29 ديسمبر 2022

ظاهرة الغلاء آثار ـ أسباب ـ علاج



الحمد لله المحمود على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل الضلال, أحمده وأشكره وأسأله المزيد من فضله وكرمه والتوفيق في الحال والمآل القائل }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7){ إبراهيم.
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له... الذي يغير ولا يتغير ويبدل ولا يتبدل قضت حكمته وجرت سنته أنه لا يتغير حال الشعوب إلا من أنفسهم فقال تعالي }إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11){ الرعد .
وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله كريم المزايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه فهم خير صحب وخير آل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما : بعـد.. فيا أيها المؤمنون
إن القارئ لكتاب الله الكريم ليجد فيه من قصص الأمم السابقة ما يبيّن له سنن الله جل وعلا التي لا تتبدل، والتي تكون نبراسا ومنهاجا يستبصر به المؤمنون في حياتهم على جميع المستويات, فسنن الله لا تتغير، فهل تجد لسنة الله تبديلا ؟!}فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43){ فاطر.
إن المؤمن المستبصر بهدي كتاب الله يستطيع أن يتأمل السنن الربانية التي قد يكون بعض منها واقعًا نعيشه اليوم  من غلاء في المعيشة على كافة المستويات من مأكل ومشرب ومسكن وداء، وانتشار للأوبة والكوارث التي لم يكن للناس عهد بها، فآلت إلى واقع تعيشه المجتمعات.
فكان لزاما علينا أن نبحث [ظاهرة الغلاء آثار ـ أسباب ـ علاج ] وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ الغلاء ابتلاء للأمة.
2ـ آثار ظاهرة الغلاء علي الفرد والمجتمع.
3ـ أسباب ظاهرة الغلاء .
4ـ قصة سبأ خير شاهد.
5ـ علاج ظاهرة الغلاء.
6ـ الخاتمة.
============================
العنصر الأول: الغلاء ابتلاء للأمة.:ـ
لقد قضت سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر والخير أي يختبرهم بما يصيبهم مما يثقل عليهم كالمرض والفقر والمصائب المختلفة كما يخبرهم بما ينعم عليهم من النعمة المختلفة التي تجعل حياتهم في رفاهية ورخاء وسعة العيش كالصحة والغنى ونحو ذلك . ليتبين بهذا الامتحان من يصبر في حال الشدّة ومن يشكر في حال الرخاء والنعمة ، قال تعالى}كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) { الأنبياء
أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا والمصائب والشدائد كالسقم والفقر وغير ذلك مما يجب فيه الصبر . كما
نختبركم بما يجب فيه الشكر من النعم كالصحة والغنى والرخاء ونحو ذلك فيقوم المنعم عليه بأداء ما افترضه الله عليه فيما
أنعم به عليه .
وكلمة (فتنة) في قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي ابتلاه فهي مصدر مؤكد لقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُم) من غير لفظه . (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)أي فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر.
وقال تعالي }وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(168){ الأعراف.
فاختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا ، فالمحنة والمنحة جميعاً
بلاء ، فالمحنة مقتضية للصبر والمحنة مقتضية للشكر ، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام
بحقوق الشكر ، فالمنحة أعظم البلاءين .
وبهذا النظر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر.
وقضت سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر كما يمتحنهم بالخير ، ومن امتحانه لهم بالشر إصابتهم بأنواع البلايا والمصائب والشدائد وما يشق على نفوسهم ، ومن هذا النوع من الاختبار ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز}وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ  وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157){ البقرة.
أخبرنا الله تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم فتارة بالسراء وتارة بالضراء كالمذكور في هذه الآيات وهو الخوف والجوع ونقص من الأموال ، أي ذهاب بعضها ،ومن الإبتلاء الآن ما نعانية من غلاء في المعيشة ، والذي أثر علي حياة الناس في كل مناحي الحياة مما أدي إلي الأمراض والفقر
العنصر الثاني : آثار ظاهرة الغلاء علي الفرد والمجتمع :ــ
لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية، ووصل جنون الأسعار إلى حليب الأطفال وأدوية المرضى, فتضرر من هذا كافة شرائح المجتمع.
إن ظاهرة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة تعدّ مشكلة اقتصادية ، فزيادة الأسعار في الغذاء ينتج عنه بلاء الجوع ونقص الثمرات لضعف ذات اليد عن الشراء، وزيادة الأسعار في الأدوية ينتج عنه بلاء المرض لعجز المريض عن تعاطي العلاج، وزيادة الأسعار في العقارات والبناء ينتج عنه ضيق المعيشة فيحتار الإنسان كيف يدفع ما لديه من مال هل على الإيجار والسكن أم على الغذاء والطعام، وهكذا...
 فبسبب الغلاء يعجز الفقراء، ويقصر ذوو البذل والعطاء، ويتضرّر المساكين والضعفاء، بسبب الغلاء تظهر المشاكل الاجتماعية والضغوط النفسية والأزمات الاقتصادية، بسبب الغلاء ينشأ الشح والطمع والأثرة والأنانية وحب الذات.
إن هذه الأزمة لها آثار سلبية على الفرد والمجتمع، فعندما يعجز الفقير عن شراء ما لا غنى له عنه ويتحمّل متوسطو الحال ديونًا يعجزون عن أدائها يلجأ البعض إلى طرق غير مشروعة للحصول على المال وتوفير ما يحتاجون، وحينها لا يبالي ضعيف الإيمان أمِن حلال أخذ المال أم من حرام، فتنشأ السرقات والغش والسطو والرشوة وبيع الأعراض, وتنمو الأنانية والشحّ والبخل، وتتعمّق الفجوة بين الغني والفقير، وتضعف الروابط وتنقطع الصلات؛ لذا ستترك هذه الأزمة إذا طالت آثارًا نفسية خطيرة على بعض النفوس التي تشعر بالمعاناة في تأمين المعيشة والوفاء بالاحتياجات الضرورية ومتطلبات من يعولون.
العنصر الثالث:أسباب ظاهرة الغلاء:ـ
قد يكون لها أسبابها الطبيعية والمنطقية , فزيادة سعر المواد الخام وزيادة أسعار تكلفة الأشياء وتصنيعها ونقلها قد يكون سبباً منطقيا لارتفاع الأسعار , لكن إذا كان هذا الارتفاع غير منطقي وغير طبيعي فإن له أسبابه غير المنطقية وغير الطبيعية , قد يكون من أسباب الغلاء ...
1ـ  حب الترف والحرص عليه:ـ
ومن هنا فقد حذرنا الإسلام تحذيراً شديداً من الترف والحرص عليه لأن الترف سبب لفساد الأمم ومن ثم هزيمتها وسقوطها، بل وأشد من ذلك من الركون إلى الدنيا ورغبتها عن الآخرة.
 ولقد ورد الترف في القرآن في مورد الذم والاقتران بالكفر والعصيان , قال تعالى : " فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) سورة هود .
2ـ الذنوب والمعاصي:ـ
الذنوب تسبِّب هلاك الحرث والنسل، وتسبِّب انتشار الفساد في البر والبحر، قال تعالى} ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41){ [الروم].
وقال تعالي}وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30){ [الشورى]،
والله تعالى يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم.
وقال تعالي }وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112){ [النحل]،
وقال رسول الله ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
ولنعلم أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وإن لنا في سير الغابرين عبرةً وذكرى، فهؤلاء آل فرعون ابتلاهم الله بالسنين والمجاعات ونقصِ الثمرات لعلهم يذكرون،قال تعالي }وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) { الأعراف.
لكنهم عصوا واستمروا في طغيانهم يعمهون، فأرسل الله عليهم الطوفان الذي يغرق أشجارهم، والجراد الذي يأكل ثمارهم، والقمّل الذي يؤذيهم ويزعجهم، والضفادع التي تملأ أوعيتهم ويجدونها على فرشهم وملابِسهم، والدم فإذا أراد أحدهم أن يشرب ماءً انقلب دمًا، فلا يشربون إلا دمًا ولا يطبخون إلا في دم، ولم يزجرهم ذلك عن معصية الله، بل استكبروا في الأرض وكانوا قومًا مجرمين، فانتقم الله منهم وأغرقهم في اليم بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين.
وقال تعالي فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136){ الأعراف.
وقال تعالى } وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(43){ " الأنعام .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : "وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء ) يعني الفقر والضيق في العيش ، ( وَالضَّرَّاء ) وهي الأمراض والأسقام والآلام ، ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) أي : يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون ،( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ) أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ( وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي : ما رقت ولا خشعت ، ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) أي : من الشرك والمعاصي " (سورة الأنعام )
3ـ  تفشّي ظاهرة الإسراف في حياتنا على كافة المستويات:ـ
حيث تحول الإسراف من سلوك فرديّ لدى بعض الميسورين أو ذوي الدخول الجيدة إلى ظاهرة عامة تجتاح أغلب طبقات المجتمع، فالذي عنده مال يسرف، والذي لا يجد المال يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته الكمالية والتفاخرية, مما يحتاجونه وربما ما لا يحتاجون إليه، وأضحى الواحد منا يشكي من قلّة دخله ولو كان كثيرا، ومن كثرة مصروفاته ولو كان أكثرها ليس محتاجًا إليه.
وقد أمرنا الله تعالي بالإقتصاد قال تعالي }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31){ [الأعراف].
وقال رسول الله ()}كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة { رواه النسائي وابن ماجة.
4ـ  تلاعب بعض التجار والجشعين منهم بأسعار السلع دون محاسبة لهم:ـ
ولا سيما السلع الرئيسية والتي لا غنى للفرد عنها من مأكل ومشرب وملبس، لذا على التجار أن يتقوا الله تعالى في إخوانهم المسلمين، وأن يتذكروا قول النبي (): (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد).
 كما نذكره بدعوة نبينا () للتاجر المتسامح بقوله عليه الصلاة والسلام:} رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى{ أخرجه البخاريّ.
لذا أوصي أخواني التجار بالتيسير على الناس وإنظار المعسرين ومراعاة الفقراء والمساكين, وكذلك بواجب الصدق والأمانة في معاملاتهم كما قال ():}البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما{ رواه مسلم.
 وأحذّرهم في نفس الوقت من الاحتكار للسلع وحبسها في المستودعات مع حاجة الناس لها؛ مما يرتفع معها الأسعار؛ لأن النبي  جاءَ بالوعيد الشديد لمن دخَل في شيءٍ من أسعارِ المسلمين ظلمًا وعُدوانًا ليغلِيَه عليهم.
 فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله  ()يقول: }مَن دخل في شيءٍ مِن أسعار المسلمين ليُغلِيَه عليهم فإنَّ حقًّا على الله أن يقعِدَه بعظمٍ من النار يومَ القيامة{ أخرجه الإمام أحمد رحمه الله.
العنصر الرابع : قصة سبأ خير شاهد :ـ
أيها المؤمنون ... لنقف مع قصة تبين سنة الله في هذا الشأن وكيف أن الله سلب النعمة من قوم لما غفلوا عن السبب الحقيقي لدوام النعمة: لقد قص الله سبحانه وتعالى علينا كثيرا من القصص في كتابه الكريم لنأخذ منها العبرة والعظة، قصّ علينا أخبار من أنعم الله عليهم بأنواع النعم والخيرات، فكفروا أنعم الله، فماذا كانت نتائج المعصية والبطر وعدم شكر النعمة إلا الزوال، ومن ثم الندم والحسرة.
ومن هذه القصص ما ورد عن قوم سبأ حيث يقول الله تعالى}لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ  جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ  بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا  وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ  سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(19) {[سبأ].
لقد كانت سبأ من الحضارات والقوى العظمى التي ليس لها مثيل في زمانها، فقد كانت حضارة عمرانية واقتصادية، ويعتبر سد مأرب الذي كان أحد أهم معالم هذه الحضارة دليلاً واضحًا على المستوى الفني المتقدّم الذي وصل إليه هؤلاء القوم، وكانوا يملكون قوة سياسية وعسكرية كانت من أهم العوامل التي ضمنت استمرار هذه الحضارة صامدة لفترة طويلة. وقد ورد في القرآن ذكر جيش سبأ القوي، وتظهر ثقة هذا الجيش بنفسه من خلال كلام قواد الجيش السبئيّ مع ملكتهم كما ورد في سورة النمل: }قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33){ [النمل] .
فقد كانوا يعيشون من الرغد أطيبه، ومن الرزق أوسعه، ومن القوة أشدها، ومن الأمن أهنأه.
قال ابن كثير رحمه الله: "وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدّا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء وحكم على حافات الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تغترف فيه الثمار فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السد بمأرب بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسدّ مأرب، وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه" انتهى.
فانظروا أيها المؤمنون ...!!
كيف أنعم الله عليهم ولم يطلب منهم غير شكر هذه النعمة وشكر منعمها: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ، ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا، بل أعرضوا عن شكر الله وعن العمل الصالح والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه، فضيق الله عليهم في الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة، حين أرسل عليهم السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت، فجفت أرضهم وأجدبت، وتبدلت تلك الجنان الخضراء صحراء قاحلة تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ  ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ، والكفور هنا الأرجح ـ كما ذكر بعض المفسرين ـ أنه كفران النعمة.
ثم يذكر الله تعالى نعمة أخرى عليهم لم تشملها العقوبة الأولى، لعلهم أن يتذكروا وينيبوا، فقال سبحانه: }وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ(18){ [سبأ].
 قال ابن كثير رحمه الله: "يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيء الرغيد والبلاد المرضية والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم" انتهى.
وقيل: كان المسافر يخرج من قرية فيدخل في الأخرى قبل دخول الظلام، فكان السفر فيها محدود المسافات كما كانت الراحة موفورة، فغلبت الشقوة على سبأ فلم ينفعهم النذير الأول ولم يوجّههم إلى التضرع إلى الله، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء، بل دعوا بدعوة الحمق والجهل: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.
 قال القرطبي: لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة، واستجيب لهم، لكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر فشردوا ومزقوا وتفرقوا في أنحاء الجزيرة والشام، وعادوا أحاديث يرويها الرواة وقصة على الألسنة والأفواه، بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة، يقول الله تعالى: }فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ أي: بعدم شكر النعمة، فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19){[سبأ].
العنصر الخامس :علاج ظاهرة الغلاء :ـ
في حالات ارتفاع أسعار الغلاء لا بد أيضاً للمستهلكين والمشترين من توجيهات.....
هناك أسباب معنوية وأسباب مادية ..
فمن الأسباب المعنوية...
1ـ تربية الضمير على التقوى والمراقبة :
قال تعالى:}وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(96) {الأعراف .
وقال تعالى } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65)وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ(66 ){ المائدة .
فالتقوى هي سبب لسعة الأرزاق والبركة فيها،قال تعالى}وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3){ الطلاق
2- كثرة الاستغفار والدعاء:
قال تعالى }فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12){ نوح .
قال ابن صبيح : شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة فقال له : استغفر الله ، وشكا آخر إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله وقال له آخر : ادع الله أن يرزقني ولداً ، فقال له : استغفر الله ،وشكا إليه آخر جفاف بستانه ، فقال له : استغفر الله ، فقلنا له في ذلك ؟ فقال : ما قلت من عندي شيئاً ، إن الله تعالى يقول في سورة نوح : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) .
3ـ التحلي بخلق القناعة
قال رسول الله (): " … وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس … " (حسن صحيح رواه الترمذي)
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير : " ابن أختي ، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله () نار يعني لا يطبخون شيئاً قال عروة : فقلت : ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء " (رواه البخاري،ومسلم)
فالغنى في الحقيقة غنى النفس، والنبي ()أوصانا في أمور الدنيا أن ننظر إلى من هو دوننا، وليس إلى من هو فوقنا؛ فقال:(انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله)رواه مسلم
وقال عليه الصلاة والسلام:(قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إذا نظرت إلى من هو دونك في المعيشة، حمدت الله على النعمة، أما إذا كنت ترمق من هو فوقك دائماً لا تستريح.
هي القناعة فالزمها تعش ملكاً       لو لم يكن منك إلا راحة البدن
وانظر إلى مالك الدنيا بأجمعها    هل راح منها بغير القطن والكفن
قال الخليفة هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله بن عمر عند الكعبة: سلني حاجتك، فقال: والله إني لأستحي أن أسأل في بيته غيره. فلما خرج من المسجد قال هشام الآن خرجت من بيت الله فاسألني، فقال: من حوائج الدنيا أم الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسالها ممن لا يملكها.
4ـ التربية الإيمانية للتجار :ـ
إنَّ إرخاص السلع على المسلمين ، ووضع الإجحاف بهم وترك استغلالهم ... أمارةٌ على رحمة قلب صاحبه وطيب نفسه وامتثال هؤلاء هم الموعودون إن شاء الله بالبركة في أرزاقهم والسعة في أموالهم والتوفيق في حياتهم
لتكن هذه المغالاة أخى التاجر محطةً تُري ربك فيها من نفسك خيراً وتشتري سلعة الله برفع المعاناة عن البائسين ، فإن الصدقة يعظم فضلها ويكثر أجرها عند  شدة الحاجة إليها .
لقد أصاب الناس القحط في زمن الصديق رضي الله عنه فقدمت لعثمان رضي الله عنه ألف راحلةٍ من البر والطعام فغدا التجار عليه كلهم يريد شراءها منه , لا للتكسب ولا للاحتكار لرفع الأسعار , وإنما ليوسعوا على فقراء المدينة في هذه النازلة فجعــل التجار يساومون عثمان على شراء هذه السلعة حتى أربحوه بالعشرة خمسة عشرة ، فأبى وأنفقها في سوق المدينة على الفقراء والمساكين ، وربح البيع يا ذا النورين .
وصورة أخرى مشرقـة من صور حياة تجار سلفنا الصالح محمد بن المنكدر كان من معادن الصدق والأمانة ، كان له سلع تباع بخمسة ، وسلع تباع بعشرة
فباع غلامه في غيبته شيئاً من سلع الخمسة بعشرة , فلما عرف ابن المنكدر ما فعل غلامه اغتمَّ لصنيعه , وطفق يبحث عن المشتري طوال النهار ... حتى وجده وكان من الأعراب ، فقال له ابن المنكدر : إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسةً بعشرة ، فقال الأعرابي : يا هذا قد رضيت .
 فقال ابن المنكدر : وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث :
 ـ إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة .
 ـ وإما أن تردَّ إليك خمسة .
 ـ وإما أن تأخذ من سلعة الخمس سلعة العشر.
فقال الأعرابي : أعطني خمسة ، فرد عليه الخمسة وانصرف ؛ فسأل الأعرابي أهل السوق عن هذا التاجر الأمين ؟ فقيل له : هذا محمد بن المنكدر ، فقال : لا إله إلا الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا .
الأسباب المادية :ـ
1ـ عدم التوسع في الشراء:ـ
المسلم الحكيم بالذي لا يرهق نفسه بكثرة الشراء، ويهدر الأوقات والأموال والأعمار، وفي كثير من الأحيان يكون مصير شراء ما لا حاجة له من أجهزة العرائس أن يظل كما هو في كرتونته وغير ذلك من أشياء في حياتنا ..
وقد قال تعالى:}وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا(31) { الأعراف.
وقال تعالي }إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141) { الأنعام.
مرّ جابر بن عبد الله ومعه لحم على عمر رضي الله عنهما  فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: هذا لحمٌ اشتهيته فاشتريته. قال: أو كلما اشتهيت شيئاً اشتريته، أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية:} وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20){ الأحقاف.
ولما قدم وفد البصرة ومعهم أميرهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أطعمهم عمر رضي الله عنه من طعامه، فرأى كراهتهم فقال: أيها القوم إني والله لقد أرى كراهيتكم طعامي وإني والله لو شئت لكنت أطيبكم طعاما، ثم قال: ولكني سمعت الله جل ثناؤه عير قوما بأمر فعلوه فقال :
(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها..) .
 ولا بد من تربية الأولاد على هذا المبدأ لتكون الأسرة متحدة في هذه السياسة في الشراء.
كان مالك بن دينار يمشي في سوق البصرة فرأى التين فاشتهاه و لم يكن معه نقود فخلع نعله و أعطاه لبائع التين فقال : لا يساوي شيئا فأخذ مالك نعله و انصرف فقيل للرجل إنه مالك بن دينار فملأ الرجل طبقا من التين و أعطاه لغلامه ثم قال له : ألحق بمالك بن دينار فإن قبله منك فأنت حر.... فعدا الغلام وراءه فلما أدركه قال له اقبل مني فإن فيه تحريري . فقال مالك : إن كان فيه تحريرك فإن فيه تعذيبي . فألح الغلام عليه فقال : أنا لا أبيع الدين بالتين ولا آكل التين إلى يوم الدين.
2ـ  مراعاة الأولوية في الإنفاق:ـ
قد جاءت الشريعة بالحكمة، والحكمة وضع الأشياء في مواضعها، ونهت عن الظلم، وفي عدم وضع الشيء في موضعه في الشراء ظلم للنفس.
وقد وجد في بعض الدراسات أن الكماليات هي ثلثا المشتريات، ووجد أن العربة التي تملؤها ربة البيت في البقالات والمحلات الكبيرة غالبها من هذا الجنس الذي يمكن الاستغناء عنه.
يقول أحد المستهلكين: هذه المعلبات في الأسواق الكبيرة خربت بيتي، كلما أذهب إليها لأشتري أدفع حوالي 500، وأحس أني لم أشتر شيئاً مفيداً.
ولقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم خطورة التنعم والترفه خصوصا بعد أن اتسعت موارد الدولة وكثر المال بسبب الفتوحات, فكانوا يتعاهدون بعضهم بالنصح.
 وَفِي صحيح مسلم عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيك وَلَا كَدِّ أُمِّك فَأَشْبِعْ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِك ، وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَلُبُوسَ الْحَرِيرِ) .
وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْفُرُوعِ : أَمَّا بَعْدُ فَاتَّزِرُوا وَارْتَدُوا ، وَأَلْقُوا الْخِفَافَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ ، وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إسْمَاعِيلَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ ، وَتَمَعْدَدُوا ، وَاخْشَوْشِنُوا ، وَاخْلَوْلِقُوا ، وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ )
فلسوف يٌسئل المرء عن كل نعمة وهبها الله تعالى له , قال تعالى: }ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8){ التكاثر .
عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ():إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ . أخرجه الترمذي
3ـ  لا بد من ترشيد الاستهلاك:ـ
علي المرء أن يحرص على أن يصرف المال في محله، وإذا صارت القضية إنفاقاً في سبيل الله جادت النفس، وأما بالنسبة لما يشتريه الإنسان في العادة فالسياسة فيه قوله تعالى:}وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا(29){ الإسراء.
4ـ الفطنة وعدم الاغترار بالعروض والإعلانات والدعايات
نحن في عصر الإعلام والإعلان؛ وهذه الإعلانات تحوي كثيراً من المبالغات والكذب، وعلى العاقل ألا ينساق وراءها، وحتى لا يتزايد الشعور بالحرمان أيضاً إذا لم يستطع فيبقى في ألم وحسرة، أو يلجأ إلى الاستدانة.
5ـ الحذر من إنفاق المال في المحرمات:ـ
لقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من إنفاق المال في الحرام ، حيث أخبرنا أن السؤال عن المال من أين اكتسبه وفيم أنفقه، والإنفاق في الحرام تبذير.
وقد قال الله تعالي }إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ (27){الإسراء
6ـ ثقافة التعامل مع الغلاء.
جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه  جاؤوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟
فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟
فقالوا: وهل نملكه حتى نرخصه؟
وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا ؟
فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم.
بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس، قال: غلا علينا الزبيب بمكة، فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.
7- التكافل الاجتماعي وأداء الزكاة والصدقات:ـ
الزكاة عون للفقراء والمحتاجين ، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين ، وتساعدهم على ظروف المعيشة إن كانوا عاجزين ، فتحمي المجتمع من الفقر والدولة من الإرهاق والضعف ، وعدم إخراج الزكاة سبب من أسباب البلاء والغلاء ، ومن أسباب العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع لغياب التكافل فيما بينهم ، أما إخراج الزكاة فهو سبب البركة وسبب المحبة والمودة بين أفراد المجتمع .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله ()إذا جاءه رجل على راحلة فجعل يضرب يمينا وشمالا ، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم}من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له " قال : فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل{ رواه مسلم .
الخاتمة ...
عباد الله، إن ما نحن فيه من غلاء في المعيشة يحتاج منا إلى وقفة جادة لتشخيص الأسباب الرئيسة فيما نواجهه ونعانيه، ونقف مع وسائل العلاج كاملة حتي نستطيع أن ننقذ أنفسنا من غول الغلاء الذي يأكل الخضر واليابس .
فاللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والشقاء , وقنعنا بما رزقتنا وارزقنا الحلال وبارك لنا فيه يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والطيّبات، وترك المنكرات، إنك أنت الغفور الرحيم العفوّ الكريم.
 ==============
رابط pdf

رابط doc

ليست هناك تعليقات: