22 مايو 2019

رمضان وصناعة الرجال







الحمد لله رب العالمين .. فرض الصيام تزكية للنفوس وتطهيرا للأرواح وتقوية للأخلاق فقال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة].
وأشهـد أن لا إله إلا الله  وحده لا شريك له ... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير ...ميز الأمة الإسلامية وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله فقال تعالي{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ...(110)}[ آل عمران].  
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله ()... ربي أصحابة علي الرجولة الحقة فخرج منهم خير الرجال  فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ:{خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ }.[رواه البخاري ومسلم] .
أما بعـد ...فيا أيها المؤمنون ..
إن الرجولة صفة امتن الله تعالي بها علي أهل الإيمان،ولأهميتها ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعًا.
فالرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته ودينه وأمته.
وإذا كانت الرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم، ما كانوا إلا رجالاً قال تعالي {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم (109)}[يوسف].
فلم يرسل الله عز وجل إلى الناس إلا رجالاً.
هذه الرجولة التي ضاعت مضامينها اليوم، وفقدت أركانها عند الكثيرين، فصاروا أشباه الرجال ولا رجال، هذه الرجولة نحتاج لنبنيها من جديد ،ولقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصي ، فمن هذه النعم شهر رمضان ...
إنه أعظم شهر في ميزان الإسلام..
فرمضان ليس مجرد شهر كباقي الشهور وإنما رمضان له دور كبير في بناء الأمة الإسلامية ، وصناعة الرجال، ولكن كيف يصنع الرجال؟؟
ولذلك كان موضوعنا عن [رمضان وصناعة الرجال ] وذلك من خلال  هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ دور رمضان في صناعة الرجال.
2ـ معيارالرجولة الحقيقية.
3ـ نماذج من الرجال خلدهم التاريخ.
4ـ وصايا عملية في غرس الرجولة عند الصغار.
=========================
العنصر الأول: دور رمضان في صناعة الرجال.
رمضان يقوم بفعل ثلاثة أشياء هامة في صناعة الرجال وهي:[التنقية والتميز والتربية!]
أولا : رمضان وتنقية الأمة الإسلامية :ـ
كثير من الناس يتسمى بأسماء إسلامية, ومحسوب على أمة الإسلام, وهو لا يحمل همها..
كثير من الناس أسلموا رغباً أو رهباً, أو ولدوا هكذا مسلمين دون  اختيار منهم ومع ذلك لم يكن لهم رغبة حقيقية في الإسلام..
كيف يمكن التفرقة بين من أسلم حقاً وقلبه مطمئن بالإيمان, والذي آمن بلسانه وقلبه مهتز مضطرب؟!
والأمور في حالات السلم والرخاء قد لا تكون شديدة الوضوح، ولكن في وقت الجهاد والجد والحرب ولقاء الأعداء لابد أن يكون المجتمع ثابتاً ، ولا يثبت في أرض الجهاد إلا صادق الإيمان..
ومن ثم فإنه قبل المواقع الفاصلة لابد من انتقاء المسلمين الصالحين للثبات والجهاد, ولابد من انتقاء المسلمين الصالحين لدخول بدر الكبرى، والصالحين لدخول ما شابه بدراً الكبرى.. 
فالكل يقول أنا مسلم ثابت.. ولكن أين الصادقون وأين الكاذبون؟!..
لابد من اختبار!..
ورمضان اختبار هام!..
رمضان يحدث خلاله وبعده "تنقية" للأمة المسلمة من الشوائب..
الذي سيفشل في الامتحان لا تبني عليه حساباتك..
والذي يثبت في رمضان سيثبت  إن شاء الله  في غيره..
ولكي يكون الاختبار حقيقياً لابد أن يكون صعباً..
فما هي صعوبة رمضان؟!
صعوبة رمضان ترجع إلى أمور عدة:ـ
1ـ منها أنه فرض.. وطبيعة الناس أن تنفر من الفروض والتكليفات..
2ـ ومنها أنه شهر كامل متصل.. والأعذار فيه محدودة، وليس لك بديل عن الصيام إلا بعذر مقبول شرعاً، وقد يأتي رمضان في الحر، أو قد يأتي في وقت تزدحم فيه الأعمال عليك، أو قد يأتي في وقت تكثر فيه مشاغلك وهمومك، وفي كل هذا هو شهر كامل متصل لا يصلح الذي قبله ولا الذي بعده..
3ـ ومنها أنه خروج على المألوف، فشهوة الطعام والشراب والجماع شهوات مزروعة في داخل كل إنسان.. وفي رمضان ستخرج خروجاً تاماً عن المألوف، ستجوع ، ستعطش، ستتعب.. ستنهك، ولكن يجب أن تصبر..
4ـ ولكن أصعب من كل ذلك أن تصوم صياماً حقيقياً كما أراد الله عز وجل،فليست المسألة مسألة طعام وشراب وشهوة فقط، ولكن الأمر أكبر من ذلك، والاختبار أصعب من ذلك..
فعلى سبيل المثال ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ():
"من لم يدع قول الزور العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه شرابه"..
وفي رواية أيضاً في البخاري وأبي داود واحمد..
"من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل (أي الجهل على الناس أو صفات الجهل بصورة عامة) فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"..
إذن لابد أن تدرك أنك في رمضان ستدخل في اختبار صعب..
إن نجحت فيه كنت مؤهلاً لحمل الأمانة ولبناء الأمة، وإن فشلت فليس لك مكان في الصرح العظيم..
ومن هنا فليس من المعقول أيها المسلمون ـ لفرد مسلم مؤمن يدخل في اختبار عظيم كاختبار رمضان ثم هو يقضي الساعات الطوال أمام التليفزيون مثلاً!!..
ليس من المعقول أن يقضي المسلم الواعي الأوقات الطويلة في لعب الكوتشينة والطاولة وما شابه بحجة أنه "يسلي" صيامه!!!..
ليس من المعقول أن يذهب الصائم إلى عمله متأخراً ويخرج منه مبكراً ويقضي نصف نهاره نائماً والسبب أنه "صائم"!!..
اعلم أخي المسلم أن رمضان اختبار لتنقية صف المسلمين..
ومن الذي يختبرك؟!
إنه الله عز وجل!!
قال تعالي {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}[الزمر].
إذن رمضان اختبار يراقب الله عز وجل فيه أفعال العباد.. فينتقي الصالحين ويطرد الفاسدين وبذلك تحدث التنقية للمجتمع المسلم..
والأمة التي تبني على أكتاف عناصر صالحة ستكون أمة قوية إن شاء الله..
ثانياً: رمضان وتميز الصف المؤمن عن غيره من الصفوف:ـ
كان المسلمون في السنة الأولى في المدينة المنورة كانوا يصومون عاشوراء مع اليهود،
وكان ذلك فرضاً على المسلمين..
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي () فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: "ما هذا؟" قالوا : يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال رسول الله ():"أنا أحق بموسى منكم فصامه, وأمر بصيامه "..
فلما فرض شهر رمضان قال: "من شاء صامه  أي يوم عاشوراء ـ ومن شاء تركه"..  أي أصبح صيام يوم عاشوراء نافلة.
الآن.. ستتميز الأمة الإسلامية عن غيرها.. ستصوم شهراً خاصاً بها.. ومن المؤكد أنها ستشعر بالعزة لهذا التميز..
فجاء رمضان ليؤسِّس مبدأ (التمايز)؛ أي: تمايز الأمَّة المسلِمة عن غيرها في كلِّ شيء: في الرِّسالة، والتشريع والمنهج، والأخلاق والسلوك، وقبلَ كلِّ ذلك التمايز في التصوُّر والاعتقاد.
لقد تخطَّى الحدثُ حدودَ الزمان؛ ليُلقي بظلاله على أيَّامنا؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ():{لتَتبعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم شِبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع؛ حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه". قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!"؛ أي: فمَن غيرهم؟!} [رواه الشيخان].
عَلِم الله  تعالى وأخبر رسوله () أنَّ كثيرًا من أبناء الأمَّة الإسلاميَّة في فترات ضَعْفهم، وسقوط حضارتهم، سيذوبون في الحضارات المنتصرة عليهم، مهما كانت ماديَّة وغير مُسلِمة؛
لذا أخبرنا الرسول  بذلك الحال المستقبلي لنتجنَّبَه.
إنَّ مظاهر الذوبان، وعدم التمايُز كثيرةٌ اليومَ بين صفوف المسلمين؛ تُشاهِدُها في ابتعادهم عن لُغة القرآن، وتعلُّقهم باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، وليست المشكلة في الحرص على تعلُّم الإنجليزية وغيرها؛ ففي زمان الضَّعْف هذا صارتْ هي لغةَ العِلْم والحضارة، ولكن المشكلة في ابتعادنا عن لُغتنا الأم، حتى صارتْ أسماء المحالِّ أجنبيَّة، وصارتْ لُغة الحياة اليوميَّة مشحونة بالألفاظ الأجنبيَّة، وصار مَقامُ الفرد في عين مُحدِّثيه يُقَيَّم بعدد المصطلحات الأجنبيَّة التي يستخدمها.
وكذلك نرى مظاهرَ الذوبان في شكل الملابس، وأنماطِها؛ فالظواهر الشاذَّة كالبِنطال الساقط وغيرِه انتقلتْ إلينا بسرعة من الغرْب، ولم تجد من كثير من الشباب إلاَّ الترحيب، بينما خفتتِ الأصواتُ المستنكرة لها شيئًا فشيئًا، كعادتنا في زمن الضَّعْف، وغير ذلك من المظاهر كثير.
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه .
فهذا التميز تلبية للشعور بالإمتياز والتفرد ; كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالإمتياز والتفرد .
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم , التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء . 
ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات ، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات ، كان نظرة إلى البواعث الكامنة  وراء الأشكال الظاهرة ، وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم , وعقلية عن عقلية , وتصورا عن تصور , وضميرا عن ضمير , وخلقا عن خلق , واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال:قال رسول الله () قال:{إن اليهود والنصارى لا يصبغون ،فخالفوهم }[رواه البخاري ومسلم ].
وقال رسول الله () وقد خرج على جماعة فقاموا له:{لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها }[رواه الترمذي] .
وقال صلوات الله وسلامه عليه:{لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا:عبد الله ورسوله }[أخرجه البخاري] . 
وعَنْ  شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ():{خَالِفُوا الْيَهُودَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ}[أخرجه أبو داود].
نهى عن تشبه في مظهر أو لباس ،ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك ، ونهى عن تشبه في قول
أو أدب . .
إنَّ الأمم التي تُريد أن تنهض لا بدَّ أن يكون التمايز مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّنات مشروعها الحضاري النهضي. 
ثالثاً:رمضان وتربية المجتمع المسلم:ـ
ماذا يربي رمضان فينا؟!
1ـ رمضان يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر..
فالله عز وجل يحب من عبده أن ينصاع له دون جدل, وأن يطيعه دون تردد ،والله تعالي يٌظهر لنا أحيانا الحكمة من وراء الأمر, ولكنه أحيانا أخرى يخفيها, ومع ذلك فإنه في كل الحالات على المؤمنين أن يطيعوا..كما قال تعالي {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}[الأحزاب].
ـ لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب, وليس من الفجر إلى العصر أو إلى العشاء, أو من الشروق إلى الغروب؟!.
وهناك أسئلة بلا إجابات.. ومقصود أن لا يكون لها إجابات..
والغرض منها: تربية المؤمنين على الطاعة الكاملة لله عز وجل, ولرسوله الكريم (
وحتى وإن ظهر لعيوننا القاصرة طرف من الحكمة فهي ليست كامل الحكمة, أو قد لا تكون الحكمة مطلقاً.
هذه واحدة من تربويات رمضان.. ومعنى ذلك أنه لا يستقيم بعد رمضان أن تسمع حكماً من أحكام الله ثم تجادل.. أو تسمع حكماً من أحكام الرسول () ثم تجادل..
قال تعالي{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}[النساء]
2ـ رمضان يربي المسلمين على كبت شهواتهم, أو قل على "التحكم" في الشهوات إلى أن تصرف في المكان الصحيح..
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال :قال رسول الله():{من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه اضمن له الجنة}[رواه البخاري ومسلم].
لحييه هما العظمات في جانبي الفم, والذي بينهم هما اللسان والفم, فيشتمل ذلك الكلام والطعام والشراب, أما ما بين الرجلين فهو الفرج..
فرمضان يدرب المؤمن تدريباً عظيماً على حفظ هذه الأشياء.. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ():{الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه (لاحظ الصيام منع الطعام"ما بين لحييه", ومنع الشهوات "ما بين رجليه") ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه (أي قيام الليل) فيشفعان} [رواه الإمام احمد بسند صحيح]
تدريب عظيم على التحكم في الشهوات..
نلاحظ أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال ، ولكنها حرمت في نهار رمضان فقط, وهي حلال طوال العام, بل هي حلال حتى في ليل رمضان، وذلك مثل الطعام بأنواعه, والشراب بأنواعه, والجماع مع الزوجة..  فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد عليها سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام والشراب الحرام والعلاقات المحرمة وهكذا..
وهذا أقدر في بناء الرجال ، لانه من استطاع أن ينتصر علي نفسه وشهواته فيكون أقدر في الانتصار علي الأعداء ، وتحمل المشاق في الأزمات والشدائد .
الجهاد مشقة كبيرة.. وستأتي على الأمة المجاهدة أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة, ومن كان معتاداً على الصيام فهو على الجهاد أقدر من غيره..
ففي غزوة خيبر قل الطعام جداً في أيديهم حتى ذبحوا الحمر الأهلية, وطبخوها, وهموا بأكلها فعلاً, ولكن رسول الله () منعهم من ذلك, وحرمها عليهم.. 
وهذه فتنة كبيرة لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء, فمن الله عليهم بالثبات في أيام الشدة..
والصيام بصفة عامة سواء في رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي..
دور التدريب على التحكم في الشهوات.. ومن هنا نستطيع أن نفهم النصيحة النبوية الغالية من رسول الله () إلى عامة الشباب... عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله () قال:{يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء}[ رواه البخاري ومسلم].
ومن أجل ذلك أيضاً حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين على كثرة الصيام طوال العام.. ولكن من رحمته لم يجعل ذلك فرضاً عليهم..
وهكذا يصبح المؤمن مدرباً طوال العام على التحكم في شهوته, والتحكم في فطرته تحكماً سليماً.. وما أنفع ذلك في بناء الرجال.
ثالثاً: رمضان يربي المؤمنين على التحكم في الأعصاب, والقدرة على كظم الغيظ :.
وهذا أمر من أعظم الأمور في بناء الرجال بناءاً سليماً..  لأن الفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمم..
ما هو دور رمضان في هذا الموضوع؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ():{قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة.(أي الصيام وقاية وحماية للإنسان), فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم, إني صائم}[رواه البخاري ومسلم].
إذن الصيام يربي على التحكم في الأعصاب, وعلى عدم انفلات اللسان, وعلى كظم الغيظ,
وعلى العفو عن الناس, وكلها صفات أساسية للرجال..
فالإسلام دين راق جداً.. يدرب أتباعه على حسن معاملة الآخرين حتى في حال العداوة والكراهية..قال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}[المائدة].
والصيام يقوم بهذا التدريب بصفة مستمرة ، فتستفيد الأمة من هذا حتى في أوقات السلم, وتخيل معي أمة أو شعباً يغلب عليه هدوء الأعصاب, والتحكم في اللسان, وكظم الغيظ..
وكل هذا من تربية الصيام..
رابعاً: رمضان يربي على الجود والكرم..
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله () أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة}[رواه البخاري ومسلم]..
هل يمكن لأمة بخيلة شحيحة أن تبني رجال يسودون ويقودون ؟ مستحيل!!..
البناء يحتاج إلى إنفاق وبذل وعطاء،  ومدرسة الصيام تعلم الناس الإنفاق والعطاء, وانتظار الأجر من رب العالمين فقط..
خامساً: رمضان يربي التقوى في قلوب المسلمين..
وهذا أمر هام جداً جداً.. فالتقوى هي لب الصيام.. وهي الغاية الرئيسية منه..قال تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}[البقرة].
التقوى هي وصية الله عز وجل إلى الأولين والآخرين..قال تعالي {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ(131)}[النساء].
التقوى هي وصية رسول الله () لأمته، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه :{اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}[ رواه الترمذي]..
التقوى هي أن تتقي غضب الله عز وجل في السر والعلن..
إذا كنت في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد.. وأنت صائم.. وبجوارك الطعام الشهي والماء العذب, وأنت جائع عطش, فلا تقرب الطعام ولا الشراب مخافة الله عز وجل, فهذه هي التقوى..
التقوى كما قال عمر بن العزيز رضي الله عنه ليست بقيام الليل أو بصيام النهار, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله..
عندماً تكون راجعاً من عملك وأنت متعب منهك, فتسمع آذان العصر فتنزل لتصلي في المسجد من أجل الحسنات المضاعفة, فهذه هي التقوى..
عندما يجهل عليك أو يسبك بل يقاتلك أحد في شغلك أو في بيتك أو في الشارع فتقابل جهله بالحلم, وتقابل أذاه بالعفو, وتقول إني صائم.. فهذه هي التقوى..
عندما تضبط المنبه قبل الفجر بساعة أو ساعتين لكي تقوم لتناجي ربك في جوف الليل حيث لا يراك أحد إلا الله ولا يسمع بك أحد إلا الله.. فهذه هي التقوى..
عندما تشعر بالفقراء والمساكين والمحتاجين فتخرج من جيبك إلى هذا وإلى ذاك وتخفي صدقتك, فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك.. تفعل ذلك رغبة في الجنة, وخوفاً من النار.. فهذه هي التقوى..
عندما تكون حريصاً كل الحرص على أن تعرف رأي الدين في أمر من الأمور, وتتبع كلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم () دونما جدل لا تردد.. فهذه هي التقوى..
التقوى هي كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "تمام التقوى أن يتقي العبد الله عز وجل حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً"..
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال لسائله: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم, قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه (تجنبته) أو جاوزته (قفزت من فوقه) أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر), قال أبو هريرة: ذاك التقوى..
الشوك هو الذنوب والمعاصي.. وهو كل ما حرم الله عز وجل..
خلّ الذنوب صغيرها               وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض        الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة         إن الجبال من الحصى
ترى ماذا يحدث لو أن الأمة أصبح رجالها أتقياء يخافون الله تعاليويقدرونه حق قدره؟!..
والله ينجو الفرد وينجو المجتمع!..
قال تعالي {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ(3)}[الطلاق].
هذا ليس للأفراد فقط بل للأمة جميعاً..
يجعل الله عز وجل للأمة مخرجاً من همومها ومشاكلها ومصاعبها، يرزق الله الأمة من حيث لا تحتسب، تٌرفع الأزمات الاقتصادية ، ويكثر الخير في أيدي الناس، ويهابها أهل الأرض جميعاً..
قال تعالي {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}[آل عمران].
وقال تعالي {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}[النحل].
وتخيل أمة يكون الله معها.. فمن يكون عليها؟! لا أحد!..
فرمضان فرصة حقيقية..
فرصة للأمة أن تبني نفسها من جديد..
فرصة للصالحين أن يزدادوا قرباً من الله..
فرصة للعصاة أن يعودوا إلى ربهم..
فرصة لرفع البلاء..
العنصر الثاني : معيار الرجولة:ــ
1ـ يخرجون من المساجد:ـ
يقول الله تعالى واصفاً المسجد الذي ينبغي أن يكون حاله الصحيح، ومن هو بداخله، يقول الله تعالى:{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}[التوبة].
أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة، لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى لوجه الله عز وجل.
أين مكان أولئك الرجال؟
أين مكانهم؟ هل هم في الأندية؟ أو في الحفلات؟ هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟ هل هم في المجتمعات الفارغة التي تفرغ الرجولة من معانيها؟
كلا !! فِيهِ رِجَالٌ، في هذا المسجد رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ، ويأتون إلى المسجد على طهارة،
والله يحب هؤلاء الرجال .
2- الرجولة: صدُق في العهود، ووفاء بالوعود، وثبات على الطريق:ـ
قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)}[الأحزاب].
3- الرجولة: هي تحمُّلُ المسئولية، والنصح في الله، والدفاع عن أولياء الله:ـ
رجل واحد يفعل أفعال لا تفعلها أمة بأسرها، رجل واحد يعدل غثاء، بل إنه يرجح عليهم،
قال الله تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}[القصص].
ما جعله يأتي من أقاصي المدينة، وما جاء يمشي بل جاء يسعى لماذا ؟ دفاعاً عن أولياء الله والدعاة إلى الله، إنها الرجولة الحقة بكل معانيها.
قال ابن كثير رحمه الله: وصف بالرجولية لأنه خالف الطريق يعني الطريق الجادة التي تسلك في الشارع ، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، يأتي هذا الرجل يسعى يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام، تقديم النصيحة حتى في حالة الخوف هذه من صفات الرجولة.
ـ وأيضا يصف الله تعالي هذا الرجل مؤمن آل يس بالرجولة الحقة في تأييد الرسل في دعوتهم، ومناصرتهم، ويبين للناس أن من جاءت به الرسل هو الحق، يعين الرسل ويساعدهم.
قال تعالي {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}[يس].
ومن تحمل المسئولية مسئولية القوامة في البيت
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ....(34)} [النساء].
 والقيِّم أي الرئيس، الذي يحكم أهله ويُقوِّم اعوجاجهم إذا اعوجوا، وهو المسؤول عنهم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته " أخرجه البخاري ومسلم.
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يعين أهله، وأن يلاطفهم وأن يداعب أبنائه وأن يقبلهم.
عندما سئلت السيدة عائشة عن فعل رسول الله () في بيته، قالت:{كان رسول الله () إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكًا بسّامًا، وما كان إلاّ بشرًا من البشر، كان يكون في مهنة أهله - يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا أحضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادمًا}.
4- الرجولة: قوةٌ في القول، وصدعٌ بالحق
قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون وهو يصدع بكلمة الحق : {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)} [غافر]
5- الرجولة: صمودٌ أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات
الرجال يصمدون أمام الملهيات ويستعلون علي المغريات ،حذراً من يوم عصيب يشيب فيه الولدان وتتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}[النور].
