31 مارس 2023
29 مارس 2023
28 مارس 2023
25 مارس 2023
24 مارس 2023
20 مارس 2023
رمضان وتربية الضمير
المقدمـــــة
الحمد لله رب العالمين ... فرض الصيام تدريبا للنفس البشرية علي مراقبته عز وجل في السر والعلانية ،فأصلحَ الضمائرَ ونقّى السرائرَ فهدى القلبَ الحائرَ إلى طريقِ التقوي ، فقال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)} [البقرة].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... جعل الصيام سر بين العبد وبين ربه فقال تعالي في الحديث القدسي الجليل :} كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي{.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم أنقى العالمينَ سريرةً وأزكاهم سيرةً فحذر من مخالفة السر للعلن فقال: }لأعْلَمَنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها اللّه عز وجل هباء منثوراً" ، قال ثوبان: يا رسول اللّه، صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم اللّه انتهكوها{. رواه ابن ماجة .
فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد : فيا أيها المؤمنون..
إن في العبادات تدريب على مراقبة المولى تبارك وتعالى، في السر وفي العلانية، وهذا التدريب للإنسان يكون أكثر وضوحًا في الصيام منه في سائر العبادات، فهو يغرس في نفس الصائم الصبرَ على طاعة الله جل شأنه ، ويتعلم قوة الإرادة، وضبط وحكم النفس، التي تسرف في شهواتها طوال العام، ففي كثير من الأحيان يكون الطعام والشراب في متناول الصائم، وبين يديه بعيدًا عن أنظار الناس، ومع ذلك يكف عن تناولهما.
إن في رمضان يتربى المسلم علي الضمير الحي اليقظ الذي يتعامل مع الله تعالي في كل مناحي حياته
وهذا الضمير أودعه الله عز وجل النفس البشرية لكي يكون بمثابة القاضي الذي يحكم له أو عليه فيدفعه دائما نحوَ الطريقِ القويمِ والعملِ الراشدِ قال تعالي
}وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10){ الشمس.
في رمضان تكون التربية الحقيقية للضمير ،
لذلك كان موضوعنا }رمضان وتربية الضمير { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ حقيقة الضمير .
2ـ حاجة الأمة إلي الضمير.
3ـ كيف نربي الضمير.
4ـ نماذج وقدوات أصحاب ضمائر حية.
5ـ أثر الضمير في حياة الناس.
العنصر الأول : حقيقة الضمير :
الضمير هو تلك القوة الروحية التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره وهو منحة من الله للإنسان يدله بها على الخير والشر وكيف يكسب الرضا والراحة النفسية.
ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال تعالي: } مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23){ (يوسف).
والضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها.
وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ، كما قالَ الحقُّ سبحانه: }لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2){ القيامة
والضميرُ هو الرادعُ عنِ المعاصي والآثامِ الذي يُجَنّبُكَ مقاربتَها ويُثنيكَ عن تكرارِها؛ فقد وصَفَ اللهُ عبادَه المتقينَ فقالَ تعالي}وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135){ آل عمران.
العنصر الثاني : حاجة الأمة إلي الضمير :
إن أخطر مرض يصيب الأمة هو موت الضمير وانعدامه، فإذا غابَ عن المجتمعات أصبحَ أفرادُها أشباحًا بلا أرواح، وربما ترقَّت ببعضِ بنِيها إلى أن يكون شياطين في جُثمان إنسٍ.
عندما يموتُ الضميرُ تبرز الأنانية وحب الذات ، ويُصبِحُ منطقُ كل فرد في المجتمع يقول نفسي .. نفسي ..
عندما يموتُ الضميرُ يُؤمَّنُ الخائنُ، ويُخوَّنُ الأمين، ويُصدَّقُ الكاذِبُ، ويُكذَّبُ الصادق.
عندما يموتُ الضمير يستأسِدُ الحَمَل، ويستنوِقُ الجمَل، وتنطِقُ الرُّويبِضَة ، ويتَّخِذُ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فيضِلُّوا ويُضِلُّوا.
عندما يموتُ الضميرُ يعلُو الظلمُ، ويخبُو العدل، ويكثُر الشُّحُّ، ويقِلُّ الناصِح، وتُستمطَرُ الآفاتُ والعُقوبات، ويُهدَمُ البُنيان لبِنَةً لبِنَةً ، ولاتَ ساعة ترميمٍ.
ربما بعض الناس ماتت ضمائرهم، والبعض نامت ضمائرهم، وآخرون تعفَّنت ضمائرهم، وهناك مَن باع ضميره.
فإذا لم يكن الإنسان موصولاً بالله عز وجل ويخشي الله في السر والعلانية، فإنه سيأتي يومٌ ويعرض ذلك الضمير للبيع في سوق الحياة وعندما يُباع الضمير ستجد ذلك الصاحب والصديق الذي أتمنته على مالك قد خان الأمانة وتنكر لك .
عندما يباع الضمير ستجد من يعطيك شهادة علمية دون أن تدرس يوماً واحداً. وستجد شاهد باع ضميره و زور أحداث شهادته، وحول الظالم إلى مظلوم،
والمظلوم إلى ظالم ، و اختل واقع الحياة، وضاع مصير الإنسان ، وعندما يباع الضمير ستجد الطبيب الذي يهمل فحص مرضاه في المستشفى ليضطرهم للذهاب إليه في عيادته الخاصة ، وعندما يُباع الضمير أو يغيب من النفوس تهمل الواجبات وتضيع الحقوق والأمانات ويُوسد الأمر إلى غير أهله وتظهر الخيانات وتحاك المؤامرات وتقدم المصالح الشخصية الضيقة على مصالح المجتمع والأمة.
فلنحذر من الغفلة وبيع ضمائرنا ولنتذكر قوة الله وقدرته وعلمه .
وما أتعس ذلك الإنسان عديم الضمير والوازع الديني عندما يخلو بمحارم الله فينتهكها فلا يردعه دين ولا خلق، وإن أظهر من أعمال البر والخير ما أظهر فيحرم التوفيق في الدنيا والثواب في الآخرة لأن ضميره لم يكن مع الله.
فعن ثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لأعْلَمَنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها اللّه عز وجل هباء منثوراً" ، قال ثوبان: يا رسول اللّه، صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم اللّه انتهكوها". رواه ابن ماجة .
و قال تعالى:} وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108){ [النساء].
والمعنى: "يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة، ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه، وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه، مطلع عليهم حين يدبِّرون ليلا ما لا يرضى من القول، وكان الله تعالى محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه منها شيء"(التفسير الميسر).
إنَّ الضميرَ يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ، ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ، وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ، يقولُ اللهُ تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201){ الأعراف
ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.
إن تربية الضمير وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس فيه سعادة الأفراد والمجتمعات والدول وبدونه لن يكون إلا مزيداً من الشقاء مهما تطورت الأمم في قوانينها ودساتيرها وطرق ضبطها للجرائم، وإدارة شؤون الناس فأنه سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين، وبالتالي ما الذي يمنع الموظف أن يرتشي، والكاتب أن يزور، والجندي أن يخل في عمله ،والطبيب أن يهمل في علاج مريضه ،والمعلم أن يقصر في واجبه ، والقاضي أن يظلم في حكمه، والمرأة أن تفرط بواجبها ، والتاجر من أن يغش ويحتكر في تجارته ...
العنصر الثالث: كيف نربي الضمير:
يتأثَّرُ الضميرُ الإنسانيُّ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها قال تعالي}وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16){ ق
واتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم قال تعالي }وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98){ المؤمنين
وانساقتْ وراءَ ضلالتِها قال تعالي }فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108){ يونس
وكانت رَهْنَ هواها قال تعالي }إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23){ النجم
فاختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُه وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ ويعلو قدرُه ويزيدُ ضياؤُه إذا خالفتْ نفسُهُ هواها فيما لا ينفعُها يقولُ الحقُّ سبحانه: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41){ النازعات .
وصارَعَتْ وسوسَةَ شياطينِ الجنِ والأنسِ قال تعالى }وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ (202) { الأعراف
وانكبَّتْ على الباقياتِ الصالحاتِ }جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104){الأنعام
حينَها يقوى الضميرُ وتُضَاءُ جنباتُ النفسِ وتَخْصُبُ أرضُهَا؛ فيكونُ مِنْ ثمرِهَا صدقُ صاحِبِها وأمانَتُه، ومروَءتُه وإخلاصُه وعِفَّتُه }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{ الشمس .
إن الدول والشعوب والحكومات لتسن القوانين وتوجد التشريعات وتحدد العقوبات التي تكفل لها ولأفرادها الحياة الطيبة والآمنة فتحفظ الحقوق وتنجز الأعمال وتؤدى الواجبات وتكافح الجرائم والاختلالات ويعيش الفرد ينظر عندما يُقْدِم على عمل ما إلى موقف القانون والعقوبة المترتبة على ذلك فإذا وجدت وسائل الرقابة البشرية التزم بذلك وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرب ويتحايل على هذا القانون ..
أما في شريعة الإسلام إلى جانب ما شرعته من أحكام وحدود وعقوبات فإنها سعت لتربية الفرد المسلم على يقظة الضمير والخوف من الله ومراقبته وطلب رضاه حتى إذا غابت رقابة البشر وهمت نفسه بالحرام والإفساد في الأرض تحرك ضميره الحي يصده عن كل ذلك ويذكره بأن هناك من لا يغفل ولا ينام ولا ينسى يحكم بين عباده بالعدل ويقتص لمن أساء وقصر وتعدى في الدنيا والآخرة القائل سبحانه }وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12){ [الانفطار] ..
وقال تعالى} وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً(13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14){ [الإسراء]
وهو الدافع إلى كل خير فتقوى الله ومراقبته دليل على كمال الإيمان، وسبب لحصول الغفران، ودخول الجنان، وبه يضبط السلوك والتصرفات وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات حتى وإن غابت رقابة البشر ووسائل الضبط وقوانين العقوبات والجزاءات فتقوى الله ومراقبته والخوف منه والاستعداد للقائه أقوى في نفس المسلم من كل شيء قال تعالى }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7){ [المجادلة] .
إن الضميرَ كالطفلِ فما دُمْتَ تُغَذِّيه بالغذاءِ الصالحِ ينمو ويقوَى، أما إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ، وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويُقْصِرُ خطاكَ عن الشرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ. ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في نفسِكَ قال تعالي }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46){ فصلت
كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى مِنْ خلالِ ترطيبِ اللسانِ بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ والضميرُ يَقِظاً في كلِّ حالٍ قال تعالي}يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي (30){الفجر
ولكن عندما تخبو جذوة الضمير وتضعف قواه فمن يُغذِّيه ويقويه؟ إنّه الإيمان، الإيمان أعظمُ مددٍ له، وأقوى مُولِّدٍ له، عقيدة المؤمن بالله جلَّ جلاله، وعقيدةُ المؤمن بالحِساب الحتْمِيّ تجعل الضمير أو القلب بنشاط وصَحْوةٍ دائمة، اعْتقادُ المؤمن أنّ الله معه حيثما كان، في السَّفر، وفي الحضَر، في السرّ والعلن قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} النساء.
وقال تعالي}فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)} الحجر.
وقال تعالي }أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)} القيامة.
وقال تعالي }وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61)} يونس
ومن أرْوَعِ ما قيل في هذا المقام: "اجْعَل مراقبتَكَ لِمَن لا تغيب عن نظره إليك لحظة، واجعَل شُكرك لِمَن لا تنقطعُ نِعَمه عنك، واجْعَل طاعتَكَ لِمَن لا تستغني عنه، واجْعَل خُضوعكَ لِمَن لا تخرجُ عن مُلكِهِ وسُلطانه".
العنصر الرابع : نماذج وقدوات أصحاب ضمائر حية :
1 ـ يأتي رجلان من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في قطعة أرض ليس لأحدٍ منهما بينة وكل واحدٍ منهما يدعي أنها له وقد ارتفعت أصواتهما فقال }إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما يقتطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة{ (البخاري)
عند ذلك تنازل كل واحدٍ منهما عن دعواه فقد حرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوسهما الإيمان وارتفع بهما إلى مستوى رائع من التربية الوجدانية وبناء الضمير والتهذيب الخلقي للفرد؛ فكانت هذه التربية وبناء الضمير حاجزاً لهما عن الظلم والحرام .
2ـ وهذه حالة أخري من حالات الضمير الحي ،لقد عين أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟
3ـ قصة زوجة بشير ابن سعد ..ما ورد في الصحيح عن النعمان بن بشير، وهو يحدثنا عن هديَّة أراد أن يعطيها له أبوه، فيخصه بها دون بقية إخوانه من باقي زوجاته، فقال: أعطاني أبي عطية، فقالت أمي عمرةُ بنت رواحة: فلا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله ، فأتى رسولَ الله صلي الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أعطيتُ ابنَ عمرة عطية، فأمَرَتْني أن أُشهدك، فقال: «أعطيتَ كلَّ ولدك مثل هذا؟»، قال: لا، قال: «اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم»، قال: فرجَع فردَّ عطيَّتَه.
لننظر إلى الضمير الحي الذي تحمله "عمرة"، وهي زوجة ثانية، وترى أن زوجَها يفضِّلُ ابنها على بقية أبنائه من باقي زوجاته، فلا تقبل، رغم ما يحصل بين الضرائر، إلا أن الضميرَ الحي لأمِّ النعمان دفَعها إلى عدم قَبول العطية لولدها دون سائر أبناء ضَرَّاتها، وانظر إلى ضمير البشير بن سعد يوم أن جاء إلى رسولِ الله ليُشهدَه على تلك العطية.
4ـ هذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة وقد أشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة وقالوا له تبيعنا و نزيدك الدرهم درهمين ؟
فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها بأكثر من هذا .
فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة : فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة تجار غيرنا ؟
فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ولرسوله فهي لفقراء المسلمين ..
الله أكبر!! ... ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموال طائلة ولو كانت على حساب البطون الجوعى والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات. إنه مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر الظلم إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر.
العنصر الخامس : أثر الضمير في الحياة العامة :
من المهم أن نعلم أن المجتمعات البشريّة لا ترقى ولا تسْعد بِسَنّ القوانين، وإصدار القرارات، وإن كان هذا لا يُسْتغنى عنه أبدًا في كلّ مجتمع، إنَّما تَسْعَدُ المجتمعات وترقى بِوُجود الضمائر الحيّة، والقلوب السليمة، قال بعضهم: "العدل ليس في نصّ التشريع، وإنّما هو في ضمير القاضي"، فحينما رأى عمر بن الخطاب راعيًا ومعه شِياه، وقال: بِعْني هذه الشاة وخّذ ثمنها؟ فقال: ليست لي، فقال: قلْ لصاحبها إنّها ماتت أو أكلها الذئب! فقال: والله إنَّني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلتُ لِصاحبها أكلها الذئب لصدَّقني، فإنّي عندهُ صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟
وصحوةُ الضمير والشعور بمراقبة الله دليل الإيمان، فيُصبح المؤمن ويُمسي مُراقبًا لِرَبِّه، ومُحاسبًا لِنَفسه، مُتَيقِّظًا لأمره، متدبِّرًا لِعَاقبَتِهِ، لا يظلم، ولا يخون، ولا يتطاوَلُ، ولا يستكبرُ، ولا يجْحَدُ، ولا يدَّعي ما ليس له، ولا يفعلُ في يومه ما يخافُ أن يُحاسبُ عليه غدًا، ولا يعملُ في السرّ عملاً يستحي عنه في العلانيَة.
إذا ما خلوْتَ الدَّهْر يومًا فلا تقل خلَوْتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب
ولا تحسبّن الله يغفل ســــاعةً ولا أنّ ما تُخفيه عنه يغيب.
الضمير الحي هو ركنُ الرقابة في داخل كل إنسان، والضمير الحي هو القاضي والشُّرطي ورجل الأمن وموظَّف البلدية، الضمير الحي هو ميزان الحق والباطل، والصواب والخطأ.
إذا استطعنا أن نحي الضمير في نفوسنا بالإيمان بالله تعالي لما احتاج الناس إلي القانون وعم الخير والأمن والأمان المجتمع كله ،لأن الضمير الديني هو الركيزة الأولى للأخلاق وهو الأساس الأصيل لحياة اجتماعية فاضلة وهذه بعض آثار الضمير في مجالات الحياة العامة منها :ـ
1ـ في رعاية القوانين والأمانات :
الأمم لا تتقدم وترتقي بكثرة القوانين واللوائح والقرارات، إنما ترتقي برقيِّ الضمائر فيؤتى بتاج كسرى إلي الخليفة ولم تلتفت الأعين إليه ولا إلي غيره
روى الطبري: لما هبط المسلمون (المدائن) وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق معه. فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه!! فقالوا له: أخذت شيئاً ؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به..
فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا: من أنت؟
فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه .. فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه .. فسأل عنه فإذا هو (عامر بن عبد قيس).
وقد نقل إلى عمر كثير من الغنائم التي يخف حملها ويغلو ثمنها، أداها بأنفسهم جنود مخلصون لوجه الله لا يريدون جزاءاً ولا شكوراً، فقال في إعجاب وتقدير: إن قوماً أدوا هذا لأمناء!
2ـ في الاعتراف بالجريمة وتحمل العقوبة :
ويفرض القانون عقوبات مادية رادعة على من يرتكبون الجرائم، ولكن المخالفين للقانون يحاولون الفرار من قبضتيه، والتفلت من دائرة سلطانه، وفي غفلة من القانون والرقباء عليه، يقدمون على أعمالهم، مستخفين عن الأعين، أو ظاهرين وقد ألبسوا عملهم الآثم ثوب القانون أو مستندين إلى ذي سلطان يشفع لهم، أو يحمي ظهرهم، إلى آخر ما نعرف عن صور التفلت من يد القانون.
فإذا نظرنا إلى ما يفرضه قانون الإيمان على صاحبه وجدنا صورة أخرى، ومنطقاً آخر، وجدنا المؤمن إذا زلت قدمه فاقترف جرماً وهو بطبيعته بشر يخطئ ويصيب- سرعان ما يستيقظ ضميره، ويدفعه دفعاً حتى يذهب إلى يد العدالة، فيعترف بالجريمة ويطلب العقوبة لنفسه تطهيراً من آثام الإثم، وأوزار العصيان، ورجاء في أن تكون كفارة له عن ذنبه، وشفيعاً له إلى ربه، لا يمنعه من الاعتراف أن فيه جلد ظهره أو قطع يده أو إزهاق روحه.
فهذا رجل عربي -هو ماعز بن مالك- يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فيقول له : لعلك لامست؟ لعلك قبلت! لعلك فاخذت! ويرد الرجل مرة ومرة ومرة، والرجل مصر على الاعتراف بخطيئته، مصر على التطهر منها بإقامة حد الله عليه، ولو كان الرجم بالحجر، ويأمر الرسول أخيراً إقامة الحد عليه، فيتقبله صابراً محتسباً، راغباً في عفو الله ومغفرته.
وهذه امرأة أعرابية تعرف بالغامدية، تزني ويضطرب في أحشائها جنين من الزنا، فيأتي عليها ضميرها المؤمن وقد ارتكبت الفاحشة سراً إلا أن تتطهر منها جهاراً.
وجاءت رسول الله تقول له: إني قد زنيت فطهرني؟ فيردها الرسول فتأتي في الغد فتقول: يا رسول الله .. لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً .. فو الله إني لحبلى!!
فيقول لها: أما لا .. فاذهبي حتى تلدي.
وتذهب المرأة تنتظر الوضع، وتمضي عليها الأيام والأشهر دون أن تخبو جذوة ضميرها. فما أن ولدت حتى أتت بالصبي في خرقة، وقالت للرسول: ها قد ولدته.
قال لها: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
وتعود المرأة إلى دارها ترضع ولدها، وتمضي مدة الرضاع -وهي في العادة حولان كاملان- أربعة وعشرون شهراً لم يستطع اختلاف الليل والنهار فيها أن ينسي المرأة ما ارتكبت من خطيئة.
وبغير إعلان من محكمة، ولا تنبيه من حاكم، ولا حراسة من شرطي ترجع المرأة إلى رسول القوانين طائعة مختارة، لتلقى مصيرها الذي رضيته لنفسها فتقدم إليه الصبي وفي يده كسرة من الخبز، وتقول: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.
ولم يجد النبي بداً بعد هذا أن أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد، فسبها .. فسمع نبي الله سبه إياها .. فقال: "مهلا يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى!" (القصة رواها مسلم)
3ـ في السياسة والحكم :
أما في مجال السياسة والحكم وهو المجال الذي يُغْرِي بالحيف والغرور والطغيان، فقد قص علينا التاريخ أمثلة شامخة لخلفائنا المهديين، في العدالة الكاملة التي لا تتحيز لقريب أو تتحيف على عدو، وفي المساواة القانونية التي لا تعرف الفوارق، وفي الزهد الذي يعرض عن الدنيا وفي يده البيضاء والصفراء، والقوة والسلطان.
لقد كان "الضمير" المؤمن هو الذي يحكم ويسود، فسادت الفضيلة وسادت العدالة والمساواة، ذلك الضمير الذي جعل القاضي يحكم لصالح العامة ضد الخليفة ، ويتقبل الخليفة بنفس طيبة راضية ..
ـ يُحكي أنه ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ، ونقده ثمن الفرس، ثم امتطى صهوته، ومشى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس قليلاً, حتى ظهر فيه عطب, عاقه عن مواصلة الجري، فانثنى به عائداً من حيث انطلق، وقال للرجل: (خذ فرسك فإنه معطوب، فقال الرجل: لا آخذه يا أمير المؤمنين، وقد بعته منك سليماً صحيحاً، فقال عمر: اجعل بيني وبينك حكماً، قال الرجل: يحكم بيننا شريح ابن الحارث الكندي، فقال عمر: رضيت به احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر بن الخطاب، وقال: يا أمير المؤمنين, هل أخذت الفرس سليماً ؟ فقال عمر: نعم، قال شريح: احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين، أو ردَّ كما أخذت .
نظر عمرُ إلى شريح معجباً!
وقال: وهل القضاء إلا هكذا ؟ أيمكن أن يكون القاضي غير ذلك، هكذا القضاء؛ قول فصل، وحكم عدل سِرْ إلى الكوفة، فقد ولّيتك قضاءها ، لأنه حَكَمَ عليه، وأُعجِب بهذه النزاهة، وبهذه الجرأة) .
ـ وهذا سيدنا علي رضي الله عنه وهو خليفة أمام القضاء ، فقد روي أن رجلاً اشتكى عليّاً يوماً إلى عمر بن الخطاب عندما كان خليفة المسلمين فنادى عمر الإمام عليّاً بعبارة: "يا أبا الحسن"، ونادى الخصم باسمه. فغضب علي، فقال له عمر: لماذا غضبت، هل لأنني ساويتك مع الخصم؟ فقال له: لا ولكن لأنك كنيتني ولم تكنه.
ـ وموقف آخر مع سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه .... روي أن عليّاً بن أبي طالب وجد درعه عند رجل نصراني فأقبل به على شريح قاضيه يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه. وقال: إنها درعي ولم أبع ولم أهب. فسأل شريح النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ قال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى علي يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بيِّنة ؟
فضحك علي وقال: أصاب شريح. ما لي بيِّنة. فقضى بالدرع للنصراني.
ومفتاح هذا الزهد وتلك العدالة ، هو الضمير الحي اليقظ .
4ـ في التجارة والمعاملة :
يروي الغزالي أيضاً أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، منها ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة درهم، وضرب كل حلة مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها، فاشتراها -أي بأربعمائة- فمشى بها وهي على يديه فاستقبله يونس. فعرف حلته. فقال للأعرابي بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوى أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوى في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف معي فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم. وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله. وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله أتربح مثل الثمن، وتترك النصح للمسلمين؟! فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك!! (الإحياء).
إن التجار عادة يغلب عليهم حب الكسب إلى حد الجشع حيناً، والخيانة والظلم أحياناً. فإذا غلب الإيمان هان المال في سبيل المثل الأعلى ومكارم الأخلاق.
5ـ في المواساة والإيثار:
ويتجلى أثر هذا الضمير الذي صنعه الإيمان بالله واليوم الآخر في مجال المواساة والإيثار بالمال والنفس، فكان الرجل يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويبذل له من ذات يده، ومن جهده ووقته ما يبذله لأعز بنيه عليه، وأحب أهليه إليه، وقد يرتقي الإيمان بأحدهم، فيؤثر أخاه على نفسه، فيجود له بالشيء، وهو أحوج ما يكون إليه، كل ذلك ولا قانون يلزمه، ولا حكومة تطالبه، ولا أجهزة تراقبه، ولا عقوبة تسلط عليه، وإنما هو دافع الإيمان بين جنبيه، يحفزه على عمل الخير، والتطوع بالبر، ابتغاء ما عند الله وما عنده خير وأبقى.
ـ أخذ عمر بن الخطاب أربعمائة دينار، فجعلها في صرة، ثم قال لغلامه: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تله (تشاغل) في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه ..
فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك فقال: وَصَلَهُ الله وَرَحِمَه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفدها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل ، فقال: اذهب بها إلى معاذ وتله (تشاغل) في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك.
فقال: رَحِمَه الله وَوَصَلَه: تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة هي امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكين، فأعطنا، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره: فسر بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض (رواه الطبراني في الكبير) !!
ولا تحسبن أخي المسلم الكريم أن هذه كانت حوادث فردية ، لا تصور حقيقة المجتمع كله ، فإن أمثال هذه المواقف كثيرة جداً، هي تصور بحق روح المجتمع واتجاهه وفلسفته ونظرته إلى المال والحياة.
روى البخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لقد أتى علينا زمان أو قال حين وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم".
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّكم في هذا الشهر الكريم احرصوا فيه علي تربية جهاز المراقبة لله تعالي حتي يتربى الضمير الحي الذي يراقب الله تعالي في السر والعلانية فتسعدوا في الدنيا والآخرة .
نسأل الله تعالي أن يحي ضمائرنا ويتقبل منا الصيام والقيام ويجعلنا من الفائزين برمضان إنه ولي ذلك والقادر عليه .
آمين يا رب العالمينانتهت بفضل الله ورحمته
رابط doc
https://top4top.io/downloadf-2635p7lu71-docx.html
رابط pdf
https://top4top.io/downloadf-26359u7xt2-pdf.html
18 مارس 2023
رمضان مدرسة الأخلاق
المقدمـــــة
الحمد لله رب العالمين .. فرض الصيام تزكية للنفوس وتطهيرا للأرواح وتقوية للأخلاق فقال تعالي}يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون(183)] {البقرة [
وأشهـد أن لا إله إلا الله … وحده لا شريك له … له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير …ميز الأمة الإسلامية وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله فقال تعالي }كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (110) ]آل عمران[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) …بين الأسس التي بُنِيَ عليها الإسلام ، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله (ﷺ) "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان"..
فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعـد : فيا أيها المؤمنون….
لقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة، ومن نعمته أيضاً سبحانه وتعالى أنه ألقى محبة شهر رمضان في قلوب المؤمنين جميعاً ، حتى في قلوب الأطفال مع أنهم لا يعرفون صياماً ولا قياماً ولا ثواباً ولا حسنات، إنه حقاً الحدث الذي ينتظره الكبير والصغير ، وينتظره الرجل والمرأة ، وينتظره الغني والفقير، إنه أعظم شهر في الميزان الإسلامي..
كيف وصف رسول الله (ﷺ) هذا الحدث الجليل؟..
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما حضر رمضان قال رسول الله (ﷺ): قد جاءكم شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب الجنة, وتغلق فيه أبواب الجحيم, وتغل فيه الشياطين, فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم".
فرمضان ليس مجرد شهر كباقي الشهور وإنما رمضان له دور كبير في بناء الأمة الإسلامية .
ولكن كيف يبني رمضان أمة الإسلام؟
هذا البناء الضخم يحتاج إلى مجهود عظيم وتفكير عميق وإمكانيات هائلة ، كما أنه يحتاج إلى أساس متين قوي يستطيع أن يحمل فوقه البناء الهائل ، والله عز وجل وضح لنا في شرعه كل شئ.. وضح لنا كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان".
ها هو البناء يُبنى على أعمدة خمس ، منها صوم رمضان ، وهذا أمر في غاية الأهمية.
أبواب الإسلام واسعة جداً جداً، فهو دين شامل كامل متكامل.. لكن من كل هذه الأبواب الضخمة اختار الله عز وجل خمسة أمور فقط جعلها أعمدة الإسلام, والتي يبني عليها كل هذا الصرح الضخم..
من هذه الأعمدة : "رمضان"
تخيل أن هذا العمود غير موجود.. أو أن به خللاً في التصميم أو خللاً في التطبيق ، ماذا ستكون النتيجة ؟
لا شك أن البناء سينهار بالكلية!!..
تخيل لو أن صيام رمضان لم يكن بالطريقة التي أرادها الله عز وجل فقد ينهار البناء الضخم لأمة الإسلام بالكلية!!..
إذن الأمر في غاية الأهمية..
فنحن إذا كنا نريد بناءاً قوياً صلباً لهذه الأمة فلابد أن يكون أساسه متيناً، ومن ثم لابد أن يكون صيام رمضان على أعلى درجات الإتقان حتى يحمل فوقه الصرح المهول: ألا وهو الإسلام.. بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطق نريد أن ندخل إلى رمضان كما نريد أن ينتهي رمضان وقد أصبحنا مؤهلين لحمل الصرح العظيم والأمانة الكبيرة.
فالقضية ليست فقط قضية صيام ، إنما القضية قضية بناء.. "بناء خير أمة".
ولكن كيف يبني رمضان أمة الإسلام ؟
رمضان سيقوم بتنقية المجتمع المؤمن من الشوائب!.
والذي سيفشل في الامتحان لا تبني عليه حساباتك ، والذي يثبت في رمضان سيثبت إن شاء الله في غيره.
ولكي يكون الاختبار حقيقياً لابد أن يكون صعباً..
فما هي صعوبة رمضان؟ !صعوبة رمضان ترجع إلى أمور عدة:ـ
1ـ أنه فرض، وطبيعة الناس تنفر من الفروض والتكليفات..
2ـ وأنه شهر كامل متصل ، والأعذار فيه محدودة ، وليس لك بديل عن الصيام إلا بعذر مقبول شرعاً ، وقد يأتي رمضان في الحر، أو قد يأتي في وقت تزدحم فيه الأعمال عليك ، أو قد يأتي في وقت تكثر فيه مشاغلك وهمومك ، وفي كل هذا هو شهر كامل متصل لا يصلح الذي قبله ولا الذي بعده.
3ـ و أنه خروج على المألوف ، فشهوة الطعام والشراب والجماع شهوات مزروعة في داخل كل إنسان، وفي رمضان ستخرج خروجاً تاماً عن المألوف ، ستجوع ، ستعطش، ستتعب ، ستنهك ، ولكن يجب أن تصبر.
4ـ ولكن أصعب من كل ذلك أن تصوم صياماً حقيقياً كما أراد الله عز وجل. فليست المسألة مسألة طعام وشراب وشهوة فقط.
ولكن الأمر أكبر من ذلك ، والاختبار أصعب من ذلك ، فعلى سبيل المثال ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "من لم يدع قول الزور العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه شرابه".
وفي رواية أيضاً في البخاري وأبي داود واحمد.. "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل (أي الجهل على الناس أو صفات الجهل بصورة عامة) فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه."
إذن لابد أن تدرك أنك في رمضان ستدخل في اختبار صعب إن نجحت فيه كنت مؤهلاً لحمل الأمانة ولبناء الأمة ، وإن فشلت فليس لك مكان في الصرح العظيم
ومن هنا فليس من المعقول أيها المسلمون لفرد مسلم مؤمن يدخل في اختبار عظيم كاختبار رمضان ثم هو يقضي الساعات الطوال أمام التليفزيون مثلاً!!
ليس من المعقول أن يقضي المسلم الواعي الأوقات الطويلة فيما ليس منه فائدة بحجة أنه يسلي صيامه !
اعلم أخي المسلم أن رمضان اختبار لتنقية المجتمع المسلم..
ومن الذي يختبرك ؟!
إنه الله عز وجل ! قال تعالى }وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ (67){ ]الزمر[
إذن رمضان اختبار يراقب الله عز وجل فيه أفعال العباد، فينتقي الصالحين ويطرد الفاسدين وبذلك تحدث التنقية للصف المسلم ، والأمة التي تُبني على أكتاف عناصر صالحة ستكون أمة قوية إن شاء الله.
فرمضان يربي فينا قيم إيمانية غالية !!
ماذا يربي رمضان فينا ؟
رمضان يربي فينا سلوكيات وأخلاق كثيرة نلخصها في هذه النقاط ...
فالله عز وجل يُحب من عبده أن ينصاع له دون جدل, وأن يطيعه دون تردد.. والله يظهر لنا في أحيان الحكمة من وراء الأمر, ولكنه في أحيان أخرى يخفيها, ومع ذلك فإنه في كل الحالات على المؤمنين أن يطيعوا..
قال تعالى } وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا (36){ ] الأحزاب[
ـ لماذا فرض الصيام في رمضان بالذات وليس في رجب أو شعبان مثلاً؟
ـ لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب, وليس من الفجر إلى العصر أو إلى العشاء, أو من الشروق إلى الغروب؟
ـ لماذا كفارة الجماع في نهار رمضان ستين يوماً متصلة، وليست ثلاثين أو خمسين أو تسعين ؟
وهكذا أسئلة بلا إجابات ، ومقصود أن لا يكون لها إجابات.
والغرض: تربية المؤمنين على الطاعة لله عز وجل, ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وحتى وإن ظهر لعيوننا القاصرة طرف من الحكمة فهي ليست كامل الحكمة , أو قد لا تكون الحكمة مطلقاً..
وربما يقول قائل : إنما شرع الصيام للشعور باحتياج الفقراء وجوعهم, وأنا أشعر باحتياجهم وأعطيهم فما الداعي لصيامي؟
ولذلك فأنا لا أصوم!.
فهذا قصور كبير في الفهم, فهذا القائل لم يستفد بتربية رمضان،
وربما يقول قائل : الصيام يضعف الأفراد, ويقلل من الإنتاج!!
فهذا لم يدرك البعد التربوي العميق في صيام رمضان.
هذه واحدة من تربويات رمضان، ومعنى ذلك أنه لا يستقيم بعد رمضان أن تسمع أمراً من أوامر الله ثم تجادل، أو تسمع أمراً من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تجادل، قال تعالى} فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا (65)]{النساء[ هذا التسليم هو الذي نتعلمه في رمضان..
2ـ رمضان يربي المسلمين على ضبط الشهوات
رمضان يربي المسلمين على ضبط شهواتهم ، أو قل على "التحكم" في الشهوات إلى أن تصرف في المكان الصحيح، إنه تدريب عظيم على عمل نبيل..
يقول الرسول (ﷺ) في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه : "من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه اضمن له الجنة"..
ما دور رمضان في هذا الأمر ؟
رمضان يدرب المؤمن تدريباً عظيماً على حفظ هذه الأشياء..
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ): "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان"] رواه الإمام احمد بسند صحيح[
تدريب عظيم على التحكم في الشهوات..
ونجد أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال، ولكنها حرمت في نهار رمضان فقط , وهي حلال طوال العام, بل هي حلال حتى في ليل رمضان، وذلك مثل الطعام بأنواعه, والشراب بأنواعه, والجماع مع الزوجة، فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد عليها سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام والشراب الحرام والعلاقات المحرمة وهكذا..
ويبقى سؤال هام: ما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الأمة المجاهدة؟
وما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الفرد الصالح للانتصار وللتمكين؟
ستأتي على الأمة المجاهدة أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة, ومن كان معتاداً على الصيام فهو على الجهاد أقدر من غيره..
مثلاً في غزوة تبوك كان الطعام كل يوم لا يعدو حفنة تمر، وانقطع عنهم الماء فترة طويلة جداً حتى كادوا أن يهلكوا..
وفي غزوة ذات الرقاع تقطعت أحذيتهم من السير الطويل, وبدأوا يسيرون على الرمال الملتهبة, حتى اضطروا إلى ربط رقاع من الأقمشة على أقدامهم..
وفي غزوة خيبر قل الطعام جداً في أيديهم حتى ذبحوا الحمر الأهلية, وطبخوها, وهموا بأكلها فعلاً, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك, وحرمها عليهم..
وهذه فتنة كبيرة لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء, فمنَّ الله عليهم بالثبات في أيام الشدة..
ـ وكانوا يغيبون في الثغور بعيداً عن الزوجات مدداً طويلة تصل أحياناً إلى شهور بل وسنوات، وبالرغم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حددها بعد ذلك بأربعة أشهر, إلا أن ذلك لا يتحقق إلا عندما يكون هناك جيش بديل، فيستطيع أن يرسل هذا ويأتي بذاك.
وقد يحتاج الجهاد كل طاقة الجيش, فيمكثون في الثغور إلى ما شاء الله، وقد حاصر المسلمون مدينة "تستر" الفارسية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدة ثمانية عشر شهراً متصلة!!!..
ولا شك أن كل هذا يحتاج إلى تدريب.
المؤمن في رمضان والذي يشعر بهموم أمته يستشعر هذه الأمور وهو صائم, فيصبح صيامه تدريباً عملياً على الجهاد, ويكون صادقاً في إعداد نفسه ليوم يعز الله فيه الإسلام، وأيضاً الجهاد سيفتح بلاداً كثيرة، وستقع السلطة في أيدي المؤمنين وسيباشرون أمور الناس، وإن لم يكن المؤمن مؤهلاً تربوياً للتحكم في شهوته فسيقع في كثير من المحظورات لكون السلطة في يده , والغلبة في صفه.
فقد يعتدي على حرمات الغير في الطعام والشراب، وقد يعتدي عل حرماتهم في النساء، وهذا كثير الحدوث في الجيوش الغير مسلمة .
لكن المسلم المدرب في مدرسة الصيام على التحكم في شهوته يسيطر على هذه الأمور كما كان يسيطر عليها وهو صائم وباختياره، وهذا يساعد على أن يسير الفتح الإسلامي والتمكين الإسلامي في الطريق المشرق الذي رسمه رب العالمين سبحانه وتعالى، فنعطي القدوة الحسنة، ولا نظلم الناس شيئاً،
والصيام بصفة عامة سواء في رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي..
دور التدريب على التحكم في الشهوات، ومن هنا نستطيع أن نفهم النصيحة النبوية الغالية من رسول الله (ﷺ) إلى عامة الشباب.. وذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الرسول (ﷺ) قال: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء"..
ومن أجل ذلك أيضاً حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين على كثرة الصيام طوال العام، ولكن من رحمته لم يجعل ذلك فرضاً عليهم..
ومن ذلك: صيام الاثنين والخميس..
ـ صيام الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر العربي.. ، صيام عاشوراء وتاسوعاء..
ـ صيام التسع الأوائل من ذي الحجة وبالذات يوم عرفة..
ـ صيام ستة أيام من شوال..
وهكذا يصبح المؤمن مدرباً طوال العام على التحكم في شهوته, والتحكم في فطرته تحكماً سليماً ، وما أنفع ذلك في بناء الأمة الإسلامية.
3ـ رمضان يربي المؤمنين على التحكم في الأعصاب, والقدرة على كظم الغيظ
وهذا أمر من أعظم الأمور في بناء الأمة بناءاً سليماً ، لأن الفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمم.
ما هو دور رمضان في هذا الموضوع؟
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ) "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة.. (أي الصيام وقاية وحماية للإنسان), فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم, إني صائم".
إذن الصيام يربي على التحكم في الأعصاب, وعلى عدم انفلات اللسان, وعلى كظم الغيظ , وعلى العفو عن الناس, وكلها صفات أساسية للأمة المجاهدة,
ففي مجال الحروب مثلاً.. كم من الأسرى سيأسرون ؟. الكثير..
ومع ذلك فإن المسلمين يجب أن يتعاملوا مع أسراهم بالسمت الإسلامي وذلك على الرغم من العداوة بينهم، لا سباب ولا تعذيب ولا إيذاء. قال تعالى }وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا (8){ ] الإنسان[
بل إنهم في الحرب ذاتها لا يجب أن يتجاوزوا في قتالهم إلى قتال المدنيين والنساء والأطفال والمعاقين وغير ذلك.
كل هذا مع أنه لا شك أن في قلوبهم غضباً شديداً منهم, وحنقاً شديداً عليهم, فهم يحاربون دولة محاربة لهم، ولكن الحرب في الإسلام لها ضوابط شرعية معروفة, ولن يقدر على هذه الضوابط إلا هادئ الأعصاب, الذي لا يتسرع في قرار, ولا ينتصر لشهوة داخلية.
فالإسلام دين راق جداً، يدرب جنوده على حسن معاملة الآخرين حتى في حال العداوة والكراهية، قال تعالى }يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ (8){ ] المائدة[. هذا مع العدو فما بالكم بالقريب والمشترك معي الملة الواحدة.
والصيام يقوم بهذا التدريب بصفة مستمرة ، فتستفيد الأمة من هذا حتى في أوقات السلم , وتخيل معي أمة أو شعباً يغلب عليه هدوء الأعصاب, والتحكم في اللسان , وكظم الغيظ، وكل هذا من تربية الصيام.
4ـ رمضان يربي في المسلمين الشعور بآلام الغير ومشاكل الآخرين..
المؤمن الذي يشعر بألم الجوع والعطش لفترة معينة في نهار رمضان سيدرك أن هناك إخواناً له في الدين سواء في قطره ، أو في أي قطر من أقطار الدنيا الذين يعانون آلام الجوع والمرض .
المسلم الذي يشعر بهذا الشعور لابد وأن يتحرك قلبه إخوانه في أي مكان ، وهذه بداية أمل ولا شك..
إذا شعر المسلمون بآلام غيرهم من المسلمين في الأقطار الأخرى فسيحدث التكافل, وسيحدث التعاون, وستحدث النصرة..
روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه"..
هل تتخيل يد الرسول (ﷺ) وهي تتشابك في بعضها ؟!
هذه هي العلاقة التي ربنا يريدها الله عز وجل منا..
رمضان يربينا على هذه العلاقة.. وبدونها لن يكون هناك نصر أو تمكين أو سيادة..
5ـ رمضان أيضاً يربي المسلمين على شعور عظيم وهو شعور الوحدة والاخوة والألفة..
فكل المسلمين في كل بقاع الأرض سيصومون في يوم واحد, ويفطرون في يوم واحد، وسيصومون في وقت واحد وهو الفجر, ويفطرون في وقت واحد وهو المغرب..
المسلمون في كل مكان من أرض الله عز وجل يصومون في وقت واحد, وبكيفية واحدة, وبفرحة واحدة..
أي وحدة ! وأي ألفة ! وأي اخوة !
لا فرق بين غني ولا فقير, ولا بين حاكم ومحكوم, ولا بين عربي ولا أعجمي..
روح اجتماعية راقية جداً تسري في قلوب المسلمين في شهر رمضان ،
جو عام جميل يربي المسلمين على أن يكونوا يداً واحدة..
ثم صلاة القيام "التراويح".. تجد أنه في كل مساجد العالم يصطف المسلمون بأعداد كبيرة ، الواحد يلتصق بأخيه، يشعر بدفء الأخوة , ودفء المسجد, ودفء الإسلام..
وتخيل أمة يرتبط أفرادها بمثل هذا الشعور، هل يمكن أن تسقط ؟ هل يمكن أن تنهار؟
أبداً.. فإنه من سنن الله عز وجل أن المسلمين إذا اجتمعوا انتصروا, وإذا تفرقوا انهزموا وتشتتوا..
قال تعالى }إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ (4){ ] الصف [.
وهذه تربية رمضانية.
وهذا أمر هام جداً جداً..
فالتقوى هي لب الصيام ، وهي الغاية الرئيسية منه. قال تعالي }يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ(183) ]{البقرة[
وما هي التقوى؟!
التقوى هي وصية الله عز وجل إلى خلقه، قال تعالى }وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ ..(131){ ] النساء[
التقوى هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، فيما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : "اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
التقوى هي أن تتقي غضب الله عز وجل في السر والعلن، إذا كنت في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد، وأنت صائم، وبجوارك الطعام الشهي والماء العذب, وأنت جائع عطش, فلا تقرب الطعام ولا الشراب مخافة الله عز وجل, فهذه هي التقوى.
التقوى كما قال عمر بن العزيز رضي الله عنه ليست بقيام الليل أو بصيام النهار, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله..
عندماً تكون راجعاً من عملك وأنت متعب منهك, فتسمع آذان العصر فتنزل لتصلي في المسجد من أجل الحسنات المضاعفة, فهذه هي التقوى.
عندما يجهل عليك أو يسبك بل يقاتلك أحد في شغلك أو في بيتك أو في الشارع فتقابل جهله بالحلم, وتقابل أذاه بالعفو, وتقول إني صائم، فهذه هي التقوى..
عندما تضبط المنبه قبل الفجر بساعة أو ساعتين لكي تقوم لتناجي ربك في جوف الليل حيث لا يراك أحد إلا الله ولا يسمع بك أحد إلا الله. فهذه هي التقوى.
عندما تشعر بالفقراء والمساكين والمحتاجين فتخرج من جيبك إلى هذا وإلى ذاك وتخفي صدقتك , فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، تفعل ذلك رغبة في الجنة, وخوفاً من النار، فهذه هي التقوى.
عندما تكون حريصاً كل الحرص على أن تعرف رأي الدين في أمر من الأمور, وتتبع كلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم (ﷺ) دونما جدل لا تردد، فهذه هي التقوى.
التقوى هي كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "تمام التقوى أن يتقي العبد الله عز وجل حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً".
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال لسائله: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟
قال: نعم, قال: فكيف صنعت؟
قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه (تجنبته) أو جاوزته (قفزت من فوقه)
أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر), قال أبو هريرة: ذاك التقوى.. الشوك هو الذنوب والمعاصي، وهو كل ما حرم الله عز وجل..
خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
ترى ماذا يحدث لو أن الأمة أصبحت أمة تقية؟!..
ينجو الفرد وينجو المجتمع! قال تعالى }وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا (2) وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا (3){ ] الطلاق[ .
هذا ليس للأفراد فقط بل للأمة جميعاً ، يجعل الله عز وجل للأمة مخرجاً من همومها ومشاكلها ومصاعبها ، يرزق الله الأمة من حيث لا تحتسب،
تُرفع عنها الأزمات الاقتصادية ، ويكثر الخير في أيدي الناس، ويهابها أهل الأرض جميعاً.. قال تعالى } وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ (120) { ] آل عمران[ .
وقال تعالى } إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128){ ] النحل[
وتخيل أمة يكون الله معها ، فمن يكون عليها ؟! لا أحد!..
التقوى ..ثمرة من ثمرات رمضان..
الخاتمة ..
أيها المؤمنون .. يجب أن نعلم أن رمضان فرصة حقيقية..
فرصة للأمة أن تبني نفسها من جديد، فرصة للصالحين أن يزدادوا قرباً من الله..
فرصة للعصاة أن يعودوا إلى ربهم ، فرصة لرفع البلاء،
رمضان تربية.. وأي تربية !!
أيها المسلمون .. هيا نقبل على شهر رمضان بنية تربية النفس, وإصلاح القلب, فصلاح الأفراد والأمم بصلاح قلوبها, ففي الحديث."أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ") متفق عليه)
وإن الله تعالى كتب علينا الصيام للوصول بالنفس إلى تقوى الله, والخوف منه سبحانه, وتعديل سلوك الناس إلى الأحسن, والتحلي بمكارم الأخلاق, قال تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183){ ]البقرة[
فالصوم جُنة وحصانة للصائم من الشرور والفتن, والصوم فيه مجاهدة لرغبات النفس والجسد, ويكسب صاحبه فضيلة الصبر والحلم, كما أنه يعود المسلم على الاهتمام بالأوقات والدقة في المواعيد, ويربي الجوارح ويهذبها شهرا كاملا حتى تخرج من رمضان شخصية إيمانية أخلاقية, تتعامل بمعاملات الإسلام وأحكامه هيا نغير من أنفسنا حتى يغير الله حالنا, قال تعالى }إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم(11 {( ]الرعد[
هيا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب ونعلن توبتنا إلى الله قبل أن نموت،
هيا نرد المظالم إلى أهلها, ونتصافى مع الخلق, قبل أن لا يكون, ونسعى لإصلاح ذات بيننا.
هيا نعلق قلوبنا بالمساجد, حتى يظلنا الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، نتواصى بالقصد والاعتدال, والبعد عن مظاهر الإسراف, والتبذير في كل شئون الحياة .
نسأل الله العظيم أن يتقبل منا الصيام ويجعل رمضان هذا تربية لنا وتزكية لنفوسنا وتهذيبا لأخلاقنا ونصرا لأمتنا وعزا لديننا .