الحمد لله رب العالمين .. أعد للمهاجرين الأجر الكبير والفوز العظيم والنعيم المقيم في الجنة فقال تعالي } الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22){ التوبة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. جعل الهجرة من موجبات رحمته تعالي فقال تعالي }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218){ [البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ... دعا إلي الهجرة وحث عليها فقال صلي الله عليه وسلم ... «العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ..
لقد شرع الله الهجرة وحث عليها وذلك من أجل الحفاظ علي الدين والعقيدة لأنهما أغلي وأعز ما يملك الإنسان فقال تعالي } إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97){النساء.
وكذلك دعا إلي الهجرة من أجل لقمة العيش والسعي علي المعاش فقال تعالي } وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100){ النساء.
وكذلك أمر بهجرة الذنوب والمعاصي ففيها الخير الكثير،فقال تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)} المدثر.
فالهجرة واجبة علي الإنسان في كل وقت وآن ،ولكي نؤدي واجب الهجرة لابد أن نقف علي حقيقة الهجرة ، لذلك كان موضوعنا (حقيقة الهجرة إلي الله ورسولة) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية .....
1ـ معني الهجرة.
2ـ هجرة الأبدان.
3ـ هجرة القلوب إلي الله تعالي.
4ـ فضل الهجرة.
5ـ كيف نحصل علي ثواب المهاجرين ؟
6ـ الخاتمة.
العنصر الأول : معني الهجرة :ـ
الهجرة في اللغةً: مفارقة الإنسان غيره ببدنه أو بلسانه أو بقلبه.
ومعناها شرعاً: مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة.
العنصر الثاني :هجرة الأبدان:ـ
لقد شرع الله تعالي هجرة الأبدان وأعطي عليها أجرا عظيما إذا صدقت النية ، حيث قال صلي الله عليه وسلم }إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه{(أخرجه البخاري).
فأعظم الهجرة من أجل الدين والعقيدة وهي الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام.
1- الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام:ـ
وكانت فرْضًا أيام النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهي باقية مَفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفَتْح هي القصد إلى النبِيِّ صلي الله عليه وسلم حيثُ كان.
لقد أمر النبي صلي الله عليه وسلم الصحابة بالهجرة إلى الحبشة لمّا اشتد عليهم الأذى من الكفار في مكة فخرجوا إلى أرض الحبشة مرتين فراراً بدينهم.
وبقى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً(80)} [الإسراء]،
فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة وأذن لأصحابه بالهجرة إليها، فبادروا إلى ذلك فراراً بدينهم وقد تركوا ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، وقد أثنى الله عليهم ومدحهم ووعدهم جزيل الأجر والثواب، وصارت الهجرة قرينة الجهاد في كتاب الله عز وجل، وصار المهاجرون أفضل الصحابة حيث فرّوا بدينهم وتركوا أعزّ ما يملكون من الديار والأموال والأقارب والعشيرة، وباعوا ذلك لله عز وجل وفي سبيله وابتغاء مرضاته.
ولقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مرغما من وطنه مكة المكرمة، تحت ضغط وتهديدٍ من المشركين؛ بالحبس أو النفي والإبعاد، أو القتل والإعدام، وكلُّ هذا مكرٌ ومؤامرة ضدَّ النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)} (الأنفال)،
ترك وطنه مكة، وعاد بعد سنوات فاتحا منتصرا، وعندما دخلها وصار بالحجون وقف عَلَى الحَزْوَرَةِ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وفي رواية: وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ». سنن الترمذي
وصار ذلك شريعة ثابتة إلى أن تقوم الساعة فقد جاء في الحديث: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها»، فكل من لم يستطع إظهار دينه في بلد فإنه يجب عليه أن ينتقل منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه.
وقد توعد الله من قدر على الهجرة ولم يهاجر فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء].
فهذا وعيد شديد لمن ترك الهجرة بدون عذر، وهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، وأنه ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي يترك الهجرة {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض، وهذا اعتذار منهم غير صحيح لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة فتركوها، ولهذا قالت لهم الملائكة توبيخاً لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}.
فمن لم يستطع إظهار دينه في بلد وجب عليه الخروج إلى بلد يستطيع فيها ذلك، فإن بلاد الله واسعة ولا تخلو من بلاد صالحة، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً (100)} [النساء].
أي مكاناً يتحصن فيه من أذى الكفار، وسعة في الرزق، ويعوضه الله بها عما ترك في بلده من المال، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42)} [النحل].
2- الهجرة فرارا من بطش الظالمين :ـ
وذلك فضْلٌ مِن الله رخَّص فيه، فإذا خشِيَ على نفسه، فقد أذِنَ الله في الخروج عنه، والفِرار بنَفسه؛ ليُخلِّصها مِن ذلك المَحْذور، وأول مَن فعَله إبراهيم عليه السَّلام ،حيث قال تعالي: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)} [الصافات].
وقال سبحانه عن إبراهيم الخليل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(27)} (العنكبوت).
أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان، ففي الهجرة كان الفرج في الدنيا والآخرة.
وقال الله تعالي مُخْبرًا عن سيدنا موسى عليه السلام }فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ(21){ [القصص].
3- الهجرة من أجل الرزق :ـ
فالهجرة من مكان إلى مكان آخر من أجل الكسب الحلال لا مانع منها مُطلقًا وقد هاجر المسلمون من جزيرة العرب وغيرها لنشر الإسلام وابتغاء الرزق في مناطق عديدة من العالم، ولا يزال المسلمون يهاجرون من أوطانهم إلى أوطان أخرى من أجل ذلك ،
لذلك نري أن الإسلام الحنيف رغب في الهجرة من أجل طلب الرزق الحلال، وشجع على الغربة، وبين للناس أن أرض الله واسعة، وأن رزق الله غير محدد بمكان ولا محصور في جهة، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، وقال تعالى: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وقال تعالي }فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ (15){ (الملك )
وقال تعالى }فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10){( الجمعة )
وعن عبد الله بن عمرو قال: توفى رجل بالمدينة ممن ولدوا فيها، فصلى عليه رسول الله وقال: "ليته مات في غير مولِدِه"، فقال رجل: ولِمَ يا رسول الله ؟ قال: "إن الرجلَ إذا مات غريباً قِيسَ له من مولده إلى منقَطَعِ أثرِه في الجنة". رواه الترمذي
والشرط في هذه الهجرة أن يأمن المهاجر على عقيدته وشرفه ويتمتع بحريته وكرامته في حدود الدِّين، أما إذا خاف أن يُفتن في دينه عقيدة وسلوكًا حُرِّم عليه أن يهاجر إلى هذا البلد أو يستقر فيه، وعليه أن يهاجر إلى بلد آخر يجد فيه الأمان، فإذا ضاقت به السُّبل عاد إلى وطنه قانعًا بالرزق القليل ليحافظ على دينه.
يروى عن" شقيق البلخي" وهو من أهل العبادة والزهد ،أنه ودَّع أستاذه (أو شيخه) إبراهيم بن أدهم لسفره في تجارة عزم عليها.
وهو في الطريق الصحراوي رأى طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر،ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع.
فلم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر، فأطعم الطائر كسير الجناح كما يطعم الحمام فراخه.
تعجب شقيق .. من هذا المشهد وأثر فيه ،فقال في نفسه:
إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله ، فلماذا أذهب إلى التجارة و لماذا العناء و السفر وأنا في هذا السن؟!
سأرجع وحتما سيرزقني الله وعاد إلى بيته ، وحين وصل زار شيخه فقال له الشيخ :
لماذا عدت يا شقيق.. الم تذهب للتجارة ؟
فقص عليه القصة بأنه رأى في طريقه طائرا أعمى وكسيح، و أخذ يفكر كيف يأكل هذا الطائر ويشرب؟
وبعد قليل جاء طائر آخر يحمل حبا وأطعم الطائر الأعمى ثم سقاه.
فقلت طالما ربنا عز وجل رزق الطائر الأعمى الكسيح ..
سأرجع إلى بيتي وسط أولادي وارجع لأهلي وبلدي وربي سيرزقني.
هنا قال له إبراهيم بن ادهم:
سبحان الله يا شقيق!..
ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره ، ولا تكون أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله ؟!
أما علمت أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ...
فقبَّل يده شقيق وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق!
وتركه وغدا يسعى كما تسعى الطير التي تغدو خماصاً وتعود بطاناً.
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالي في السفر :
سافر تجـد عوضـاً عمـن تفارقـه --- وانصَبْ فإن لذيذ العيش في النصـب
إني رأيـت وقـوف المـاء يفسـده --- إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطـب
والأسدُ لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصـب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمـة ً --- لملها الناس من عجـم ومـن عـرب
والتبر كالترب ملقـي فـي أماكنـه --- والعود في أرضه نوع من الحطـب
فـإن تغـرب هـذا عـز مطلـبـه --- وإن تغـرب ذلـك عـز كالـذهـب
وقد انطلق المسلمون الأوائلُ على هدى هذه الأحاديث في فجاج الأرض؛ ينشرون الدينَ، ويلتمسون الرزقَ، ويطلبون العلم، ويجاهدون في سبيل الله.
4ـ الهجرة في طلَب العلْم : ـ
كان الصحابة، رضوان الله عليهم، أول من رحل لطلب العلم، فقد كانوا يسافرون من مدنهم إلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، فربما مكثوا معه فترة طويلة في طلب العلم، ثم يرجعون إلى أوطانهم.
وتعد أكثر الرحلات العلمية في تاريخ الإسلام ما كان في السنة التاسعة والعاشرة من الهجرة، حيث كانت الوفود تجيء إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" تعلن إسلامها ثم تتزود بالعلم من النبي " صلى الله عليه وسلم" .
ومن أقدم الرحلات في طلب العلم في السنة التاسعة من الهجرة رحلة بعض الصحابة من بني لــيث بن بـــكر بن عبد مناة بن كنانة، فقد قدموا على رسول الله " صلى الله عليه وسلم" المدينة، ومكثوا عنده عشرين يوما ثم أمرهم الرسول " صلى الله عليه وسلم" بالرجوع إلى أهليهم ليعلموهم، ويروي أحدهم وهو مالك بن الحويرث "رضي الله عنه" فيما أخرجه البخاري ومسلم، قال: أتينا النبي " صلى الله عليه وسلم" ، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا, فأخبرناه - وكـــان رقـــيـــقا رحـــيما - فقال: «ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي, وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم».
بل إن النبي " صلى الله عليه وسلم" تنبأ بكثرة الرحلات العلمية، فوصى الصحابة بطلاب العلم الذين سيأتون إليهم من بقاع الأرض، فكانت رحلات التابعين إلى الصحابة رضوان الله عليهم، الذين حفظوا وصية رسول الله " صلى الله عليه وسلم" بمن رحل في طلب العلم، فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري "رضي الله عنه" فيقول: مرحبا بوصية رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، إن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «إن الناس لكم تبع، وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم، فاستوصوا بهم خيرا».
إن الرِّحلة في طلب العلمِ مُهِمّةٌ جليلةٌ، وهي تُعتبَر إحدى أهَمِّ أسباب اكتسابِ العِلم، كما أنها من مزايا أهل العلم في الإسلام من قديم الزَّمان، لذلك رغب النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: «مَنْ سَلَكَ طَرِيْقاً يَلْتَمِسُ فِيْهِ عِلْماً؛ سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقاً إلَى الْجَنَّةِ» ( أخرجه الترمذي)،
وقولِه عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ الْعلِمِ؛ فَهُوَ في سَبِيْلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ» (أخرجه الترمذي )، وقولِه عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ؛ وَضَعَتْ الْمَلاَئِكَةُ أَجْنِحَتَهَا له رِضاً بِمَا يَصْنَعُ» ( أخرجه ابن ماجه)
العنصر الثالث : هجرة القلوب إلي الله تعالي:ـ
ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به.
ومن هجرة القلوب : هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)}المدثر.
الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». صحيح البخاري.
وعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟! مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ،وفي رواية: ودمائهم، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ" مسند أحمد
أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر
المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.
هجرة أماكن وأهل السوء:ـ
ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)} [المزمل] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك ، واتركهم تركاً لا عتاب معه.
وهناك هجْرٌ أي مقاطعةُ من يسيئون إلى الدعوة والدعاة، والصبرُ على أذاهم، قال جل جلاله:
قال ابن القاسم: سَمِعتُ مالكًا يقول: لا يحلُّ لأحد أن يُقيم بأرضٍ يُسَبُّ فيها السَّلَف؛ قال ابن العربي: وهذا صحيح، فإنَّ الْمُنكَر إذا لم تَقْدِر أن تغيِّرَه فزُلْ عنه؛ قال تعالى}وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(68){[الأنعام].
فلا يحلُّ لمسلم أن يُساكِن الكفار؛ خشيةَ أن يتطبَّع بطباعهم؛ لأنَّ الطَّبع سرَّاق، ولقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم (أنا بريءٌ من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين)، قالوا: يا رسول الله، لِم؟ قال: ((لا تَراءَى ناراهُما))؛ رواه أبو داود في "سننه" من حديث جرير البجلي.
هجر الصفات الذميمة :ـ
ويجب علينا أن نهجرَ الصفاتِ الذميمةَ، والأخلاقَ الرذيلةَ، فقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من أمثال هذه الصفات؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَبِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَبِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا".
قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ؟) قال: "أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ"، قَالَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ: (يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟) قَالَ: "أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ اللهُ، وَالْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، فَأَمَّا الْبَادِي فَإِنَّهُ يُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَأَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا". مسند أحمد واللفظ له، ورواه أبو داود مختصرا، والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم.
وعن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ! إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: (نَعَمْ!) قَالَ: «فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟» قَالَ: (نَعَمْ!) قَالَ: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا». صحيح مسلم .
قال النووي: [وَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هَذَا الأَعْرَابِيُّ؛ مُلازَمَةُ الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْكُ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ، فَخَافَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن لا يَقْوَى لَهَا، وَلا يَقُومَ بِحُقُوقِهَا، وَأَنْ يَنْكُصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا لَشَدِيدٌ، وَلَكِنِ اعْمَلْ بِالْخَيْرِ فِي وَطَنِكَ، وَحَيْثُ مَا كُنْتَ، فَهُوَ يَنْفَعُكَ، ولاينقصك اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ]. شرح النووي على مسلم .
قال العزُّ بن عبدالسلام: (الْهِجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثْم والعدوان، وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان؛ لِما فيها من إرضاء الرحمن، وإرغام الشيطان) "نضرة النعيم"
إذن فالهجرة هجرتان:ـ
1ـ هجرة تامة فاضلة لا يساويها ولا يوازيها شيء، وهي الهجرة من مكة وغيرها إلى المدينة، وهذه انقطعت وانتهت بفتح مكة.
2ـ وهجرة دائمة مستمرة وهي هجر المنكرات والمعاصي والسيئات، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ، وَالأُخْرَى أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ المَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِع وفي رواية: ختم عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ" المعجم الكبير للطبراني قال في إرواء الغليل
العنصر الرابع : فضل الهجرة :ـ
1ـ الهجرة لا مثل لها :ـ
الْهجرة من شريعة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهي باقية إلى قيام السَّاعة، وشأْنُها عظيم، لاعمل يعدِلُها، ولا وظيفة تُساويها، كما في الحديث الذي أخرجه النَّسائي بسند صحيح من حديث أبي فاطمة الليثي - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، حدِّثْني بعملٍ أستقيم عليه وأعمله؛ قال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليك بالهجرة، فإنه لا مثل لها)).
ومن له بالهجرة والقدرة عليها، إلاَّ قوي العزم والإرادة؟!
وهل يقدر عليها كلُّ إنسان؟
لا يقدر عليها إلاَّ ببذل النَّفس لها، وشَحْذ الهمة للوصول إليها، أَلِهذه الدرجة أمْرُ الهجرة؟! الجواب: نعَم؛ لأنَّ أمر الهجرة شديد؛ لأنَّ بعض الناس يظنُّ أنه مهاجر وليس كذلك، وإنما هو مُهَجَّر، قال عمر: هاجروا ولا تهَجَّرُوا، قال أبو عبيد: يقول: أخلصوا الهجرة لله، ولا تَشبَّهوا بالمهاجرين على غير صحَّة منكم.
روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ أعرابيًّا سأل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم عن الهجرة، فقال:(ويْحك، إنَّ شأنَها شديد، فهل لك من إبِلٍ تؤدِّي صدقتها؟) قال: نعم، قال: (فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لن يَتِرَك من عملك شيئًا).
قال الخطابِيُّ رحمه الله في "معالِم السُّنن": "وقوله (لن يَتِرك) معناه لن ينقصك، ومن هذا قوله تعالى}وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35){ [محمد]، والمعنى أنَّك قد تدرك بالنِّسبة أجرَ المهاجر، وإنْ أقمْتَ من وراء البحار، وسكنْتَ أقصى الأرض.
2ـ الضمان الإلهي للمهاجر في الحفظ والرعاية والنصرة :ـ
قال الله تبارك وتعالى:}وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100){ النساء.
إن المهاجر في سبيل الله سيجد في أرض الله تعالى منطلقا وسعة، ويجد الله تعالى في كل مكان يذهب إليه يجيبه ويرزقه وينجيه، ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الهجرة والموت إنما هو أمر محتوم عندما يحين الأجل المرسوم وسواء أقام أم هاجر فإن الأجل لا يستقدم ساعة ولا يستأخر فأعطى الله سبحانه ضمانا بوقوع الأجر عليه منذ الخطوة الأولى في الهجرة إليه، فأي ضمان آخر بعد هذا الضمان الذي يعطيه مولانا للمهاجر الصادق؟!
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عتيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول}من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله{.
وقال جل شأنه كذلك:}وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59){ الحج
ولقد يحظي المهاجر إلي الله ورسولة بمعية الله تعالي ولقد رأينا ذلك واضحا في أعظم هجرة وهي هجرة رسول الله تعالي ، حيث يقول الله عز وجل في حقه:}لَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40){ التوبة.
تجلى الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بالنصر في حادث الهجرة.. وفي قلب الغار "غار ثور" سلم كما سلم إبراهيم عليه السلام في وسط النار، وموسى عليه السلام في التابوت، ويونس عليه السلام في بطن الحوت وإذا لم يرد الله نجاة أحد فهو في البرج الشامخ يموت، وإذا تولى برعايته أحدا من خلقه حفظه بخيط العنكبوت وعصمه، فمن كان في ميدان العصمة كان مستغنيا عن نصرة المخلوقين...
3ـ الهجرة من ثمار الإيمان بالله تعالي
من الملامح التي نلحظها في حديث القرآن الكريم عن الهجرة أنه يقرنها بالإيمان في كثير من المواطن قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)) البقرة.
وقال الله جل جلاله: }الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22){ التوبة
وقال الله عز وجل:}وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74){ الأنفال.
4ـ الهجرة وسام شرف للمهاجرين
قال جل ثناؤه:}وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100){ التوبة.
السبق إلى الهجرة طاعة عظيمة، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع، فمن أقدم على الهجرة صار قدوة لغيره في هذه الطاعة... وكذلك السبق في النصرة... وللجميع الجنة والرضوان في النهاية.
وقال تبارك اسمه:}فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195){(آل عمران).
وقال تعالي }وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42){ (النحل).
ثم ذيل الله الكلام عنهم في سورة الحشر ابتداء من قوله تعالى }لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9){ الحشر.
هذه صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين لا ملجأ لهم سوى الله، ولا جنات لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون ينصرون الله ورسوله بقلوبهم.
العنصر الخامس : كيف نحصل علي ثواب المهاجرين ؟
العبادة في زمن الغربة وأيام الفتن :ـ
العبادة الخالصة لله تعالى وقت الفتن والشدائد والمحن تساوي هجرة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو القائل: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». رَوَاهُ مُسلم .
وفي رواية عند غيره: «الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». المعجم الكبير للطبراني .
فَالعِبَادَةُ في الفِتنَةِ كَالهِجرَةِ، وَالهِجرَةُ في الإِسلامِ وَلا سِيَّمَا في زَمَنِ الغُربَةِ وَالفِتنَةِ سَبَبٌ لِلمَغفِرَةِ وَالرَّحمَةِ، قَالَ تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(110)} [النحل]
في أَوقَاتِ الفِتَنِ وَمَا أَكثَرَهَا في هَذَا الزِّمَانِ- تَتَفَرَّقُ القُلُوبُ وَتَتَشَتَّتُ النُّفُوسُ، وَتَذهَلُ العُقُولُ وَتَختَلِفُ المَوَازِينُ، وَيَختَلِطُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ وَيَخفَى الصَّوَابُ، وَتَضعُفُ الهِمَمُ وَتَطِيشُ الأَحلامُ وَيَغلِبُ اتِّبَاعُ الهَوَى، وَيَكُونُ النَّاسُ في أَمرٍ مَرِيجٍ وَيُصرَفُونَ عَنِ الهُدَى، وَيَكثُرُ أَئِمَّةُ الضَّلالِ وَيَبرُزُ رُؤُوسُ الزَّيغِ، وَيُصبِحُ المَعرُوفُ مُنكَرًا وَالمُنكَرُ مَعرُوفًا، وَيَنصَرِفُ النَّاسُ إِلى الزَّخَارِفِ وَيَطمَئِنُّونَ إِلى الدُّنيَا، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا أَعَزَّ مِن مُؤمِنٍ يُهَاجِرُ إِلى رَبِّهِ بِقَلبِهِ، وَيُحَلِّقُ بِنَفسِهِ عَمَّا فِيهِ غَيرُهُ مِن اختِلاطٍ وَاضطِرَابٍ، وَيُفَارِقُ مُجتَمَعَاتِ الفَسَادِ وَالإِفسَادِ، وَيَكُونُ كَالسَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ إِلى الإِسلامِ، الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَموَالِهِم وَأَهلِيهِم، وَتَرَكُوا البُلدَانَ وَفَارَقُوا الأَوطَانَ، وَخَرَجُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاتَّبعُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ.
وَمَا أَمَرَّ تَجَرُّعَهُم لِلصَّبرِ وَأَشَدَّ قَبضِهِم عَلَى الجَمرِ، وَمَن كَانَ مِن أُولَئِكَ القِلَّةِ، فَهُوَ المُبشَرُ بِقَولِ الحَبِيبِ عليه الصلاة والسلام لأَصحَابِهِ: «إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامًا الصَّبرُ فِيهِنَّ مِثلُ القَبضِ عَلَى الجَمرِ، لِلعَامِلِ فِيهِنَّ مِثلُ أَجرِ خَمسِينَ رَجُلاً مِنكُم» (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
فهم خاطئ!!
في أيام الفتن يَفهَمُ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ الهِجرَةَ في أَزمِنَةِ الفِتَنِ، هِيَ اعتِزَالُ النَّاسِ وَمُصَارَمَتُهُم
وَالانصِرَافُ الكُلِّيُّ عَنهُم، وَلُزُومُ المَسَاجِدِ أَوِ البُيُوتِ لِصَلاةٍ أَو ذِكرٍ أَو قِرَاءَةِ قُرآنٍ أَو دُعَاءٍ، وَوَاللهِ
إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ وَمَشرُوعٌ في زَمَنٍ مَا، حَيثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ: «يُوشِكُ أَن يَكُونَ خَيرَ مَالِ المُسلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ» غَيرَ أَنَّ هَذَا لَيسَ بِأَفضَلَ وَلا أَكثَرَ أَجرًا مِمَّن يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم، وَيَسعَى في نَفعِهِم وَتَوجِيهِهِم وَتَعلِيمِهِمُ الخَيرَ وَدِلالَتِهِم عَلَيهِ، وَيَكُونُ بِقِيَامِهِ بِأَمرِ اللهِ بَينَهُم خَيرَ قُدوَةٍ لَهُم وَأُسوَةٍ،
أيها المسلمون : أَلا فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَكثِرُوا مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَزَوَّدُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَأَخلِصُوا للهِ وَكُونُوا لَهُ عَابِدِينَ، فَإِنَّكُم في زَمَنٍ تَتَوَالى فِتَنُهُ وَتَنتَشِرُ انتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ، وَلا مَنجَأَ مِن ذَلِكَ وَلا مَلجَأَ إِلاَّ المُسَارَعَةُ إِلى الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ وَاتِّخَاذُهَا زَادًا لِلمَعَادِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالأَعمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا وَيُمسِي كَافِرًا، وَيُمسِي مُؤمِنًا وَيُصبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنيَا» (رَوَاهُ مُسلِمٌ)،
وَعَن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَت: "استَيقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيلَةً فَزِعًا يَقُولُ: «سُبحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنزِلَ اللَّيلَةَ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَن يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ لِكَي يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ»" (أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ).
الخاتمة :ـ
أيها المسلمون : ما أحوجنا إلي هذا النوع من الهجرة في زماننا هذا الذي تنكبت فيه أمتنا طريق الهداية ونافست أهل الكفر في إتيان المنكرات إلا من عصم الله تعالي ، فشاع الزنا ،وعم الربا وشربت الخمر جهارا نهارا ، وجاهر الناس بالمعاصي دون حياء من الله تعالي .
فلا بد أن نحي في نفوسنا روح الهجرة إلي الله تعالي بالعودة إلي منهجه الصافي وندع ما نحن من بعد وانحراف عن منهج الله تعالي ،
فمن غض بصره عن الحرام في زمن غرق فيه الشباب في براثن القنوات الفضائية والمواقع الإباحية . فهو من المهاجرين .
ومن عفت يده عن الحرام حين تغلغل الحرام إلي النخاع وطرق أبواب الأتقياء فهو من المهاجرين .
ومن أمسك لسانه عن ذكر الناس والناس فاكهتهم ذكر فلان وغيبة فلان فهو من المهاجرين .
ومن تركت التبرج زالزينة الحرام وسط أخوات لها كاسيات عاريات فهي من المهاجرين .
فاللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ...
تحميل doc
-----------
تحميل pdf