6- الرجولة: تظهر عندما تشتد الأزمات وعند الفتن :ـ
قد تمر بالمسلمين شدائد وضائقات، قد يمر بالمسلمين عسر شديد، تنقطع بهم السبل فيتحير الناس
ويضطربون، ويميدون ويحيدون عن شرع الله، فترى الناس متفرقين شذر مذر، لا يرى أحدهم
الحق ولا يتبعه، حيرتهم فتن الحياة الدنيا، فاضطربوا اضطراباً شديداً، وتبعثروا وتفرقوا، من الذي يثبت في هذه الحالة؟
من الذي يقوم بواجب التثبيت في هذه الحالة التي تقع فيها الفتن بالمسلمين، نحتاج إلى عناصر مثبتة، تثبت المسلمين على المنهج الرباني، من الذي يثبت؟
في حالة الأزمات تٌكتشف معادن الرجال، يٌفضي كل رجل إلى معدنه الخالص؛ ليستبين أمام الناس هل هو من أهل العقيدة أم لا؟
في حالة الأزمات يتبين الرجال الذين يقفون على منهج الله بأقدام راسخة.
وقف الصديق رضي الله عنه متوعدًا مانعي الزكاة قائلاً قولته المشهورة: {وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ () لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ}، وبذلك قضى على مانعي الزكاة الذين كانوا يريدون أن يتملصوا من تعاليم الدين، ويتحللوا من فرائضه رويدًا رويدًا، لكنه رضي الله عنه أدبهم فأحسن أدبهم، وردهم إلى الجادة، وجعلهم يسيرون في قافلة التوحيد مرة
أخرى، بعدما كادوا أن يَضلوا ويُضلوا.
فلولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقوفه في وجه المرتدين لكان حال الإسلام في الجزيرة العربية، بل والعالم أجمع غير تلك الصورة التي نعيشها الآن.
وكذلك الحال مع المتوكل الذي أبطل فتنة القول بخلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة، واحتضنها ثلاثة من خلفاء بني العباس، وهم: المأمون، والمعتصم، والواثق.
هذه الفتنة التي لم يثبت أمامها من العلماء إلا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل طيب الله ثراه الذي رفض الإذعان لأهل السلطان، ولم يخش الصولجان، وضحك في وجه المنايا بعين راضية، ونفس أبية، وشخصية قوية، وعقيدة صافية لا دخن فيها ولا شوائب، وتصدى لأعدائه وهو شامخ البنيان، ثابت الجنان، فصيح اللسان؛ فقد حاول أعداؤه أن يفرضوا عقيدتهم السقيمة بالقوة، واستعانوا بذوي المناصب، فأدخل أبو عبد الله السجن، وتكسرت السياط على البساط، وهو كالجبل الأشم الذي يصعب على الأعاصير المسمومة أن تنال منه شيئًا، وبعد ذلك منَّ الله تعالى عليه، وخرج من تلك المحنة مرفوع الرأس، مشرق الوجه، عالي الجبين، وثبت الله به المؤمنين، وهذا ما حدا بعلي بن المديني أن يقول: أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة ]
7ـ الرجولة توزن بميزان الإيمان والتقوى:ـ
الرجولة هي قوة الإيمان قبل قوة البنيان، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله (): مم تضحكون؟، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: "والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد"، رواه أحمد..
ميزان النبي () للرجال لا ينظر إلى الفوارق في اللون والجنس والنسب، ولا يرجع إلى الجاه والمال والمنصب، فالناس كلهم لآدم، وآدم خُلِقَ من تراب.. وإنما التفاضل فيه بتقوى الله والعمل الصالح, كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}[الحجرات].
قال ابن تيمية: "ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ، ولا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان ".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله () وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال:{أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، ألا هل بلَّغتُ ؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليُبلِغِ الشَّاهدُ الغائبَ }[رواه أحمد].
 الرجولة ليس لها سن معين وليست مرتبطة بنوع:ـ
الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ طاعن في السن وقلبه في سن الطفولة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير... ولكنه ذو لحية وشارب.
لقد مر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مجموعة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك ؟
فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
قال تعالى: {... وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}‏ [المنافقون ].
وجاء في الحديث الصحيح يقول (): { يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: " فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)}[الكهف]
والرجولة الحقيقية ليست قاصرة على الرجال ، لقد سطر التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً نماذجاً نسائية قدمنا أمثلة من الشجاعة والجرأة والإقدام ما يعجز عليها الكثير ممن يدعون الرجولة على مر العصور منهم :
السيدة صفية بنت عبد المطلب:
في غزوة الخندق، وضع النبي ()النساء والأطفال في الحصون لحمايتهم، فكانت صفية وأمهات المؤمنين في حصن حسان بن ثابت، وكان من أمنع حصون المدينة.
وبينما كان المسلمون منشغلون بقتال عدوهم، تسلل يهودي وطاف بالحصن يتجسس أخباره، فأدركت أنه يريد معرفة أفي الحصن رجال أم إنه لا يضم غير النساء والأطفال. فحملت عمودًا وتلطّفت حتى كانت في موضع تمكنت فيه من عدوها، ضربته على رأسه فوقع فانهالت عليه حتى مات، لكي لا ينقل خبرهم إلى قومه. ثم حزّت رأسه بسكين، وقذفت بها من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج حتى استقر بين أيدي يهود كانوا يتربصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم؛ قالوا: (قد علمنا إن محمداً لم يكن ليترك النساء والأطفال من غير حماة)، فعادوا أدراجهم.
ولو كان النساء كمثل هذي **** لفضلت النساء على الرجال
فما التانيث لاسم الشمس عييب **** ولا التذكير فخر للهلال
العنصر الثالث :نماذج من الرجال خلدهم التاريخ:ـ
1- حاصر خالد بن الوليد (الحيرة) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل!
2- لما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه: "أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد".
3- في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر رضي الله عنه: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
* رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة. إنهم الرجال أقوياء الإيمان أقوياء العزائم فهم أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين.
فإن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم.
إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة، ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال. إننا نحتاج إلى الرجال الذين يثبتون وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيراناً، نحتاج إلى رجال يبصرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يُثبِّتُون الناس على شرع الله عز وجل. 
العنصر الرابع : وصايا عملية في غرس الرجولة عند الصغار
1ـ إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس:ـ
عن سَهْلِ بْنِ سَعْد (رضي الله عنه ) قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ () بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ:يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ}[رواه البخاري].
2ـ منعه من الكسل والبطالة، والتقليل أحياناً من حياة التّرف:ـ
قال سيدنا عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.
3ـ تجنيب الطفل أسباب الفساد والميوعة:ـ
مثل مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى، ورقص النساء وتمايلهن، والميوعة في اللباس وقصّات الشّعر والحركات والمشي، فإنها منافية للرّجولة ومناقضة للجِد.
4ـ استكتامه الأسرار:ـ
كما روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قَال: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ () وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه () لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟
قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّه (عليه الصلاة والسلام ) أَحَدًا.
5ـ تربية الطفل على العزة والشجاعة، وتحديثه عن أمجاد المسلمين، ومواطن عزتهم وانتصاراتهم .
جاء في البخاري أن الزبير بن العوام رضي الله عنه خرج بابنه عَبْد اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً .
فاللهم احفظ أولادنا من المعاصي ما ظهر منها وما بطن ، وتقبل منا الصيام والقيام زاجعلنا من الفائزين برمضان .


رابط doc


رابط pdf

17 مايو 2019

رمضان شهر الولاية






رمضان شهر الولاية

الحمد لله رب العالمين. ولي المؤمنين يخرجهم من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .فقال تعالي { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} البقرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... رفع عن أوليائه الخوف والحزن وأعطاهم البشري في الدنيا والآخرة بإيمانهم وتقواهم فقال تعالي { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} يونس .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله () أمر بالتضرع باسم الله الولي فقال () {اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِى شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِى وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ }[رواه الترمذي بسند حسن]
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..

رابط صوتي

12 مايو 2019

رمضان شهر الجود والكرم





الحمد لله رب العالمين ...الغني الحميد دعا المؤمنون إلي التجارة معه تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}[الصف].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير يضاعف الثواب للمنفقين في سبيله فقال تعالي{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
[البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله () فتح الباب أمام أصحابه للتجارة مع الله فعن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:{ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا.. ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر}[رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح]
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ....
أما بعد : فيا أيها المؤمنون ...
فإن رمضانَ شهرُ الجود، وشهر السخاء؛ فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهرها من شحها، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)} [الحشر].
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان رسول الله () أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} . [رواه البخاري].
هكذا وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (21)}[الأحزاب].
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ () أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ} [البخاري ومسلم]
إن أعلى تجارة وأغلى تجارة هي التجارة ببذل النفس والمال لله عز وجل، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر].
لذلك كان حديثنا عن رمضان شهر الجود والسخاء وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية 1ـ التوجيهات القرآنية في الجود والكرم .
لماذا الإنفاق بالمال .
وسائل التحفيز في الجود والكرم. 
4ـ عاقبة الشخ والبخل .
5ـ صورة من التاريخ .
=========================
العنصر الأول : التوجيهات القرآنية في الجود والكرم:ـ  
لقد أعطي الله عز وجل توجيهات كثيرة  منها :ـ
 الإنفاق من الحلال الطيب:
قال تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ(267)}[البقرة].
الإنفاق في السراء والضراء:ـ
قال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (134)}. [ آل عمران] .
في البحبوحة وفي الإقتار، في الضيق المادي وفي السَّعة المادية.

3ـ الإنفاق في سرا وعلانية: ـ
قال تعالي {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً (274)}[البقرة].
لقد كان زينُ العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما يَحمل جِرَابَ الخُبْز على ظهْرِه باللَّيل فيتصدَّق به، ويقول: {إنَّ صدقةَ السرِّ تطفئ غضبَ الربِ عزَّ وجلَّ}.
وكان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون، لا يدْرون من أين كان معاشهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤْتَون باللَّيل، ولمَّا مات رضي الله عنْه وغسَّلوه جعلوا ينظرون إلى آثارِ سَوادٍ في ظهْره، فقالوا: ما هذا؟
فقالوا: كان يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقيقِ ليلاً على ظهره يعطيه فقراءَ أهلِ المدينة.
4ـ الإنفاق سرا لمراعاة المشاعر:
أما إذا توجهت الصدقة إلى إنسان مراعاة لمشاعره، ولكرامته الإنسانية، ولأخوته الإيمانية فينبغي أن تكتم هذا الإنفاق:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}. [البقرة].
5ـ عدمُ إتباع الصدقة بالمن والأذى:
يقول الله عز وجل : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى (262)}[البقرة]
6ـ شرط قبول الإنفاق:ـ
ما شرط قبول الإنفاق ؟ قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ (265)}
[البقرة].
فالعمل الصالح والإنفاق من العمل الصالح لا يقبل إلا إذا كان ابتغي به وجه الله، لذلك قال (): {إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} مع الإخلاص ينفعك قليل العمل وكثيره، ومن دون إخلاص لا ينفعك لا قليله، ولا كثيره، قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ (265)} [البقرة] .
وماتنفقوا من خير فلأنفسكم : أنت حينما تنفق تؤكد لنفسك أنك تحب الله، تؤكد لنفسك أن هذا المال تحل به مشكلات كثيرة في حياتك لكنك آثرت أخاك الفقير على نفسك، فكأن هذا المبلغ الذي تدفعه سمي في القرآن صدقة، لأنه يؤكد صدقك في محبة الله، قال تعالى:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ (272) [البقرة].
لو أن كل البشر مؤمنون ما زاد في ملكي شيئاً. عن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله () قال الله تعالي:{يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ }[ رواه مسلم].
العنصر الثاني : لماذا الإنفاق بالمال :ـ
للإنفاق بالمال مغزى مميز وذاتية فريدة وحكم بالغة ...من ذلك ما يلي :ـ 
أولا :ـ يعتبر الإنفاق بالمال اختبار لقوة العقيدة ومقياسا لصدق الإيمان ووسيلة لتطهير النفس البشرية من الشح والبخل فمن غرائز الإنسان حب المال ..
ولقد أشار القرآن ذلك فقال تعالي: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران ].
إن التضحية بالمال في سبيل الله مع حبه وتفضيل حب الله ورسوله لدليل قوى على العقيدة والإيمان ..
ولقد عبر القرآن عن ذلك فقال الله تبارك وتعالى { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}[آل عمران ] .
وليس هناك أدنى شك في أن أفضل مجالات الإنفاق هو الإنفاق في سبيل الله .
ثانيا: امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى المالك الحقيقي والأصلي للمال:ـ
فملكية الناس للمال ملكية حيازية مؤقتة ووسيلة لمساعدة الفرد على عبادة الله وعمارة الأرض
وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ (33)}[النور].
ولقد أمرنا الله في كثير من الآيات بإنفاق المال في سبيل الله تعالي .
ثالثا :ـ جعل الله الإنفاق في سبيله اختبارًا حاسمًا تختار فيه بين وعد الله ووعد الشيطان..
يقول عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء.. وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)} [البقرة].
رابعا :ـ  في إنفاق المال ضرورة حتمية للمحافظة على أعراض المسلمين وأموالهم وتقوية اقتصاد الأمة الإسلامية :ـ
فنحن نعلم أن الطواغيت والكفار والفراعنة ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ويعتدون على المسلمين فينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم وييتمون أولادهم ويشردون شيوخهم ..
ولقد صور القرآن العظيم ذلك تصويرا بليغاً فيقول الله تبارك وتعالى :{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال] .
أما الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله فقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال].
العنصر الثالث :ـ وسائل التحفيز إلي الإنفاق في سبيل الله تعالي :ـ
 الجنة نتيجة حتمية للإنفاق:ـ
جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال.. فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)} [آل عمران]. فأول صفة تُذكر للمتقين: أنهم ينفقون في السراء والضراء!! يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال".
ويتضح بالفعل أننا نعاني من قصورٍ شديدٍ في فهم حقيقة الجنة.. فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة؛ فكانوا يستعذبون الآلام في سبيلها, ويستمتعون بالموت من أجلها!!
"الجنة" كثيراً ما تتردد علي أسماعنا؛ فلا تُحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوب الصحابة، ولابد أن نقف مع أنفسنا لحظات؛ فنسألها: لماذا؟!
ولقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالجنة مقابل جهادهم بالمال والنفس،فقال الله تعالى:{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم.. بِأَنَّ لَهُمُ (الجَنَّةَ (111)} [التوبة].
ثم يقول بعد قليل في نفس الآية: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ.. وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}!!  لقد كان تجاوب الصحابة مع وعد الله بالفوز والجنة سريعًا وواقعيًّا بصورة لافتة للنظر، تأمل رد فعل أبي طلحة الأنصاري تجاه آية واحدة من كتاب الله.. طالما قرأناها!!
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه "بيرحاء" (اسم بستانه من النخل)، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب.
قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ(92)} [آل عمران].
قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي "بيرحاء".. وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَهَا عند الله.. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ!! ذلك مال رابح! ذلك مال رابح!.. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: "أفعل يا رسول الله".. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه..
هكذا تعامل مع وعد ربه بصدق وصراحة.. ودون تسويف بحث عن أفضل ما يحب من ماله (بستانه!!)، وبذله لربه في كلمة واحدة!!، ولم يكن هذا السلوك استثناءً في أخلاق الصحابة.. ولا كان لحظة تسرُّعٍ من أبي طلحة.. كل ما هنالك أنهم كانوا يرون الجنة أمامهم بكل ما فيها من نعيم.. يرونها دائمًا.. أمام كل قول أو فعل أو تضحية..
وما أدراكم ما الجنة؟
روى الإمام مسلم رحمه الله عن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ():
"سأل موسى عليه السلام ربه: "ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة.. فيقول: أَي رب.. كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟!، فيقال له: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟، فيقول: رضيت رب.. فيقول: لك ذلك ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ!، فقال في الخامسة: رضيت رب!!، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله!.. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك..!، فيقول: "رضيت رب!"، قال موسى عليه السلام: "رب فأعلاهم منزلة؟!"، قال: "أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها؛ فلم تَرَ عينٌ ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر".. قال صلى الله عليه سلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ(17)} [السجدة].
وليس معنى ذلك أن يقتصر المسلم في سعيه إلى الجنة على الرغبة في أدنى الدرجات، بل هو مأمور بالحرص على المعالي، وطلب الفردوس الأعلى في الجنة برفقة النبي () الذي يقول: «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» [رواه البخاري].
اللهم إنا نسألك الفردوس..
2ـ الجمع بين الصلاة والإنفاق:
كثيرًا ما جمع الله بينهما في كتابه الكريم، ومن المعروف أن الصلاة عماد الدين، وهي أهم عبادة في الإسلام،ومن ثَمَّ يأخذ الإنفاق في سبيل الله من قلب المؤمن حيّزًا يقترب من حيز الصلاة.
تأمل قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21)} [المعارج].
صفات أساسية مجبول عليها الإنسان: الهلع، والجزع، والمنع: أي البخل.. ثم يأتي الاستثناء:{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)} [المعارج].
فالصلاة أولاً، ثم ماذا؟{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25)} [المعارج]
فجاء الإنفاق تاليًا للصلاة مباشرة..
فهم ذلك أصحاب النبي () حتى صار منهج حياتهم، فقد روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "أُمرنا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له" [ضعفه الألباني].
ومن هنا كان هذا الموقف الحاسم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذاك الرجل الذي لا تنقضي عجائبه!!، فإنه لما ارتدت القبائل، وكان منها من ارتد بمنع الزكاة فقط، رأى بعض الصحابة أن أهل هذه القبائل ما داموا قد شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.. فلا يقاتَلون.. أما الصديق رضي الله عنه فكان يعلم أن الجميع متفقون على أن منكر الصلاة كافر.
ولاحظ هو رضي الله عنه أن الله قد جمع بين الزكاة (الإنفاق) وبين الصلاة في مواضع كثيرة جدًا في القرآن الكريم، فقال قولته الحكيمة: "لا أفرق بين شيئين جمعهما الله"!!، انظر إلى الفقه!، فإذا كان حكم إنكار الصلاة كفرًا، والله قد جمع بين الصلاة والزكاة كثيرًا.. فإنكار الزكاة كفر إذًا.. المهم عندنا أن نفهم أن هذا الجمع بين الصلاة والإنفاق لم يتكرر بين الصلاة وشيء آخر.. مما يحفز المؤمن على الاهتمام بالإنفاق والتدريب عليه..
3ـ المبادرة قبل فوات الوقت :ـ
ومن وسائل التحفيز: "التحذير من التسويف والتأجيل"، وهذه آفة خطيرة؛ فالشيطان لا يأتي للصالحين يقول لهم: لا تنفقوا أموالكم.. ولكن ويأتي ويقول: فلتدفعوا غدًا، أو بعد غدٍ، أو فلتدفع بعد أن تشتري كذا وكذا، أو فلتدفع بعد أن يأتي لك مبلغ كذا وكذا...
الشيطان إذن يستعمل وسيلة التسويف، ولا شك أنها فعالة!، استمع إلى قوله تعالى يحفزك على الإنفاق: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(11)} [المنافقون].
تصدق؛ فقد تكون هذه الصدقة هي المرجحة لكفة الحسنات؛ فتسعد سعادة لا شقاء بعدها!
4ـ والله يضاعف لمن يشاء..!!
ومن وسائل التحفيز على الإنفاق أيضًا  مضاعفة الحسنات بشكل فريد.. فإننا في كل أمور الخير قد اعتدنا أن تضاعَفَ الحسنات إلى عشر أمثالها، كما في قوله سبحانه وتعالي مثلا: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(160)} [الأنعام].
أما في الإنفاق.. فالأمر مختلف؛ ذلك أن الإنسان جُبل كما ذكرنا علي حب المال، ويحتاج إلى دوافع كبيرة, ومحفزات عظيمة..
فيزيد الله في أجر الإنفاق أكثر من أمور الخير الأخرى؛ حيث يتضاعف إلى أجور كثيرة.. إلى سبعمائة ضعف!! انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)} [البقرة].
والله إنه مشروع اقتصادي هائل!!، لو أنفقت ألف جنيه ،كان المردود ما يوازي سبعمائة ألف جنيه!!، لابد أن تفكر.. لماذا توافق على أن تضع ألف جنيه في مشروع دنيوي يعود عليك بألفين مثلاً.. ولا تضعها في مشروع رباني يعود عليك بسبعمائة ألف؟؟!
مع أن المشروع الأول دنيوي غير مضمون، والمشروع الثاني رباني مضمون لا شك فيه؟!! فكِّر.. والحمد الله أنك مازلت حيًّا، ومازالت أمامك الفرصة للاستثمار..
روى الإمام أحمد والترمذي وصححه.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): "إن الله عز وجل يقبل الصدقات, ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم, كما يربي أحدكم مُهرَهُ أو فُلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ.. حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد!!"..
5ـ ما نقص مال من صدقة!!
يقسم الصادق المصدوق () أن الصدقة لن تُنقص من مالك.. بمعنى أنه لابد أن يتم التعويض في الدنيا قبل الآخرة، إما بمال قادم، أو برفع أمر كنت ستنفق فيه مالك حتمًا.. والمسلمون لا يحتاجون لقسم رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى يصدقوه، ولكنه يقسم على أشياء قد يتسلل الشك فيها إلى قلوب البعض؛ وذلك تأكيدًا لها، وتحفيزًا لمن تزعزع قلبه واهتز يقينه..
روي الترمذي وقال: حديث حسن صحيح, وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي كبشة عمرو بن سعد الناري قال: قال رسول الله (): «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة»..
هذه أول الأشياء التي يُقسم الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم عليها في يقين.. ثم يقول: «ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا.. ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر». وكلها أمور تحتاج إلى كثير يقين، وإلى عظيم عقيدة.
ثم انظر إلى قوله تعالى.. يطمئنك بالتعويض الرباني عمَّا أنفقت: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ (39)} [سبأ].
نعم، هو الذي يُخْلِفه.. وهو الواسع العليم...
بل تأمل هذا الحديث العجيب والتحفيز الرباني بالتعويض.. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله () قال: «قال تعالى: "أنفق يا ابن آدم.. أُنْفِقْ عليك"» [رواه البخاري].
 سبحان الله! إذا أنفقت علي أهل بيت فقراء أو مجاهدين أو يتامي  أو أرامل أو غيرهما.. أنفق الله عليك.. أما ترضى أن ينفق الله عليك؟!
واعلم علم اليقين أنك كمؤمن عاداتك كلها عبادات، بينما المنافق عباداته سيئات، الدليل قال تعالي{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(121)}[التوبة].
 حينما تنفق على أهلك، وعلى أولادك، وحينما تجلس مع أهلك وأولادك، وحينما تأخذهم إلى نزهة، حينما ترحم من حولك، حينما تكسب مالك بالحلال أنت في عبادة، أنت آمنت بالله، أعمالك كلها في عبادة و هذه الآية هي الدليل، من هذا الذي ينبغي أن تعطيه، قال تعالي: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}[البقرة]
و تعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام حينما قالت له السيدة عائشة رضي الله عنها يا رسول الله، لم يبق إلا كتفها، قال:(بل بقيت كلها إلا كتفها ) [ الترمذي].
6ـ القرض الحسن مع الله عز وجل ..
في موضوع الحث علي الإنفاق يستعمل القرآن ألفاظًا عجيبة لا يتخيلها الناس, ولا يتوقعونها
انظر إلى كتاب ربك كيف يناديك وينادي غيرك متلطفا متحببًا: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً
حَسَناً؟؟، فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً.. وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)} [البقرة].  سبحانك يا الله!! كم أنت كريم!!.. المال مالك، والعبيد عبيدك، ثم أنت سبحانك تستقرضنا من مالك؟ ثم إذا أقرضناك أموالنا ضاعفت لنا أضعافًا كثيرةً ؟ سبحان الله!!
إن إلهاً بهذه الصفات لجدير أن يُعبد، وأن يُحَبَّ، وأن يُعَظَّمَ، وأن يُبَجَّلَ، والآية فعلاً عجيبة، وسياقها مبهر، وكما تعجَّبْنا منها فقد تعجب منها الصحابة، لكن انظر إلى التعجب الإيجابي.. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إنه لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: "يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح»
قال: "أرني يدك يا رسول الله" قال عبد الله بن مسعود: فناوله يده، قال: "فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي أي حديقتي"، وأرضي.
قال عبد الله بن مسعود: "وحائطه فيه ستمائة نخلة" وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: "يا أم الدحداح، قالت: "لبيك" قال: "اخرجي؛ فإني قد أقرضته ربي عز وجل"!!.. [صححه الألباني].
عطاء في كرم، وقرار في حسم، لقد كان أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه معطاءً بشكل عجيب..
روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "لما انصرف رسول الله () من جنازة أبي الدحداح رضي الله عنه قال: «كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح»
كم من فروع نخيل لأبي الدحداح رضي الله عنه في الجنة!
يذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم سبب ذلك فيقول: إن يتيمًا خاصم أبا لبابة رضي الله عنه) في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي () له: أي لأبي لبابة أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة.. فقال: "لا".
فسمع أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال: "يا رسول الله، ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟" قال: "نعم"..
ثم قال: "كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح" ثم مرت الأيام وذهب أبو الدحداح، وذهب الغلام، وذهب الحائط، وذهبت النخلة، ولكن ماذا بقي؟ بقي عذق أبي الدحداح في الجنة،{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ(96)} [النحل].
فارق كبير جدًا بين رد فعل أبي الدحداح للآية الكريمة: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً}، وبين رد فعل اليهود لما نزلت الآية نفسها.. قالت اليهود: "يا محمد، افتقر ربك فسأل عباده القرض ؟
انظر إلي سوء الأدب، وفظاظة اللفظ، ووقاحة الفعل!!، فأنزل الله عز وجل: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ(181)} [آل عمران].
ولا يمكن لمثل تلك النفوس المريضة أن تبصر جلال الحكمة والكرم الإلهيين من وراء سؤال المؤمنين القرض الحسن.. فحقيقة الأمر أن الله قد رفع كثيرًا  من شأن عباده يوم جعل إنفاقهم في سبيله قرضًا حسنًا يسألهم إياه، مع أنه صاحب الفضل والعطاء أولاً وآخرًا، ومع أنه الغني عن عباده، وهم جميعًا فقراء إليه.
إن الله تبارك وتعالى يعلم حرص النفس الإنسانية على المال، وحبها له؛ فيعطف سبحانه على هذه الغريزة في عباده.، مصوِّرًا إنفاقهم في سبيله بصورة القرض الحسن!!
ولا يملك المؤمن إن فقه هذا المعنى  إلا أن يذوب حياءً من ربه, ويفيض عطاءً وإنفاقًا لماله في سبيل رضا مولاه.
لقد كان استشعار الصحابة رضوان الله عليهم بالغًا لهذا المعنى (معنى إقراض الله)؛ فها هي آيات القرآن الكريم تواصل حثهم وتحفيزهم بمثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ؟(104)} [التوبة].
فصاروا يوقنون بوقوع الصدقة في يد الله سبحانه  قبل أن تقع في يد الفقير..
7ـ الوقاية من النار ، وتكفير السيئات :ـ
روى الشيخان أن النبي () قال:{اتقوا النار ولو بشق تمرة}[أخرجه البخاري،ومسلم].
ويقول ():{الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار}. [أخرجه الترمذي]
8ـ انشراح الصدر، وطيب النفس:ـ
يقول الله جلَّ وعلا:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7)} [الليل].
ويقول (): "مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْبَخِيلِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ أَنْ يُنْفِقَ سَبَغَتْ حَتَّى تعفن جلده، وتخفي بَنَانَهُ، وتمحو أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ لَصَقتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكانهَا كلما أراد أن يُوَسِّعُهَا وَهِىَ لاَ تَتَّسِعُ".
9ـ المنفق في ظل عرش الرحمن يوم القيامة :ـ
وذكر  من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه} [متفق عليه].
 العنصر الرابع :عاقبة الشح والبخل :ـ
وكما اهتم الإسلام بتحفيز النفس على البذل والتطهر من الشح.. فقد سلك في تربيتها جانبًا آخر هامًّا لا يمكن إغفاله؛ فأوضح أن الجهاد بالمال ليس بالأمر الاختياري أو الثانوي، يستطيع الإنسان أن يتجاوزه أو يحيد عنه متى شاء، وإنما هو سلوك إسلامي أصيل يبلغ درجة الفريضة والركن أحيانًا  كما في الزكاة ، ويظل فيما سوى الفريضة معلمًا مميزًا من معالم النفس المسلمة، ودعامة هامة لحياة وسلامة المجتمع المسلم.. فقد روى الطبراني عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم.. ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم.. ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا" [ضعفه الألباني]..
فلن ينجو الأغنياء بأموالهم طالما هناك فقراء يجوعون ويعرون..
وكذلك روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله () في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال: «يا معشر النساء تصدقن؛ فإني أُرِيُتُكُنَّ أكثر أهل النار!!»، فقلن: "وبِمَ يا رسول الله؟!"، قال: «تُكْثِرْنَ اللعن, وتكفرن العشير»..  
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَتْ له صفائحُ من نار، فأُحْمِيَ عليها في نار جهنم، فيُكوَى بها جنبُهُ وجبينُهُ وظهرُه.. كلما بَرَدَتْ أُعيدَتْ له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين العباد فَيَرَى سبيلَهُ: إما إلى الجنة، وإما إلى النار»
 قيل: "يا رسول الله، فالإبل؟"، قال: «ولا صاحبَ إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها: حلبُها يوم وِرْدِها - إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ (أي: جُعِلَتْ في أرض مستوية ملساء) أَوْفَرَ ما كانت؛ لا يَفْقِدُ منها فَصِيلاً واحدًا، تَطَؤُهُ بأخفافها (أي: تدوسه)، وتعضه بأفواهها.. كلما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد؛ فيرى سبيله: إما إلى الجنة, وإما إلى النار».
قيل: "يا رسول الله، فالبقر والغنم؟"، قال: «ولا صاحبَ بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ, لا يفقد منها شيئًا.. ليس فيها عقصاء (ملتوية القرن)، ولا جلحاء (ليس لهل قرن)، ولا عضباء (مكسورة القرن).. تنطحه بقُرُونِهَا، وتطؤه بأظلافها، كلما مَرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بين العباد؛ فيرى سبيلَهُ: إما إلى الجنة، وإما إلى النار».. قيل: "يا رسول الله, فالخيل؟"، قال: «الخيل ثلاثة: هي لرجل وِزْرٌ، وهي لرجل سِتْرٌ, وهي لرجل أجر؛ فأما التي هي له وِزر فرجل ربطها رياءً وفَخْرًا ونِوَاءً (أي: عداءً) لأهل الإسلام؛ فهي له وزر، وأما التي هي له سِتْرٌ فرجل رَبَطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظُهُورها ولا رقابها؛ فهي له سِتْر، وأما التي هي له أَجْرٌ فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كُتب له عدد ما أكلت حسنات، وكُتب له عدد أرواثها وأبوالها (فضلاتها) حسنات، ولا تَقْطَعُ طِوَلَهَا (وهو الحبل الذي تُقاد منه)، فاسْتَنَّتْ (جرت بقوة) شَرَفًا أو شَرَفَيْن (الشَّرَف: قرابة الميل) إلا كُتِبَ له عددُ آثارها وأرواثها حسنات، ولا مَرَّ بها صاحبها على نهر؛ فشربت منه، ولا يريد أن يَسْقِيَهَا.. إلا كتب الله تعالى له عدد ما شربت حسنات»، قيل: "يا رسول الله، فالحُمُر؟"، قال: «ما أُنْزِلَ عليَّ في الحُمُر شيءٌ إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)} [سورة الزلزلة].
بل انظر إلى هذا التحذير الرهيب في الحديث الذي رواه مسلم عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: "بَشِّر الكانِزِين بِكَيٍّ في ظهورهم.. يخرج من جنوبهم، وبِكَيٍّ من قِبَلِ أقْفَائِهِم.. يخرُجُ من جِبَاهِهِم.. قال: ثم تَنَحَّى فَقَعَدَ".. قال: قلت: "من هذا؟"، قالوا: "هذا أبو ذر".. قال: فقمت إليه فقلت: "ما شيء سمعتُك تقول قُبَيْل؟" (أي: قبيل قليل)، قال: "ما قُلْتُ إلا شيئًا قد سمعتُه من نبيهم صلى الله عليه وسلم". قال: قلت: "ما تقول في هذا العطاء؟"، قال: "خُذْهُ؛ فإن فيه اليوم معونة.. فإذا كان ثَمَنًا لدِينِك فَدَعْهُ".
بهذا المنظار إذًا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ينظرون إلى المال: إما أن يكون عونًا على الحياة ومطالبها، وإلا فهو في سبيل الله.. لأنه لو عُزِلَ عن المحتاجين إليه وقت حاجتهم، واكتنزه صاحبه دونهم، فالعاقبة وخيمة جدًّا كما رأينا..
نسأل الله السلامة من الشح وعواقبه.
وليس عقاب الشح خاصًا بصاحبه فقط.. بل إن شؤمه يعمُّ الأمة جميعًا!!
ألم تَرَ إلى ذلك التحذير النبوي الذي يَذكر سوء الجزاء الذي ينتظر المجتمعات التي لا تؤدي حق الله في أموالها.
روى ابن ماجة والبزار والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي () قال: «يا معشر المهاجرين، خصال خمس إن ابتليتم بهنَّ ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهنَّ...»، وذكر منها: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ مِنَ السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا!!»
فقيمة المجتمع الذي يبخل أبناؤه بما في أيديهم، أقل من البهائم!!، ولا يستحقون فضل الله لولا البهائم التي تحيا إلى جوارهم على فطرة الله لا تتعداها..
أيها الأحبة في الله ...كم هو قصير هذا العمر، وأخشى عليكم من ليلة ليس لها صباح.. يجيء فيها الموت بغتة كعادته.. فتقول تعالي: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)} [سورة المنافقون].
أخشى عليكم من لحظة يقول فيها العبد: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ (100)} [ المؤمنون].
ها أنت وكأنك رجعت.. فاعمل ليوم لا رجعة فيه..
العنصر الخامس : صورة من التاريخ من وحي "تبوك"..     
تعالوا نغُوص في أعماق التاريخ.. لنذهب إلى المعسكر الدائم للإيمان.. إلي المدينة المنورة.. ونصل إلى ساحة واسعة يجلس فيها خير الخلق محمد صلي الله عليه سلم، وعن يمينه ويساره وأمامه جماعات من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.. يحفزهم صلى الله عليه وسلم على الإنفاق لتجهيز جيش عظيم في وقت عصيب اشتد فيه الحر، وعظم فيه الخطب، وطال فيه السفر، وقل فيه الزاد، وحان وقت القطاف، لكن لابد من المغادرة.. هذا تجهيز جيش العسرة.. جيش تبوك.. ترى ماذا فعلوا حتى ينزل الله في حقهم: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ (117)} [التوبة]..
لقد فتح الرسول () باب التبرع علانية؛ حتى يحفز المسلمون بعضُهم بعضًا.. وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. قام يشتري الجنة!!
لقد قام فقال: "علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!، فَسُرَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً؛ فهذا عطاء كثير! ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانيةً (يزايد علي نفسه!)، قال: "علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!،
فسعد به رسول الله صلي الله عليه وسلم سعادة عظيمة.. حتى إنه قال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم!"..
ولكن.. هل سكن عثمان أو اطمأن؟! انظر إليه.. لقد أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلي ثلاثمائة بعير!! (وفي رواية: تسعمائة بعير، ومائة فرس!!)، ثم ذهب إلي بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقلِّبها متعجبًا!..
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.. أتى بأربعة آلاف درهم، وقد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان.. لكنها تُعتبر أكثر نسبيًّا من عطاء عثمان سبحان الله  لأنها كل مال أبي بكر
الصديق.. حتى إن رسول الله () سأله: "وماذا أبقيت لأهلك؟!"
قال له في يقين: "أبقيت لهم الله ورسوله".
وأتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله، وهو كثير.. بل كثير جداً..
عبد الرحمن بن عوف أتى بمائتي أوقية من الفضة، وهذا أيضًا كثير!!
كانوا  بصدق  يشترون الجنة!! وما أزهد الثمن.. وما أعظم السلعة!.. "ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة".
بل إن النساء أتت بالحلي.. كان الكل يشارك.. كانت قضية إسلامية تشغل كل فئات الأمة حتى الفقراء الذين لا يملكون إلا قوت يومهم!!، جاءوا بالوسق والوسقين من التمر!!، تمر قليل يُجهزون به الجيش الكبير؟!
نعم قليل، لكن هذا كل ما يملكونه، سيطعمون جندياً أياماً.، قد لا يعني هذا في نظر بعض الناس شيئًا.. لكنها تعني بالنسبة لهم الكثير، وتعني أيضا عند الله الكثير والكثير، حتى إن المنافقين كانوا يسخرون من هذه العطايا البسيطة؛ فأنزل الله دفاعًا عظيمًا في كتابه عن هؤلاء الفقراء المتصدقين.. يقول تعالي: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)} [التوبة].
فالله تعالى بنفسه هو الذي يرد على سخرية المنافقين.. فاللهم نسأل أن يرزقنا رزقا واسعا حلالا وأن يبارك فيه وأن يعيننا علي الإنفاق ويتقبل منا ويخلف علينا إنه ولي ذلك ومولاه .
 ===============
رابط doc



رابط pdf