الحمد لله رب العالمين ، أحاط بكل شيء
علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ،عالم الغيب والشهادة فلا يطلع علي غيبه أحدا ،قال
تعالي {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ
أَحَدًا (26)}[الجن ]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
.. .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير . أحاط علمه
بالحبة في ظلمات الأرض ، وبالورقة الساقطة فيها ، وبالرطب واليابس ومثل ذلك وأعظم منه
علمه بمكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، ومافي البر من مثاقيل الجبال وعدد حبات الرمال
، كل ذلك أحاط به الله جل جلاله وتباركت أسماؤه إحاطة كاملة قال تعالي {عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)}[سبأ] .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)...علمنا
الدعاء بعالم الغيب والشهادة ..فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ أَبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ،
رضي الله عنه ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِكَلمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا
أَصْبَحْتُ وإِذَا أَمْسَيتُ، قَالَ: قُلْ: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ
السَّمَواتِ والأرضِ عَالمَ الغَيْب وَالشَّهَادةِ، ربَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ.
أَشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاَّ أَنتَ، أَعُوذُ بكَ منْ شَرِّ نَفسي وشَرِّ الشَّيْطَانِ
وَشِرْكهِ" قَالَ: "قُلْها إِذا أَصْبحْتَ، وَإِذا أَمْسَيْتَ، وإِذا أَخذْتَ
مَضْجِعَكَ}[رواه أَبُو داود والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
تسليما كثيرا ...
أما بعــد .. فيا أيها المؤمنون
.....
أنزل الله تعالى كتابه الكريم وأودع فيه جملة
من أسمائه وصفاته, وأخفى بعضاً , فاستأثر به في علم الغيب عنده, والخلق حين يتأملون
في أسماء الله فإنها تُبين لهم من الحكم والمعاني, وتورثهم من الآثار والعبر ما يغنيهم
عن كثير من المقال, ومن أحصى أسماء الله فعرف معناها وعمل بمقتضاها دخل الجنة قاله
النبي (ﷺ){لله مائة اسم إلا واحد من أحصاها وعمل بها دخل الجنة}
وورد ذكر وجود أسماء الله وتسميتها بأسماء
الله الحسنى في القرآن في أربعة أيات وهي:
قال تعالي{وَلِلّهِ
الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف]
وقال تعالي {قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا(110)}[الإسراء،]
وقال تعالي {اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}[طه]
وقال تعالي {هُوَ
اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}[الحشر]
إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب
والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لهي من أعظم الأسباب التي تعين على
زيادة إيمان العبد ، وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى.
فإن الله تعالي خلق الكون ويعلم كل شيئ
فيه ولا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء ،ونحن نعيش بين عالمين عالم
نشاهده وعالم يغيب عنا لا ندري عنه شيئ هما عالم الغيب وعالم الشهادة ، قال تعالي {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر ].
وقال تعالي {عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}[الرعد].
وما سيجري في هذا الكون من أحداث ووقائع
هو غيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله، لذلك كان موضوعنا [المعايشة الإيمانية لعالم الغيب والشهادة ﷻ] وذلك
من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ المراد من عالم الغيب
والشهادة.
2ـ مصادر الإيمان بعالم الغيب .
3ـ عالِم الغيب والشهادة في
القرآن الكريم .
4ـ مراتب العلم الإلهي .
5ـ ابطال الإسلام ادعاء البشر لمعرفة
الغيب .
6ـ الوعود الغيبية في القرآن
الكريم .
7ـ الآثار الإيمانية للإيمان بعالم
الغيب والشهادة.
8ـ الخاتمة .
==========
العنصر الأول : المراد من عالم الغيب والشهادة:ـ
إن الله قد أحاط بعلم الغيوب كلها وهو
شاهد على علم الشهادة كله ، فالغيب : هو كلُّ ما غاب عن الناس
، سواء أَكان مُحَصَّلاً في القلوب أَم غير مُحَصَّل ، وقد ورد لفظ الغيب في
القرآن (53) مرة: (4) مرَّات بصيغة الجمع (الغيوب)وهي ...
قال الله تعالى :{أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ(78)}[التوبة] .
قول الله تعالى {
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)}[سبأ].
وقال سبحانه حاكياً عن المسيح : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ
إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)}[المائدة ]
وقال سبحانه حاكياً عن الرسل :{قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ
(109)}[المائدة].
ومرة واحدة بصيغة (غيبه)؛ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26)}[الجن]
واستُعمِل في كل غائب عن الحاسَّة، وعمَّا
يغيب عن علم الإنسان: قال تعالي{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ
فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}[النمل].
وقال تعالي {أَمْ
كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}[النمل].
وقول تعالي {
ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ (44)}[آل عمران]
وقال تعالي { تِلْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ (49)}[هود].
وقال تعالي {ذَٰلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ (102)}[يوسف]
والإيمان بالغيب من أركان الايمان الخمس قوله
تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)} [البقرة] .
والشهادة : هي المعاينة
أو الإخبار بالخبر القاطع ،أو مجموع ما يدرك بالحس أو البصر من الموجودات.
وعالم الشهادة هو عالم الأكوان الظاهرة ،فما
من قول ولا فعل في السر ولا في الجهر ، في السماء ولا في الأرض ، في البحر المحيط
الواسع ، أو في الفضاء البعيد العالي إلاَّ يعلمه سبحانه وتعالى بتفاصيله .
وهو ما شهدوه وأبصروه وعاينوه ، فعلم الله
سبحانه وتعالى تام ، وكامل ، ومحيط بكل شيء ، لا يسبقه جهل ، ولم يلحقه نسيان ، أحصاه
الله وكتبه في كتاب لايضل ربي ولاينسى قال تعالي : {وماكان
ربك نسياً(64)}[مريم]
وقال تعالي {وأحاط
بمالديهم وأحصى كل شيء عدداً(28)}[الجن].
العنصر الثاني : مصادر الإيمان
بعالم الغيب:ـ
الغيب هو كل حقيقة لا يدرك طبيعتها العقل ولا الحواس, و لا سبيل إلى
معاينتها أو الوقوف عليها، لكننا نعلمهامن أخبار القرآن الكريم عنها كقيام الساعة والجنة والنار، ووجود الملائكة
والجن والشياطين ، والعلم بالروح ندركها كحقيقة لكن لا سبيل إلى معاينتها أو
إدراك طبيعتها.
فالوحي الإلهي هو
مصدر معرفة الغيب، قال تعالي {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا(52)}[الشورى].
فحينما دعا القرآن الناس إلى الإيمان
بأصول الغيب وجَّههم إلى بلوغ الإيمان عن طريق استخدام أدواتهم المعرفية للتفكُّر
والتدبُّر في دلائل القدرة وسعة العلم الدالَّة على قدرة الخالق، وأرشدهم إلى أن
هذه الدلائل منبثَّة في السماء والأرض وفي أنفسهم وفيما حولهم؛ قال تعالي {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}[ق].
العنصر الثالث :عالم الغيب
والشهادة في القرآن الكريم :ـ
عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَة: اسم من الأسماء الحسنى , فالله سبحانه وتعالي هو صاحب الغيب ومقدره
وعالمه وعلم الغيب منطبق ومتضمن في اسم من أسماء الله تعالى وهو عالم الغيب والشهادة
، ومن الملاحظ أنه لم
يقع لفظ « عالم » وصفاً لله سبحانه في
القرآن إلاّ مضافاً تارة إلى الغيب والشهادة ، وأخرى إلى الغيب وحده ، وثالثة إلى
غيب السموات والأرض :
وهذه بعض الآيات القرآنية الدالة علي ذلك
...
قال تعالي{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ(73) }[الأنعام] .
وقال تعالي {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}[الرعد]
وقال
تعالي {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}[السجدة ]
وقال
تعالي {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ(22)}[الحشر]
وقال تعالي {عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [التغابن]
وقال
تعالي {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَداً(26)} [الجن]
وقال
تعالي {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن
ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(3)} [سبأ]
وقال
تعالي { ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (94)}[التوبة]
وقال
تعالي {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ(92)}[المؤمنون]
وقال
تعالي {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ(46)} [الزمر]
وقال
تعالي {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ
مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}[الجمعة]
وقال
تعالي {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)} [التوبة]
الملاحظ
في هذه الأيات القرآنية أنها اشتملت علي عدد من أسماء الله الحسنى وهي : {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ, الْحَكِيمُ الْخَبِير , ُالْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ , الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ , الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وقد
جاء اسم عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ متقدما عليها جميعا في الترتيب, كما
ورد في سورة الحشر{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا
إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ
(22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (24)} [الحشر].
فهذا
يثبت أن عالم الغيب والشهادة اسم من أسماء الله الحسني ، مع حصر العلم بالغيب
والشهادة لله سبحانه .
العنصر
الرابع :مراتب العلم الإلهي :ـ
تأتي الآيات القرآنية ، لتذكر بأن ّالله
عالم بالعباد ، وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وشقائهم وسعادتهم ، ومن يكون منهم من
أهل الجنة ، ومن يكون منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم ويخلق السموات والأرض .
فهو سبحانه وتعالى عليمُ بما كان وما هو
كائن وما سيكونُ ، لم يَزَل عالِما ولا يَزال عالما بما كان وما يكون ، ولا يخفى
عليه خافية في الأَرض ولا في السماء ، أَحاط عِلمُه بجميع الأَشياء باطِنِها
وظاهرها ، دقِيقها وجليلها .
فمراتب العلم الإلهي كما يلي:ـ
1ـ علمه بالشيء قبل كونه :ـ وهو سر الله في خلقه ، اختص الله به عن عباده .
وهذه المرتبة من العلم هي علم التقدير
ومفتاح ما سيصير ،قال سبحانه :{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ (65)}[النمل] .
فكل أمور الغيب قدرها الله في الأزل
ومفتاحها عنده وحده ولم يزل .
مفاتح الغيب لا يعلمها إلا
الله تعالي :ـ
وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو، كما قال
تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا
إِلَّا هُوَ(59)} [الأنعام] .
وقال تعالي {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)}[لقمان]
وقال رسول الله (ﷺ):{مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا
الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى
يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة
إلا الله}[رواه البخاري].
2ـ علمه بالشيء وهو في
اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته :ـ
فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح
المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة ، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها كلمات ،
وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها الكلمات مرهون بمشيئة الله في تحديد الأوقات
التي تناسب أنواع الابتلاء في خلقه ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير
، وكيف ومتى يتم الإبداع والتصوير ؟
كما قال تعالى :{أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي
كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}[الحج] .
وقال أيضا :{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)}[الحديد] .
وقال تعالي {
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ (59)}[الأنعام] .
3ـ علمه بالشيء حال كونه
وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه:ـ
قال تعالي:{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ
وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}[الرعد] .
وقال تعالى :{يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}[سبأ] .
4ـ علمه بالشيء بعد كونه
وتخليقه وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه :ـ
5ـ علمه بالنهايات جميعها
(كيفيتها ووقتها ومصيرها)
فالله عز وجل بعد أن ذكر مراتب العلم
السابقة في قوله تعالى :{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ
لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا
هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}[الأنعام]
.
قال تعالي :{وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}[الأنعام] .
وقال تعالي :{قَدْعَلِمْنَا
مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)}[قّ].
وقال
تعالى:{ فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}[محمد]
فالله
تعالي وحده يعلم نهاية كل كائن ومصيره مع السعداء أم مع الأشقياء جل الله وتعالي عما
يقول الظالمون علوا كبيرا ..
العنصر الخامس : ابطال الإسلام ادعاء البشر لمعرفة الغيب :ـ
عِلم الغيب هو العلم الذي يختص به الله سبحانه وتعالى
اختصاص الرب المهيمن , وقد يظهره بعضا من علمه الواسع لبعض ممن يصطفي من ملائكته أو
رسلة أو الرجال الصالحين لغرض ما معجز للناس ،قال تعالي :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا
يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)}[الجن]
ذلك لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ولأن علم بعض الغيب الموحى اليهم من ربهم يؤيدهم ليصدقهم الناس بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ,وفي التنزيل ماجاء على لسان سيدنا عيسى عليه السلام قوله لبني اسرائيل قال تعالي {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}.[آل عمران]
ذلك لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ولأن علم بعض الغيب الموحى اليهم من ربهم يؤيدهم ليصدقهم الناس بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ,وفي التنزيل ماجاء على لسان سيدنا عيسى عليه السلام قوله لبني اسرائيل قال تعالي {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}.[آل عمران]
وأن ادعاء معرفة الغيب من قبل بعض الخلق جن أو إنس يعتبر كفرا أكبر
ومخرجا من الملة
فقد أبطل الإسلام كل طريق يدعي البشر أنهم يعلمون الغيب من خلاله..وهذه
الأشياء كما يلي ..
1ـ الطيرة:ـ
لقد أبطل الإسلام الطيرة وهي: محاولة استكشاف الغيب عن طريق تهييج
الطير من أعشاشها، فإن ذهبت يميناً ظن المتشائم أن في سفره خيراً فيمضي فيه، وإن
ذهبت يساراً ظن أن في سفره شراً فيرجع عنه، قال رسول الله (ﷺ):{الطيرة شرك، الطيرة شرك }[رواه أحمد]
2ـ الكهانة:ـ
وأبطل الإسلام الكهانة: وهي ادعاء علم الغيب عن طريق الشياطين،
فقال رسول الله (ﷺ): {من أتى كاهناً أو
عرّافاًً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد }[رواه
أحمد]
3ـ التنجيم:ـ
وأبطل الإسلام التنجيم:
وهو: الاستدلال بأحوال الكواكب في اجتماعها وافتراقها على أحوال
الخلق والأرض من جفاف وخصب ومطر وموت وحياة، فقال رسول الله (ﷺ){من اقتبس علما من النجوم
اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد}[ رواه أبو داود وابن
ماجة]
.
4ـ علم الأبراج :ـ
ومن التنجيم الباطل ما
يسمى بعلم "الأبراج" والاستدلال به على مستقبل الإنسان وما
سيحصل له من خير أو شر أو نجاح أو فشل، وقد ولع الناس بهذا اللون
من التنجيم وتسامحوا في
تعاطيه، رغبة في إشباع تطلعهم لمعرفة المستقبل .
5ـ الطَرْقَ:ـ
وأبطل الإسلام ما يعرف بالطَرْقَ، وهو: ادعاء علم الغيب عن طريق
رسم خطوط على الأرض، وبين أنها من جنس السحر والكهانة، فقال (ﷺ) {العيافة والطيرة والطرق من
الجبت }[رواه أبو داود] .
ونص العلماء على حرمة ما يفعله الجهلة من قراءة الكف والفنجان،
لمعرفة الغيب واستكشاف المستقبل، وبينوا أن ذلك كله من طرق الشيطان لإضلال بني آدم
، ومن أبواب الخرافة التي يجب على الإنسان أن ينزه عقله عن النزول إلى دركاتها،
وأن يعلم أن الغيب باب مقفول لا يمكن أن يفتح إلا بإذن الله، كوحي من عنده، أو
رؤيا صادقة، أو كرامة يمن الله بها على عبد من عباده، يكشف له بها حجب الغيب، وكل
ذلك من عنده سبحانه لا تدخل للعبد في حصول شيء منه ، وما عداه مما يخترعه البشر فهو
باطل وضلال .
وبهذا يظهر بوضوح تام كيف حمى الإسلام العقل وحرره من الخرافات
التي سيطرت عليه طويلاً فجعلته أسير تطلعه لغيب لا يعلمه إلا الله.
نماذج من مدعي علم الغيب والرد عليهم :ــ
قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ " اي انه موعد نذير شؤم " فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر .
معنى قول علي وأين قمرهم ؟ سؤال تهكمي بمعنى إذا كان قمرنا في برج
العقرب دل على شؤم طالعنا فأين قمر عدونا أليس في نفس البرج؟
فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ،
وما فيها من المبالغة في الرد التهكمي على من يقول بالتنجيم ، والإفحام لكل جاهل
يحقق أحكام النجوم
.
وقال
له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ! لا تسر في هذه
الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار .
فقال
له علي رضي الله عنه : ولم ؟ قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك
وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما
طلبت .
فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد (ﷺ) مُنجم ، ولا لنا من بعده ثم قال : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير الا خيرك .
فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد (ﷺ) مُنجم ، ولا لنا من بعده ثم قال : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير الا خيرك .
فتح
الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان
ثم قال : يا أيها الناس ! توكلوا على الله وثقوا به ; فإنه يكفي ممن سواه .
ثم
قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها .
ثم
أقبل على الناس فقال
: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر
والبحر ; وإنما المنجم كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، والله لئن
بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك
العطاء ما كان لي .
ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان.
ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان.
العنصر السادس: الوعود الغيبية
في القرآن الكريم:ـ
إن ما يجري في هذا الكون من أحداث ووقائع
هو غيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله ، وقد وعد الله تعالي بوعود متنوعة في القرآن
وأخبر عن أشياء مستقبلية وقعت وتحققت بالفعل ،وأشياء أخري
ستقع بأمره تعالي وحده ، من هذه المظاهر
والأشياء المختلفة مايلي :ـ
أولا : إخبار الله تعالي عن
أحوال الكفار والمنافقين مثل :ـ
1ـ تحويل القبلة :ـ
قد أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله
اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبل وقوع الأمر بالتحويل، ولهذا
دلالته فهو يدل على نبوة رسول الله (ﷺ) إذ هو أمر
غيبي، فأخبر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بآيات قرآنية قبل وقوعه ثم وقع، فدل ذلك
على أنه (ﷺ) رسول
ونبي يخبره الوحي بما سيقع، إذ من الأدلة على صدق رسالة الرسول(ﷺ) ،
أن يخبر بأمور غيبية ثم تقع بعد ذلك كما أخبر. وفي ذلك يقول الله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ
عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}[البقرة].
2 ـ الوعيد الجازم بأن أبي
لهب وامرأته سيموتان على الكفر :ــ
لقد تنبأ القرآن الكريم بأن أبي لهب
وامرأته سيموتان على الكفر، ففي سورة المسد يقول ربنا تبارك وتعالى :{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ
مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ
الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ }[المسد].
وهنا سؤال مطروح :
ألم يكن يستطيع أبو لهب وهو العدو الأكبر
للرسول (ﷺ) أن
يحارب الإسلام بهذه الآية ؟ . .ألم يستطيع أن يستخدمها كسلاح ضد القرآن ؟
ضد هذا الدين ،قالت له الآية :يا أبا لهب
ستموت كافراً ،ستموت مشركاً ، وستعذب في النار ،وكان يكفي أن يذهب أبو لهب إلى أي
جماعة من المسلمين ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ،
يقولها نفاقاً ، ويقولها رياء ، يقولها ليهدم الاسلام بها ،لا ليدخل في الاسلام ،
يقولها ثم يقف وسط القوم يقول : ان محمداً قد تنبأ أنني سأموت كافراً ، وقال أن
هذا الكلام مبلغ له من الله ، وأنا أعلن اسلامي لأثبت لكم أن محمداً كاذب ، ولكن
ابا لهب بقي كافراً مشركاً ،مات وهو كافر ،ولم يكن التنبؤ بأن أبا لهب سيموت
كافراً أمراً ممكناً ، لأن كثيراً من المشركين اهتدوا إلى الاسلام كخالد بن الوليد
وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب وغيرهم ، كانوا مشركين وأسلموا ، فكيف أمكن التنبؤ
بأن أبا لهب لم يسلم ولو نفاقاً ، وسيموت وهو كافر .
المعجزة هنا أن القرآن قد أخبر بما سيقع
من عدو وتحداه في أمر اختياري كان من الممكن أن يقوله . . ولكن الذي قال هذا
القرآن يعلم أنه لن يأتي إلى عقل أبي لهب تفكير يكذب به القرآن . . هل هناك أعجاز
أكثر من هذا ؟ . .
3ـ الوعيد الجازم بأن
الوليد بن المغيرة سيموت على الكفر:ـ
ولقد تنبأ القرآن الكريم أيضاً بأن الوليد
بن المغيرة العدو الألد للإسلام سيموت على الكفر . . حيث أنزل الله فيه :{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا
مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ
أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
(23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ
(28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} [المدثر]
.
قال الامام القرطبي : " والمفسرون
على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي , وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه . وإنما خص
بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام , وكان يسمى الوحيد في
قومه " وقد مات كافراً ، وتحقق ما جزم به القرآن الكريم .
ان هذا التحديد القرآني لمصائر هؤلاء
المشركين لهو من الأدلة الكثيرة الواضحة على أن القرآن الكريم هو كلام الله ، فلو
كان من كلام محمد فمن يدريه أنهم سيموتون كفاراً ؟ وأنهم لن يستجيبوا لدعوته ولو
نفاقاً ؟ رغم دعوته المتكرره لهم . وبالفعل فقد اسلم الكثير الكثير من المشركين
إلا هؤلاء الذين نص القرآن على موتهم على الكفر !
لقد كان أبي سفيان عدواً خطيراً لكنه آمن
في نهاية الامر , وآمن الكثير من الأفراد الخطرين والمجرمين إيمانا ظاهرياً أمثال
( وحشي ) قاتل حمزة ، ان هذا التنبؤ القاطع عن مصير شخص كـ ( ابو لهب ) أو زوجته (
ام جميل ) أو ( الوليد بن المغيرة ) لم يكن يتاتى من الطرق العادية , فهذه النبؤة
القرآنية لاتتاتى الا من طريق الاعجاز.
ان الكثير من مشركي مكة آمنوا ايمانا
واقعيا , والبعض آمن ايمانا ظاهريا لكن من الذين لم يؤمنوا لا في الواقع ولا في
الظاهر هو : ابو لهب وزوجته أم جميل والوليد بن المغيرة , وقد صرح القرآن بوضوح
أنهما لن يؤمنوا أبدا , وهذه من الاخبارالغيبية للقرآن الكريم .
4 ـ الوعد الجازم بأن الروم
ستغلب الفرس في بضع سنين:ـ
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى بظهور وغلبة
الروم على الفرس في بضع سنين كما في سورة الروم يقول المولى تبارك وتعالى :{ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ
(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ
سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
(4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (6)}[الروم].
وفي قوله تعالى :( وعد الله لا يخلف الله
وعده ) نجد التيقن والجزم بأن الأمر سيحدث ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : اعلموا
أنه لا بد من وقوعه ... فسبحان الله علام الغيوب.
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنه لم تحدث
معركة بين الروم والفرس ، أو لو أنه حدثت معركة وهزم فيها الروم أكان بعد ذلك يصدق
أي انسان القرآن أو يؤمن بالدين الجديد ،ثم إذا كان القرآن من عند محمد فما الذي
يجعله يدخل في قضية غيبية كهذه ، لم يطلب منه أحد الدخول فيها ، أيضيع الدين من
أجل مخاطرة لم يطلبها أحد ، ولم يتحداه فيها انسان ، ولكن القائل هو الله ، والفاعل
هو الله ، ومن هنا كان الأمر الذي نزل في القرآن يقيناً سيحدث ، ومن هنا حدثت
الحرب ،وانتصر الروم على الفرس كما تنبأ القرآن .
وقد حملت الآية نفسها نبوءة أخرى وهي أن
المسلمون سيفرحون بنصر الله ولقد صدق الله وعده وفرح المسلمون وتحققت نبوءتان في
وقت واحد .
ثانيا : الوعود الربانية بنصرة
الإسلام والمسلمين وهزيمة الكفر والكافرين :ـ
1ـ الوعد الجازم بهزيمة
المشركين في معركة بدر :ـ
يقول الله سبحانه وتعالى : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}[القمر].
نزل هذا الوعد الإلهي في مكة عندما كان
مشركي قريش يسرحون في أوج قدرتهم ,بينما كان المسلمون مستضعفين يشكلون قله قليلة
بينهم ، إلا أن الوعد كان جازماًُ بأن هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بقدرتهم
وشوكتهم وجمعهم سيهزمون ويولون الأدبار ،يقولون : نحن جماعة قوية متحدة و منتصرة
:( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) , إلا أن القرآن يعقب على ذلك
مباشرة بقوله : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) .
روى ابن حاتم بإسناده إلى عكرمة أنه قال :
لما نزلت (سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، قال عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟
قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول
الله (ﷺ) يثب
في الدرع ، وهو يقول :
( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ ) فعرفت تأويلها يومئذ.
إن من المسلم له هو عدم إمكان حصول التوقع
والحدس بالإنتصار السريع للمسلمين وكسر شوكة أعداء الإسلام في ذلك الزمان وفي تلك
المعركة إذ كيف سينتصر المستضعفون الأقلون عدداً وعدة على الأكثرين المتجبرين ؟
فلقد بلغ عدد جيش المشركين في معركة بدر
كما في صحيح مسلم ألف رجل وكان معهم سبعون
فرساً ، والعدة الكاملة والأعداد الكثيرة من الإبل للركوب والأكل ، على حين أن جيش
المؤمنين كان 316 رجلاً فقط ، وكان معهم فرسان كما تذكر كتب السير وكما جاء في
مسند الامام أحمد . إلا أن المعركة انتهت
بنصر مؤزر للحق وهزيمة منكرة للباطل وضاعت هيبة قريش وتبين للجميع أن الحق مع محمد
صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه .
وفي هذا قَالَ تَعَالَى ممتناًعَلَى
عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ بعد ذلك:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ(123)}[آل عمران].
أي إنكم كنتم أذلة بِقِلَّةِ الْعَدَد وَالسِّلَاح
إلا أن الله نصركم فَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعَمه .
فكانت إشارة واضـحة إلى تحقق الوعد الإلهي
في ذلك اليوم , لهذا ظن البعض أن الآية نزلت في
ذلك المكان , على كل حال فهذه هي إحدى
التنبؤات القاطعة للقرآن التي تحققت على حين غرة في فترة قصيرة .
2 ـ الوعد بمجيىء الأحزاب
وانهزامهم:ـ
كان الله سبحانه وتعالى قد أخبر المؤمنين
بأن الاحزاب وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود وغيرهم ستجتمع عليهم
لمحاربتهم وأخبرهم المولى تبارك وتعالى بأن النصر سيكون لهم مع ما سيصيبهم من بلاء
وشدة ، فجاء الأحزاب كما وعد اللّه ورسوله وكانوا عشرة آلاف وحاصروا المسلمين
وحاربوهم محاربة شديدة إلى مدة شهر وكان المسلمون في غاية الضيق والشدة ، حتى ان
المنافقين قالوا :{ماوَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
إِلا غُرُورًا(12)}[الأحزاب ] .
أي ان الوعد بالنصر كان باطلا ولن يتم أما
المؤمنون فقالوا : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وأيقنوا بالجنة والنصر.
يقول الله سبحانه وتعالى :{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا
مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ
إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}[الاحزاب].
ولو لم يكن هذا الوعد من الله للمؤمنين قد
صدرلاعترض المؤمنون في ذلك الوقت على هذه الآية ولاهتزت قضية الدين واتهموا الرسول
(ﷺ) بالكذب حاشاه
بأبي هو وأمي .
وبالفعل تحقق الوعد ودفع الله أكبر خطر قد
حاق بالمسلمين في ذلك الوقت ورد الله الذين كفروا لم ينالوا خيرا ورجع رسول الله (ﷺ) وصحابته
رضوان الله عليهم إلى بيوتهم ولسانهم يلهج : ( لا إله الا الله وحده ، صدق وعده ،
ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) فأنزل الله بعد ذلك قوله ممتناً ومذكراً :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
(9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}[الاحزاب].
ــ وقد وعد الله المؤمنين بالنصر والنجاة
والدفاع والولاية والمعية. على وجه العموم. اقرأ قوله تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}الروم
.
وقال تعالي{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) }[يونس]
وقد وعد الله بإحباط كيد الكافرين
ومؤامراتهم ،ومكرهم بالإسلام وأهله، وجهودهم الدائبة لإطفاء نوره؛ وأنه تعالى سيرد
كيدهم في نحورهم، ويعيد سهامهم المسمومة إلى صدورهم.
وهو جل شأنه لا يخلف الميعاد، من ذلك قوله
تعالى: {إِنَّهمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ
كَيْداً (16) فمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً(17)}[الطارق].
ثالثا : الوعد الجازم
بالنصر والتمكين والاستخلاف للرسول وأصحابه في الأرض:ـ
1ـ يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم
(ﷺ):{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ
إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}[ آل عمران ] .
والمعنى أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من
مشركي مكة واليهود وغيرهم ستغلبون أي في الدنيا وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم
وبئس المهاد .
2ـ تحقق وعد الله سبحانه وتعالى باستخلاف
النبي (ﷺ) وأصحابه
في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً وقد جاء هذا الوعد في وقت كان المؤمنون
فيه قلقين خائفين لا يبيتون إلا بالسلاح كما سيأتي ، فأنزل الله وعده العظيم لهم
بقوله تعالي{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا(55)}[النور].
عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال :
لما قدم رسول الله (ﷺ)
المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لايبيتون إلا في السلاح
ولا يصبحون إلا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا
الله تعالى ؟!
فنزل قوله تعالى :(وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأرض .) رواه الطبراني والحاكم وصححه.
ولقد صدق الله عز وجل وعده فإنه (ﷺ) لم
يمت حتى نصره الله وأعلى كلمته وفتح عليه مكه وسائر جزيرة العرب وأخزى المشركين
وشركهم ، ومكنه من هؤلاء الكفار وطهر الجزيرة العربية من اصنامهم وشركهم ،ثم تولى
الأمر من بعده الخلفاء الراشدين الأخيار.
فسبحان من أنزل هذه المواعيد الصادقة .
3ـ الوعد الجازم بفتح مكة:ـ
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى بفتح مكة فيقول
الله سبحانه في سورة النصر :{إِذَا جَاءَ نَصْرُ
اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا(3)}[النصر].
والمعنى : إذا جاء نصر الله سبحانه وتعالى
لنبيه (ﷺ) على
أعدائه " والفتح " فتح مكة ، قال الامام الزمخشري رحمه الله : ( إذا )
هو لما يستقبل ، والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة . وذهب العلامة عبد
الرحمن بن رجب الحنبلي رحمه الله مذهب
جمهور المفسرين، إلى أن سورة النصر نزلت قبل فتح مكة إذْ أخبر الله بفتحها قبل
وقوعه. وجاء مستقبل الزمان بتحقق الفتح، كما أنبأ الله تعالى من قبل وأخبر.
فسورة النصر علم من أعلام نبوة سيد
المرسلين وإلهية رسالته.
4ـ الوعد الجازم بدخول
الرسول والمسلمين إلى المسجد الحرام آمنين:ـ
يقول تبارك وتعالى لرسوله والمؤمنين :{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ
مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}[الفتح].
وكان هذا الوعد في سنة الحديبية عام ست
ووقع انجازه في سنة سبع عام عمرة القضاء فلله الحمد والمنة وسبحان الله علام
الغيوب .
ونلاحظ أن في الآية وعداً آخر وقد تحقق
أيضاً وهو قوله تعالى:(فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ
فَتْحًا قَرِيبًا) وهو ما تحقق للمؤمنين بفتح خَيْبَر بَعْد انْصِرَافهمْ
مِنْ الْحُدَيْبِيَة .
رابعا : الوعود الربانية بعصمة
النبي صلي الله عليه وسلم وحفظه من أعدائه :ـ
1ـ يقول الله تبارك وتعالى لرسوله (ﷺ) والمؤمنين
في شأن أهل الكتاب :{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا
آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} [البقرة].
وفـي الـوقت ذاته تعطي الآية وعداً صريحا
بان اللّه تعالى سوف يدفع شرورهم , ويسفه أحلامهم , ويفشل مؤامراتهم , ففعل الله
بهم ذلك عاجلا وأنجز وعده , فكفى نبيه (ﷺ) بتسليطه إياه
عليهم حتى قتل بعضهم وأجلى بعضاً وأذل بعضاً وأخزاه بالجزية والصغار .
وهذه من إحدى النبؤات الإعجازية .
2 ـ ولقد أثارت دعوة الرسول (ﷺ) إلى
الإسلام حفائظ المشركين وحميتهم كما أثارت حقد اليهود ومكرهم.
وبعد الهجرة تشابكت أيادي اليهود مع
المشركين فشكلوا خطرا حقيقياً على حياة الرسول ، وكثرت المؤامرات الهادفة إلى
اغتياله أو قتله ، فتكفل الله بحماية رسوله وعصمته من أعدائه ، وأعلمه بذلك في
قوله تعالى :{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ(67)}[المائدة].
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله(ﷺ) يُحرس
حتى نزلت : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فأخرج
رأسه من القبة وصرف الحرس عنه ، وقال : " يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني
الله عزوجل ".
وقد جاءت الحوادث محققة لوعد الله بحفظ
رسوله (ﷺ) وعصمه
من الناس فلم يمت عليه الصلاة والسلام حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونزل قوله
تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)}[المائدة].
3ـ يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم
(ﷺ) كما
جاء في قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ
بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)} [القصص] .
لقد اشتملت هذه الآية الكريمة على أكثر من
وعد للرسول الكريم (ﷺ)
طبقاً لما نقل عن الصحابة في تفسيرهم لها ، ففيها الوعد بالآخرة حيث الجنة والمقام
المحمود للرسول الكريم وفيها الوعد الإلهي بعودته صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ظافراً بعد أن أخرج منها .
فقد أخرج البخاري في التفسير من صحيحه عن
ابن عباس في قوله تعالى (لَرَادّك إلَى مَعَاد) قال مكة .
وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه وابن
جرير وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس " لرادك إلى معاد " أي لرادك إلى
مكة كما أخرجك منها .
إن التنبؤ بعودة النبي إلى مكة بصورة
صريحة وقاطعة بعد أن أخرجه قومه منها غير وارد في تلك الظروف الحرجة والعصيبة ,
لكننا نعلم أن هذا الوعد الالهي تحقق في النهاية , وعاد النبي مع جيشه القوي
المقتدر إلى مكة منتصرا بعد عدة سنين , وأخضع الحرم الإلهي الآمن تحت راية الإسلام
بدون أي قتل وقتال , وهذه هـي احدى النبؤات الإعجازية للقرآن التي أخبر فيها عن
المستقبل بصورة صريحة وقاطعة , وبـدون أي قيد أو شرط , هذا في الوقت الذي لم تظهر
فيها القرائن والعلائم على تحقق النصراطلاقا.
وقد وعد الله تعالي أم موسي عليها السلام
بعودة ابنها موسي عليه السلام فقال تعالي{وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}، وقال تعالي {فَرَدَدْنَاهُ
إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}[القصص].
خامسا: الإخبارعن كشوف علمية ستظهر في الكون على يد
المكذبين :ـ
لقد أخبرنا القرآن الكريم بأن هناك كشوف
علمية ستظهر على يد المكذبين في آفاق هذا الكون وفي النفس البشرية ومن خلال هذه
الكشوف العلمية ستتجلى لهم آيات الله الباهرة ، يقول ربنا تبارك وتعالى :{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53)}[ فصلت]
فتحقق هذا الوعد الإلهي في الأزمنة
الأخيرة وكشف العلم للمكذبين وسوف يكشف لهم الكثير من آيات الله الباهرة في الآفاق
وفي الأنفس ، فسبحان الله علام الغيوب .
وعلي سبيل المثال جاء العالم الإنجليزى الذى كان يعمل فى مجال
البحرية البريطانية (براون) وكان يدين بغير الإسلام ،ولما رست سفينته على القارة
الهندية سأل عن عالم من علماء المسلمين ليناقشه وجىء له بأحد العلماء الجهابذة
فسأله رجل البحرية البريطانية وقال له: هل ركب نبيكم محمد البحر ؟ قال له العالم
:لم يركب البحر، ولم ينتقل بطريق البحر أبدا قال فمن الذى علمه علوم البحار؟ لقد
قرأت فى القرآن الكريم آية فى سورة النور.
وبعد قراءتها طبقتها على العلم الحديث
فوجدتها قد سبقت العلم الحديث بقرون عدة قال له العالم الهندي: وما هذه الأيه؟؟
قال له العالم البحرى الإنجليزى هى قول
الله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ
يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)}[النور].
ناشدتك الله هل ركب نبيكم البحر؟ قال العالم
والله ما ركب البحر قال العالم الإنجليزى فمن الذى علمه علوم البحار ؟؟
إن الذى علمه هذا العلم هو الله رب
العالمين بطريق الوحى ثم قال عالم البحرية البريطانيه:
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد
أن محمدا رسول الله
فإن هذا كان بعضاً للنبوءات القرآنية التي
تحققت ووقعت كما أخبر القرآن الكريم وهي من دلائل مصدره الرباني وصدق الله العظيم إذ
يقول :{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ
نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(105)}[الإسراء]. فتعساً والله لمن لا يعتبر . .
العنصر السابع : الآثار
الإيمانية للإيمان بعالم الغيب والشهادة:ـ
إن الإيمان بالغيب أثّر في حياة السلف تأثيراً
كبيراً وأحدث في قلوبهم حركة عظيمة مثالية نموذجية الاتباع، وانقلبت به حياتهم الفردية
والأسرية والجماعية من جهة مظلمة إلى جهة منيرة واضحة أُضيئت بها نواحي الحياة كلها
في تسامح القلوب ورحابة الصدور قد تخلقوا بخلق الغفّار.
1ـ تحقيق المراقبة الدائمة
لله تعالي والإستقامة علي منهج الله تعالي:ـ
أن يتيقن المؤمن دائماً أن الله عليم بما
يصنعه بجوارحه ، وما يعزم عليه في قرارة نفسه ،علماً يجعله دائماً نزَّاعاً
للطاعات ، مسارعاً للخيرات ، مجانباً للسيئات ،مراقباً لنفسه بنفسه ، وحذراً من
نفسه على نفسه ، فيحقق المراقبة لله سبحانه وتعالى وبدوام ذلك والمجاهدة عليه
يترقى المؤمن من درجة الإيمان إلى مرتبة الإحسان وهي {أن
تعبد الله كأنك تراه}.
وفي لفظ لمسلم {أن
تخشى الله كأنك تراه}
لأن هناك علاقة قوية يبرزها القرآن بين
الإيمان بعلم الله ،وبين الامتناع عن الإثم ،والفسوق ، والعصيان ، وبين المسارعة
في أعمال البر والطاعة ، قال الله سبحانه :{وَلَا تُجَادِلْ
عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ
خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)} . [النساء].
والغفلة عن هذا المعنى تجعل الإنسان يقع
سريعا في الذنوب ،وتجعله يتوغل في كل مظلمة ، ويتهجم على كل مشأمة ، فإذا بلغ علمه
اليقين الجازم أن الله يطلع على خفايا الإنسان ،ويحاسبه عليها ،ويجازيه حتى على
نياته ،ويراقبه حتى على خلجاته ؛ورث الهيبة من قربان حدودها ، فبقدر قوة إيمان
الإنسان بسعة علم الله تزداد خشيته ، ويعظم ورعه ، ويحسن عمله ، وترتدع نفسه ، وبقدر
ضعف إيمانه وجهله بذلك يكثر زلَلَـهُ ، ويتوالى انحرافه .
فإنّ يقين المؤمنِ بأن الله يعلم أحواله ،
سرها ، وعلنها ، يحمله على التهيب من الإقدام والجرأة على حدود الله واقتحام
حرماته حياء منه سبحانه ، فالزوج الذي يتذكر هذه الرقابة الدائمة لايخون الله
ولايخون زوجته ، والمرأة المراقبة لله لا تضيع أمانة زوجها وشرفه ، والأجير لا يسرق
من مال صاحبه ؛ لأن الجميع يعلمون أن الله يعلم ما في أنفسهم فيحذروه .
قال تعالي { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
[البقرة]
2ـ الإستسلام الكامل لله
تعالي والثقة واليقين في الله تعالي:ـ
الاعتقاد بأن الله عز وجل علم في الأزل
جميع ما هو خالق ، وعلم جميع أحوال خلقه ، وأرزاقهم ،وآجالهم ، وأعمالهم ، وشقاوتهم
وسعادتهم ، وعلم عدد أنفاسهم ولحظاتهم ، وجميع حركاتهم و سكناتهم أين تقع و متى
تقع وكيف تقع ، كل ذلك بعلمه ، و بمرأى منه و مسمع ، لا تخفى عليه منهم خافية سواء
في علمه الغيب والشهادة و السر والجهر والجليل والحقير لايعزب عن علمه مثقال ذرة
في السموات و لا في الأرض و لا في الدنيا و لا في الآخرة .
قال تعالي{إِنَّ
اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)}[آل
عمران] .
لذلك كان من تربية بقمان لولده كما قال
تعالي {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ
بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16)}[لقمان]
فهذا الاعتقاد يورث المؤمن تعظيم الله
والرضى عنه والتسليم لمقاديره حلوها ومرها .
إن الإيمان بعلم الله يجعل الإنسان يعتدل في
حياته فلا تبطره النعمة ولا تقنطه المصيبة لعلمه أن الجميع من عند الله ، وأن ذلك بعلم
الله ومشيئته .
ويرضى الإنسان بالمقدور ويستسلم لمشيئة الله
العليم الحكيم قال تعالي{وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}[البقرة]
قال أحد الصالحين : نحن نسأل الله ،فإن أعطانا
، فرحنا مرة وإن منعنا ، فرحنا عشر مرات لأن العطاء اختيارنا ، والمنع اختيار الله
،واختيار الله خيرٌ من إختيارنا.
ويحكى عن رجل خرج في سفر مع ابنه إلى مدينة
تبعد عنه قرابة اليومين، وكان معهما حمار وضعا عليه الأمتعة، وكان الرجل دائما ما يردد
قول:"ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
وبينما هما يسيران في طريقهما؛ كُسرت ساق الحمار
في منتصف الطريق، فقال الرجل:
ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
فأخذ كل منهما متاعه على ظهره، وتابعا الطريق،
وبعد مدة كُسرت قدم الرجل، فما عاد يقدر على حمل شيء، وأصبح يجر رجله جرًّا، فقال:
ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
فقام الابن وحمل متاعه ومتاع أبيه على ظهره
وانطلقا يكملان المسيرة ، وفي الطريق لدغت أفعى الابن، فوقع على الأرض وهو يتألم، فقال
الرجل: ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
وهنا غضب الابن وقال لأبيه: أهناك ما هو أعظم
مما أصابنا؟؟
وعندما شفي الابن أكملا سيرهما ووصلا إلى المدينة،
فإذا بها قد أزيلت عن بكرة أبيها، فقد جاءها زلزال أبادها بمن فيها.
فنظر الرجل لابنه وقال له: انظر يا بني، لو
لم يُصبنا ما أصابنا في رحلتنا لكنا وصلنا في ذلك اليوم ولأصابنا ما هو أعظم، وكنا
مع من هلك..
فيتعلم المسلم أن يستخير الله تعالي في كل
أموره ويوقن أن اختيار الله تعالي له الأفضل ،ولا يتحسر على فوات صفقة ،ولايحزن على
ذهاب زوجة فالله يعلم أن هذه التجارة لن تغنيك ، ويعلم أن هذه الزوجة لن تسعدك ،لذلك
علمنا النبي (ﷺ)
الإستخارة في كل الأمور.
فعن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي (ﷺ) يعلمنا
الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين ثم
يقول اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا
أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني
ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاقدره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر
شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه
واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ويسمي حاجته ).
3ـ الطأنينه والسعادة :ـ
فالمؤمن مطمئن، فإن جاءه الخير فهو مطمئن،
وإن جاءه الشر فهو مطمئن، ومهما وقع له فهو مطمئن، فإن ظلم فإيمانه بالله وباليوم الآخر
يجعله يطمئن، ويصبر احتساباً، فهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف ينتقم له
ممن ظلمه، وليس بقدرته الذاتية، وإن منع حقاً له فهنالك أيضاً اليوم الآخر الذي توفى
فيه كل نفس ما كسبت. أيضاً فإن عالم الدنيا مهما كبر فإنه يصغر عند الإنسان، وذلك عندما
يؤمن بعالم الغيب؛ فما قيمة الدنيا عند المؤمن الذي يؤمن بأن موضع سوط في الجنة خير
مما طلعت عليه الشمس! فلماذا نتصارع على هذه الدنيا؟
ولماذا نتتطاحن؟
ولماذا نتشاحن؟
ولماذا البغضاء؟
ولماذا الأحقاد؟
ولماذا العداوات؟
ولذلك فإن المؤمن يطمئن ويرتاح عندما يرى الكفار
أو الفجار أو الظلمة قد أخذوا ما أخذوا؛ فبهذا يستقر؛ وإن أُعطي حمد الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، ولم يشغله ذلك عن اليوم الآخر، وعلم أن هذا المتاع فان وزائل، وأنه إن
تمتع بشيء منه فهو يتذكر متاع الآخرة؛ فيجتهد ويعمل لها، ويؤجر على هذا العمل؛ لأنه
مشروع، ولأنه فعل المأمور فعف نفسه -بهذه الشهوة مثلاً- أو عف أهله إن كانت شهوة مال
وما أشبه ذلك.
فيعيش الإنسان والمجتمع المسلم في طمأنينة
كاملة، وما ذلك إلا نتيجة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والإيمان بالغيب.
4ـ الحذر من العرافين
والدجالين الذين يدعون معرفة الغيب
المؤمن حذر من التطلع لما خص به الله تعالي
نفسه من علم الغيب في وقت ترامى الناس على أبواب المنجمين والعرافين موقنين بأن المستقبل
لله والغيب من اختصاص الله.
قال رسول الله(ﷺ):{من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}[أخرجه
مسلم]
وقال (ﷺ): {من أتى عرافاً ، أو كاهناً ، فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما
أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}[ رواه أبو
داود].
5ـ الخوف من سوء الخاتمة :ـ
الحذر و الخوف من أن توافي الإنسان منيته
على غير ما يحب ، وذلك ؛ لأن العاقبة في علم الله عز وجل ولايدري أحد ما الله فاعل
، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال : قال رسول الله (ﷺ):{إن
الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمن الطويل ثم يسبق عليه الكتاب فيكون من أهل النار }[ أخر جه
مسلم]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله
(ﷺ):{فوالله الذي لا إله غير إن أحدكم ليعمل بعلم أهل الجنة حتى
مايكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها}[ أخرجه
البخاري ومسلم] ،
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال
رسول الله (ﷺ):{الأعمال بالخواتيم}[أخرجه البخاري]
الخاتمة :
الإيمان بالغَيْبِ هو مفتاح الإيمان بالله
تعالى وبما أخبرت به الرسل عليهم السلام ومن أنكر الغيبَ فليس لديه قابليةٌ لأن يُصَدِّق
بما أخبرت به الرسل، وما أنزل من الكتب؛ لأن أساس الإيمان بذلك هو الإيمان بالغيب.
وكلما كان الإيمان بالغيب أقوى؛ كان الإيمان
بالله تعالى وبما جاء من عنده أقوى وأمكنَ في قلْبِ العَبْدِ.
وكُلَّما ضعُف الإيمانُ بِالغيب؛ ضعف الإيمان
بالله تعالى وهكذا. بل إن من أنكر الغيب فهو خارج من الإيمان كله، وليس في قلبه إيمان
ألبتة، وكان حاله كحال الدّهرية الملاحدة الذين قالوا:{
مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا
الدَّهْرُ(24)}[الجاثية].
فاللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما سلف
وكان من الذنوب والعصيان ، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد
رسول الله .
وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق