المقدمة
الحمد لله رب
العالمين .. واهب النعم والعطيات، أمر عباده بفعل الخيرات، وحثهم على المسارعة إلى
الطاعات، فقال تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩ (77)الحج
.
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير،
أمر بالمسارعة والمسابقة في فعل الخيرات فقال تعالي (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
(148)[البقرة].
وأشهد أن سيدنا
محمدا عبد الله ورسوله، كان يحب فعل الخيرات وترك المنكرات فكان من دعائه صلى الله
عليه وسلم :(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ
الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي،
وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ
حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ)
رواه أحمد.
فاللهم صل على
سيدنا محمد أفضل الصلوات وسلم وبارك عليه أزكى التحيات الطيبات وعلى آله وأصحابه،
وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الممات.
أما بعد .. فيا
أيها المؤمنون..
إن أسمى الغايات،
وأنبل المقاصد أن يحرص الإنسان على فعل الخير، ويسارع إليه، وبهذا تسمو إنسانيته،
ويتشبه بالملائكة، ويتخلق بأخلاق الأنبياء والصديقين... لذلك، فقد أوصى الإسلام
الحنيف الإنسان أن يفعل الخير مع الناس، بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم، يقول
سبحانه:{ فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كل شيء
قدير}البقرة 148.
إن غايات الناس
مختلفة، وأهدافهم شتى فمنهم من تتحكم فيه الأنا والشهوات، كالجاه والتجبر والعلو
في الأرض بغير حق، أما الإيمان فإنه يجعل وجهة المؤمن، متجهة إلى فعل الخير
والمسابقة إليه.. لذلك يجب أن يكون شعار المسلم وغاية المسلم في الحياة ،(وافعلوا
الخير لعلكم تفلحون لعلكم تفلحون) الحج .
لذلك كان حديثنا
حول هذا الموضوع وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ
حكم فعل الخير في الإسلام .
2ـ مجالات
فعل الخير .
3ـ أهداف
العمل الخيري.
4ـ المسارعة
في فعل الخيرات .
5ـ صور
مشرقة للتنافس في فعل الخيرات.
6ـ
عوائق المسارعة والمنافسة.
7ـ
التنافس المذموم .
العنصر
الأول : حكم فعل الخير في الإسلام :
• الخير: اسم شامل لكل ما
ينتفع به المرء عاجلا أو آجلا، والخير نسبي منه ما يقابل الشر، ومنه ما يقابل خيرا
آخر لكونه أفضل منه.
ويعتبر العمل
الخيري في الإسلام من أهم الأعمال شأنه شأن باقي الأمور التي يقوم بها المسلم،
لأنه عمل يتقرب به المسلم إلى الله وهو جزء من العبادة.
وقد أكثر الله
سبحانه وتعالي، من الدعوة إلى الخير، وجعله أحد عناصر الفلاح والفوز، قال تعالي
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(77) . (الحج)
كما أمر سبحانه
وتعالى بالدعوة إلى فعل الخيرات إضافة إلى فعله، فقال سبحانه وتعالى: (ولتكن منكم
أمةٌ يدعون إلى الخير ).[آل عمران].
ونجد كذلك في
القرآن الكريم ربطا بين الصلاة وإطعام المساكين، قال الله تعالى: (ما سلككم في سقر
* قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين) ( المدثر: 42 ـ 44).
ثم قال الحق:
أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين
.[الماعون]
وروى ابن ماجة،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الخير خزائن، ولهذه الخزائن مفاتيح،
فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر ، وويل لعبد جعله الله مفتاحاً
للشر مغلاقاً للخير).
إن الله تعالي يوازن
بين مباهج الدنيا ومفاتنها، وبين المثل العليا والاتصاف بالمكارم، ويبين أن
الفضائل أبقى أثراً، وأعظم ذخراً، وأجدر باهتمام الإنسان، وخير له في الدنيا
والآخرة، لذلك قال سبحانه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات
خير عند ربك ثواباً وخير أملاً}الكهف.
وهذه بعض الأدلة
القرآنية والنبوية التي تدعوا إلي فعل الخير...
1- فعل
الخير عنوان للإيمان الصحيح والعقيدة السليمة :
فقال تعالى:
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ
وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ
إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ
أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. والفطرة السليمة تهتدي إلى الخير وتشعر به، لأن
الإنسان مفطور على البر والخير.
2ـ فعل
الخير الزاد الحقيقي الذي ينفع الإنسان في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي
الله بقلب سليم:
قال تعالى:
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم
مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
[البقرة: 110].
وقال تعالي{وَمَا
تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا
وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المزمل20].
ولقد جلس النبي
صلى الله عليه وسلم ذات يوم مع أصحابه فسألهم سؤالاً دون سابق إخبار فقال لهم:
"من أصبحَ منكم اليوم صائمًا؟!"، قال أبو بكر الصِّدِّيقُ: أنا، قال:
"فمن تَبِع منكم اليوم جنازة؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فَمَنْ
أطعم منكم اليومَ مِسْكِينًا؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم
اليوم مريضًا؟!"، قال أبو بكر: أنا، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:
"ما اجْتَمَعْنَ في رجل إلا دخل الجنة". أخرجه مسلم.
والملاحظْ أنَّ
أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن مستعدًا لذلك السؤال، ولكنه كان معتادًا أن
يبادر أيامه الخوالي بالاستكثار من الباقيات الصالحات.
3ـ القليل
من فعل الخير مقبول عند الله تعالي :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا
تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ
طَلْقٍ) وفي رواية طليق. [ مسلم، الترمذي، الدارمي ].
ويقول تعالى:
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. والمعنى أن أي فعل مهما كان قليلاً، حتى لو كان
مثقال ذرة فإن الله يجزيه على عمله، ويرى نتيجة فعله.
واعلموا أنَّ
الله تعالى لا يضيعُ عمل عاملٍ من ذكرٍ أو أنثى،قال تعالي ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ
ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ (195) {آل عمران.
وجاء أعرابي إلي
النبي صلي الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عظني ولا تطل, فتلا عليه هذه الآية
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8] فقال هذا الأعرابي: قد كفيت, فلما قال: قد
كفيت, قال عليه الصلاة والسلام: فقه الرجل).
وفي الصحيحين عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش،
فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه، فشكر الله له فأدخله الجنة.
4- فعل
الخير من أخص خصائص المجتمع الإيماني :
قال تعالى:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، أي:
يقدمون خدمة الآخرين ومصلحتهم العامة على المصلحة الشخصية الخاصة. ويقول تعالي{وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا}
[الإنسان: 9]. يطعمون الطعام للفقراء
والمساكين ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من عون ومساعدة، ولا ينتظرون منهم أي
مردود، وهذا هو المعنى الصحيح للتطوع.
وكان فعل الخير
من ألزم الأشياء اللازمة لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، يوم أن نزل عليه الوحي
الالهي ودخل علي زوجه السيدة خديجة ويقول زملوني .. زملوني .. فوصفته صلي الله
عليه وسلم بعمله مع المجتمع وحبه الخير للناس وأن ذلك يكون سبب في حفظ الله تعالي
له ، فقالت "كلا، أبشر، فوالله لا
يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين
على نوائب الحق".
5ـ استسلام
لأمر الله تعالي :
يقول الله تعالى:{وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، أمر قرآني أن يقابل الإنسانُ إنعامَ الله عليه (بالمال، أو بالصحة، أو بالوقت،) بالإحسان على الآخرين، وتقديم الخير لهم، سواء بالمال، أو بالمشورة الصادقة، أو بالمواساة.
6ـ يعطي الخيرية لأصحابه :
قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7].
سأل سيدنا موسى
عليه السلام يوماً: يارب أنت أرحم الراحمين، فكيف جعلت ناراً ستدخل فيها الناس؟
قال يا موسى: كل عبادي يدخلون الجنة إلا من لا خير فيه).
6ـ
يسبب الراحة النفسية :
تقول الدراسات
العلمية إن الإكثار من فعل الخيرات يؤثر إيجابياً على الحالة النفسية للإنسان بل
وتقي من أمراض القلب....
العنصر
الثاني : مجالات فعل الخير:
والخير الذي أشار
الله إليه، ينتظم في كل بر، ويشمل كل عمل صالح، فطاعة الله خير والإحسان إلى الناس
خير والإخلاص والنية الطيبة خير ، والإحسان إلى الناس خير وبر ذوي القربى خير
والقول الجميل خير، ونظافة الجسد خير ، وإماطة الأذى عن الطريق خير،وغراس الأشجار
خير، والمحافظة على البيئة من التلوث خير، واحترام الآخر خير، والصدق خير
والالتزام بالوعد والعهد خير، وبر الوالدين خير وإغاثة الملهوف خير ،ورعاية
الحيوان خير، والرياضة البدنية خير، وكل عمل ينهض بالفرد ويرقى بالمجتمع فهو خير،والدعوة
إلي الله تعالي خير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرخير ،والعدل خير والسلام
العالمي خير، والاستزادة من العلم والحكمة خير، لقول الله سبحانه:{ يؤتي الحكمة من
يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}..... فمجالات العمل الخيري كثيرة
ومتعددة ...
العنصر
الثالث : أهداف العمل الخيري:
1- إرضاء الله، والحصول علي الأجر والثواب.
2- دعوة الناس
إلى الإسلام.
3- فعل الخير بما
يضمن للآخرين حق الحياة الكريمة.
4- التنمية
ومساعدة الآخرين.
5- نشر قيم
التضامن والتسامح والتعاون.
العنصر
الرابع :المسارعة في فعل الخير :
إن دعوة الإسلام
كانت دائماً إلى فعل الخيرات والمسارعة إليها، حتى تكون رصيداً تسمو بالإنسان،
وتصل به إلى أعلى الدرجات... لأن الشمس لا تنتظر أحداً، والزمن يمضي سريعاً،
والوقت هو الفرصة الذهبية التي وهبها الله للإنسان، ليعمرها بالخير والصلاح والفلاح.
إن البطء
والتثاقل والتروي والـتأني ينبغي أن يكون بعيدًا عن عمل الآخرة؛ لأن عمل الآخرة
طريق صحيح، لا يحتاج إلى تأمل وتفكر، ويحتاج إلى المبادرة قبل الفوات؛ لأن كل يوم
يمضي هو من الفوات، وبعد الفوات يكون الندم، والندم لا يغني عن العاقل شيئًا؛
يَقُولُ رَسُولُ الهدى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ
يَمُوتُ إِلا نَدِمَ". قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!
قَالَ: "إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ
مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ". يعني تاب ورجع.
أخرجه الترمذي.
فالمسارعة
والمسابقة والمنافسة لهم بعض السمات الأساسية منها :
1ـ المسارعة
والمنافسة والمسابقة مطلب شرعي وأمر إلهي ،ووصية نبوية: قال
تعالي (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]
وقال تعالي
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
وقَالَ تعالى:
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الحديد: 21].
وقال تعالى :(وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
[البقرة148]
وقال تعالى:(وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
[المائدة: 48].
وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، ومن معاني
تفسيرها: السابقون في الدنيا إلى فعل الخيرات والمتطوعون في خدمة الإنسان هم
السابقون في الآخرة لدخول الجنات.
قال السَّعْدِي:
"فَمَنْ سَبَقَ في الدُّنْيا إلى الخيرات فَهُوُ السابقُ في الآخرةِ إلى
الجنات، فالسابقون أعلى الْخَلْقِ دَرَجَة".
وقال تعالى:
{مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ
فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 – 115].
وقد ورد عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل
سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). رواه الحاكم في
المستدرك .
إن المسارعة
والمسابقة في السير إلى الله تعالى، لا مجال فيها للروية والتؤدة والأناة؛ يقول
النبي صلى الله عليه وسلم "التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلا فِي عَمَلِ
الآخِرَةِ". رواه أبو داود.
وقال وهيب بن
الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل".
وقال عمر بن عبد
العزيز في حجةٍ حجها عند دفع الناس من عرفةَ: "ليس السابقُ اليومَ من سبقَ به
بعيرُه، إنما السابقُ من غُفر له".
2ـ المسارعةُ
والمسابقةُ في الخيرِ صفةٌ من صفاتِ المؤمنين الموحدين:
قال تعالى (إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ
لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 57 - 61].
وذكر الله سبب
استجابته لدعاء عبده زكريا أنه كان يسارع في الخيرات فقال تعالي : (وَزَكَرِيَّا
إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ *
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 89، 90].
وجعل الله لهم
ميراث الكتاب فقال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }
[فاطر: 32] ...
3ـ التفاضل
في الجنة بحسب السبق والمسارعة :
في الجنةِ
تَتَفَاضَلُ الدرجات بَحَسَبِ السَّبْقِ والمسارعةِ: (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة: 10
12].
وفي الصحيحين عن
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ
كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ
الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا
رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟
قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِالله
وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ".
ومقامات الناس في
الآخرة مبنية على مقاماتهم في السير إلى الله تعالى في الدنيا، وإذا كان الناس
يتفاوتون في طبقاتهم في الدنيا فإن تفاوتهم سيكون في الآخرة أكبر وأوضح.
قال تعالى:
(انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [الإسراء: 21]، يعني في
الدنيا، ثم قال عن الآخرة: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً)
4ـ التنافسُ
في أعمالِ الخيرِ وصيةٌ نَبَوِيَّة، وسُنَّةٌ مُحمدية :
ففي الصحيحين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ
بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا
ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ،
وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا
تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا
يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ"
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: " تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ
وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً".
وتَأَمَّلْ قَولَ
النبيِّ صلى الله عليه وسلم- حَاثَّاً على المُبادَرَةِ، والمُسَارَعة كما في
الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا
فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ
يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ(أي
التبكير) لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ
وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا".
العنصر
الخامس : صور مشرقة للتنافس في فعل الخيرات :
كان الصالحون ممن
قبلنا يفقهون عن الله تعالى مراده في كتابه عندما حثَّ على المسارعة في الخيرات،
ففهموا أنها مسابقة حقيقية تحتاج إلى تحفز وتشمير، كما يفعل المتسابق في الطريق.
قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لأَصْحَابِهِ: "أَلا
مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ،
وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ
جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ،
فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ"، قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ
لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ". رواه
ابن ماجه.
إنه التشميرُ
للمسابقةِ الحقيقيةِ والفرارِ إلى اللهِ تعالى، كما قال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50، 51].
إنها المسارعة في
السير إلى الله تعالى، والتي تكون عاقبتها الرضا من الله تعالى، كما قال سيدنا
موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
ولقد سَادَتْ
رُوحُ المنافسةِ في الخيراتِ بين المسلمين
الأوائل ،وهذه بعض الصور المشرقة :
1ـ لقد كان صلى الله
عليه وسلم مثالاً أعلى في المسارعة إلى الخير، فعن أبي سروعة عقبة بن الحارث رضى
الله عنه قال: "صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم بالمدينة صلاة العصر،
فسلّم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجر نسائه، ففزع الناس من سرعته،
فخرج إليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئًا من تبرٍ (الذهب
المكسور) عندنا فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته" [البخاري].
خشي النبي صلى
الله عليه وسلم أن تحبسه هذه الأمانة يوم القيامة، فبادر إلى توزيعها، والتصدق
بها.
2ـ وهذا أبو
الدحداح الأنصاري، لما نزل قول الله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245].
قال للرسول صلى
الله عليه وسلم وإنّ الله ليريد منَّا القرض؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أبا
الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - يده،
فقال أبو الدحداح: إني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي (أي بستاني، وكان فيه 600 نخلة)
وأم الدحداح فيه وعيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي من
الحائط: يعني: أخرجي من البستان فقد أقرضته ربي عز وجل.
وفي رواية: أن
امرأته لما سمعته يناديها عمدت إلى صبيانها تخرج التمر من أفواههم، وتنفض ما في
أكمامهم. تريد بفعلها هذا الأجر كاملاً غير منقوص من الله.
لذلك كانت
النتيجة لهذه المسارعة أن قال النبي صلى الله عليه وسلم "كم من عذقٍ رداح
(أي: مثمر وممتلئ) في الجنة لأبي الدحداح" [مسند الإمام أحمد]. 3ـ وأبو طلحة
الأنصاري؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك
وتعالى في كتابه ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾
[آل عمران: 92] وإنّ أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي صلى
الله عليه وسلم ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله صلى
الله عليه وسلم أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله،
فقال صلى الله عليه وسلم: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك،
ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه[البخاري ومسلم].
4ـ وهذه صورة
مشرقة، ولوحة رائعة يزيّنها مسارعة الصحابة، ومبادرتهم إلى فعل الخيرات. يوم أن
عظم الخطب واشتد الأمر علي رسول الله صلي الله عليه وسلم في يوم تبوك الذي سماه
الله تعالي يوم العسرة كما قال الله
تعالي{لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]
لقد فتح الرسول
(صلى الله عليه وسلم) باب التبرع علانية؛ حتى يحفز المسلمون بعضُهم بعضًا.
وكان أول
القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. !! لقد قام فقال: "علي مائة بعير
بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!، فَسُرَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم
بذلك سروراً عظيماً؛ فهذا عطاء كثير! ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن
عفان ثانيةً (يزايد علي نفسه!)، قال: "علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها
في سبيل الله"!!، فسعد به رسول الله صلي الله عليه وسلم سعادة عظيمة.. حتى
إنه قال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم!".
ولكن، هل سكن
عثمان أو اطمأن؟!
انظر إليه.. لقد
أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلي ثلاثمائة بعير!! (وفي رواية: تسعمائة
بعير، ومائة فرس!!)، ثم ذهب إلي بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلي
الله عليه وسلم.. ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقلِّبها متعجبًا!..
وهذا أبو بكر
الصديق رضي الله عنه.. أتى بأربعة آلاف درهم، وقد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما
جاء به عثمان.. لكنها تُعتبر أكثر نسبيًّا من عطاء عثمان - سبحان الله - لأنها كل
مال أبي بكر الصديق.. حتى إن رسول الله صلي الله عليه وسلم سأله: "وماذا
أبقيت لأهلك؟!" قال له في يقين: "أبقيت لهم الله ورسوله".
وأتى عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله، وهو كثير.. بل كثير جداً..
عبد الرحمن بن
عوف أتى بمائتي أوقية من الفضة، وهذا أيضًا كثير!!
بل إن النساء أتت
بالحلي.. كان الكل يشارك.. كانت قضية إسلامية تشغل كل فئات الأمة حتى الفقراء
الذين لا يملكون إلا قوت يومهم!!جاءوا بالوسق والوسقين من التمر!!، تمر قليل
يُجهزون به الجيش الكبير؟!، نعم قليل، لكن هذا كل ما يملكونه، سيطعمون جندياً
أياماً.. قد لا يعني هذا في نظر بعض الناس شيئًا.. لكنها تعني بالنسبة لهم الكثير،
وتعني أيضا عند الله الكثير والكثير.. حتى إن المنافقين كانوا يسخرون من هذه
العطايا البسيطة؛ فأنزل الله دفاعًا عظيمًا في كتابه عن هؤلاء الفقراء المتصدقين..
يقول تعالي: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ
اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة التوبة: 79]..
5ـ وهذه صورة
مشرقة لأب وابنه : لما ندب رسول الله صلى
الله عليه وسلم المسلمين إلى الخروج إلى عير قريش، قال خيثمة بن الحارث لابنه سعد:
"إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فآثرني بالخروج، وأقِمْ مع نسائك، فأبى سعد،
وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجههي هذا!!، فاستهما (أي
اقترعا) فخرج سهمُ سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقتل يومئذ".
6ـ وهذا أبو مسلم الخولاني عندما كان يقوم الليل فإذا
تعبت قدماه ضربها بيديه قائلاً: " ﻗﻮﻣﻲ ﻓﻮﺍﻟﻠﻪ ﻷﺯﺣﻔﻦ ﺑﻚ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺯﺣﻔﺎ ﺣﺘﻰ
ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻜﻠﻞ ﻣﻨﻚ ﻻ ﻣﻨﻲ.. ﺃﻳﻈﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻣﺤﻤﺪ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﺄﺛﺮﻭﺍ ﺑﻪ ﺩﻭﻧﻨﺎ.. ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻟﻨﺰﺍﺣﻤﻨﻬﻢ
ﺇﻟﻴﻪ ﺯﺣﺎﻣﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻌﻠﻤﻮﺍ ﺃﻧﻬﻢ ﺧﻠّﻔﻮﺍ ﻭﺭﺍﺀﻫﻢ ﺭﺟﺎﻻ"، فهو يريد المنافسة ويريد
أن يزاحم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدار الآخرة، وهنيئًا له بهذه
المنافسة الشريفة.
**أثر التنافس في حياتهم :
كان التنافسُ سَبَبٌ لرفعِ الهمةِ، وإثارةِ الْحَمَاسِ، يَكْشِفُ عنْ معادِنِ الناسِ، وعُلُوِّ نُفُوسِهِم، وقُوَّةِ عزائِمِهم كما يُبَيِّنُ مَوَاطِنَ ضَعْفِهِم وقُصُورِهِم، ولا يَسْتَوِي في الناسِ مُبَادِرٌ إلى الخير، ومُتَبَاطِئ، ومُسَابِقٌ في الفَضْلِ، ومُتَثَاقِل؛ قال تعالى:(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد: 10].
والتنافُسُ المحمود يُثرِي
الحياة، ويجعلُ المُسلمَ يطمَحُ إلى السمُوِّ بنفسِه والارتِقاء بعلمِه وعملِه
للسعيِ إلى الكمال.
واللَّبِيبُ
العاقلُ يُسارِعُ ويُبادرُ قَبْلَ العوائِقِ والعَوَارِض، فَنَافِسْ مَا دُمْتَ في
فُسْحَةٍ ونَفَسْ، فالصِّحْةُ يَفْجَؤُهَا السَّقَم، والقوةُ يَعْتَرِيهَا
الوَهَن، والشبابُ يَعْقِبُهُ الهَرَم.
بَادِرْ
بِخَيْرٍ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرَا *** فَلَيْسَ في كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ
مُقْتَدِرُ
العنصر
السادس : عوائق المسارعة والمنافسة :
فلابد من التنافس
في مبادرة الأعمال الصالحة قبل ظهور العوائق؛ والعوائق كما وردت في الحديث الذي
رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:(بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا
مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا
مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ
يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟) [أخرجه الترمذي في
سننه]
العنصر
السابع : التنافس المذموم :
كما أن الصالحين
تنافسوا في الخير والفوز به وتسابقوا في الوصول إليه، فإن الطالحين وأهل الهوى
والشهوات تنافسوا في المنكرات وتسابقوا في ارتكاب
المحرمات والسقوط
في حمأتها، وإليكم بعض صور التنافس المذموم:
1- التنافس على الدنيا :
وهذا ما حَذَّرَ
منه الصادقُ المعصومُ صلى الله عليه وسلم وهو التنافسُ على الدُّنيا وزَهْرَتِها
على حسابِ الآخرةِ وبَهْجَتِها -كما في الصحيحين أنه قال: "فو الله مَا
الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ
الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ،
فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".
وفي مسلم عن عبد
الله بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ
أَنْتُمْ".... تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ
ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ".
إن التنافس في
الدنيا قد أوقع الناس في الشح الذي حملهم على قطع الرحم وعقوق الآباء، والإساءة
إلى الجيران، ولم يعد مسلم يعرف لأخيه المسلم حقا بسبب التنافس في الدنيا، ولذلك
حذر الإسلام من التنافس في الدنيا لما فيه من المفاسد. ولذلك يقول أحد السلف: "إذا رأيت من
ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة".
2-
المسارعة بالكفر والإثم والعدوان:
والتنافس في
أعمال الإثم سمة أساسية من سمات اليهود ،كما قال تعالى عن اليهود (وَتَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[المائدة: 62].
3-
التنافس في تضليل المؤمنين والإفساد بينهم:
وهذا تَنَافُسٌ
ذَمِيمٌ، وتَسَابُقٌ أَثيمٌ على قَتْلِ العِفَّةِ في بِلادِ المسلمين، ونَشْرِ
الرذيلةِ في أوسَاطِ المؤمنين، وتطبيعِ السفورِ والانْحِلال، وفَرْضِ اختلاطِ
النساءِ بالرجال، في ميادِين العَمَلِ والتعليم. فنجد كثير من الشباب يتنافس في
نشر المخدرات والأفلام الإباحية وسط أقرانه ، والبعض يتنافس في إظهار أحدث أنواع
الموضة العالمية ويتفاخر بذلك ، وإن لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
الخاتمة :
عباد
الله..في
طريقك إلى اللهِ تعالى لن تجدَ لوحاتٍ تطالبُك بتهدئة السرعة، وتحددُ لك السرعةَ
القصوى! وتحذِّرك بمراقبة الرادار، بل ستجد مجموعةً من اللوحات في الطريق، مكتوبًا
على إحداها: (سَابِقُوا)، وعلى الأخرى (سَارِعُوا)، وعلى الثالثة (اسْتَبِقُوا).
ولذلك يا عبد
الله إن استطعت أن تسارعَ وتسابقَ وتبادرَ وتغتنمَ حياتك قبل موتك فافعل، واعلم
بأنك ستجدُ أولَ الطريق مزدحمًا، وأما في آخره فلن تجد إلا قِلَّةً مختارةً
مصطفاة، فاحرص على أن تكون منهم: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)
[المطففين: 26].
وقال صلي الله
عليه وسلم "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ
أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ حَرَّ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ".
والسبيل الأوحد
إلي المنافسة :ـ تعظيم أمر النية ،وتعظيم
أمر الآخرة وتلك سمة الأنبياء، قال
تعالى:(إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص:46]. وثمرة ذلك
انشغالك بربك وما يرضيه؛ يقول أحد السلف: "من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو
غدًا مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غدًا مشغول بربه".
عباد
الله :
بادروا في اغتنام
حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها بفعل الخيرات والاكثار من الطاعات، فإن
الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الانسان وبين العمل كثيرة وغير مأمونة.
يقول النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَادرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتناً
كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا
وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعرْض من
الدُّنْيَا" [مسلم].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات
، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن . اللهم آمين .
انتهت
بفضل الله ورحمته
رابط pdf
https://top4top.io/downloadf-26277fesq2-pdf.html
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق