من قيمة الاحترام بين الناس فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ): }ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا{ ]أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد : فيا أيها المؤمنون...
لقد جاء النبي (ﷺ) من أجل غرس القيم الإسلامية السامية ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): } إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق { ]رواه أحمد[ .
ومن القيم الإنسانية الإسلامية ،قيمة الاحترام التي أعطاها الإسلام الحنيف مكانة كبيرة لكونها تشمل كثير من العلاقات الإنسانية بين الناس مسلم وغير مسلم ، صغيراً كان أو كبيراً ، رجلاً كان أو امرأة.
فبترسيخ هذه القيمة ينجح كثيراً من العلاقات في المجتمع فيسود فيه الحب والمودة والأمن وتزدهر البلاد ، ويسعد العباد في ظل مجتمع تسمو فيه القيم والمبادئ ، لذلك كان موضوعنا } قيمة الاحترام وأدب الخلاف{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ حقيقة الاحترام .
2ـ أهمية الاحترام .
3ـ صور الاحترام في الإسلام وسبل تحققها.
4ـ الدعائم الأخلاقية لفقه وأدب الخلاف .
5ـ الوعي بفن التواصل وأساليب الحوار الجيد.
6ـ أثر الاحترام علي الفرد والمجتمع.
7ـ الخاتمة.
العنصر الأول : حقيقة الاحترام :
الاحترام : هو أحد الفضائل والقيم الحميدة التي يلتزم بها الإنسان المسلم، بحيث يقدّم التقدير والاحترام والعناية بالغير، وهذه الفضيلة هي من أهمّ القيم التي أولى الإسلام عنايةً خاصة بها وأعطاها مكانةً كبيرةً.
العنصر الثاني : أهمية الاحترام :
تكمن أهمية الاحترام في الآتي :
1ـ الاحترام مطلب لا غنى عنه في جميع معاملات الفرد المسلم .
2ـ الاحترام يجعل العديد من الأخلاق المذمومة تختفي؛ كالتسلُّط والتعالي على الغير.
3ـ الاحترام وسيلة لكسب القلوب ويؤدي إلى التقارب بين جميع الأطراف.
4ـ الاحترام قيمة عظيمة في الشريعة الاسلامية ويظهر أبعاده في جميع مجالات الحياة.
5ـ دليل على كمال الإيمان بالله عز وجل :فالاحترام يظهر في التحلي بالكلام الطيب، واللّين في معاملة الناس ونُصحهم للخير، بل وتمنِّي الخير لهم، وهذا مرتبط بكمال الإيمان كما قال (ﷺ):}لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ{.
6ـ الاحترام منهج حياة وسلوك عام : فلا تقتصر مظاهر الاحترام على مناسبةٍ أو وقتٍ معين، بل هو سلوكٌ وأسلوب عام في التَّعامل مع الغير، وهذا من حقِّ المسلم على المسلم، كما قال (ﷺ) }حَقُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ، وعِيَادَةُ المَرِيضِ، واتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وإجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وتَشْمِيتُ العَاطِسِ{ .
فبدون الاحترام لن تستقيم الحياة، ولن يعيش البشر مع بعضهم البعض في حب وتقدير.
العنصر الثالث : صور الاحترام في الإسلام وسبل تحققها:
تعددت صور الاحترام في الإسلام لتشمل : احترام الذات ، واحترام الآخر.
أولا: احترام الذات وسبل تحققها:
الإسلام الحنيف أولى هذه القيمة أهمية كبيرة ، وربطها بتصرفات وسلوك يضمن تحقيقها ديانة وعبودية لله تعالى وليس مجرد قيمة أخلاقية مجردة لا يُثاب الانسان عليها ، لذلك وجب علينا أن نجتهد في تحقيق هذه القيمة بصورها المتعددة ، ومن صور قيمة الاحترام :
احترام الذات :
احترام الذات : هو الصورة الذهنية الجميلة التي يرسمها المرء عن نفسه ، ولا
شك أن الطريقة التي ينظر بها الإنسان لنفسه تؤثر في كل نواحي حياته .
وإن عدم احترام المرء لذاته يجعل منه عدواً لنفسه .
احترام الذات: هو حمل النفس على فعل كل ما يستحسن فعله عند الله تعالى أولاً وعند الناس ثانياً..
احترام الذات : هو تربية النفس على المحامد والمكارم من الأقوال والأفعال..
احترام الذات: هو تطهير النفس من كل ما يًعاب من الصفات والأخلاق..
احترام الذات: هو غيرةُ الإنسان على مروءته أن تُخدش ، وغيرةُ الإنسان على كرامته أن تُهان ،وأيضاً خوف الإنسان على سُمعته وسِيرته أن يُلوِّثها مُلوِّث..
سبل تحقق احترام الذات :
1 ـ تقوى الله تعالى :
قال تعالى { يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ (13) } ] الحجرات[.
عن ابن عباس قال : ليس أحد أكرم من أحد إلا بتقوى الله .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال قيل يا رسول الله من أكرم الناس ؟، قال :" أتقاهم ". ]رواه البخاري[ .
وقال تعالى{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}] النحل[ .
والحياة الطيبة تحقق للإنسان ما يحتاجه من احترام الذات .
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه ، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس .
وقال تعالى { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ (18) }] الحج[ .
قال القرطبي رحمه الله أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه (تفسير القرطبي) . وهذا من شؤم المعاصي .
فللمعاصي عقوبات تتعدى إلى الدين والدنيا والقلب والبدن ، ومن عقوباتها :
أنها تجعل المرء يفقد احترامه لنفسه ورضاه عنها ، بل تجرئ السفهاء عليه ، كما أنها تورث سواداً في الوجه وظلمة في القلب وتجلب له الضيق والهم والغم والحزن والألم والانحصار ، وشدة القلق والاضطراب .
قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
و ترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
2 ـ البعد عن مواطن الريب والشبهات .
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ وأَهْوَى
النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: }إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ{. ]مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ [ .
ومن الأحاديث الدالة على أن الإنسان ينبغي له أن يحافظ على احترامه لنفسه واحترام الناس له بالابتعاد عن مواطن الريبة ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله
:}أن صفية بنت حيي زوج النبي (ﷺ) جاءت تزور رسول الله (ﷺ) وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ، فتحدثت عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب ، فقام معها النبي (ﷺ) يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي (ﷺ) مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله (ﷺ)، ثم نفذا فقال لهما رسول الله (ﷺ):} على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيي "، قالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما ما قال، قال : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما {. ]أخرجه البخاري[.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى التهمة عن نفسه باجتناب مواطن الريب ، ونبه على ذلك بقوله (ﷺ): "على رسلكما إنها صفية ".وهذا رسول الله (ﷺ)المعصوم.
3 ـ عدم التطاول على الآخرين :
فمن تطاول على الناس تطاولوا عليه ، ومن نال منهم نالوا منهم ، والعكس
بالعكس ، وهذه قاعدة قررها أهل العلم استنباطاً من قوله تعالى {وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (108)}] الأنعام[ .
قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء : فالله تعالى نهى عن سب آلهة الكفار وهو أمر مباح ومندوب إليه شرعاً لما فيه من إغاظة الكافرين وإغاظتهم قربة لله جل جلاله ، ومع ذلك نهى الله تعالى عن ذلك السب وجعله محرماً لكونه يُفضي إلى سب الله جل جلاله ، وهذا سدًّا للذرائع.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي (ﷺ) قال: }إن من الكبائر أن
يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب
الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه{ . ]متفق عليه[ .
ورحم الإمام الشافعي :
ومن هابَ الرِّجال تهيبوهُ ومنْ حقرَ الرِّجال فلن يُهابا
4 ـ عدم سؤال المخلوقين :
من ترك مسألة المخلوقين ورجاءهم ، وعلق رجاءه بالله وحده لا شريك له ، عوضه الله خيراً مما ترك فرزقه حرية القلب وعزة النفس والاستغناء عن الخلق ، قال رسول الله (ﷺ) }ومن يستعفف يعفه الله {. ]متفق عليه[ .
ومثله من ترك التكالب على الدنيا جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة .
فليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى القلب ، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): } من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه
، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ]{ السلسة الصحيحة[
5 ـ الاهتمام بالنظافة الشخصية :
عَن أبي الأحوَصِ الجُشَميِّ رضيَ اللهُ عنهُ - عن أبيهِ ، قالَ : رآني النَّبيُّ (ﷺ) وعليَّ أطمارٌ، فقالَ : }هل لَكَ من مالٍ ؟ ! قلتُ : نعَم ، قالَ : مِن أيِّ المالِ ؟ قلتُ : مِن كلٍّ قد آتانيَ اللهُ ، منَ الشَّاءِ والإبلِ ، قالَ : إذا آتاكَ اللهُ مالًا فليُرَ أثرُ نعمةُ اللهِ وَكَرامتُهُ عليكَ{. ] أخرجه الإمام أحمد[
قال ابن الجوزي : كان رسول الله (ﷺ)أنظف الناس وأطيب الناس، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن يشم منه ريح ليست طيبة. فهو عليه الصلاة والسلام كامل في العلم والعمل فبه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق
6 ـ أن يستمع الانسان أكثر مما يتكلم:
فكلما كثر الكلام ازدادت فرص الوقوع في الخطأ ، ما يؤدي إلى زعزعة
احترامه لنفسه واحترام الآخرين له .
وهذا ما يسمى بالثَّرْثار الذي يكثر الكلامَ في تكلُّفٍ وخروج عن الحد.
فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما مرفوعاً: }إن من أحبكم إلي وأقربكم مني
مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله قد علمنا «الثرثارون والمتشدقون»، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون»{. [صحيح] [رواه الترمذي]
7ـ تقة الشخص بنفسه :
إيمان الشخص بنفسه وثقته العالية بأنّه جدير باحترام الآخرين، لأنّ من لا يحترم نفسه لا يحترمه الناس ،قال بعضهم لسعيد بن العاص: عرضت لي إليك حويجة. فقال: اطلب لها رجيلاً.
ثانياً : مظاهر احترام الآخرين وسبل تحققها:
إن احترام الآخرين جزء لا يتجزأ من احترام المرء لنفسه، فحين تكون البداية من عنده بعدم الاحترام، فلا شك أنه سيُقابل بمثل عدم الاحترام ذلك، وإن ما يصدر عن كل فرد هو انعكاس لتربيته وبيئته، ومن جمال ديننا الحنيف أنه يحث على مكارم الأخلاق والآداب التي يُعد احترام الآخرين جزءً منها، ومن صور احترام الآخرين:
أ ـ احترام الصغير:
عن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، أن رسول الله (ﷺ)أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام :}أتأذن لي أن أعطي هؤلاء " ؟ ، فقال الغلام : لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً ، قال : فتلَّه رسول الله (ﷺ) في يده{. ]رواه البخاري ومسلم[ .
كان النبي (ﷺ) حريصاً على احترام الأطفال ،وأيضاً حريصاً على مشاعرهم
، كانت السيدة فاطمة إذا دخلت على النبي (ﷺ) قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (ﷺ) إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها.
فمن المؤكد أن احترام وتقدير الصغير سيشعره بالمزيد من الكرامة والثقة بالنفس وسيبني في ذهنه معاني الرجولة ويبعده عن الخوض في الرذائل، فإن من هانت عليه نفسه هان عليه الوقوع في المعاصي وارتكاب الأخطاء و من رأى لها قدرا
و مكانة ، واحتراما نأى بها عن مواطن الزلل .
وبلغ من قيمة الاحترام ،احترام سيدنا سليمان عليه السلام مشاعر النملة، فلم يحقر من شأنها، ولم يقل أنها لا تزداد عن كونها حشرة، ليس هناك أي ضرر إن ماتت، والدليل على احترام سيدنا سليمان للنملة ومملكتها، تغيير مسار جيشه حتى يحافظ عليها، بعدما علم خوفها من أن يدهسها دون أن يدري.
ب ـ احترام الكبير :
فكما أُمرنا النبي (ﷺ)باحترام الصغير كذلك أُمرنا باحترام الكبير . عن عبد الله
بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ): }ليس منا من لم يرحم
صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا{ ]أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي[.
وقول النبي (ﷺ) }ليس منَّا مَن لم يُوقِّرِ الكبيرَ ويرحَمِ الصَّغيرَ ويأمُرْ بالمعروفِ ويَنْهَ عن المنكَرِ{.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال: }ثلاثٌ لا يستخفُّ بِهِم إلَّا مُنافقٌ: ذو الشَّيبةِ في الإسلامِ وذو العلمِ وإمامٌ مُقسطٌ{
]رواه الشيخان[ .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: }لقد كنتُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غلامًا، فكنتُ أحفظُ عنه فما يمنعني من القولِ إلا أنَّ ههنا رجالاً هم أَسَنُّ
مِنِّي{[صحيح[ أي انه ليس من أخلاقنا أن لا نعطي الكبير حقه من الاحترام والتقدير مهما بدر منه .
ج ـ احترام غير المسلمين :
فالشريعة الإسلامية لم تقتصر على إيجاب احترام المسلم للمسلم ، بل إنها أوجبت احترام المسلم لغير المسلم ، في صور شتى منها :
1 ـ احترام كرامته الإنسانية ، ومن صور ذلك أن النبي (ﷺ) كان يأمر بالقيام للجنائز كما في حديث عامر بن ربيعة t حيث روى عن النبي (ﷺ) أنه قال : }إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تُخَلِّفَكم { ، فمرت يوماً جنازة ، فقام ، فقيل له : إنها جنازة يهودي ، فقال : أليست نفساً ؟ .
وقد ظهرت هذه القيمة في العديد من المواقف في تاريخنا الإسلاميّ، ومن ذلك مخاطبة النبي محمد(ﷺ) لملك الروم حين أرسل إليه رسالةً يدعوه بها إلى الدين الإسلاميّ تبدأ بقوله: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، فقد حرص نبينا الكريم على إنزال الناس منازلهم واحترامهم وتقديرهم.
ومن مظاهر احترام الآخرين : احترام آرائهم ، وعدم تسفيه المخالف منهم ، وعدم سوء الظن بالآخر، وعدم الاتهام بلا دليل .
ثالثا: سبل تحقق احترام الآخرين :
لكي نحقق احترام الآخرين علينا بهذه الأشياء..
1ـ العطاء دون مقابل أو انتظار الشكر.
2ـ ومساعدة الآخرين يكسب الفرد احترامهم.
3ـ أن يحتفظ الفرد بأسراره وبعض ما يخصه بعيدًا عن الجميع.
4ـ وعدم الحديث عن النفس كثيرًا يجعلهم يحترمونه.
5ـ الاعتراف بالخطأ، والاعتذار عنه دون مبالغة، من الأشياء التي تُكسب الفرد احترام من حوله.
6ـ تعلم فقه وطبيعة الاختلاف.
7ـ تعلم وفن التواصل والحوار..
دعونا نفصل في النقطتين الآخرتين لأنهما في غاية الأهمية وبسبب غيابهما يحدث الكثير من المشكلات وفقدان الاحترام بين الناس. وهما كالآتي..
الوعي بطبيعة الاختلاف :
الاختلاف المحمود هو سنة من سنن الله تعالي في البشر وهو غذاء للعقل وغربلة
للفكر، وقوة في الحجة، ويكون دائما مصدر إثراء وخصوبة وله هذه الخصائص المميزة :
1 ـ الاختلاف سنة ربانية :
إن الاختلاف سنة ربانية لا مخلص منها، فالناس يختلفون في ألوانهم، وأشكالهم
وقبائلهم، وميولهم وعقولهم، وفي كل شيء، وقد قال الله تعالى:{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22)} [الروم].
2 ـ الاختلاف ضرورة بشرية:
الاختلاف أمر ضروري نظرا لطبيعة اللغة وطبيعة البشر وطبيعة الكون والحياة
، وطبيعة البيئة ،نجد أن الله تعالي خلق الناس مختلفين وإن كانوا كلهم من ذكر وأنثي فمن الناس من يميل إلي التشديد ومنهم من يميل إلي التيسير ،
ومنهم من يأخذ بظاهر النص ، ومنهم من يأخذ بروح النص، ومنهم من يسأل عن الخير ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه ، ومنهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة .
وهذا الاختلاف في صفات البشر واتجاهاتهم النفسية يترتب عليه لا محالة اختلافهم في الحكم علي الأشياء، والمواقف والأعمال ، يظهر ذلك في مجال الفقه وفي مجال السياسة، وفي مجال السلوك اليومي والعادي للناس .
وهناك نماذج بارزة في حياة الانبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم ، من أبرز الأمثلة لهذا الاختلاف ما عرف واستفاض عن كل من الصحابيين العالمين الجليلين: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا.
فقد كان ابن عمر يبعد الأطفال عنه حتى لا يسيل شيء من لعابهم عليه، تحرزا مما يشتبه في نجاسته، وابن عباس يضمهم إليه، ويقول: إنما هم رياحين نشمها.
وكان ابن عمر يغسل باطن عينيه في الوضوء، ويرى أن لمس المرأة ينقض الوضوء، وابن عباس لا يرى ذلك.
وقبل ابن عمر وابن عباس، نجد موقف الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما فقد كان لكل منهما اتجاهه، وطريقته في معالجة الأمور، فأبو بكر يمثل الرفق والرحمة، وعمر يمثل القوة والشدة، وهذا ينعكس على رأي كل منهما في المواقف والأحداث.
ومن أظهر الأمثلة لذلك ما كان منهما في شأن أسرى بدر.
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ
حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(69)} [الأنفال].
قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال:
استشار النبي (ﷺ) الناس في الأسارى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم!
فأعرض عنه النبي (ﷺ)، ثم عاد رسول الله (ﷺ)، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس!
فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي (ﷺ)، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك.
فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن
تقبل منهم الفداء.
قال: فذهب عن وجه رسول الله (ﷺ) ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء.
قال: وأنزل الله عز وجل:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}الأنفال.
ثم خرج عليهم رسول الله (ﷺ) فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}[إبراهيم].
وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة].
وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)}[يونس].
وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام فقال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)}[نوح].
أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن الملائكة قد اختلفوا بل اختصموا بينهم وذلك بقوله تعالى:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)}[ص].
وإن الأنبياء قد اختلفوا فيما بينهم أيضا.
اختلف موسى وأخوه هارون، عليهما السلام، إلى حد أن أخذ موسى بلحية أخيه
، ولامه أشد اللوم بعد عبادة بني إسرائيل العجل السامري قال تعالي :{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا
ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}[طه].
واختلف موسى والخضر عليهما السلام في مواقف ثلاثة انتهت بافتراقهما قال تعالي:{قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا(78)}. وهو ما فصلته سورة الكهف.
واختلف داود وابنه سليمان عليهما السلام في حكم الغنم إذ نفشت في زرع القوم، وأشار القرآن إلى أن الصواب كان مع الابن، ولكنه أثنى على الاثنين جميعا فقال تعالي:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ (79)}[الأنبياء].
وصح في الحديث الشريف اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في مصير
الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم خرج تائبا إلى القرية الصالحة ومات في الطريق، أيحكم له بحكم القرية الظالمة التي عاش عمره فيها وقتل من قتل، أم يحكم له بحكم القرية الخيرة التي كانت وجهته إليها، وبعبارة أخرى: أيحكم له بعمله أم بنيته؟ بالأول حكم ملائكة العذاب، وبالثاني حكم ملائكة الرحمة، وقد بعث الله ملكا يحكم بينهم، فحكم لملائكة الرحمة.
وإذا كان الخلاف والاختصام قد وقع بين أكرم الخلق على الله من الملائكة الكرام والأنبياء العظام، لاختلاف زوايا الرؤية، ووجهات النظر، واتساع العلم وضيقه، فكيف نطمع أن نمحو الخلاف بين غيرهم ممن لا عصمة لهم، وليس فيهم ملك مقرب ولا نبي مكرم؟
3ـ الاختلاف رحمة :
الاختلاف مع كونه سنة ربانية ، وكونه ضرورة هو كذلك رحمة بالأمة، وتوسعة عليها، ويؤيد هذا المعنى ما رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين: "إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعونها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
والأشياء المسكوت عنها تكون عادة من أسباب الاختلاف، لأنها تكون منطقة
فراغ تشريعي، يحاول كل فقيه أن يملأها وفقا لأصوله، واتجاه مدرسته، فواحد يتجه إلى القياس، وآخر إلى الاستحسان، وثالث إلى الاستصلاح، ورابع إلى العرف، وغيره إلى البراءة الأصلية… وهكذا.
وقد رأينا ما حدث من الصحابة في بني قريظة عندما قال النبي (ﷺ)" لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"
ففهم بعض الصحابة أنهم لا يجوز لهم صلاة العصر إلا في بني قريظة والتزموا بنص الحديث ، والبعض الآخر فَهِم أن الرسول يستعجلهم فصلوا في الطريق
فأقر النبي (ﷺ) كلا الفريقين .
العنصر الرابع: الدعائم الأخلاقية لفقه وأدب الاختلاف وهي كالآتي :ـ
1ـ الإخلاص لله والتجرد من الأهواء :
فكثيرا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنها خلاف على مسائل في العلم، أو قضايا في الفكر، وباطنها حب الذات، واتباع الهوى الذي يُعمي ويصم، ويُضل عن سبيل الله . لقد حرصت التربية الإسلامية القرآنية والنبوية، على تكوين الإنسان المؤمن الذي يجعل غايته رضا الخالق، لا ثناء الخلق، وسعادة الآخرة، لا منفعة الدنيا وإيثار ما عند الله على ما عند الناس، قال تعالي { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ (96)}[ النحل]
وحذرت هذه التربية من الإنسان الذي تكون الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه فهو يعمل للجاه، والشهرة، أو للمصلحة الذاتية، أو لنزعة عصبية ظاهرة أو خفية.
ولهذا صح في الحديث أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة هم أهل الرياء والكذب على الله، الذين يزينون للناس أنهم يعملون لله تعالى، وهم لا يعملون إلا لذواتهم، وشهوات أنفسهم، وإن كان فيهم العالم والمعلم، والمنفق الباذل والمجاهد المقاتل!!
ومن هنا نوه الحديث الشريف بأولئك الجنود المجهولين الذين يذيبون حبات قلوبهم، وينفقون أغلى أيام أعمارهم، في نصرة دينهم وطاعة ربهم، دون أن تسلط عليهم الأضواء ، أو يشار إليهم بالبنان.
روى الحاكم وغيره، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه، خرج إلى المسجد فوجد معاذا عند قبر رسول الله (ﷺ) يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله (ﷺ) قال: }اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة{.
إن المسلم الحق هو الذي يكون عبدا لله، لا عبدا لذاته، فحيث وضع عمل وحيث وجه توجه، في الأمام أو في الخلف، قائدا، أو جنديا، دون تطلع إلى منصب أو دنيا..
يقول الرسول (ﷺ): "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش؟ طوبى
لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، أو كان في الساقة كان في الساقة".[رواه البخاري]
ورضي الله عن خالد بن الوليد سيف الله المسلول، الذي عمل قائدا، فنصر الله به
، وحقق على يديه الخير الكثير، فلما ولي أبو عبيدة القيادة بدلا منه كان له نعم الناصح والمشير، وهكذا يكون المؤمنون الصادقون.
ولو أنصف الجميع لجردوا أنفسهم للحق، وأخلصوا دينهم لله، حتى يخلصهم الله لدينه، قال تعالي{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}[الأنعام].
إن اتباع الهوى لون من الشرك، ولهذا قال السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى ! وذلك لأنه يضل الإنسان عن الحق رغم علمه به قال تعالي { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)}[الجاثية]
2ـ التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف :
المسلم الحق لا يقيد نفسه إلا بالدليل، فإن لاح له الدليل بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يعظمه، أو الطائفة التي ينتسب إليها.
فالحق أحق أن يتبع من قول زيد أو عمرو من الناس، وما تعبدنا الله تعالى بقول فلان أو فلان، من العلماء أو الأئمة، إنما تعبدنا بما جاءنا في كتابه وما صح عن نبيه (ﷺ) قال تعالي{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}]النور[.
وأول ما ينبغي أن يتحرر المرء منه: تعصبه لرأيه الشخصي، بحيث لا ينزل عنه ولو ظهر له خطؤه، وتهاوت شبهاته أمام حجج الآخرين، بل يظل مصرا عليه، متمسكا به، مدافعا عنه، انتصارا للنفس، ومكابرة للغير، واتباعا للهوى، وخوفا من الاتهام بالقصور أو التقصير.
ورضي الله عن الإمام الشافعي الذي قال: والله ما أبالي أن يظهر الحق على
لساني أو على لسان خصمي.
وهذا التعصب من دلائل الإعجاب النفس، واتباع الهوى، وهما من أشد المهلكات خطرا.
والمتعصب أشبه بامرئ يعيش وحده في بيت من المرايا، فلا يرى فيها غير شخصه أينما ذهب يمنة أو يسرة، وكذلك المتعصب لا يرى رغم كثرة الآراء
غير رأيه، فهو مغلق على وجهة نظره وحدها، ولا يفتح عقله لوجهة سواها، يزعم أنه الأذكى عقلا، والأوسع علما، والأقوى دليلا، وإن لم يكن لديه عقل
يبدع، ولا علم يشبع، ولا دليل يقنع.
وبعضهم له معاذير كثيرة، يلجأ إليها إذا أعياه المنطق، واعوزته الحجة وغلب أمام خصومه، فحينا يتشبث بتقليد الآباء، وآونة بطاعة الكبراء، وثالثة باتباع الجمهور: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت.
وقد حكى القرآن الكريم لنا نماذج من المتعصبين منكرا عليهم، ومنددا بمسلكهم، تحذيرا للمسلمين أن يحذوا حذوهم. فقال تعالي عن بني إسرائيل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ (91)}[البقرة].
وقال تعالى عن المشركين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}[البقرة].
3 ـ الانصاف :
الإسلام يوجب على المسلم، أن يكون عدلا مع من يحب ومن يكره، يقول لله شهيدا بالقسط ولو على نفسه، ولا يخرجه غضبه عن الحق، ولا يدخله رضاه في الباطل، ولا تمنعه الخصومة من الشهادة لخصمه بما فيه من خير، قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}[النساء].
وقال تعالي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) } [المائدة].
وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري : }ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك
أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل{.
4ـ الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها (الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق ):
أن ينظر إلى القول لا إلى قائله، وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات، والاعتراف
بالخطأ، والترحيب بالنقد من الآخرين، وطلب النصح والتقويم منهم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة، والثناء على المخالف فيما أحسن فيه، والدفاع
عنه إذا اتهم بالباطل، أو تطاول عليه أحد بغير حق.
وعليه قبول الحق والإنصات له، فلابد أن يكون المختلفان يطلبان الحق، وينصتان له، ويقبلانه، فالذي يصم عن الحق ولا يقبله لا يمكن أن يتأدب بأدب الاختلاف أصلاً، ولهذا قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (18)}[الزمر].
فهم يستمعون أولاً ثم يتبعون، وعاب على الكفار قولهم تعالي: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)} [فصلت].
فلابد من الإنصات للخصم حتى يسمع الإنسان ما عنده، ولابد أن يقبل ما في
كلامه من الحق، ولهذا علمنا الله في مجادلة المشركين أدبًا عجيبًا فقال تعالي : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)} [سبأ] .
فمن المعلوم أن النبي (ﷺ) هو الذي على هدى، وأن المشركين في ضلال مبين، لكنه أتى بـ (أو) في هذا الأسلوب لأدب الاختلاف.
ولهذا قال الشافعي رحمه الله: (ما ناظرت أحدًا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، قيل ولمَ؟ قال: إن ظهر على لسانه عرفت الحق ولم أفتن، وإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن).
5ـ إحسان الظن بالآخرين :
إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود، عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائما على تزكية نفسه، واتهام غيره..
والله تعالى ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول تعالي: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32) }[النجم].
ويذم اليهود الذين زكوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)} [النساء].
والمؤمن كما قال بعض السلف أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح!
فهو أبدا متهم لنفسه لا يتسامح معها، ولا يسوغ لها خطأها، يغلب عليه شعور التفريط في جنب الله، والتقصير في حقوق عباد الله.
وهو يعمل الخير، ويجتهد في الطاعة، ويقول: أخشى أن لا يقبل مني، فإنما يتقبل
الله من المتقين، وما يدريني أني منهم؟!
وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله، فهو يقول ما قال بعض السلف
الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه!
وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وفي مقابلهما: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.
إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسنة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وأن لا تظن به إلا خيرا، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها، تغليبا لجانب الخير على جانب الشر.
والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ(12)} [الحجرات] .
والمراد به: ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم.
ويقول الرسول (ﷺ): "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.." [رواه مسلم]
والمفروض في المسلم إذا سمع شرا عن أخيه أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه، وأن لا يظن به إلا خيرا، كما قال تعالى في سياق حديث الإفك:{ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) }[النور].
ومع هذا ينبغي للمؤمن أن لا يستسلم لوسوسة الشيطان في إساءة الظن بالمسلمين، بل عليه أن يلتمس لهم المعاذير والمخارج فيما يراهم أخطؤا فيه، بدل أن يتطلب لهم العثرات والعيوب.
فإن من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدهم منه مجالس يوم القيامة الباغين للبرآء العثرات.
وإذا لم يجد وجها واحدا للخير يحمله عليه ـ فيجمل به أن يتريث، ولا يستعجل في الاتهام،
فقد يبدو له شيء عن قريب.
وما أصدق ما قاله الشاعر هنا:
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرا وأنت تلوم!
ومما يجب التحذير منه: ما يتصل باتهام النيات، والحكم على السرائر، وإنما علمها عند الله، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية.
ويشتد الخطر حينما يجتمع أتباع الظن، وأتباع الهوى، كالذي ذم الله به المشركين في قوله تعالي :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}[النجم] .
إن الإخلاص لله يجمع يوحد، أما اتباع الهوى وسوء الظن فهو يفرق ويمزق، لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رؤوس الناس.
6 ـ ترك الطعن والتجريح للمخالفين:
هذا هو نهج السلف في اختلافهم في الاجتهاد، فلم يجرح بعضهم بعضا، بل أثنى بعضهم على بعض برغم ما اختلفوا فيه.
لو عامل الله عباده كما يعامل هؤلاء غيرهم، ما نجا أحد بعد الأنبياء من الهلاك في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، ولكنه تعالى خاطب المكلفين بقوله تعالي:{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}[الشورى]
وقال تعالي:{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء].
ووصف الذين أحسنوا من عباده بقوله تعالي:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ (32)}[النجم].
7 ـ البعد عن المراء واللدد في الخصومة :
فالإسلام وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ذم المراء، الذي يراد منه الغلبة على الخصم بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزان بين الطرفين.
وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9)}[الحج].
وقال تعالي { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}[البقرة] .
ومن هنا جاء في الحديث ذم المراء، والترغيب في البعد عنه.
فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: }أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، ويبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه{. [حديثٌ صحيحٌ، رواه
أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ].
وعن أبي أمامة أيضا أن النبي (ﷺ) قال: }ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل{ [رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ].
، ثم تلا:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}[الزخرف].
وهذا أمر ملاحظ: أن القوم إذا حرموا التوفيق، تركوا العمل، وغرقوا في
الجدل، وبخاصة أن هذا موافق لطبيعة الإنسان التي لم يهذبها الإيمان {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا(54)}[الكهف].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله (ﷺ): "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". [متفق عليه] .
والألد: الشديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي أي جانبيه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر.
وذم القرآن بعض أصناف الناس بقوله تعالي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}[البقرة].
العنصر الخامس: الوعي بفن التواصل وأساليب الحوار الجيد:
من عظمة هذا الدين أنه لم ينتشر بالعنف وإنما انتشر بالحكمة والموعظة الحسنة
والمجادلة بالتي هي أحسن ،فقال تعالي :{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل].
وللحوار الجيد طرق وأساليب حثنا عليها الإسلام منها:
1 ـ اختيار أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر:ــ
ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود، والنصارى، تعبيرا له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير (أهل الكتاب) أو (الذين أوتوا الكتاب) .
ولهذا جاء في القرآن مثل قوله تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ (171)}[النساء].
وقال تعالي{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}[آل عمران].
حتى المشركون الوثنيون لم يخاطبهم القرآن بقوله: "يأيها المشركون" بل كان يناديهم بقوله: "يأيها الناس".
ولم يرد في القرآن خطاب للمشركين بعنوان الشرك أو الكفر، إلا في سورة (الكافرون) وذلك لمناسبة خاصة هي قطع الأمل عند المشركين أن يتنازل
المسلمون عن أساس عقيدتهم، وهو التوحيد، ولهذا كرر فيها المعنى الواحد بصيغ عدة تأكيدا وتثبيتا ومع هذا ختمها بهذه الآية الكريمة التي تعد غاية في السماحة: (لكم دينكم ولي دين).
ومثلها قوله تعالى:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)}[يونس].
وإنما اصطدم الإسلام بالشرك، واقتتل الرسول والمشركون، لأنهم لم يقابلوه بمثل منطقه، بل قالوا: لنا ديننا، وليس لك دينك، ولنا علمنا، وليس لك عملك، من حقنا
أن نعبد الأوثان، وندعو إليها، وليس من حقك أن تعبد الله وتدعو إليه، ومن اتبعك على دينك بإرادته واختياره كان علينا أن نفتنه عن دينه.
2ـ عدم رفع الصوت:
فرفع الصوت في حال الاختلاف مدعاة لدخول الشيطان، ومدعاة لترك الأدب السابق، وهو الاستطالة، ولهذا حذر الله تعالى منه فقال تعالي:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً(148)} [النساء].
3ـ التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق بينك وبين من تحاوره:
وهو أسلوب قرآني يجب أن نتعرف عليه، فهو يقول في حوار أهل الكتاب من
اليهود والنصارى فقال تعالي{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)}[العنكبوت] .
ومثل ذلك قوله في سورة أخرى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}[البقرة].
فإذا كان هذا موقف المسلم ممن يجادله من أهل الكتاب الذين يخالفونه في عقيدته، وأصل دينه، ولا يؤمنون بأن محمدا رسول الله (ﷺ) ، ولا أن القرآن كتاب الله، ولا أن الإسلام شريعة الله، فكيف ينبغي أن يكون موقفه من أخيه المسلم الذي يؤمن بكل ما يؤمن به من عقيدة وشريعة، ورسول وكتاب؟ وأيضا قول الله تعالي لسيدنا موسي عليه السلام وسيدنا هارون قال تعالي {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ(43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)}[طه].
وحسبنا أن نذكر بعض النماذج لحوار الأنبياء مع أقوامهم في القرآن الكريم والسنة المطهرة :ـ
حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه :
قال تعالي }إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا
سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) {.]مريم[
حوار النبي صلي الله عليه وسلم مع عتبة ابن ربيعة :
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال :
حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه شاء ويكف عنا ؟
وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .
قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع .
قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا ، جمعنا لك من أموالنا ، حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله (ﷺ) يستمع منه .
قال : أقد فرغت يا أبا الوليد " ؟ قال : نعم . قال : " فاسمع مني "
قال : أفعل . قَالَ :{بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ (حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}[ فُصّلَتْ].
ثم مضى رسول الله (ﷺ) فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما ، يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله (ﷺ)
إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك .
فقام عتبة إلى أصحابه فقال : بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟
قال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر
ولا بالسحر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين
هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب ،
فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به .
قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه .
قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم {. انتهي الحوار.
العنصر السادس: أثر الاحترام على الفرد والمجتمع:
لا شك أن البيئة التي يسودها الاحترام المتبادل تختلف تمامًا عن تلك التي تفتقد إليه ونذكر من آثاره وفوائده ما يلي:
يساعد احترام الآخرين على تنحية المشاعر السلبية جانبًا، وإضفاء الشعور الإيجابي على علاقة الأفراد ببعضهم.
يُمهد احترام الآخرين الطريق لكسب الأصدقاء، لأنه يأسر القلوب ويبني الجسور، فحين تحترم خيارات أحدهم وأفكاره، ويفعل هو مثل ذلك، فإن الخلاف يتلاشى ويبقى الود.
احترام الآخرين يضفي السكينة والسلام على العلاقات، مما يجعل الأفراد أكثر سعادةً وتفاهمًا.
الخاتمة :
ينبغي أن نعلم أن الكلمة العنيفة لا لزوم لها، ولا ثمرة تجتني من ورائها، إلا أنها تجرح المشاعر، وتغير مودة القلوب.
قال الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!
إن حُسن اختيار بعض الجمل أو العبارات المناسبة في بعض الأحيان يحل مشكلات، ويفض اشتباكات.
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين.
تمت بفضل الله تعالي وتوفيقه.
==============================
رابط pdf
رابطdoc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق