المقدمـــة
الحمد لله رب العالمين ..نحمده سبحانه وتعالى ونستهديه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ..من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له..
وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل
شيء قدير.
وأشهد
أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح
للأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه الله اليقين .
فاللهم
صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعـد : فإن
الإيمان مجرداً عن العمل لا ينجي من النار ،ولا يكون كاملاً ، ولم تذكر أية قرآنية
الإيمان إلا وقرنته بالعمل ، لذلك عرَّف علماء السلف الإيمان بأنه: }نطق باللسان ،واعتقاد
بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان{.
فبعد
الإيمان بهذا الطريق ،لابد من العمل الدؤوب لتحقيق ما أراده الله منا على هذه
الأرض ،والعمل الدؤوب إذا لم يصاحبه ثقة بالنصر يكون مهزوزاً ،ومؤدياً لليأس في
الطريق .
فلا
بد أن يصاحب العمل ثقة بالنصر، لتكون الوقود المؤجج للحركة الدائبة التي لا تنقطع
حتى النصر، أوالشهادة في سبيل من أمرنا بالتحرك لنصرة دينه .
فلابد
من الحركة للدين وحمل همه في القلوب .
إن
الداعية الصادق الذي إذا تكلم فللدعوة، وإذا غضب فللدعوة وإذا خاف فعلى الدعوة
،وإذا حزن فمن أجل لدعوة .
لقد
كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حزنا على من لم يؤمنوا، لقد كان
قلبه يحترق على من أعرض عن دعوة الحق ،كان إذا مرت به جنازة ،وعلم أنها لمن مات
على كفر حزن حزنا شديدا وقال :}نفس
تفلتت مني إلى النار { ولذا أنزل الله تعالى قوله}فَلَا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)
} ]فاطر[.
وكان
الصحابة والسلف الصالح لا شيء عندهم من دينهم ولا مطلب أغلى من دعوتهم ،فمالهم
للدعوة، ووقتهم للدعوة ، وجهدهم للدعوة. فليقف الداعية مع نفسه ويسألها :هل
ملكت الدعوة عليك أركان فؤادك ، فإذا فكرت أن تَقْدم على أي خطوة في حياتك ،فكرت
قبل كل ذلك في مدى تأثيرها على دعوتك؟
هل
تخضع الدعوة لظروفك ؟ أم تخضع ظروفك للدعوة؟
هل
تعطى الدعوة ما تبقى من وقتك بعد متطلبات دنياك ،أم أن للدعوة مكانة في قلبك بحيث
لا تدانيها منزلة ؟ أو تطغى عليها الظروف؟؟
هل
تضحى بالدعوة ؟ أم تضحى من أجل الدعوة ؟؟
أسئلة
كثيرة يجب أن يقف الداعية أمامها طويلا ،ويجيب عليها ،وليكن صادقا في الإجابة مع
نفسه ، }وَمَن
جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ(6) }]العنكبوت[.
لذلك
لزاما علينا أن نبين هذا الخلق من الدعاة وهوالهم من أجل الدعوة.
}حقيقة الدعوة والهم والانشغال بها{ ويحتوى على العناصر الرئيسية التالية..
1ـ مفهوم الهم والانشغال بالدعوة .
2ـ حقيقة الدعوة وإلى أى شيء ندعوا الناس .
3ـ الدافع إلى الانشغال بالدعوة .
4ـ مظاهر الهم
والانشغال بالدعوة .
5ـ صور مشرقة في الهم بالدعوة.
6 ـ عوائق الانشغال
والاهتمام بالدعوة .
7ـ تنمية الهم
والانشغال بالدعوة .
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
العنصر الأول
مفهوم الهم والانشغال بالدعوة
معنى الهم في اللغة : الحزن ، ما هم به الرجل
في نفسه ،
أول العزيمة ، هموم، ويقال : هذا رجل همك من رجل : حسبك .
]الهمة[ : ما هم به من أمر ليفعل ، والعزم القوى، ]همم[.]المعجم
الوجيز[.
وفي الاصطلاح: الهم والانشغال
بالدعوة : نعنى
به الانشغال والاهتمام بالدعوة حتى تملا على المسلم نفسه ومع ازدياد هذا الاهتمام
في نفسه حتى يستولى عليه هم واحد ألا وهو هم الدعوة ، فتراه لا يتكلم إلا بالدعوة
ولا يغضب إلا للدعوة ولا يفرح إلا للدعوة ، ولا يخاف إلا على الدعوة ولا يبكى إلا
على الدعوة ، فإن فتر أحد الذين يربيهم أو يدعوهم يفكر فيه في نومه ،وفي يقظته في
عمله ، وفي منزله يدعو له في كل سجود أن
يرجعه الله إلى الحق كما يفكر في هذا التابع لماذا فتر ؟ هل السبب يكمن فيه
وصادر منه أم هو من التابع نفسه ؟
أم
أنها فتنة الدنيا وجواذبها ويظل في هذا الهم حتى يرجع الفاتر إلى الجادة. ]المصفى من صفات الدعاة[.
وما أجمل ما قاله الشيخ عبد القادر
الجيلاني لغلامه }يا غلام : لا يكن همك ما تأكل وما تشترى وما تلبس وما
تنكح وما تسكن وما تجمع.
كل هذا هم النفس والطبع ، فأين
هم القلب ؟
همك ما أهمك فليكن همك ربك عز وجل وما
عنده.
نعم
همك ما أهمك فليكن أخي الداعية همك منصرفاً إلى دعوة الله عز وجل تكن شريف الهمة ولا يكن همك سفاسف الأمور
تستغرق في شغل دنيوي ليل نهار تفكر كم جمعت وكم حصلت وماذا عندي وماذا أحتاج ..؟ بل
اشغل نفسك يا أخي بعظائم الأمور ماذا قدمت لدعوتك ؟ ماذا قدمت لآخرتك؟.
حاول
الإمام الجيلاني تقريب هذه الصفة لأحد أتباعه عندما كان يسرد عليه بعض صفات الدعاة
بقوله له :}هم
قيام في مقام الدعوة يدعون الخلق إلى معرفة الحق عز وجل لا يزالون يدعون القلوب
يقولون : يا أيتها القلوب يا أيتها الأرواح يا إنس ويا جن هلموا إلى باب الملك
اسعوا إليه بأقدام قلوبكم بأقدام تقواكم ،وتوحيدكم ومعرفتكم، وورعكم السامي والزهد
في الدنيا ، هذا شغل القوم همهم إصلاح الخلق، هممهم تعم السماء والأرض من العرش
إلى الثرى{
]المصفي من صفات الدعاة: البلالي[ .
ولعل هذا الهم هو الذي كان يصيب الرسول صلى الله
عليه وسلم عندما كان يدعو الناس فلا يستجيبون فكان الله سبحانه وتعالى يخفف عنه
هذا الهم بقوله تعالى }فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6){ ]الكهف[. وقال تعالى: }لَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(3)}]الشعراء[ . وهي كما وصفها الشيخ حسن عبدالرحمن رحمه الله تعالى في معرض
وصفه للمجاهد بقوله } أستطيع أن أتصور المجاهد شخصاً قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي
نفسه وجوانب قلبه فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد أبداً إن دعي
أجاب وإن نودي لبي غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي
أعد نفسه له ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته يجاهد في سبيلها
تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم
في قلبه من جوى لاصق وألم دفين وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة وهمة عالية وغاية
بعيدة.{.
وكما
عبر عنها الشيخ الخطيب في مفاهيم تربوية }إن الأخ الصادق يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه
متوهجة في ضميره تجري في دمائه وتنقله من الراحة إلى الحركة والعمل وتشغله بها عن
نفسه وولده وماله وهذا الأخ المؤمن الذى تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة
والإشارة وفي البسمة التي تختلط بماء الوجه وهو الأخ الذي ينفذ كلامه إلي قلوب
الناس فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر
الدعوة { .. ]مفاهيم
تربوية .الشيخ: محمد عبدالله الخطيب[
العنصر الثاني
حقيقة الدعوة وإلى أى شيء ندعوا الناس
الدعوة لغة :النداء والطلب تقول
:دعوت فلانا أى ناديته وقد تتعدى بحرف الجر (إلى) فيزداد بها الحث على فعل شيء
تقول :دعاه إلى شيء أى :حثه على قصده ودعاه إلى الدين أي حثه على اعتقاده.
الدعوة التي نعنيها
والدعوة التي نعنيها والتي
يجب على المسلمين القيام بها هي التي تهدف إلى :
1ـ تأسيس مجتمع
إسلامي : كدعوة الرسل عليهم
الصلاة والسلام التي كانت تبدأ في المجتمع
الجاهلي من دعوة الناس إلى دين الله سبحانه وتبليغهم وحيه وتحذيرهم من
الإشراك به.
2ــ دعوة الإصلاح في
المجتمعات المسلمة التي أصيبت بشيء من الانحراف وظهر فيها بعض المنكرات وضيع فيها الواجبات.
3ــ استمرار الدعوة في
المجتمعات القائمة بالحق :للحفاظ على سلامتها بالموعظة الدائمة والتذكير والتزكية
والتعليم .
ـ والهدف الأول يحتاج إلى
جماعة تقيم الإسلام أولا في واقع حياتهم حتى يرى فيهم القدوة الصالحة ويروا محاسن
دين الله تعالى ماثلة في مجتمعات المسلمين ويدركوا أثر هذا الدين فيمن آمن وبذلك
يدركوا عظمة هذا الدين فيسارعوا إلى الدخول فيه ورضوان الله على من قال أقيموا
دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم .
والمتأمل لحال المسلمين
اليوم يجدهم قد فقدوا الشخصية الإسلامية التي تجذب الناس لدين الله وفقدوا القدوة
الصالحة لغيرهم فلم يعد الإسلام يتمثل واقعا في حياتهم بحيث تبرز بالعمل والتطبيق
جوانب الإسلام المشرقة وما فيه من سمو ورفعة في التشريع والأخلاق والسلوك وحسن
التعامل إلى غير ذلك مما تفقده البشرية اليوم وتحتاج إليه حاجة الظمآن إلى الماء
البارد ولن يكون رد غير المسلمين حين ندعوهم إلى الإسلام ونحن لم نطبقه في حياتنا
إلا أن يقولوا :لو كنتم صادقين في أن ما تدعوننا
إليه حق لسبقتمونا إلى الإستمساك به وتطبيقه في جوانب حياتكم كلها ولكنكم غير
صادقين لأننا لا نرى أثرا لما تقولون في حياتكم والله عز وجل يقول عن عباد الرحمن}وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74){
]الفرقان[ .
قال ابن عباس والحسن والسدي
وغيرهم (أئمة يقتدي بنا في الخير ) وهذا لا يعني الإمساك عن دعوة غير المسلمين
كلما سنحت الفرصة لذلك كأن يوجد من يرغب التعرف على أصول الإسلام أو الدخول فيه
فذلك من الأهداف التي يسعى لها الدعاة إلى الله .
ـ أما الهدف الثاني فهو
أظهر من أن نتحدث فيه ،إذ معظم الدعاة إلى الله في زماننا هذا في مجتمعاتنا
الإسلامية يعملون على تحقيقه بشتى وسائل الدعوة لهم وأصولها .
ـ أما الهدف الثالث فلا يتحقق
إلا عند وجود المجتمع الذي لا توجد فيه ظواهر الفساد والانحراف وأين هو اليوم؟ فلم
يبق معنا سوى التوجه بالدعوة إلى إصلاح ما فسد من أخلاق الناس وسلوكهم وردهم عن
الانحراف الذي وقعوا فيه وتبليغ دين الله
سبحانه الذى أصبحت الغالبية العظمى من الناس تجهل أكثره وحماية المسلمين من مكائد
الأعداء التي تصل المسلمين عبر كثير من الوسائل المستحدثة ومحاربة المنكرات
الظاهرة وذلك لتكوين لبنات صالحة لبناء المجتمع الصالح الذي ننشده وغاية المسلم في
جميع خطواته رضوان الله تعالى ليحظى بالنظر إلى وجهه الكريم وجنةٍ عرضها السماوات
والأرض كلنا ندندن حولها .
أما الأهداف التي يسعى
لتحقيقها فلا عليه إلا أن يأخذ بالأسباب لتحقيقها فإن تحققت في عمره المحدود فبها
ونعمت وإن لم تتحقق فحسبه الأجر والثواب من الله، ورضاه عليه في حياته الدنيا
ليسعد فيها والنعيم الدائم في الحياة الآخرة قال تعالى }مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً ولنجزينهم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(97){ ]
النحل[ .]الدعوة قواعد
وأصول أ. جمعه أمين[
إلى أي شيء ندعوا الناس
يتوجه الدعاة بالدعوة إلى
الناس كافة في كل زمان ومكان على أن يقدم لكل صنف من المدعوين ما يناسبه :
1ـ فإن كان المدعو غير مؤمن
بالله وغير متبع لدين الإسلام فإن المناسب له أن يُدعى إلى الدخول في دين الإسلام
أولاً .
2ـ وإن كان المدعو مؤمنا
غير ملتزم بما يطالب به الإيمان دون الإسلام فإن المناسب له أن يُدعى إلى الالتزام
بالإسلام ، عباداته ومعاملاته وأخلاقه.
3ـ وإن كان المدعو مسلما
ولكنه يقارف بعض المعاصي فإن المناسب له أن يُدعى إلى الدخول في الطاعة والالتزام
بكل ما جاء في الإسلام من طاعات.
4ـ وإن كان المدعو مؤمنا
مسلما ملتزما طائعا ولكنه يفهم التدين على أنه عمل شخصي بينه وبين الله وأن ما
وراء ذلك من عمل جماعي لم يُطلب منه فإن المناسب له من الدعوة أن يَعرف أن العمل
للإسلام يجب أن يكون فرديا في أوقات قليلةٍ وجماعياً معظم الأحيان لأن ما تقدر
عليه الجماعة لا يقدر عليه الفرد، ولأن
الله عز وجل خاطب المؤمنين خطاب الجماعة لا خطاب الفرد الواحد قال تعالى: }وَالْعَصْرِ (1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ (3){ ] العصر[ . إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب المجتمع .
5ـ وإن كان المدعو مؤمنا
مسلما ملتزما غير عاصِ وغير مقتنع بأن التدين عمل شخصي ولكنه يُؤثرُ العافيةَ ويحب
الاستكانة أو يخاف مغبة العمل من أجل الإسلام في ظل الظروف التي تدين العمل
للإسلام وتخلط بينه وبين التطرف أو التشدد فإن المناسب له من الدعوة أن يبصر بأن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الإسلام وأن فرائضه لا تُؤدى إلا
بمعاناة وتَصَدٍّ للباطل وتواصٍ بالحق وتواصٍ بالصبر وتحمل لكثير من الأعباء وأن
مسلما على وجه الأرض لن يصيبه من مكروه الدنيا وأذاها إلا ما كتب الله له وآيات
القرآن الكريم في هذه المعاني كثيرة من مثل قوله تعالى} قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ
مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) { ]التوبة[.
وقال تعالى } أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ
وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ (78){
]النساء[،
وقال تعالى }مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11){ ]التغابن[.
6ـ وإن كان قد توفر كل ذلك
ولكنه يرى أن الجهاد في سبيل الله لا يُمارس إلا بعد قيام الدولة الإسلامية التي
تحكم بما أنزل الله حكما كاملا فإن من المناسب له أن يُدعى إلى التفقه في الدين
واعتبار أن الإعداد والاستعداد للجهاد بمثابة الجهاد نفسه لأنه لا يتم إلا به، وما
لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
7ـ وإن كان المدعو قد
استوفي كل ذلك بما فيه الجهاد في سبيل الله والإعداد والاستعداد له ولكن لا يتطلع
إلى أن يكون الدين كله لله ولا إلى أن يكون الناس مع دين الحق وإنما يكتفي بأن
يعيش المسلمون وقد أعدوا لهم من أسباب القوة واستطاعوا واستعدوا لأن ينازلوهم عند
اللزوم فإن من المناسب من الدعوة أن يفقه بأن المسلمون مطالبون بالجهاد في سبيل
الله إلى أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى وإلى أن لا يُعبد
غير الله في الأرض ويكون الدين كله لله ولو كره الكافرون .
ونحن في هذا كله نتأسى بالرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم فنأخذ بِحَجُز الناس حين نراهم يُلقون بأنفسهم في النار لنُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الباطل المظلم إلى الحق المبين ومن المعصية إلى الطاعة ومن السبل المتفرقة إلى صراط الله المستقيم مرددين ما قاله الصحابي الجليل ربعي ابن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس ، لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
العنصر الثالث
الدافع إلى الانشغال بالدعوة
إن
الانشغال والاهتمام بالدعوة لا بد له من دافع وحافز ذاتي من داخل الإنسان يحركه
للقيام بها وهذه الدوافع كالآتي تتمثل في الآتي ..
1ـ فردية التكليف
إن
أول الدوافع :هو أن مناط التكليف فردي وأن كل فرد سيُحاسب بوم القيامة فرداً ،
وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، وإن كان المرء يحاسب عن عمله في مؤسسته التي يعمل
بها ، وبعض التكاليف لا تتم إلا بوجوده في مؤسسة ، أو من خلال تجمع ، ولكن الحساب بالثواب
والعقاب لا يكون إلا فرديا ، ومن الإيمان بهذا المنطلق يجب ان ينحصر تفكير الداعية
فيما يجلب له الأجر ، ويقربه إلى الطاعة ، دون أن يكون تبَعا ، وأن يمتلك زمام
المبادرة إلى الطاعات دون الالتفات إلى عمل فلان أو قول فلان ، ولا يجب أن تقعده
نشوة الطاعة ، ولا تثبطه أثقال المعصية ، ولا ينتظر الإذن بالعمل من شخص ما ، إلا
ما كان جزءا من خُطَّةٍ بل يفكر الداعية بنفسه أنه سوف يُحاسب يوم القيامة عن
أعماله وعما قدم ولا يُسأل عن الآخرين ، كما
أن عليه ألا يرنوا ببصره إلى غيره فقد يكون لهم من الأعذار ما يمنعهم عن شيء
ما ، أو ليس لهم من الهمة والطاقة ما يمكنهم من أداء عمل ما ويستطيع هو أداؤه فلا
يثبطه الشيطان أو تقعد به ثقلة الحياة الدنيا والداعية بنفس الوقت عليه أن يُنَصِّبَ
رسول الله قدوة عملية أمام عينيه ،ولا يجعل الأشخاص الآخرين أيا كانوا فقد يفتح
الله عليه من الهمة أكثر من الآخرين ، أو يوفقه الله تعالى إلى عمل يتفرد به أو
إلى فضل يُؤثُرَهُ فيه ، فلله في خلقه شئون وهو المتفضل على عباده ، وقد يختص
برحمته من يشاء وكيفما يشاء .
وقد
أوضح الله عز وجل في كتابه الكريم هذا المعني فقال تعالى : }فَقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى
اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً
وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) }النساء.
والمعني
واضح في أمر الله تعالى لنبيه في عدم تكليف أحد إلا نفسه وأن لا ينتظر إعانة من
أحد رغم أن المعلوم من الشريعة أن الأمة كلها مكلفة بالجهاد ولكن المعنى أن يفترض
كل مسلم من الأمة والقدرة في ذلك نبيها صلى الله عليه وسلم أنه وحده المكلف
بالأداء وأن الله قادر على نصره وينحصر واجبه في تحريض المؤمنين ،(كأن هذا المعنى
: لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم
للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك لأنه وعده بالنصر). ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن
يجاهد ، ولو وحده ،ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم }والله لَأُ قاتلنهم حتى تنفرد سالفتي {، وقول أبي بكر وقت الردة (ولو خالفني يميني لجاهدتها بشمالي .. )
2ـ إعذار النفس أمام الله عز وجل
وقد
تُؤدي الإيجابية إلى الكثير من العمل الإسلامي بذاتها ، كما أن لها نتائج باهرة ،
فمنها وما يتفرع عنها من علم وعمل ومعذرة واعتذار فالمعذرة إلى الله تعالى من
التقصير حيث أداء الواجب جَهد الإمكان والاستطاعة ، وبالتالي شعور المؤمن بالأداء
وحسن النية ، إذ أنه يُؤدي ما عليه ، وليس عليه النتائج ، وهذا المعنى هو المطلوب
من التكليف ، ولقد عَذَّب الله أقواماً تركوا الدعوة إلى الخلق ، بحجة أن الموعظة
لا تؤثر في قومٍ اللهُ مُهلكهم أو مُعذبهم ، بينما امتدح الله آخرين اعتذروا إلى
ربهم ، وقاموا بأداء الواجب المعين عليهم ، فالمعذرة إلى الله واجب عيني على
المؤمن أن يؤديه بإيجابية ، دون انتظار لما يعمله الآخرون.
3ـ الانشغال والاهتمام بالدعوة فيه احترام للنفس
احترام
للنفس وثقة بها ، حتى لا يستهين المؤمن بنفسه ، ويغرر به الشيطان أنه لا يصلح لأمر
فيقعده عن العمل ، أو يزهده في الأداء ، إذ قد يأتي الشيطان عن طريق إشعار الداعية
بأنه لا أهمية له أو يحدثه بأن العمل به رياء وأن الحديث فيه مظاهر غرور ، فيجب
عليه العزلة ويزين له الانكماش تعففا وعدم الحديث تواضعا فيفوت عليه المصالح ويسد
عليه طرق الخير وتذهب عنه الأوقات وتهدر فيه الطاقات ، وإذا ما عجز الشيطان عن ذلك
فإنه يربك الأولويات على الداعية ويقوده لترك الأفضل وإتيان المفضول ، تحت نفس
التبريرات ووفق نفس الحجج ولهذا كان من الضروري أن يفهم الداعية العلم الشرعي الذي
يسد به منافذ الشيطان ومن أول العلم الثقة بالنفس وتأييد الله تعالى
ومن الثقة بالنفس معرفتها ، والتوجه إلى المعالي دائما ،والرنو نحو القمم السامقة ، قيل لرجل : عندي لك حويجة ، فقال له : اطلب لها رجيلا ! فإنه يبحث عن القضايا التي يطلب لها الرجال ، وهكذا يفعل أصحاب العزائم حتى ولو كانوا من طلبة الدنيا ولعل من هؤلاء يزيد بن المهلب الذي هرب من الحبس فقيل في قصته أنه مر برهط من أهل البرية رعاة ، فقال لغلامه : استسقنا منهم لبنا ، فسقوه ، فقال : أعطهم ألفا ، قال : ان هؤلاء لا يعرفونك ، قال : لكني أعرف نفسي !
4 ــ استشعار الأجر والثواب العظيم عند الله عز وجل
إن
الانشغال بالدعوة والحركة الدائبة لهم الأجر العظيم والثواب الذي لا ينقطع لقول
النبي صلى الله عليه وسلم }من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من
أجورهم شيئا { ]أخرجه
الإمام مسلم في صحيحه[
ولقد
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلى رضي الله عنه وأرضاه }فوالله لئن يهدي الله بك
رجلا واحدا خير لك من حمر النعم{ ]متفقٌ
عليهِ[.
فيا لها من نعمة عظيمة ومنزلة جليلة وخير عميم إن أنت
خلقت للخير وخلق الخير لك وأجري الله الخير على يديك وهنيئا لك وأنت تسمع رسول صلى
الله عليه وسلم يقول لك في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن أبي أمامة مرفوعا
قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم }إن الله وملائكته وأهل
السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر يصلون على معلم الناس
الخير{ ]أخرجه
الترمذي[
5ـ الخوف من النار وغضب الجبار
يقول
الله عز وجل }قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن
دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَداً (23){ ]الجن[.
ولقد
توعد الله عز وجل المتكاسلين والقاعدين عن
تبليغ دين الله عز وجل باللعن فقال تعالى }إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ
وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160){ ]البقرة[.
6ـ الخوف من العقاب العام
لقول
الله تعالى }وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ
خاصة وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )25( { ]الأنفال[.
قال ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب ) .وحديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :}مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا مروا على من فوقهم فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ ما فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا { ]أخرجه البخاري في صحيحه[
العنصر الرابع
مظاهر الهم والانشغال بالدعوة
لابد
للسالكين في طريق الدعوات من مظاهر وصفات تؤهلهم لأن يستحقوا أن ينالوا شرف
الانتساب لهذه الدعوة ، من هذه المظاهر على سبيل المثال وليس الحصر كالآتي...
1ـ يحرص على تقديم النصيحة ( يفكر و يبتكر للدعوة )
الداعية
الصادق دائم التفكير يصاحبه هم الدعوة ينشغل بها دائما يُفكر في نشرها ونجاحها بكل
صورة ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام المثل والأسوة الحسنة ،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج بل ويذهب للناس
في كل مكان فيهاجر إلى الطائف ليعرض دعوته، ويرسل سيدنا مصعب ابن عمير إلى المدينة
ليفتح أرضا جديدة للدعوة فيها ثم يهاجر بعد ذلك إلى المدينة ، وهذا الأمر نجده واضحاً في حياة أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم فكانت دعوة الله تملأ عليهم قلوبهم ونفوسهم، ففي غزوة بدر
الكبرى وقف الحُباب ابن المنذر رضي الله عنه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم أهذا
منزلا أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة
فقال ليس هذا بمنزل فانهض بالناس حتى أدني ماء من القوم فننزله ونخرب ما وراء ذلك
ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل الناس فنشرب ولا يشربون فقال الرسول صلى
الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأي .
وكذلك
سلمان في غزوة الأحزاب عندما أشار بحفر الخندق .
فصاحب
الدعوة لا ينبغي أن يكون أقل من صاحب التجارة الذي يخطط لها وبفكر كيف يزيد من
ربحه ؟ وكيف ينمي موارده ؟ وكيف يعرض بضاعته ؟ وكيف يجلب الناس إليه ؟ وإن فاته
شيء كيف يعوضه ؟ هكذا صاحب الدعوة يفكر فيها ، يخطط، يطور، ينتج ،يٌتابع، يبتكر ..
يفكر في وسائل الدعوة أى الوسائل أجدى لمكانه ؟ وأيها أكثر نفعا وجذبا للناس ؟
2ـ يفرح لانتصار الدعوة
صاحب الدعوة مشغول بقلبه بها إذا رأى نصرا
للدعوة في موطن من المواطن أو في قُطر من الأقطار يفرح عندما تكسب الدعوة أرضا
جديدة ،أو أفراداً جدداً، يفرح برؤية الخير ينمو في الناس وفي المجتمع فهو يسعي
إلى ذلك حتى يتكون المجتمع المسلم بل
والقرآن الكريم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في بداية الدعوة وكيف أن المسلمين
الأوائل كانوا ينتظرون انتصار الروم (أهل الكتاب )على الفرس (المشركين ) ولأنهم
كان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أى مكان :} غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ
سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (5){ ]الروم[.
كما
يحزن لخير فاته أو فات دعوته أو لتقصير وقع فيه يحزن ويهتم لأحوال المسلمين وما
يحدث لهم وما يجري في فلسطين والعراق وفي
كل مكان من ديار المسلمين، ويحزن إذا رأى المنكر والخلاعة والمجون والعري في شوارع
المسلمين بل في ديارهم إذا رأى الناس وقد اختلط الحابل بالنابل وصار
المعروف منكرا والمنكر معروفا .
3ـ لا يركن إلى الدعة أو الراحة ويقدم مصلحة الدعوة على مصلحته الشخصية
جاء
في وصف الشيخ حسن عبد الرحمن للمجاهد أنه لا يستريح ولا يعرف للراحة طعماً إلا
بالحركة الدائبة بهذه الدعوة ولهذه الدعوة فهذا شاعر الدعوة المعاصرة عمر بهاء
الدين الأميري وهو في جناح طب القلب موصول الصدر إلى جهاز المراقبة الإلكتروني
يسأله الطبيب عن استراحته فيرد عليه بقهم يختلف عن فهمه :
كلا رويدك يا طبيب وقد سألت أما استراح؟
هل يستريح الحر يوقر
صدره العبء الرزاح؟
انظر
إلى الإمام حسن عبدالرحمن رحمه الله تعالى وهو يضرب المثل لأتباعه في بذل الجهد
والتضحية بكل شيء، زار ثلاثة آلاف قرية من أربعة هي مجموع قرى القُطر المصري بل
استقال من وظيفته ليتفرغ لواجبات دعوته، وكان ينام في أسفاره ليدِّخر الوقت
لأتباعه وقد ضحى براحته وكان يتمثل قول الإمام أحمد ابن حنبل :من أراد الراحة ترك
الراحة .
4ـ خفيف النوم
يقول ابن القيم : }لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى ولكن كن خفيف النوم
فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح { .
فهنا
يبين ابن القيم حتمية النسيان على ابن آدم والغفلة الآنية ولكن صاحب الدعوة الذي
عاهد الله على المضي في هذا الطريق لا تعيقه أشواكه أو عوائقه لا ينبغي أن تكون
غفلته طويلة أو رقاده عميقا، فمن تذر أن الموت آت وهو أقرب مما هو يتوقع وأيقن أن
الصباح قد دنا له أن يستيقظ من الهوى الذي مال له قلبه قبل أن يتحول إلى نوم عميق
فلا يستطيع الاستيقاظ إلا بعد طلوع شمس يوم القيامة .]الفوائد لابن القيم[. ويأتي عطاء ابن أبي رباح رضي الله عنه : فيقول }لأن أرى في بيتي شيطانا خير من أن أرى فيه وسادة لأنها
تدعو إلى النوم { ]البداية
والنهاية[
5ـ يقهر الأعذار
القرآن
الكريم يحدثنا عن صِنف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدون ما ينفقون ولم
يُقعدهم ذلك عن الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم للجهاد معه، قال
تعالى }وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ
لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92){]التوبة[.
وهاهو
عمرو ابن الجموح وقد حاول أبناؤه أن يقعدوه عن الخروج لمعركة أحد يقول لهم :إن
الله قد استنفر الخفيف والثقيل فقال تعالى:} انْفِرُواْ خِفَافاً
وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41){ ]التوبة[.
وها
هو عبدالله بن أم مكتوم صاحب الهمة العالية الذي أنزل الله عذره من فوق سبع سماوات
يأبى إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولم يعجز أن يجد له دورًا يتناسب مع قدراته لينصر
دين الله جل وعلا ، فكان يغزو يقول : ادفعوا لي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر
وأقيموني بين الصفين ]أخرجه
ابن سعد في الطبقات الكبرى[ .
وفي
السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع الفرس معركة
فاصلة تديل دولتهم، وتزيل ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فكتب إلى عماله
يقول: لا تدعوا أحدًا له سلاح، أو فرس، أو نجدة، أو رأْي، إلا انتخبتموه ثم
وجهتموه إليَّ... والعَجَل العَجَل - السرعة - وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء
الفاروق، وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب ، وكان في جملة هؤلاء المجاهد المكفوف
البصر عبد الله بن أم مكتوم ,فأمر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن أبي وقاص
وأوصاه وودعه ، ولما بلغ الجيش القادسية برز عبد الله بن أم مكتوم لابسًا درعه،
مستكملاً عدته، وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها، أو الموت دونها ، والتقى
الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة، واحترب الفريقان حربا لم يشهد لها تاريخ
الفتوح مثيلا حتى أنجلى اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين فدالت دولة من أعظم
الدول، وزال عرش من أعرق عروش الدنيا، ورفعت راية التوحيد في أرض الوثنية، وكان
ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء، وكان بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم،
فقد وجد صريعًا مضرجًا بدمائه وهو يعانق راية المسلمين ]صور من حياة الصحابة بتصرف[.
وعن
أنس أن عبد الله بن زائدة وهو ابن أم مكتوم كان يقاتل يوم القادسية وعليه درع
حصينة سابغة ]أخرجه
ابن سعد[.
هكذا
نرى أصحاب الدعوات في كل عصر يأخذون أنفسهم بالعزائم ويحرصون على أداء الواجب
والمشاركة فيه مهما كانت الظروف .
6ـ المسارعة إلى إنجاز التكاليف وفعل الخيرات
يقول
الله تعالى:} وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114){ ]آل عمران[ .
يقول
الإمام القرطبي :]يسارعون
في الخيرات التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين[ لا يسمى الداعية صاحب همة حتى توجد فيه هذه الصفة.
وفي
هذه الصفة شبهة نوردها:ـ
لعل
مثبطا في صفوف الدعوة يثبط أصحاب هذه الصفة أو الجدد المنتمين لهذه الدعوة ليبرر
فقدان هذه الصفة فيه فيردد قول الرسول صلى الله عليه وسلم }التأني من الله والعجلة
من الشيطان { ]رواه
البيهقي وحسنه الألباني[.
فعلى
أصحاب هذه الصفة ألا ينخدعوا بشبهة ذلك المثبط وأن يكون لديهم الوضوح في الفرق بَيِّن
في أمور الدنيا والعجلة في أمور الآخرة فالتأني مطلوب في أمور الدنيا بينما لا يُطلب
في أمور الآخرة ويُصَدِّق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم }التؤدة في كل شيء خير
إلا في عمل الآخرة{ ]أخرجه
أبو داود والحاكم وصححه الألباني[.
وفي
أمور الدعوة قص علينا القرآن الكريم قصة هذا الرجل الذي جاء من أقصا المدينة قال
تعالى :} وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى
قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20){ ]يس[.
لا
يهم من هذا الرجل ولا تلك المدينة ولكن الأهم تلك الصفة المقتطفة من ثنايا الآية
الكريمة وهي سرعة الاستجابة لدعوة الرسل الاستجابة العملية فما أن استجاب لهذه
الدعوة حتى جند نفسه جنديا لهذه الدعوة دون أن ينتظر دافعا خارجيا وإنما جاء يجري
ليدعو الناس لهذه الدعوة التي آمن بها..
يقول
صاحب الظلال رحمه الله: }إنها
استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق
المستقيمة فيها الصدق والبساطة والحرارة واستقامة الإدراك وتلبية الإيقاع
القوى للحق المبين ،فهذا الرجل حينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة
في ضميره فلم يطق عليها سكوتا ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله ،
والجحود والفجور ولكنه سعى بالحق الذي
استقر في ضميره وتحرك في شعوره{.
هذه
الاستجابة السريعة من ذلك الرجل نبعت من معرفة حية لهذه الدعوة وليست معرفة ميتة
ولكي تتم الاستجابة السريعة لا بد من معرفة هذه الدعوة معرفة فيها حياة والحياة
تعني الحركة وليست معرفة جامدة ميتة كالتي قال عنها الإمام الحسن البصري (لا تكن
شاة الراعي أعقل منك تزجرها الصيحة وتطردها الإشارة).
إذن
فصاحب القلب الحي تكفيه الإشارة يفكر يبتكر يقترح يسعى لسد الثغرات من تلقاء نفسه
لا يجلس منتظرا من يحركه بل يسعى سعى الرجال للدعوة . تجد هذا الصنف من الناس أول
الناس تطبيقا لما يُؤْمَر به من خير ، أول الناس حضوراً لأعمال الخير، أول الناس
حرصاً على أعماله التربوية، أول الناس عملاً بالنصيحة، كل ذلك لأنه يرجو ثواب الله
ومغفرته ورضوانه يمتثل قول الله تعالى }وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (134){ ]آل عمران[.
7ـ الهمة العالية
هي
الطاقة الكامنة التي تحرك الإنسان لفعل عظائم الأمور ويكون ذلك في أمور الخير وفي
هذا يقول ابن الجوزي}من
علامة كمال العقل علو الهمة والراضي بالدون دنيء {.
وميزان
تقويم الرجال بالهمم كما قال ابن القيم }إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور {.
والمطالب
العالية لا تنال إلا بالهمة العالية والنية الصحيحة ولهذا يقول ابن القيم }لمطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة
فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه{ .
فيا
من كانت الجنة مطلبه وقد حفت الجنة بالمكاره (حفت الجنة بالمكاره ) والدعوة همه
وقد حفت الدعوة بالمصاعب والآلام أين همتك ؟ وأين عزيمتك ؟
يامن
تحملت الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها !! لا تتوار ولا تنسحب ، بل سر مع الهمم العلية ، سيروا
مع اصحاب الهمم :(كأمثال أنس ابن النضر الذي صاح بأصحابه يوم أحد وقد ألقوا
بأيديهم فقال : ما تنتظرون ؟ فقالوا : قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما
تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ثم قال :اللهم إني
أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين
ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال :أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس : واهاً لريح الجنة يا
سعد إني أجده دون أحد ثم مضى ،فقاتل القوم حتى قُتل ، فما عُرف حتى عرفته أخته بعد
نهاية المعركة ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم .
وللداعية
صاحب الهمة العالية صفات عظيمه نذكر منها الآتي:
أ. القدوة
أي
أن يكون قدوة يقتدي به وما هي بالمرتبة الهينة البسيطة إنما هي المنزلة العالية
ولذلك كان من دعاء المؤمنين قال تعالى }:وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74)}]الفرقان[. ومرتبة الإمامة لا يصلها إلا من هيأ نفسه لمرتبة القدوة.
ب . الحرص على انتشار
الدعوة
والداعية
عالي الهمة يسعى لأن يكون للدعوة في كل موطن مركز وفي كل حي ركيزة يبكي إذا مر على
ربع خال من الدعوة فيأبي إلا أن يشحذ الهمة ويعمل لكي يوجد الركيزة وهكذا يكون
للدعوة في كل بقعة صوت يحمل صوت الحق.
ج . الصبر على مشاق
الدعوة
والداعية عالي الهمة يصبر على مشاق الطريق وابتلائه فيه وطوله كما صبر قبله الدعاة وقد يشق على نفس الداعية ألا يستجيب له أحد طويلاً لكنه عليه أن يعلم أنَّ ليس عليه هداية الناس إنما عليه دعوتهم ويجب عليه ألا يستصعب هذا الطريق فهو الأسلم والأصوب إن شاء الله وإن كان صعبا على النفس .
د ـ الداعية وقف لله
تعالى
فالداعية
لا يملك نفسه حتى يُسَوِّغُ له أن يمنح نفسه أجازه وإنما هو كما شَبَّهَهُ البعض ]وقف لله تعالى[ فكل داعية موقوف لله في جزء من أجزاء دعوة الله.
8ـ الاهتمام بما يحدث للدعوة والدعاة
يقول تعالى}وَجَاء
رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
]القصص[.
يقول
الشيخ السعدي : أى ركضا على قدميه من نصحه لموسى وخوفه أن يوقعوا به ) فهو لم يكتف
بالتأثر عند سماعه علية القوم يخططون لمقتل موسى عليه السلام إنما دفعه الاهتمام
بمصير الدعوة عند مقتل الدعاة أن يتحرك بأقصى ما يستطيع ليفعل شيئاً أى شيء لإفشال
هذا المخطط ولترجمة ذلك الاهتمام إلى واقع ملموس .
9ـ الاستمرارية في الدعوة
وهي محصلة الصفات التي سبقتها فما الصفات
السابقة إلا عوامل مساعدة للاستمرارية في الحركة ،وتكاد تكون هذه الصفة هي السمة
الرئيسية لرواد الحركة الدائبة فليس مُهِمًّا لديهم كمية العمل الذي يؤدونه بمقدار
الاستمرارية في أدائه وهذه الصفة هي من أحب الأعمال لله سبحانه وتعالى يقول الرسول
صلى الله عليه وسلم :}أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل { ]أخرجه البخاري ، ومسلم[.
يقول
الشيخ المناوي:(أدومها أي أكثرها ثوابا أكثرها تتابعا ومواظبة ) فهي مواظبة على
النوافل دون انقطاع وهي متابعة للعمل في الدعوة مع الجديد المتحمس ومع القديم
الكسول ومع الرواحل خوفا عليهم من الزلل أو الاجتهاد .
هكذا استمرار دائم في الحركة دون ملل أو كسل ، الناظر إليه من علو يراه كالنملة لا تقف أمام العوارض التي في الطريق ولا تحتقر نفسها أمام ضخامة تلك العوارض فإنها تحاول جرها فإن لم تستطع أخبرت جماعتها فتساعد الجميع لإزالة ذلك العوارض .
العنصر الخامس
صور مشرقة في الهم بالدعوة
إن
أول المهمومين بالدعوة والمنشغلين بها هو النبي صلى الله عليه وسلم فكان يعرض نفسه
على القبائل في مواسم الحج والأسواق ربما يجد من يقبل دعوته ولا يكل ولا يمل ولا
ييأس حتى قال لعمه أبو طالب يوم أن جاء يثنيه هن دعوته}والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري
على أن أترك هذا ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه {وسيرته صلى الله عليه وسلم مليئة بذلك .
ويأتي من بعده أصحابه
رضوان الله عليهم فهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عليه ما هدأ له بال حتى قضى على
حركة الردة ومانعي الزكاة وكانت له قوله
مشهورة سمعت بها الجزيرة العربية }يا
سبحان الله أينقص الدين وأنا حي {.
وهذا
عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الجمعة فعرض في خطبته أنه قال : يا سارية الجبل
من استرعى الذئب ظلم فالتفت الناس بعضهم إلى بعض وتعجبوا لذلك ولما انتهى .
فسأل على رضي الله عنه عن ذلك فقال عمر
رضي الله عنه وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبا أكتافهم وأنهم بجبل فإن
عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا وظفروا وإن جاوزوا هلكوا فخرج ما تزعم أنك سمعته، فجاء
البشير بالفتح بعد شهر فذكروا أنه سُمِع في ذلك اليوم وفي تلك الساعة حين تجاوزا
الجبل صوتا يشبه صوت عمر : يا سارية الجبل فعدلنا إليه ففتح الله علينا ) هكذا كان
ولي الله عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إذا سار المجاهدون إلى وجهتهم سار رضي الله
عنه بقلبه وتفكيره أينما حلوا حتي كان وهو في المدينة يُتابعهم على البعد بروحه
الصافية وقلبه المشرق بنور الله يحس بما هو فيه وما يحتاجون إليه ويرشدهم وهو في
المدينة إلى ما ينفعهم وهم في أقصى العراق إنه مؤمن صح إيمانه وهم مؤمنون صح
إيمانهم فلا بد أن يضيء الله بصائره ويفي لهم بوعده تفضلا وتكرما دون إلزام عليه
سبحانه، سلمت محطة الإرسال وسلمت محطة الاستقبال فإذا ما هتف عمر في المدينة بنداء
تجاوبت أصداء النداء بجنبات العراق ولبى المجاهدون النداء.
وهذا
مصعب ابن عمير رضي الله عنه الذي هاجر إلى المدينة بأمر من رسول الله صلى الله
عليه وسلم فترك الوطن والأهل والمال وبذل كل وقته سعياً بين الأوس والخزرج داعياً
إلى الله على بصيرةٍ وبحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، فمهد لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
وصحبه فكان خير سفير وعاد باثنين وسبعين رجلاً وامرأتين إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد أن آمنوا خلال عامٍ واحدٍ قضاه .
والأمثلة
في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصى يكفينا ذكر ما سبق ..
ومن حياة التابعين الإمام أحمد ابن حنبل رحمه تعالى : قال علي بن المديني :
"ما قام أحد في الإسلام بمثل ما قام به أحمد بن حنبل" . قال الميموني
وكان حاضرا : تعجبت من قول علي بن المدينى
هذا عجبا شديدا وقلت له أبو بكر رضي الله عنه قام بما قام به وجاهد في الله وصبر
وصابر وحارب المرتدين فكيف يقول علي بن المديني ما قام أحد في الإسلام بمثل ما قام
به أحمد بن حنبل ! قال الميموني : فلقيت أبا عبيد القاسم بن سلام فقلت له ذلك ،
فقال : إذا يخصمك علي بن المدينى ، قلت : بأي شيء هذا . قال : إن أبا بكر رضي الله
عنه قد وجد على الحق أنصاراً وأعوانا , أما الإمام أحمد فإنه لم يجد على الحق
ناصرا ولا معينا .
ثم
أقبل أبو عبيد يطري الإمام أحمد ويثني عليه ويقول لست أعلم في الإسلام مثله .. نعم
, لم يكن أحمد بن حنبل في وقته إلا إماما فريدا قام بأمر ما قام به غيره ، ولا
يعني هذا نسيان فضيلة أبي بكر رضي الله في محاربة المرتدين وفي جهادهم وفي الصبر
وفي إحياء الدين يوم كاد أن يندرس في جزيرة العرب ، وإنما كان الإمام أحمد على
منوال أبي بكر ينسج وبهديه يهتدي.
وقال
بشر بن الحارث وقد سئل عن الإمام أحمد بن حنبل فقال : أنا أسأل عن الإمام أحمد ؟! إن أحمد بن حنبل أُدخل
في الكيـر فخرج ذهبا أحمر ، أُدخل في المحنة ، أُحرق بالنار فصبر وصابر حتى خرج
ذهبا خالصا نقيا وزال منه كل غش فيه لعشرين سنة .
وقال
عبد الوهاب الوراق : عشرين سنة والإمام أحمد يتقلب في نيران المحنة حتى خرج منها
كما خرج إبراهيم من نار النمرود { قُلۡنَا يَٰنَارُ
كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ (69) وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا
فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ (70) }] الأنبياء[ .
خذوا إيمان إبراهيم
تنبت ~~~~~ لكم في النار جنات النعيم
ضُرِب
الإمام أحمد وحبس في عهد المأمون ، وسجنه في آخر أيامه , ولكن مات المأمون قبل أن
يصل إليه الإمام أحمد وكان قد أُشخص إليه ،وقيل إن موته بدعوة من الإمام أحمد ,
فإن بعض حاشية المأمون خاف على الإمام أحمد وحملته الغيرة فجاء متسللا إلى الإمام
أحمد وهو يمسح دمعه بطرف ردائه وقال له : يا إمام إن المأمون قد سل سيفا ما سله قط
، وإنه يحلف بالله تعالى إن لم تجبه لما أراد من القول بخلق القرآن ليقطعنك إربا ،
فرفع الإمام أحمد يديه إلى الله تعالى ودعا على المأمون فمات من ليلته , فما جاء
السحر إلا وقد ارتفعت الأصوات، وأوقدت النيران ونعي المأمون إلى الناس .
وفي
ذلك درس وعبرة ..
إن
هذا الرجل من الحاشية هو كمؤمن آل فرعون ، يغار على الإمام أحمد ويحبه ، ولكنه لا
يستطيع أن يصنع شيئا كثيرا ، هو من حاشية الخليفة ومن أعوانه ومن المقربين منه
وربما جامله بعض الشيء ، ولكنه أسر إلى الإمام أحمد بهذا الخبر , وهكذا يكون
المؤمن الصابر الذي قلبه مع أهل الخير وأهل الإيمان وأهل التقوى , إن لم يستطع أن
ينفعهم علانية، نفعهم سرا ولو بالنصيحة بينه وبينهم أو بالموافاة بـما يكاد لهم { وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ يَسۡعَىٰ
قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلۡمَلَأَ يَأۡتَمِرُونَ بِكَ لِيَقۡتُلُوكَ فَٱخۡرُجۡ
إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ (20) }] القصص[. ولما حمل الإمام أحمد للمأمون سأله رجل عن حديث وقال : يا إمام
ما تقول في حديث كذا وكذا ؟ والإمام أحمد مثقل بالحديد في رجليه والقيود في يديه ,
فالتفت إليه الإمام أحمد وتبسم وهو يقول ويتمثل بقول الشاعر
رويدك حتى تنظري عما
تنجلي ~~~ عماية هذا العارض المتألق
أي
انتظر حتى ينجلي هذا الأمر ، نعم لقد انجلى هذا الأمر عن طيب معدن الإمام أحمد
وصلاحه وأنه ممن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى ، وآثر الحياة الآخرة على
الدنيا فجعل الله تعالى له الدنيا والآخرة .
مات
المأمون وجاء المعتصم , وكان جاهلاً لا يعرف شيئاً ولكنه مشى على سنن من كان قبله
ووجد الإمام أحمد محبوسا ، فزاد في حبسه وقيده وضَرَبَه وأهانه ، وكان يقف عليهم
بنفسه، ويأمرهم بضربه حتى تتقطع أيدي الجلاد من شدة الضرب حتى قال أحدهم : والله
لقد ضربت أحمد مائة سوط لو كانت على فيل لانهد ، وكانوا
يتعاقبون عليه والإمام أحمد رجل قد بلغ من السن ما بلغ وهو ضعيف الجسم كثير
الصيام , يسرد الصوم بل ربما واصل أياما , ومع ذلك ربما ظل صابرا، وهو يُضرب
ويتقلب تحت السياط ويتلوى ويعرضون عليه الفطر فلا يفطر ويقول : إني أقوى ، يأتيه
الخليفة فيقول له : يا أحمد والله لولا إني وجدت من قبلي قد حبسك ما صنعت بك شيئاً
, ثم يقول والله يا أحمد لئن أجبتني إلى ما أريد أن تقول بأن القرآن مخلوق لأطلقن
عنك القيود بيدي ولأركبن إليك بجندي ولأطأن عقبك ، يا أحمد والله إني عليك لشفيق
وإني لك محب , والله إنك عندي مثل ولدي هارون فأجبني إلى ما أريد حتى أطلق عنك
وأكرمك ... إلى غير ذلك . فاستخدموا معه أسلوب القوة والقسوة والضرب ، ثم أسلوب
الترغيب والإشفاق والتعبير عن المشاعر ، فكان الإمام أحمد لا يزيد في هذا ولا في
ذاك على كلمة واحدة "هاتوا لي دليلا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ما تذهبون إليه وتقولون" ، ما عنده إلا هذا الكلمة . إنها
قضية كبيرة , لا مزايدة في المبادئ , والدين ليس فيه مجال للمساومة والبيع والشراء
أو الالتقاء في منتصف الطريق ، الدين حق واضح يؤخذ من القرآن والسنة، ولا يزيد
أهله بإيذائهم وضربهم وحبسهم والوقوف في سبيلهم إلا صبرا وثباتا .
أهل
العقائد على مدار التاريخ - حتى ولو كانت عقائدهم باطلة - كل ما أوذوا وحوربوا كان
ذلك دفعة لهم للأمام وتقوية لعزائمهم وتصبيرا لهم وحفزا لهمهم , فكيف إذا كانوا
أهل الحق الذين ينطقون عن القرآن والسنة ويقتدون بهدى المرسلين ؟
إنهم
يقرءون ويسمعون قول الله تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3) }] العنكبوت[وقال تعالى{وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ (11) }]العنكبوت[ .
إذا
هذه الفتن والمحن لا تزيد المؤمنين إلا صبراً وإصراراً وثباتاً على دينهم ،فالحق
أعز من كل عزيز ، وأحب من كل حبيب ، وفي سبيل الحق تطير الرؤوس ، وفي سبيل الحق
يقدم الإنسان راحته وسعادته.
وفي
عهد الواثق بعدما مات المعتصم تغيرت الأمور وهدأت الفتنة ، ولكن الواثق فرض على
الإمام أحمد الإقامة الجبرية في بيته ، وكان المعتصم قد أطلقه وندم على ما كان منه
، ثم فرض عليه الواثق الإقامة الجبرية في بيته فلا يخرج حتى إلى الصلاة !!
ثم
جاء بعد ذلك المتوكل فأكرم الإمام أحمد وعظمه ورفع عنه المحنة وأذن له بالتعليم
والتدريس ونشر علمه وفقه وحديثه وفتياه ، ومع ذلك فإن الأمر لم يسلم من المنغصات ،
فمع أن المتوكل أكرم الإمام أحمد واحتفى به ولقيه مرات وطلب منه أن يَشْخَصُ إليه
فاستقبله في بغداد وأسكنه ببيت فخم , وكان يُغْدِى عليه بالموائد والهدايا،
والإمام أحمد لا يأخذ شيئا من ذلك ولا يأكل منه شيئا ولا يقربه بل ينهى من حوله عن
ذلك كله، وقد رضي وقنع باليسير والزهيد فكان يأكل من ماله الخاص . فحينئذ قال قائل
للخليفة : إن هذا الرجل لا يأكل لك طعاما ولا يشرب لك شرابا ولا يجلس لك على فراش
، بل هو يحرم ما تشربه فلماذا لا تتخذ منه موقفا ؟! هذا تقرير رجال الأمن للخليفة
في ذلك الوقت , فماذا قال الخليفة ؟ لم يلتفت إلى هذا التقرير ولا أعطى رجال الأمن
هذه الأهمية ولا اعتبر أن تقريرهم هو القول الفصل في شأن الإمام أحمد ولا في غيره
, بل قال قولةً مدوية صريحة , قال : "والله لو نشر المعتصم - يعني أخرج من
قبره بعدما مات - وكلمني في الإمام أحمد ما قبلت منه شيئا ، الإمام أحمد له من
قلبي مكانة رفيعة ، لا أقبل فيه قول قائل" .
ما
سكتت الوشايات عند هذا الحد , فقد جاءه رجل من المغرضين وقال له : إن أحمد وإن كان
يتظاهر بالدين والصلاح والعلم والفقه إلا أن الأمر بخلاف ذلك ، قال له : ما الخطب
؟ قال له صاحب التقرير الأمني الثاني : إن أحمد يخطط لقلب نظام الحكم ويسعى إلى
الوصول إلى السلطة وأن هناك وثائق تدل على ذلك !! ما هي الوثائق ؟! يقول التقرير
الأمني الذي ذكره غير واحد من المؤرخين ، قال له : إن الإمام أحمد قد آوى بعض
العلويين من نسل علي بن أبي طالب في بيته وأنه يُبايَع له في السر! إذاً نحن أمام
دعوة عريضة تعتمد على أمر موجود في بيت الإمام أحمد ، رجل علوي يبايع له بالسر
بالخلافة . فحينئذ أصاب الخليفة ما أصابه لأن هذا تقرير أمني يفترض أنه مبني على
حقائق ومعلومات ودراسات ، وليس على تخمين أو ظن ، ولهذا فوجئ أحمد، وأهل بيته
وجيرانه، وإذا بمنـزله يُحاصَر في ساعة متأخرة من الليل - أو ساعة متقدمة من الليل
- فلم يشعر إلا والمشاعل والمصابيح تضاءُ على منـزله ومنازل الجيران أيضا من أجل
ضمان أن لا يتسلل أحد من المنـزل , وتحيط بالدار فرق التفتيش والدوريات وقوات
الطوارئ وغيرها ،وإذا الناس والأجهزة الأمنية حتى من فوق السطوح .. فماذا وجدوا ؟
انظروا البساطة : أحمد رحمه الله جالس القرفصاء وعنده زوجته وأولاده وهم يتناولون
طعام العشاء بكل هدوء وبكل بساطة مع الأولاد في جلسة عائلية ، فوجئ الإمام أحمد رحمه
الله بذلك : ما القصة ؟ قالوا : عندك رجل علوي . قال : فتشوا . ففتشوا كل شيء حتى
خزائن الكتب والمطبخ وغيرها فما وجدوا شيئا ، فسألوه ، قال : والله ما عندي من هذا
علم وليس من هذا شيء ولا مثل هذا في نيتي وإنما هذا كذب علىٍّ .، فعرف الخليفة أن
الناس يكذبون عليه فلم يعد يقبل فيه كلاما بعد ذلك .
ويقول
أحد الدعاة في العصر الحديث: ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها
نستعرض حال الأمة وما وصلت في مختلف مظاهر حياتها ونحلل العلل والأدواء ونفكر في
العلاج وحسم الداء ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء وكم كنا نعجب
إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة والخليون
هاجعون يتسكعون بين المقاهي ويترددون على أندية الفساد والإتلاف ، فإذا سألت أحدهم
عما يحمله على هذه الجلسة الفارغة المملة قال لك : أقتل الوقت وما درى هذا المسكين
أن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه فإنما الوقت هو الحياة كنا نعجب لهؤلاء الناس
وكثير منهم من المثقفين ومن هم أولي بحمل هذا العبء ثم يقول بعضنا لبعض : أليس هذا
داء من أدواء الأمة ولعله أخطرها ألا تفكر
في مرضها وألا تعمل لعلاج نفسها .ولهذا وأمثاله نعمل ولإصلاح هذا الفساد وقفنا
أنفسنا فنتعزى ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه والعاملين لدينه).
العنصر السادس
عوائق الانشغال والاهتمام بالدعوة
هذه
العوائق تتعلق بالدعاة تجعلهم يتقاعسون ويتكاسلون في القيام بالدعوة وهذه العوائق
كالآتي ...
1ـ حب الدنيا
المحب
للدنيا لا يمكن أن يكون في قلبه حب لله تعالى، هذا ما جزم به الإمام ابن القيم :}لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل
الجمل في سم الإبرة{ فما دام لا يوجد في قلبه حب الله كيف يتحرك من أجله ، ومن أهم
أسباب المتعلقة بهذا العائق ....
أ. الخوف على الزوجة
والأبناء
يخشى إن تحرك تلك الحركة الدائبة
أن ينكشف لأعداء الدعوة فيؤذون بذلك الزوجة والأولاد ، فيكتفي بالقليل من العمل مع المحافظة
على أصول العبادات خوفا من الفتنة ، أو أنه ينشغل بتجميع المال والجري وراء تحصيله
لكي يُؤَمِّن جزءاً من المال بعد موته لزوجته وأبنائه، هذا الشعور الشيطاني يدعوه
لترك تلك الصفة خوفا من الانشغال بالدعوة عن تأمين مستقبل الأبناء كما يعتقد.
ب . الخوف من فقدان
المنصب
يخاف أن يفقد ذلك المنصب الذي فُتِن
فيه إن اشتغل في أمور الدعوة وتحرك تلك الحركة فيكتفي بلقاءات عامة للدعوة أو
اتصال من بعيد يوشك أن ينقطع .
ج . شعاع جمال الزوجة
يُبْهِرُه شعاع جمال الزوجة فيُفتن بجمالها مما
يجعله يستسلم لتأويلات الشيطان عندما يَسْتشهد له بالأحاديث الصحيحة }إن لزوجك عليك حقا {، فيفسر ذلك الحق أنه البقاء الدائم معها
وتلبية طلباتها وينسي شطرا من الحديث }إن لربك عليك حقا{ أو
أنه يُفسر حق الرب فقط في الصلوات المكتوبة والصيام والزكاة وحج البيت فيخشى إن
انشغل بالدعوة وتحرك لها تلك الحركة أن يقصر في واجب الزوجة فيأثم أو يهزأ به
الأقارب ويتهمونه بأنه ليس امرأً كفؤاً للزواج وأنه لا يعرف مسئولياته أو أنه يفقد
رضا الحبيب وهو غير مستعد، لكل ذلك ينسى أن هذه النوعية من الزوجات والأبناء الذين
يُعِيقون الدعاة في أداء رسالتهم ويَسلبون منهم تلك الحركة الدائبة المباركة
ليحيلوهم إلي خشب مسندة ينسى أن الله يسميهم (أعداء) ويطلب منا الحذر منهم بقوله
تعالى :}إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ (14) } ]التغابن[.
أورد الإمام الطبري عن عطاء بن
يسار قوله :}نزلت
في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا ورققوه فقالوا:
إلى من تدعنا ؟ فيرق فيقيم فنزلت :} يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ (14) }]التغابن[ .
ويقول القاضي أبوبكر بن العربي :}هذا يبين وجه العداوة فإن العدو لم يكن عدواً لذاته ، وإنما
كان عدواً بفعله فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً ولا فعل أقبح من
الحيلولة بين العبد وبين الطاعة{
2ـ استطالة الطريق
فيرى أن الدعاة مضطهدون في كل مكان
وليس للإسلام دولة. والمحاولات كثيرة لإرجاع دولة الإسلام ولكن لا نتيجة، وقد طال
ليل الظالمين هذا الشعور يجعله يستبطئ النصر فتخفف حركته رويدا حتى يبرد بسبب
اليأس ويترك ذلك التحرك الدائب الذي بدأه عندما كان يعتقد بقرب النصر ، وهذه
النوعيات من الدعاة ليست وليدة الحركة الإسلامية المعاصرة، فقد وجدت في عهد الإمام
ابن القيم وبسبب العمق التربوي للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جعله يؤكد أن أحد
أسباب ومعوقات التحرك الدائب هو استطالة الطريق إذ يقول :}من استطال الطريق ضعف مشيه{ ولكن بسبب اختفاء الخلافة في العصر الحديث وازدياد اضطهاد الدعاة
بسبب محاولاتهم إعادة الحكم الإسلامي وضراوة العداء للدعوة كل ذلك يجعل هذا العائق
أوضح في عصرنا الحديث من عصر الإمام ابن القيم ولكنه ليس ظاهرة منتشرة بين دعاة
الحركة وذلك لوعي قادة الحركة بهذا العائق والمسارعة بوضع العلاج ، فهذا سيد رحمه الله أحد قادة
الدعوة يشعر بهذا العائق الذي قد يتسرب إلى بعض فئات الشباب الإسلامي فيُخاطبهم
بروح المستبشر والمتيقن بوعد الله بأن عمر الظالمين الطغاة قصير مهما طال ليلهم
فلا بد من شروق فجر الدعوة ليرد ذلك الظلام الحالك :
أخي ستُبيد جيوش
الظلام ويُشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك
إشراقها تر المجد يرمقنا من بعيد
ثم
شعور آخر يجب أن يضيفه ذلك الأخ المتباطئ إلى الشعور بقصر عمر الظالمين وظلمهم وهو
أن الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا النتائج إنما طلب منا العمل ولا نعلم إن
كنا سنرى النتيجة في حياتنا أم يؤخرها الله لخلل في الصفوف يحتاج إلى إصلاح أو
لحكمةٍ أخرى لا نعلمها، الله يعلمها فتسبق منيتنا أيام النصر فلا نراه.
3ـ السكون والخمول
وكان
الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في كثير من الأحاديث الصحيحة يتعوذ من العجز
والكسل لخطورتهما على الداعية في إعاقته عن الحركة حتى يصل به الأمر إلى الشلل
الحركي الكامل .
والكسل
هو :} التثاقل والتراخي مما ينبغي مع القدرة أو عدم انبعاث النفس لفعل
الخير، والعاجز معذور والكسلان لا { ، ومع أن ذلك الهارب من الحركة ما ابتعد إلا
ابتغاء للراحة إلا أنه يفقد تلك الراحة التي نَشَدَ إما بسبب زيادة الراحة التي
تجلب التعب عادة أو لانشغاله بأمور دنيوية
تجعله يلهث وراءها حتي تتعبه فيفقد الراحة التي أراد وفي ذلك يقول الإمام
الأصفهاني :}من
تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة فحب الهوينا يكسب التعب وقيل :إن أردت ألا
تتعب فاتعب لئلا تتعب {
فالذي
ينغمس في العمل الدعوي في الغدو والرواح ينسي التعب لأنه يستلذ تلك الحركة فتنسيه
التعب، فالسعادة ليست بالسكون والخمود، وليست في الابتعاد عن الجهاد ،وليست في
اللقمة التي تأتيك نظير حرق البخور في طرق الطغاة ، وليست في العيش مع القطيع تعشق
الذل وتكره أن تقود، وإنما السعادة في خدمة دين الله عز وجل والتحرك السريع
والدائب الذي فيه منافسة لحركة النمل والنحل من أجل نصرة دينه سبحانه وتعالى .
4ـ الجهل
والجهل
نوعان :- أ. جهل بمعني عدم العلم بقضية معينة .
ب.
جهل بمعني عدم استشعار تلك القضية مع علمه بتفاصيلها أو هو بمعني أدق : التبلد
الحسي.
لذلك
لا يجد شيئا يدفعه للعمل لتلك القضية فيبقي محبوس الجهل فاتراً عن التحرك الدائب
حتى يمن الله عليه بيقظة لقلبه إذا ما رأى منه عزيمة لعلم ذلك ، أما إن استمر في
التبلد أولم يبذل السبب للتعلم ظل جامدا ما شاء الله تعالى ...
5ـ التعويق الخارجي
والأجساد المتحركة لا تتوقف إلا بمؤثر داخلي أو خارجي فإذا افترضنا خلو تلك الأجساد من المؤثرات الداخلية المسببة للتوقف بَقِيَ أن نعرف المؤثرات الخارجية التي أبطأت أو أعاقت أو أوقفت تلك الأجسام المتحركة ، وكما أن هذه النظرية تنطبق على الجمادات فإنها تنطبق على البشر تماما ، ومن واقع تاريخ الدعوة من عهد الرعيل الأول إلى عهدنا هذا يتبين أن كثيرا من المفتونين والمبتعدين عن صفوف الدعوة إنما أبعدهم أو أبطأ بهم ذلك التأثير الخارجي على أجسامهم التي كانت متحركة، والقرآن الكريم فضح هذا الصنف من الناس وجعلهم في صف المنافقين لأنهم يكونون داخل الصف وينخرون فيه بتثبيطهم وتعويقهم وتبطيئهم.
أ. المبطئ
يقول
الله تعالى :} وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن
لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ
عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) } ]النساء[.
يقول
الإمام القرطبي :( والتبطئة والإبطاء :
التأخر تقول : ما أبطأك عنا فهو لازم ويجوز بطأت فلانا عن كذا أى أخرته فهو متعد
والمعنيان مراد في الآية فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم) يحذرنا القرآن
الكريم من هذا الصنف أشد الحذر ليصفي بذلك صف الدعوة ولننطلق لبناء هذا الصرح الذي
هُدِم منذ أمد طويل فكل بُطْءٍ في عملية البناء معناه تأخير في قيام حكم الله الذي
يريد.
ب. المعوق
يقول
الله تعالى :} قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ
مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) } ]الأحزاب[ .
يقول الإمام القرطبي (والمعوق :المنع والصرف. يقال : عاقة يعوقه عوقا وعوقه وأعاقه بمعني واحد) وهؤلاء قد يكونون داخل الصف المسلم وقد يكون خارجه وهذه هي طبيعة الإعاقة فإنها لا تأتي من داخل الصف فقط إنما تكون خارجة بصورة أشد من جميع أعداء هذه الدعوة سواء كانوا من أهل الكتاب أو الملحدين أو من الذين غطي الران على قلوبهم من بني جلدتنا .
صور تعويق الانشغال بالدعوة والاهتمام بها
والتعويق يأتي بصور مختلفة منها :--
1- البيئة المثبطة : وجود
الفرد في بيئة مثبطة لا تعينه على انشغاله بالدعوة .
2- الشبهات : قال تعالى }قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) } ]الشعراء[. والشبه
التي تلفق للعاملين للإسلام كثيرة لنشر
البلبلة بين أبناء الصف الواحد.
3- الإغراءات : من
مال أو منصب أو بعض التسهيلات لبعض العاملين في حقل الدعوة بغية فتنتهم وهذا ما
فعلوه مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- التضييق : سواء تضييق من
جهة الوظيفة ، ومراقبة المساجد والتجمعات الدعوية وغير ذلك من أشكال التضييقات .
5- التهديد: قال تعالى :}لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} ]يس[.
6- التعذيب : كما
حدث مع الدعاة سابقا في السجون مما أدى
إلى انصراف كثير من الدعاة عن الدعوة.
7- القتل : وهذا آخر ما
يلجأ إليه أصحاب التعويق أعداء الدعوة عندما يشعرون بشدة الخطر على مراكزهم، أو
عندما ييأسون من الدعاة أن ينصرفوا عن دعوتهم.
ولابد لكل زمان ومكان يوجد فيهما دعوة للحق أن يكون لها معوقون ومبطئون من الداخل ومن الخارج ولا بد لأصحاب الحركة الدائبة من الوعي بتحركات هاتين المجموعتين والحذر كل الحذر منهما .
العنصر السابع
تنمية الهم والانشغال بالدعوة
1- الإيمان
الإيمان
أساس نشأة الهم والانشغال بالدعوة ،ولكي نُوجِد الإيمان لا بد أن تتوفر مقومات النجاح
في الفرد المسلم وهذه المقومات هي ..
ـ
أن يكون قوياً في جسمه .
ـ
أن يكون متيناً في أخلاقه .
ـ أن يكون مثقفاً في فكره .
ـ
أن يكون قادراً على الكسب .
ـ
أن يكون سليماً في عقيدته .
ـ
أن يكون صحيحاً في عباداته.
ـ
أن يكون مجاهداً لنفسه .
ـ
أن يكون حريصاً على وقته .
ـ
أن يكون منظماً في شئونه .
ـ
أن يكون نافعاً لغيره .
ولا
بد للداعية أن يعيش بهذه الأركان ]الفهم
،الإخلاص ،العمل ، الجهاد ،التضحية ،الثبات ،الطاعة ،التجرد ،الأخوة ،الثقة[ .
ويرى
الشيخ حسن عبدالرحمن رحمه الله تعالى: أن إقامة الدولة يعتمد أولا على الفرد
المسلم النموذج فنجده يتحدث عن الأمم الناهضة والمقومات التي يجب توفرها بين
أفرادها ، ولا يتم إلا بالتربية الشاملة الواعية وفي هذا يقول الشيخ رحمه الله تعالى في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس :]إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال،
ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على
الأقل، إلى "قوة نفسية عظيمة" تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق
إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع
ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه
والمساومة عليه، والخديعة بغيره[ ، فلا بد من تربية الإيمان لأن الإيمان هو المحرك والدفع إلى العمل والحركة .
2ـ الإحساس بالحاجة
إلى ضرورة الدعوة
أن
الدعوة هي الوسيلة للتمكين لدين الله في الأرض والذي هو واجب علينا وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب .
ولأن
كافة النظم عجزت عن تحقيق السعادة للبشرية ولن تسعد البشرية ولن تحقق ما تربو إليه
من الأمان والطمأنينة إلا في ظلال دعوة
الإسلام ، ولإزالة أي شبهات تثار حول الإسلام، وإقامة الحجة على الناس وتوصيل
الدعوة إلى من لم تبلغه، ولكي نُعْذَر إلى الله تعالى ، ونَنْجُو بأنفسنا من عقابه
، وأن يتضح للفرد حكم تبليغ الدعوة ، واستشعار فضل الله ومنته على الداعية ، واستشعار
سمو الغاية ونبل الهدف .
3- دراسة سير الدعاة السابقين ومطالعة أخبار
الصالحين .
4-
مصاحبة أولى الهمم العالية، والتحول إلى بيئة يجد فيها على الخير أعوانا .
5-
المبادرة والمداومة على أعمال الخير، وملء الفراغ.
(اغتنم في الفراغ فضل
ركوع فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير
سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة .
6-
تذكر البرزخ واليوم الآخر .
7-
أن يضع نصب عينيه فردية الحساب في الآخرة.
8-
التعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا: فالجهل بها أحد معوقات التحرك الدائب
إذ لا يكفي معرفة الاسم أو الصفة دون معرفة مدلولها ومعناها العميق مثل] الضار والنافع ،الخالق والرازق ،العلى الأعلى .....[.
9-
التفكر في نعم الله عز وجل علينا قال
تعالى }وَإِن
تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34){ إبراهيم.
وهذا
الإحساس يدفع المؤمن لأن يُضاعف من أعماله ليؤدي شكر الله تعالى على تلك النعم
التي أجزلها عليه .
10- فقه الوقت وفهم الأولويات
لابد
للمسلم أَنْ يفهم أنَّ لكل وقت عبادة تناسبه ، وإن لله عملٌ بالليل لا يقبله
بالنهار ولله عملٌ بالنهار لا يقبله بالليل، وأحيانا يأتي الشيطان يُلَبِّس على
الفرد عمله ويقول له أصلح نفسك واعبد ربك حتي يأتيك اليقين ، فيجلس في المسجد، ويتفرغ
للعبادة ، وهذا خلل كبير في الفهم وفي هذا يقول عبدالله ابن المبارك للفضيل ابن
عياض الذي كان يتعبد في المسجد الحرام وكان يلقب بعابد الحرمين في وقت كان
المسلمون في ساحة الجهاد ودماؤهم تراق.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في
العبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك
والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق
لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في
أنف امرئ
ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد
بميت لا يكذب
فلما قرأها الفضيل
ذرفت عيناه ثم قال:
"صدق أبو
عبد الرحمن ونصح".
11- عدم تصديق
المعوق والمبطئ والتي سبق ذكره .
12- التدبر في آيات
القرآن الكريم، وخاصة آيات البذل والحث على الجهاد لأخذ العبرة والعظة والعمل بما
فيها من توجيهات .
13- متابعة أخبار
المسلمين والاهتمام بأمرهم والسعي إلى مساعدتهم بكل الوسائل المتاحة .
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
رابط pdf
https://top4top.io/downloadf-2560vgcop1-pdf.html
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق