29 ديسمبر 2023

منهج الإسلام في المحافظة على الصحة العامة

 

الحمد لله رب العالمين .. اعتنى بصحة الإنسان , وبين أن العقل السليم في الجسم السليم حيث مدح ذلك في القرآن الكريم في وصفه لطالوت عليه السلام فقال تعالى : {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}[ البقرة] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير ..أنعم علينا بالنعم التي لا تعد ولا تحصي ؛ فقال تعالي {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله () أوصي بالاهتمام بالصحة وبين أنها من أعظم نعم الله تعالي علي الإنسان فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ({نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ}.[أخرجه البُخَارِي وأحمد والتِّرْمِذِيّ والدارِمِي وابن ماجة].
 فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون .
فإن الإسلامَ منهجُ حياة متكامل لجميع شؤون الإنسان: الاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، والفكرية، وغيرها.
ولقد خلق الله تعالي الإنسان مكون من جسد وروح، فبالجسد يتحرك الإنسان ويحس، وبالروح يدرك ويعي، ويحب ويكره، ولكل من الجسد والروح مقوماته ورغائبه ، فمقومات الجسد ورغائبه هي الطعام والشراب وغيرهما من الشهوات المادية واللذائذ الحسية، وقد تعرض الإسلام لهذه المقومات والرغائب بالتهذيب للمحافظة على صحة الأجسام، لذلك كان موضوعنا عن {منهج الإسلام في المحافظة علي الصحة العامة}وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية
1ـ نظرة الإسلام إلي الصحة .
2ـ منهج الإسلام في المحافظة علي الصحة .
3ـ الصحة نعمة تحتاج إلي شكر الله عز وجل .
العنصر الأول : نظرة الإسلام إلي الصحة :
الصحة في نظر الإسلام ضرورة إنسانية، وحاجة أساسية وليست ترفا، أو أمرا كماليا، ولحياة الإنسان حرمتها، ولا يجوز التفريط بها، أو إهدارها، إلا في المواطن التي حددتها الشريعة، قال تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة].
كما يستدل من قول الرسول (ﷺ) { كان فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا، فحز بها يده، مما رقأ الدم حتى مات، فقال الله تعالى: {بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة}[رواه البخاري ].
ومن يتأمل هدي رسول الله (ﷺ) ، يجده أفضل هدي يحفظ الصحة فإن حفظ الصحة موقوف على تدبير المشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون، فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن وظروفه ، [السن- محل السكن- السعادة] ، كان ذلك أقرب إلى دوام الصحة والعافية وحفظها وحمايتها.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده، من حديث ابن عباس قال، قال رسول الله (ﷺ): {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ }. [رواه البخاري].
 وأمر (ﷺ) أن يغتنم هذه النعمة قبل فوات وقتها، وأن يستغلها فيما يُصلح دينه ودنياه فيقول (ﷺ): {اغتنم خمساً قبل خمس، اغتنم شبابكَ قبل هرمكِ، وصحتكَ قبل سقمكٍ، وغناكَ قبل فقركِ، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك}. [أخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ].
 كما روى ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري قال: قال رسول الله (ﷺ) {من أصبح معافى ، في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها}[البُخَارِي ، في الأدب المفرد وابن ماجة والتِّرمِذي].
والأحاديث، الكثيرة في شأن الصحة والعافية لهي أكبر دليل على اهتمام الإسلام ورسوله الكريم بحفظ الصحة والعناية بها، ولهذه العناية مظاهر وشواهد وآثار.
العنصر الثاني : منهج الإسلام في المحافظة على الصحة العامة :
إن الإسلام الحنيف ينظر للإنسان علي أنه ذلك المخلوق المكرم، فاعتنى به، وشرع له من الأحكامِ ما يحفظ حياته، وكرامته، ويقيه مما يؤذيه ويؤذي صحته، وقد اهتم الإسلامُ بصحة الإنسان أيِّما اهتمام، تُلكم النعمة العظيمة التي وهبها الله للإنسان، فاعتنى بها، وذَّكر الإنسان بـأهميتها وعظيم شأنها ولقد تنوعت مظاهر الاهتمام بصحة الإنسان في الإسلام، فلم تقتصر الصحة على الجسد وحده بل تعدت إلى صحة العقلِ، والصحة النفسية، فأمَّا صحة الأبدان ومن أساليب الإسلام وتشريعاته ومبادئه التي جاء بها للمحافظة على صحة الإنسان:
1ـ الحث على النظافة والطهارة :
 اعتنى الإسلام بالنظافة عناية فائقة، واهتم بها اهتماما بالغا، وأولاها رعاية خاصة، وذلك لما للنظافة من أثر عظيم على صحة الأفراد والمجتمعات، وسلامة الأبدان ونضارتها، فهي عنوان المؤمنين، وسمة من سمات المسلمين، قال تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}[ البقرة] .
وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ({الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ}. [أخرجه أحمد والدارِمِي] .
فقد حث الإسلام على الاعتناء بنظافة البدن بصفة دائمة ،فأوجب الاغتسال عند حدوث الجنابة ، وبعد انقطاع دم الحيض والنفاس للمرأة ، كما سن الاغتسال أيام الجمع والأعياد ، وعند لبس الإحرام ودخول مكة والطواف .
عنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ: {مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ ، وَتَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ طُهُورَهُ ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ، وَمَسَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ ، وَلَمْ يَلْغُ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى}.[ أخرجه أحمد] .
كما أمرنا الله تعالى بأخذ الزينة والاعتناء بطهاة الثوب ، والتطيب وبخاصة في أماكن العبادة ، قال تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}[ الأعراف].
هذا عن طهارة البدن وأما عن طهارة الثوب فقد قال الله لنبيه (): {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}[المدثر].
عن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ الله (): {يَقُولُ: إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ , فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ , وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ , حتى تكون كأنكم شامة في الناس , فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلاَ التَّفَحُّشَ}. [أخرجه أحمد وأبو داود].
كما أمرنا بالمحافظة على طهارة المكان ، فعَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِى حَسَّانَ , قَالَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ : {إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ , نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ}[أخرجه الترمذي] .قال أبو عِيسَى التِّرْمِذِي : هذا حديث غريب.
ومن المحافظة على المكان إماطة الأذى عنه ،عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ():{الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} .[أخرجه أحمد].
2- الوسطية في الطعام والشراب :
الإسلام دين الوسطية والاعتدال في كل شيء، وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده من عهد آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ونظرة الإسلام إلى الطعام والشراب أي: الغذاء الذي هو عصب حياة الإنسان هي كذلك نظرة الوسطية والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط, ولا إسراف ولا تقصير، ولا علو ولا تقصير، ويأمرنا الله سبحانه وتعالى ويرشدنا إلى ذلك في قوله تعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}[ الأعراف] .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) {كُلْ وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ، فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ }[رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ هذا حديث صحيح الإسناد] .
وعن الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيَّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ﷺ) :{يَقُولُ: مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ ، فَثُلُثُ طَعَامٍ ، وَثُلُثُ شَرَابٍ ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ }.[أخرجه أحمد والتِّرمِذي، والنَّسائي في الكبرى].
فيجب أن يشتمل الطعام على جميع المواد المكونة للغذاء المتوازن ولكي تكون التغذية سليمة لا بد من تناول القدر المطلوب للجسم من الغذاء فإذا زادت كمية الطعام عن احتياج الجسم اختزن هذا الزائد على هيئة دهون تؤدي إلى مرض السمنة ويمكن القول إن الإسراف في الطعام هو السبب الحقيقي لمرض السمنة ، والسمنة تؤدي إلى تصلب الشرايين وأمراض القلب وتشحم الكبد وتكون حصوات المرارة ومرض السكر ودوالي القدمين والجلطة القلبية والروماتزم المفصلي الغضروفي بالركبتين وارتفاع ضغط الدم والأمراض النفسية والآثار الاجتماعية التي يعاني منها البعض. إن الإسراف في الطعام يؤدي إلى اضطرابات شديدة بالجهاز الهضمي من أوله إلى آخره وهذا دائماً ما يؤدي إلى دوام شكوى المريض وتوتره وعصبيته وقلقه وتردده على عيادات الأطباء المختلفة التخصصات لو علم أن هذا كله يرجع إلى الإسراف في الطعام والشراب.
فعن سفيان الثوري قال: {إن أردت أن يصح جسمُك، ويقل نومك؛ فأقل من الأكل} وروي عن رسول الله (ﷺ) :{أن رجلاً تجشَّأ عنده: فقال له عليه الصلاة والسلام كُفَّ عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا، أطولُهم جوعًا يوم القيامة}.[رواه مسلم] .
وروي عنه (ﷺ) أنه قال:{إن من السرف أن تأكل كلَّ ما اشتهيت}[ رواه مسلم بشرح الإمام النووي].
و جاء في وصايا لقمان لابنه:{يا بني، إذا امتلأتِ المعدة؛ نامتِ الفكرة، وخرستِ الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة}.
3- ممارسة الرياضة :
حث الإسلام على ممارسة الرياضة المفيدة النافعة ، وجعلها أداة لتقوية الجسم ؛لأنه يريد أن يكون أبناؤه أقوياء في أجسامهم وفى عقولهم وأخلاقهم وأرواحهم, ولقد مدح الله تعالى القوة في كتابه الكريم ، فقد وصف الله تعالى نفسه فقال تعالي:{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}[ الذاريات].
والمسلم مطالب بحفظ صحته والمجتمع مطالب بوقاية نفسه من الأمراض بل توفير الصحة الايجابية بمفهومها الحديث، يقول الله تعالى:{إن خير من استأجرت القوى الأمين }[القصص].
ويقول الرسول(ﷺ):{ لو لم يكن لابن آدم الا اسلامه والصحة لكفاه }.
 وليس ذلك بغريب فالمؤمن القوي الصحيح أقدر على اداء الرسالة التي خلق الله الانسان من أجلها ليعيش على الأرض ويؤدي الامانة التي تقبل ان يحملها. والاسلام لا يقبل أن تكون أمة المسلمين غثاء كغثاء السيل تعيش هامش الحياة في عجز جسماني وفكري فعندئذ يكون بطن الأرض خيرا لها من ظاهرها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال : قال رسول الله (ﷺ):{ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل :قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان }[رواه مسلم].
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ (ﷺ) بِتُرْسٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ ، فَكَانَ إِذَا رَمَى يُشْرِفُ النَّبِيُّ (ﷺ) ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ}.[أخرجه أحمد والبُخَارِي].
4- الجسم أمانه فأعطه حقه من الراحة :ـ
أكد الإسلام على حق البدن ، فالبدن أمانة عند الإنسان، من واجبه أن يحافظ عليه ويلبي احتياجاته من الغذاء الكافي والنوم الكافي ، والراحة والملبس اللائق النظيف والمسكن اللائق والأثاث المريح ، والمنكح الحلال والتداوي من المرض، والتمتع بما أحل الله من الطيبات في حدود العرف الاجتماعي الذي يكون سائرا وفق شريعة الله تبارك وتعالى. قال سبحانه وتعالي: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(77)}[القصص].
من هنا فقد حثنا النبي الكريم (ﷺ) على العناية والاهتمام بحق البدن .
وقد قال النبي () لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد أرهق نفسَه بالعِبادة صيامًا وقيامًا: {صُمْ وأفْطِرْ وقُمْ ونَمْ، فإنّ لبدنِك عليك حَقًّا وإنّ لعينِك عليك حقًّا}[رواه البخاري ومسلم].
وقال (): {لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه. قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق }[رواه أحمد والترمذي].
 وراحة الجسم الطبيعة ،وحقه الفطري في النوم يكون بالليل ، فبعض الناس قد حولوا نهارهم إلى ليل وليلهم إلى نهار، وهذا يؤثر على الصحة العامة للجسم ولقد قال الله في كتابه الكريم {وَالَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}[يونس].
وقال تعالي:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }[الفرقان].
وقال تعالي:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)}[غافر].
وقال تعالي أيضا : {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ].
5- حماية البيئة من التلوث:
لقد حرص الإسلام الحنيف على نظافة البيئة التي ستنعكس حتماً على صحة الفرد والمجتمع والتي تتمثل في:
- نظافة المساكن والأفنية ونظافة الطرقات وأماكن التجمع :ـ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ () ، قَالَ: {عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي ، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا ، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا ، الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا ، النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ}.[أخرجه أحمد والبُخاري في الأدب المفرد ومسلم] .
وعنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ () يَقُولُ:{غَطُّوا الإِنَاءَ ، وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ ، لاَ يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ ، وَلاَ سِقَاءٍ لَمْ يُوكَ ، إِلاَّ وَقَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ} [أخرجه أحمد ومسلم] .
ـ حفظ الهواء من التلوث.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:{نهى رسول الله () أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه}[رواه أبو داود].
وحفظ الماء من التلوث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله (يقول:{لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه}[متفق عليه].
عن ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ: {اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ قِيلَ مَا الْمَلاَعِنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ يَقْعُدَ أَحَدُكُمْ فِى ظِلٍّ يُسْتَظَلُّ فِيهِ أَوْ فِى طَرِيقٍ أَوْ في نَقْعِ مَاءٍ}. [أخرجه أحمد أبوداود وابن ماجة].
6- تحريم الأشربة والأطعمة الضارة :
ولتحقيق مبدأ الوقاية قبل العلاج فقد حرم الإسلام بعض الشربة وبعض الأطعمة ، قال تعالى:{وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ (157)}[الأعراف].
فحرم كل مسكر ومفتر كالخمر والمخدرات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[ المائدة]
وقال الرسول(ﷺ): {اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث} . [الألباني في السلسلة الصحيحة ].
كما حرم الإسلام بعض الأطعمة المضرة ، والتي تنقل العدوى ,فحرم أكل لحوم الحيوانات الميتة والدم وأكل لحم الخنزير، والسباع والطيور الجارحة، وأكل الحيوانات والطيور التي تتغذى على القاذورات، واقتناء الكلاب والتعامل معها إلا لضرورة، وقد أثبت العلم أن هذه الحيوانات ولحومها تشكل بؤراً لتجمعات هائلة وخطيرة من الكائنات الدقيقة الفاتكة بالإنسان، فماذا قال العلم الحديث فيها ؟ .
قال تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)} [المائدة].
وقال تعالي:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}[الأنعام].
وقد أجمع العلماء على تحريم جميع أجزاء الخنزير، وذكر الآية للحم الخنزير هو من باب المجاز اللغوي ، إذ أطلق الله عز وجل الجزء ( وهو اللحم) وأراد الكل (اللحم) وأراد الكل ( وهو جميع الخنزير) ، لأن اللحم هو الجزء الأهم والمأكول من الخنزير ، وقد أثبت العلم الحديث الحقائق التالية المتعلقة بلحم الخنزير.
حيث يقول ربنا سبحانه عنه: (فإنه رجس) والرجس الشيء القذر، والأقذار والنجاسات هي السبب الأكبر في إصابة الإنسان بالأمراض المختلفة لما فيها من جراثيم وطفيليات ممرضة.
ومن اللحوم المحرمة أيضا والتي تنقل العدوى : أكل لحوم الجلاّلة وشرب ألبانها: فلقد نهى النبي (ﷺ) {عن أكل لحم الجلالة وشرب ألبانها وأكل الحمر الأهلية}.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا}. [أَخْرَجَهُ أبو داود (ابن ماجة) والتِّرْمِذِيّ]. والجلالة هي كل دابة تأكل الأقذار وخصوصاً العذرة، التي تعتبر بيئة خصبة لنمو وتكاثر الديدان والطفيليات والجراثيم الضارة، إذ تحتوي على عدد هائل منها، يزيد على المائة بليون جرثومة في الجرام الواحد، لذلك فالعذرة تشكل مخزناً ومصدراً رئيسياً للخطر.
7- الوقاية خير من العلاج (العناية بالطب الوقائي):ـ
تفرد الإسلام بوضع أسس الطب الوقائي التي أثبت العلم الحديث إعجازها، وزعم الغرب أنه مكتشفها، بينما هي متأصلة في جذور العقيدة الإسلامية.
وفي الأحاديث النبوية الشريفة التي أرست قواعد الوقاية من الأوبئة من خلال سلوكيات فردية مردودها الإيجابي جماعي ويمس الصالح العالم.
فكان الإسلام من أول من سن ما يسمي بعزل المرضى أو الحجر الصحي:  عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ (ﷺ): {لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ}. [أخرجه أحمد والبُخاري ومسلم] .
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ،عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ)  :{إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ ، فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِأَرْضٍ ، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ }. [أخرجه مالك الموطأ وأحمد والبُخَارِي ومسلم] .
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  رضي الله عنه، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ﷺ) يَقُولُ : {فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ}. [أخرجه ابن أبي شَيْبَة ].
عن أبي هريرة رضي الله عنه : {لا عدوى ، ولا طيرة ،ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد}.[أخرجه البخاري معلقا ] [صحيح]. قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفر من القضاء؟
قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله ، وهذا شطر من حديث طويل أخرجه البخاري في الطاعون، وفيه:{فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله }. [ فتح الباري].
ثم إذا حدثت العدوى ، أو قدر على الإنسان المرض ، فلا بد من التداوي منه ، فقد كان من هدي النبي ()  فعل التداوي في نفسه ، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (): {إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً ، فَتَدَاوَوْا ، وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ}.[أخرجه أبو داود] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي () قال : ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء. صحيح البخاري في الطب وعنْ ذَكْوَانَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَار . قَالَ :عَادَ رَسُولُ اللهِ () رَجُلاً بِهِ جُرْحٌ .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ():{ ادعوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلاَنٍ ، قال : فَدَعَوْهُ ، فَجَاءَ .فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؛ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، وَهَلْ أنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ شِفَاءً}.[أخرجه أحمد] .
قال ابن حجر رحمه الله : فيه الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله ، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع ، بل ربما أحدث داء آخر إذا قدر الله ذلك ، و إليه الإشارة بقوله : بإذن الله فمدار ذلك كله على تقدير الله و إرادته .
والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش للأكل والشرب ، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك.
8- المحافظة على الصحة العقلية والنفسية :
إن هناك ثمة علاقة وطيدة بين الصحة العقلية والنفسية وبين الصحة الجسمانية , فالإجراءات التي يجب إتباعها لكي يحافظ الإنسان على صحته، هي ليست حكراً على الأشخاص الأسوياء الذين يتمتعون بصحة جيدة، بل هي ضرورية أيضاً لأولئك الأفراد من ذوي الخلفية المرضية تاريخياً كذلك.
وهناك علاقة بين الصحة العقلية والنفسية وبين الأمراض الجسمية : فهناك حقيقة إحصائية تقول : إن غير قليل من الذين يترددون على المصحات والعيادات والمستشفيات لا يعانون من أمراض جسمية واضحة، رغم أعراضها البدنية والعضوية ، وهناك حقيقة أخرى تؤكد على أن بعض الأمراض الجسدية ذات أصل انفعالي ، فبعض أسباب القرح المعدية والمعوية تعود إلى اضطراب الحياة المزمنة.
وقد اهتم الإسلام بالصحة النفسية للمسلم بأن أرشده إلى الإيمانِ بالله، والإيمان بقضاء الله وقدره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن رزق العبدِ مقدر كائن معروف لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملُ في الطلب.
أخي المسلم ...
فإيمانك بقضاء الله وقدره يقتضي منك السير بما ينفعك والحرص على ما ينفعك {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(14)} [الملك].
وعندما تفقد الآمل في أشياء ترجوها، وعندما لا تنجح في أمور تتمناها ، فلا تيأس ولا تقنط وواصل الجد بالجد، وارضى بما قسم الله، واعلم أن لله حكمةً فيما قضى وقدر لكن اليأس والقنوط ممنوع، كنُ عالي الهمة أبذل السبب والجهد وتحرى الأمور النافعة، وإذا فشلت فلا تيأس فربما فشل اليوم تُحققه مطالبك في يومٍ آخر، ولله الحكمة فيما يقضي ويُقدر، إيَّاك أن تكون قلقاً على مستقبلك ورزقك ، فالكُلُ بيد الله، أمضي في طريقك وشق الطريق مع الاتزان في الأمور واستخارة الله قبل كل شيء، والاستشارة النافعة، والطمأنينة والأناة في الأمور، والله على كل شيء قدير قال تعالي{للَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)}[العنكبوت].
لذا كان النبي (ﷺ) يعجبه التفاؤل؛ عَنْ قَتَادَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ (ﷺ) قَالَ: {لاَ عَدْوَى ، وَلاَ طِيَرَةَ ،قَالَ : وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ .فَقُلْتُ : مَا الْفَأْلُ ؟ قَالَ : الْكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ}. [أخرجه أحمد والبُخَارِي ،ومسلم] .
ويحرص على بث روح التفاؤل والأمل فيمن حوله ،عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ ، قَالَ:{شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ (ﷺ) ، وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا ، أَلاَ تَدْعُو لَنَا ، فَقَالَ : قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللهِ ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ}. [أخرجه أحمد والبُخَارِي، وأبو داود ، والنَّسائي] .
لأن التفاؤل تنشرح له النفوس وتسر له القلوب، فهو من أسباب سعادة الإنسان وزوال الهم عنه، ولذلك فإن التفاؤل من أهم أسباب الصحة النفسية والعقلية والبدنية.
قال تعالى :{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) }[ البقرة] .
العنصر الثالث : الصحة نعمة تحتاج إلي شكر الله عز وجل :
الصحة نعمة من الله يهبها من يشاء من عباده و ما على الانسان إلا المحافظة عليها بالامتناع عن كل ما يؤدي إلى إصابتها بالأمراض أو الضعف و ما دامت الصحة هبة من الله فلا بد من شكر الواهب بعبادته و طاعته لأن الشكر من أسباب دوام نعمه. وقد بين رسول الله (ﷺ) ، أن صحة البدن وعافيته من أكبر نعم الله على الإنسان في الدنيا،
فقد روي الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) أنه قال:{ أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له، ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد}.
وقد قال السلف الصالح في قوله تعالى: (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) أي عن الصحة.
كما روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي (ﷺ) قال للعباس{يا عباس يا عم رسول الله سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة}.
ومنه عن أبي بكر الصديق قال سمعت رسول الله (ﷺ) يقول{سلوا الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من العافية }[رواه النسائي] .
وفي الترمذي :{ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية }.
فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة ، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه. فعلينا أن نقدر نعم الله تعالي علينا ، وإذا أراد المرء أن يعرف قيمة تلك النعمة العظيمة فليذهب إلى المستشفيات، ولينظر إلى الراقدين على الأسرة، والمصابين بأنواع من الأمراض الجسدية مثل مرض القلب والشلل، وفقدان بعض الأعضاء، وهم يتمنون أن يكونوا في كامل صحتهم وعافيتهم، ولذا حثنا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام على استغلال تلك النعمة في طاعة الله ورسوله .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ :{بادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [أخرجه الترمذي في سننه].
إذا أراد المسلم أن يحفظ الله له هذه النعمة فعليه أن يحفظ أوامر الله تعالي ويؤدي حقوق الله عز وجل ويوظف هذه النعمة في طاعة الله تعالي ،كما قال (ﷺ) (احفظ الله يحفظك ) من حديث ابن عباس رواه الترمذي .
قال ابن رجب :مَنْ حفظ الله في صباه وقوته : حفظه الله في حال كبَره وضعف قوته ، ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله ، وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله ، فوثب يوماً وثبةً شديدةً فعوتب في ذلك ، فقال : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغَر فحفظها الله علينا في الكبَر ، وعكس هذا : أن بعض السلف رأى شيخاً يسأل الناس فقال : إن هذا ضعيف ضيَّع الله في صغره فضيَّعه الله في كبَره .
وعلينا بالدعاء وسؤال الله العافية فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ(ﷺ) : الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ. قَالَ : فَمَاذَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : {سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }. [أخرجه أحمد] .
ومما يحفظ لنا نعمة الصحة أن نشكر الله عليها، ونثني علي الله بما هو أهله يقول سبحانه وتعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (7)}[إبراهيم].
وجاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ) {إن الله ليَرضى عن العبد أن يأكل الأَكلة، فيَحمده عليها، أو يشرب الشَّربة، فيحمده عليها}[رواه مسلم].
وكان من دعاء رسول الله (ﷺ) {‏اللهم إني أعوذ بك من زوالِ نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتِك، وجميع سخطك}[‏ رواه مسلم‏]‏.
وقانا الله وإياكم شر الآفات والأمراض، ورزقنا جميعا الصحة والعافية، ووقانا شر مصارع السوء.
ربنا أوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحًا ترضاه ، وأصلح لنا في ذرياتِنا، وتب علينا.
اللهم عافنا في أبداننا، وعافنا في أسماعِنا، وفي أبصارنا، لا إله إلا أنت.
اللهم ما أصبح أو أمسى بنا من نعمةٍ فمنك وحدك لا شريكَ لك؛ فلك الحمد ولك الشكر، اللهمَّ إنا نصبحُ ونمسي في نعمةٍ وعافية وستر دائمٍِ فأتم نعمتَك علينا وعافيتك وسترَك في الدنيا والآخرة.
اللهم آمين وصل اللهم وسلم علي سيدنا ومولانا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .

انتهت بفضل الله تعالي وتوفيقه.

===========================

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=561345

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=561346



24 ديسمبر 2023

الورع عن الشبهات أعلى مراتب الإيمان

 


الحمد لله رب العالمين .. أمر بالتورع عن الشبهات ، وعدم احتقار الذنب فقال تعالى: }وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ (15){ ]النور[ .
فنحمده سبحانه وتعالي، ونستعين به ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له...أمر بالوقوف عند حدوده فقال تعالي }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(229){ ]البقرة[.
وأشهد أن محمدًا رسول الله (ﷺ) بين الحلال والحرام وحذر من المشتبهات، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) :}إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ ألا وهي القلب {  ]رواه البخاري ومسلم[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...
أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون .
فإن قضية الإيمان ليست بالأمر اليسير، ولكن الإيمان يحتاج إلي مجاهدة النفس والهوى ، قال تعالي }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69){ ]العنكبوت[ .
ولن يصل العبد إلي الإيمان الحق إلا بالورع الكامل ،ورع عن العام والخاص، فالورع من أعلى مراتب الإيمان وأفضل درجات الإحسان يحقق للمؤمن هدوء البال وطمأنينة النفس وراحة الضمير، لذلك كان موضوعنا عن }الورع عن الشبهات أعلى مراتب الإيمان{وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ تعريف الورع .
2ـ فضل الورع في الإسلام .
3ـ مراتب الورع .
4ـ فوائد الورع.
5ـ كيف نتعلم الورع؟
العنصر الأول : تعريف الورع :
للورع تعاريف كثيرة عند السلف والعلماء ،منها:
الوَرَعُ: ترك ما يريبُك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق.
وقيل: هو تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
وقال ابن القيم رحمه الله: هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: هو ترك كل شبهة.
وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر وورع في الباطن. فورع الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن: هو أن لا تُدخل قلبك سوى الله.
وقال يونس بن عبيد رحمه الله: الورع هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
وقال إسحاق بن خلف رحمه الله: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جلساء الله غدًا أهل الورع والزهد.
وقال حبيب رحمه الله (يعني ابن أبي ثابت رحمه الله): لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعًا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقًا.
وعن طاووس رحمه الله أنه قال: مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا (شيء سماه) وثمرها الورع، لا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له.
العنصر الثاني : فضل الورع في الإسلام :
من السهولة بمكانٍ أن يكون المسلم مصليًا أو صوّامًا أو قوّامًا أو داعيةً أو خطيبًا أو معلمًا أو حتى عالمًا، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون وَرِعًا فإن الورع رتبةٌ عزيزة المنال، ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب ، وتحلى بأجمل المناقب التي تؤهله جوار الرحمن، فأكثر الناس اليوم إنما يهمه أن يحقق مآربه في الدنيا وشهواتها وملذاتها دون تريث في الأمر والتفات للشرع وسؤال عن الحكم، وبعضهم قد امتلأ بطنه ، وعظم رصيده، وغُذِّي بالحرام جسمه ، وما نلاحظه من قلة البركة وانتشار الفساد لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع.
لذلك كان للورع فضائل عظيمة في حياة المسلم منها :
1ـ الورع من أعلى مراتب الإيمان وأفضل درجات الإحسان:
فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }يا أبا هريرة! كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب{ ]أخرجه البيهقى في شعب الإيمان[.
وقال رسول الله (ﷺ): }فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع{ ]أخرجه الحاكم في المستدرك[
وعن معاوية بن قرة: دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره، فقلت: يا أبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟ قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنًا. قلت: فما تقول في الورع؟ قال: ذاك رأس الأمر كله .
وقال الحسن البصري رحمه الله: مثقال ذرة من الورع خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
2ـ أنه أساس التقوى:
فعن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذارًا لما به بأس{ ]أخرجه الترمذي[
3ـ من حصَّله فلا خسارة عليه:
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله (ﷺ) قال: }أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمه{ ]أخرجه أحمد[
4ـ الورِع من أسباب استجابة الدعاء:ـ
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: }يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51){ ]المؤمنون[ .وقال }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172){ ]البقرة[، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام و ملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟{  ]مسلم[
 أي كيف يستجاب له، فتأمل العقوبة العظيمة لمن ترك الورع، فرغم أن كل هيئة الرجل وعمله غاية في القوة والتعبد إلا أن عدم تورعه عن الحرام رد كل هذه العبادات، وضيع دعاءه سدىً.
وتقول عائشة رضي الله عنها: "إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: الورع".
ويقول عبد الله بن عمر: "لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يُقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز".
العنصر الثالث : مراتب الورع :
للورع مراتب ودرجات لابد من معرفتها وهي كالآتي :
 المرتبة الأولي : الورع عن الحرام وتجنب كل قبيح :
وقد حذر الله تعالي من أكل الحرام لما فيه من مقت وغضب يناله العبد في قلبه وفي صحته وبدنه وفي تصرفاته، لأن الخبيث لا ينتج إلا الخبيث ولهذا قال سبحانه}قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100){ ]المائدة[
وقد أخبر النبي (ﷺ) عن زمن لا يبالي الناس في أمر الحلال والحرام فقال (ﷺ)  }يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام { ]البخاري[
وقد حذر الله تعالي من أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى}وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188){ ]البقرة[.
قال ابنُ عباس رضي الله عنهما "هذا في الرَّجُل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيَجْحَد المالَ، ويخاصمهم إلى الحكَّام، وهو يعرف أنَّ الحقَّ عليه، وأنَّه آثِمٌ آكِلٌ للحرام" (ابن كثير) .
وأكد علي ذلك رسول الله (ﷺ) فقال: }لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبه من نفسه{  ]رواه أحمد والحاكم والبيهقي[
 وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال (ﷺ):}ومن اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان{ ]رواه البخاري ومسلم [
وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينِه فقد أوجب اللهُ له النارَ وحرَّم عليه الجنةَ ، فقال رجلٌ وإنْ شيءٌ يسيرٌ فقال : وإنْ قضيبٌ من أراكٍ وإنْ قضيبٌ من أراكٍ{.
رواه مسلم[
ومن صور أكل المال المحرَّم:
الرِّبا ، والسرقة ، والاختلاس والرشوة ، والغش ،والغلول ، واستغلال المناصب والوظائف في كسب غير مشروع ، واستغلال حاجة الناس ، والاعتداء على المال العام والملك العام والحق العام .
ولقد شددت الشريعة الإسلامية علي حرمة التساهل في المال الحرام، وقد حذر النبي  (ﷺ) في هذا الأمر أشد التحذير ،فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللَّهِ (ﷺ) رَجُلًا علَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قالَ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ (ﷺ): فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ، حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطِهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ بَصْرَ عَيْنِي وسَمْعَ أُذُنِي، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْتُ بَياضَ إبْطَيْهِ: ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟{ ]أخرجه البخاري[
وآكل الحرام إنما يعرِّض نفسه للعقوبة في الدنيا، وفي قَبْرِه، ويوم القيامة:
عقوبة آكل المال الحرام في الدنيا:
فقد تكون العقوبة خسارةً في ماله، أو مَحْقٌ إلهيٌّ للمال الذي اكتسبه، ونَزْع البركة منه، أو مصيبةً في جسده؛ قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)} [البقرة[ .
وأما العقوبة في قبره:
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  (ﷺ) إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ (ﷺ) إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }كلا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا{، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ (ﷺ) بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  (ﷺ) : شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ{ ] البخاري ومسلم[
وهذه الشَّمْلَة عباءةٌ قيمتها دراهم معدودة، ومع ذلك لم يَسْلَم صاحبها من عقوبة أكل المال الحرام.
وأما العقوبة في الآخِرة:
إن الأمر جد خطير لا ينبغي لعاقل أن يتهاون به ،عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  (ﷺ) يَقُولُ: }مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ قَالَ: وَمَا لَكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى{   ]أخرجه مسلم [
فعن كعب بن عَجْرَة: أنَّ النبيَّ (ﷺ) قال له: }يا كعبُ، لا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ؛ إلاَّ كانت النار أوْلى به{. ]الترمذي[.
وفي الحديث المرفوع }لا تَغْبِطَنَّ جَامِعَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، أَوْ قَالَ : مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ ، فَإِنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَمَا بَقِيَ كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ {
مفهوم خاطئ :
يظن البعض أنهم يأكلون الحرام وينفقون منه في بعض الأعمال الصالحة؛ كبناء المساجد أو المدارس أو المعاهد، أو المصانع ، أو غير ذلك، ويظنُّون أنهم بهذا برئت ذمَّتهم، فهؤلاء يعاقَبون مرتَيْن:
الأولى: أنَّ الله لا يقبل منهم أعمالهم الصالحة التي أنفقوا عليها من الأموال المحرَّمة؛ لقوله (ﷺ) }إن الله طيِّبٌ، لا يقبل إلا طيبا{  ]رواه مسلم [
الثانية: أن الله يعاقبهم على هذا المال الحرام، ويحاسَبون عليه يوم القيامة؛ فعن خَوْلَة الأنصارية رضي الله عنه : أنَّ النبيَّ (ﷺ) قال: }إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ؛ فلهم النار يوم القيامة{  ]رواه البخاري[
قال سفيان الثوري: "مَنْ أنفق الحرام في الطاعة، فهو كمَنْ طهَّر الثوبَ بالبَوْل، والثوب لا يَطْهُر إلا بالماء، والذنب لا يكفِّره إلا الحلال".
وقد طمأننا الله تعالي علي قضية الرزق حتي لا نتكالب عليها ونتجاوز الطريق الحلال  فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم{ ]رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح[
المرتبة الثانية : ترك الشبهات :
ـ الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل للمؤمن في قلبه منه ريب.
والريب :بمعنى القلق والاضطراب بل تسكن إليه النفس، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك.
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ ألا وهي القلب {  ]رواه البخاري ومسلم[.
فسّر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلةٌ بين الحلال والحرام، وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام، وكذلك فإن الاستبراء للدين مهم جدًا في حياة الدين المسلم، والإنسان قد لا يشبع من الشبهة وقال الثوري رحمه الله في الرجل يجد في بيته الأفلس والدراهم: أحب إليّ أن يتنزّه عنها إذا لم يدري من أين هي.
ـ ترك ما لا تطمئن له نفس المؤمن:
كقوله (ﷺ) عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ: }الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ{ ]مسلم[
وحين جاء وابصةُ بن معبد إلى النبي (ﷺ) فقال له (ﷺ):}جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ… اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ{. ]رواه أحمد[
وذلك التوجيه للإنسان المؤمن، أما الفاسق والفاجر فإن الإثم لا يحوك في صدره، بل ربما يتلذذ بالمعاصي، ويستمتع بالآثام، وهي متع ظاهرة، وتلذذ مغشوش، ولكن المسلم يجد لصدره انفساحًا، ولفؤاده انشراحًا مع البر ودروبه، ويجد في صدره ضيقًا، وفي قلبه حرجًا حين التلبس بالإثم ودواعيه.
ومن ذلك أيضا ما رواه الحسن بن علي بن أبي طالبٍ، سِبطِ رسول الله (ﷺ)  وريحانتِه رضي الله عنهما، قال: حفظتُ من رسول الله (ﷺ): }دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك{؛ ]رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ[.
وقال (ﷺ) ، قال : }لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس{ ]أخرجه الترمذي وابن ماجة[
وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
وكان النبي (ﷺ) يطبق هذا جيدا وكان حريصا عليه (ﷺ): }إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها{ ] متفق عليه[
وقال عمر رضي الله عنه (كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافةَ الوقوع في الحرام.
و قال ابن المبارك: "لأنْ أرُدَّ دِرْهمًا من شُبْهَةٍ؛ أحبّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألفٍ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ): }اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرضَ ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ قال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ. قال: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا ] {البخاري
ومسلم[
كان هذا في أهل الأمم ممن كانوا قبلنا، وإليك نماذج أخرى سريعة تطبيقية من حال سيد الورعين (ﷺ) ومن حياة أصحابه رضي الله عنهم.
وهذه نجوم على طريق الورع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي (ﷺ) بالفارسية: }كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة{ ]البخاري ومسلم[
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لأبي بكر غلامٌ يخرج به الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهّنت لإنسان في الجاهليةِ وما أُحسِن الكهانةَ إلا أنني خدعتُه فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه» وفي رواية فيقل له: أرفق بنفسك لا تخرج روحك، قال: والله لو لم تخرج إلا بها لأخرجتها، سمعت النبي (ﷺ) يقول: }أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به{
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعةَ آلاف في أربعة، وفرضَ لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة. فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصتَه من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجرَ به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه).
وعن ابن شهاب: قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساءٍ من نساء المدينة، فبقي مرطٌ جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذا ابنة رسول الله (ﷺ) التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي، لأن عمر تزوجها فتكون حفيدة النبي (ﷺ)، فقال عمر: أم سليط أحقّ، وأمُّ سليط هي من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله (ﷺ)، قال عمر رضي الله عنه: فإنها كانت تزفر تخيط لنا القرب يوم أحد.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله شديد الحذر من التعامل مع المرافق العامة ، لذلك منع أهله من الاستفادة من المرافق العامة التي رصدتها الدولة لفئة من الناس، خوفًا من أن يحابى أهله به، قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلًا أنجعتها الحمى فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟
قيل: لعبد الله بن عمر، قال، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ... بخ!!
ابن أمير المؤمنين، ما هذه الإبل؟
قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى، أبتغي ما يبتغي المسلمون ، قال: فقال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين.
يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
المرتبة الثالثة : ترك المؤمن ما لا يعنيه:
قال ابن القيم رحمه الله: وقد جمع النبي (ﷺ) الورع كله في كلمة واحدة، فقال:}مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ{ ]حسن رواه الترمذي[.
 فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.  
فعن عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله (ﷺ) سأل زينب بنت جحش زوج النبي (ﷺ)عن أمري ما علمت؟ أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، تعاليني وتفاخرني من أزواج النبي (ﷺ)، فعصمها الله بالورع { ]البخاري ومسلم[ .
ولا ريب أن حفظ اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر، كل ذلك من عوامل النجاة }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36){ ]الإسراء[
المرتبة الرابعة : حفظ الحدود والوقوف عندها:
الحفظ لحدود الله من أعظم مراتب الورع في حياة أهل الإيمان في عبادتهم، لذا تكرر لفظ الحفظ وما وافق معناه في كتاب الله تعالى كثيرًا، فمن مثل ذلك قول الكريم  }حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)} {المؤمنون].   
  ويأمرنا عز وجل }وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ(89){ ]المائدة[
 وقال في الصفات الإيمانية للمجاهدين }وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ(112){ ]التوبة[
والحدود كلها رحمة من الله، ونعمة على الجميع، فهي للمجتمع طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي، وهي ضمان وأمان للأمة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح الكون، ويسود الأمن والعدل، وتحصل الطمأنينة.
قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127 ){ ]طه[.
وعَن أَبي ثَعْلبةَ الْخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ ناشر رضي اللهُ عَنْهُ عَن رسولِ اللهِ (ﷺ) قالَ: } إنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْها { ]حديثٌ حسنٌ رواه الدار قطني وغيرُه[
وحدود الله تعالى ثلاثة أنواع:
الأول: حدود الله التي نهى عن تعديها:
وهي كل ما أذن الله تعالى بفعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، والاعتداء  فيها يكون بتجاوزها ومخالفتها، وهي التي أشار الله إليها بقوله سبحانه }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229){ ]البقرة[ 
فقد اعتبر القرآن الكريم العلاقة بين الرجل والمرأة ، حد من حدود الله تعالي فقال عن الطلاق }وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ (1){ ]الطلاق[.
وقال تعالي بعد الحديث عن الظهار}وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4) {]المجادلة[.
وإذا انتقلنا إلي سورة النساء في اﻵية 13 والتي تحدد أنصبة الميراث في الأحوال المختلفة وتؤكد علي أن الالتزام بالأنصبة هو تطبيق لحدود الله فقال تعالي } تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (13){ .
وفي الوقت الذي تتحدث فيه اﻵية التي تليها في نفس السورة علي ضرورة عدم عصيان الله ورسوله بالتعدي علي حدوده ، فقال تعالي }وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ (14( { ]النساء[.
الثاني: المحارم التي نهى الله عنها:
 وهي المحرمات التي نهى الله عن فعلها كالزنا، وهي التي أشار الله إليه بقوله سبحانه}تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187 ){ ]البقرة[.
الثالث: الحدود المقدرة الرادعة عن محارم الله كعقوبة الرجم والجلد والقطع ونحوها.
فهذه يجب الوقوف عندما قدر فيها بلا زيادة ولا نقصان، وهي المقصودة هنا.
العنصر الرابع : فوائد الورع :
1ـ صيانة النفس عن كل ما يشينها :
فالورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وهو صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز و جل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه، فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها، وزكّاها وعلاها، ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده، ألقاها في الرذائل، وأطلق عنانها وحل زمامها.
أنظر إلي السلف وورعهم الصادق ، لما رحل الإمام أحمد إلى اليمن ليأخذ الحديث عن عبد الرزاق الصنعاني، انتهت نفقته واحتاج إلى الطعام ، فرهن إنائه عند البائع، فلما رجع للبائع ليوفيه حقه ويأخذ إنائه، قال البائع: لأختبرن ورع ابن حنبل، ووضع بجوار إنائه إناءً يشبهه، فلما وفّاه وطلب منه الإناء، قال البائع: لا أدري أي هذين الإنائين لك، فخذ إناءك منهما، فقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا حاجة لي في الإناء.. خشي أن يأخذ إناء غير إنائه.
2ـ راحة للبال وطمأنينة للنفس :
يحقق للمؤمن راحة البال، وطمأنينة النفس، وهو يؤدي بالمرء إلى الكف عن الحرام، والبعد عما لا ينبغي، ولهذا كان أولى الناس بالورع من كان قدوة للناس، قال الأوزاعي رحمه الله : نمرح ونضحك فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم.
3ـ النجاة يوم الحساب :
قال سفيان الثوري رحمه الله: عليك بالورع يخفف الله من حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.
إن أبواب الجنة لا يطرقها إلا أصحاب الأخلاق العظيمة مهما كانت حاجتهم وكيفما كانت ظروفهم ، ضبط الورع سلوكهم ووجه أفعالهم رغم حاجتهم وفقرهم وكان بينهم وبين الحرام سداً منيعاً وحصناً مشيداً  ..
 فعن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله (ﷺ) أنه قال :}هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء والمهاجرون الذين تسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك  أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم قال إنهم كانوا عبادا يعبدوني لا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" } ]رواه  أحمد وإسناده صحيح[
4ـ يهب الله لأهل الورع الغني الحسي والقلبي :
 قد بشر الله تعالي أهل الورع بالغنى الحسي والقلبي، فقال تعالي :}وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(3){ ]الطلاق].
وقال أبو حامد رحمه الله: لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحًا من الحلال.
وهذه بشارة جِدّ عظيمة، يعقلها من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، فعن أبي قتادة وأبي الدهماء رضي الله عنهما قالا: أتينا على رجلٍ من أهل البادية، فقلنا: هل سمعت من رسول الله (ﷺ) شيئًا؟ قال: نعم، سمعته يقول: }إنك لن تدع شيئًا لله عز و جل. إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه{ ]مسند احمد[
وفي رواية: أخذ بيدي رسول الله (ﷺ) فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى، وقال: }إنك لن تدع شيئًا اتقاء لله عز و جل، إلا أعطاك الله خيرًا منه{ ]أخرجه أحمد[
وذكر الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المتوفى في سنة (535 هـ)
قال الشيخ الصالح أبو القاسم الخزاز البغدادي: سمعت القاضي أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز الأنصاري يقول: كنت مجاورا بمكة حرسها الله تعالى فأصابني يوما من الأيام جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسا من إبريسم مشدودا بشُرّابة من إبريسم أيضا، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله.
فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مئة دينار وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأردّ عليه الكيس.
فقلت له: تعال إليّ فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرّابة، وعلامة اللؤلؤ وعدده، والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلّم إليّ خمس مئة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علي أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بدّ أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني، فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق
الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: علمني القرآن، فحصل لي من أولئك القوم الشيء الكثير من المال.
ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم. فقالوا: علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لابدّ وألزموني فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفوها إليّ مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرّخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما، المراد أمينا ورعا، إلا هذا الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، والآن قد حصلتْ، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمئة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من بقايا ذلك المال).
5ـ الورع يضبط السلوك عند الغضب :
إننا بحاجة إلى خلق الورع في جميع جوانب حياتنا ، فالخصومات والأهواء الشخصية ضيعت كثير من الحقوق ،وتسببت في ظلم كثير من الناس ، وكانت سببا في إحداث الظلم والتعدي على الحقوق وغمط الآخرين وتفريق الصف وافتعال المشاكل وإثارة النعرات الطائفية وسُفِكت لأجل ذلك الدماء ، فقد قالوا لرسلهم قديماً وهم يدعونهم إلى الحق والخير والصلاح فقالوا لرسلهم في علو وكبر كما قال القرآن الكريم في سورة إبراهيم }لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا (13){ ]إبراهيم[ فأبى الله هذا الأسلوب الظالم المتغطرس فقال }لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ{. وبشر المستضعفين بقوله }وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15)]{ إبراهيم[
ولم يسلم جيل الصحابة الكرام من أصحاب الأهواء الذين لم يتورعوا في نقل الأخبار الكاذبة بدافع الحقد والهوى، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: شكا أهل الكوفة سعد ابن أبي قاص رضي الله عنه، إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارًا، فذكروا أن سعدًا رضي الله عنه فيه كذا وكذا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي انظر أين وصلت الخصومة والفجور ، فأنزل عمر لجنة تقصي الحقائق  ... فلم تدع مسجدًا إلا سألت عن سعد  وهم يثنون عنه معروفًا، حتى دخل مسجدًا ...                   
فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، فقال: أما إذا نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعة، فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن.  قال عبد الملك بن عمير الراوي عن جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن، وكان بعد ذلك إذا سُئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد". ]رواه البخاري ومسلم[.
العنصر الخامس : كيف نتعلم الورع ؟:
إننا نحتاج أن نرى الورع واقعاً في سلوكنا في حفظ الأمانات وفي العمل والوظائف ، والبيع والشراء وفي حفظ جوارحنا  وفي طعامنا وشرابنا وفي أخلاقنا وتعاملنا مع الناس من حولنا ...
إننا بحاجة إلى خلق الورع لتقوى الروابط وتزيد الألفة بين أبناء المجتمع ..
 إننا بحاجة إلى تربية نفوسنا على خلق الورع ليعيش المجتمع في أمن وأمان ولتحفظ الدماء والأموال والأعراض ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيريْن ، وشرّ الشرّيْن....فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع الواجبات، ويفعل المحرمات، ويظن أن ذلك من الورع .. "
إن الورع مما يُتَعَلَّم، كما قال الضحّاك بن عثمان رحمه الله : (أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام)
لابد أن نتربى علي الحياء من الله تعالي ،مع دوام مراقبة الله تعالي قال تعالي{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14)} ]العلق[
وليعلم المؤمن أن الحلال فيه الغني عن الحرام، فالنكاح بدل الزنى، والتجارة بدل الربا، والمشروبات اللذيذة المفيدة للبدن بدل الخمر.
ولابد أن نعلم أيضاً كيف يكون حال صاحب المعصية يوم القيامة المتمتع بالحرام يقول النبي عليه الصلاة والسلام} يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط{ ]رواه مسلم[
ودراسة سير السلف الصالح أصحاب الورع ، ومصاحبة أهل الورع  خير معين علي تعلم الورع .
اللهم ارزقنا الورع ، واجعلنا نخشَاك كأنّا نراك، وبارِك لنا في القرآن والسنّة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.
اللهم آمين .
انتهت بفضل الله ورحمته.

=========================

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=552679


رابط doc

https://www.raed.net/file?id=552680