21 فبراير 2019

المعايشة الإيمانية لاسم الله الحسيب




الحمد لله رب العالمين .. الحسيب علي كل نفس بما كسبت قال تعالي {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}[غافر].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ...يحاسب علي الصغير والكبير والفتيل والقطمير لا تضيع عنده الحقوق ولا المظالم قال تعالي {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)} [الأنبياء].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله () كان شديد المحاسبة لنفسه فقال (): «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني». دَانَ نَفْسَهُ: أي حَاسَبَها.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعـــد ... فيا أيها المؤمنون...
ما زلنا في الحديث عن أسماء الله الحسني حتي يزداد إيماننا بالله تعالي فتكثر محبتنا ويقيننا بالله الواحد الأحد الرقيب الحسيب ، حيث قال ابن القيّم رحمه الله:أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته.
ومعرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لهي من أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد ، وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى.
فمن أسماء الله الحسني الحسيب ، والذي يجب أن نتعرف علي اسم الله الحسيب ونعيش معه يقينا فإذا ما أيقنا بالحسيب انضبط كل شيئ في حياتنا ، لذلك كان موضوعنا علي [المعايشة الإيمانية لاسم الله الحسيب] وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ اسم الله الحسيب في القرآن الكريم.
2ـ من معاني اسم الله الحسيب.
3ـ المعايشة الإيمانية لاسم الله الحسيب .
4ـ الآثار المترتبة علي الإيمان باسم الله الحسيب .
5ـ الخاتمة .
العنصر الأول : اسم الله الحسيب في القرآن الكريم
ورود اسم الحسيب في عدة مواضع من القرآن الكريم منها :
قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)}[النساء]
وقال تعالى:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)}[النساء]
وقال تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ  وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)}[الأحزاب]
العنصر الثاني : من معاني اسم الله الحسيب:
الحسيب على وزن فعيل من صيغ المبالغة.
ويأتي الفعل، حسِبَ بمعنى ظن، وبمعنى : عدّ يعد
والحسيب: أي الكافي.
ويقال : هُوَحَسِيبٌ: ذُو حَسَبٍ وَنَسَب
حسيبك الله : انتقم الله منك.
" الحسيب " هو الكريم ، العظيم ، المجيد ، الذي له علو الشأن ، ومعاني الكمال له في ذاته وصفاته مطلق الجمال والجلال .
قال تعالي{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11)}[الشورى].هل تعلم له سمياً ، أي مشابهاً .
قال تعالي{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ (284)} [البقرة].
قال الحليمي: "الحسيب: المدرك للأجزاء والمقادير التي يعلم العباد أمثالها بالحساب من غير أن يحسب"، بل إن الله تعالى يجعل العبد يوم القيامة حسيبًا على نفسه، حاكمًا على أعماله، مقرًّا بذنوبه؛ قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)}[الإسراء]،أي: محاسبًا،
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته:
وهو الحسيب كفاية وحماية               والحسب كافي العبد كل أوان
العنصر الثالث: المعايشة الإيمانية لاسم الله الحسيب:ـ
لو تأملنا اسم الله الحسيب لوجدناه يحتوي علي ثلاث معاني إيمانية وهي :ـ
المعنى الأول : الله سبحانه وتعالى هو الكافي لعباده.
المعنى الثاني : (الحاسب) الذي أحصى كل شيء، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
المعنى الثالث : حسيب بمعنى المحاسب (وهو أسرع الحاسبين ).
المعنى الأول : الله سبحانه وتعالى هو الكافي لعباده:ـ
كفاية الله لعباده عامة وخاصة :
فالكفاية العامة تكون للناس جميعا :أي أنه سبحانه كفى جميع المخلوقات وقام بإيجادها وإمدادها وإعدادها لكل ما خلقت له .
فالله تعالي الكافي الذي لا غنى لهم عنه أبداً، بل لا يتصور للخلق وجود بدونه، فهو خالقهم وبارئهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، لا يشاركه في ذلك أحد أبداً.
وإن ظن الناس أن غير الله يكفيهم فهو ظن باطل، وخطأ محض، بل كل شيء بخلقه وتقديره وأمره سبحانه وتعالي جل شأنه.
ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك، فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو حسبك، فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء، فهو حسبك.
لا تظن أن الطفل الذي يحتاج إلى أمه ترضعه وتتعهده أن الله ليس حسيبه وكافيه بل الله كفاه إذ خلق أمه وخلق اللبن في ثديها وخلق له الهداية إلى التقامه وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من التقامه ودعته إليه وحملته إليه, فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب والله وحده المتفرد بخلقها لأجله .
وأما الكفاية الخاصة هذه تكون لأهل التوحيد والتوكل :
فكفايته للمتوكلين وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين قال تعالي{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (3)} [الطلاق].  أي كافيه كل أموره الدينية والدنيوية .
وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله () كان إذا أوى إلى فراشه قال :{الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا , فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي }.
والعبد لا غنى له عن ربه بأن يكون له حافظاً وكافياً ومسددا وهاديا ولذا شرع للمسلم في كل مرة يخرج من بيته أنه يقول:{بسم الله توكلت على الله لاحول ولا قوة إلا بالله } ليكفى همه وحاجته روى أبو داود والترمذي وصححه الألباني لشواهده أن رسول الله () قال:{إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ قَالَ « يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِىَ وَكُفِىَ وَوُقِىَ }
أي هديت إلى طريق الحق والصواب وكفيت من كل هم ديني ودنيوي .
وفي الكفاية الخاصة للمؤمنين أهل التوكل والتوحيد ورد الدعاء المشهور [حسبنا الله ونعم الوكيل] في سورة آل عمران  في أعقاب غزوة أُحُد ، في غزوة "حمراء الأسد "، وذلك حين خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تهزم ، وأخذوا يثبِّطون عزائمهم ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بوعد الله ، وتمسكا بالحق الذي هم عليه ، فقالوا في جواب جميع هذه المعركة النفسية العظيمة [حسبنا الله ونعم الوكيل] كما قال الله تعالي:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}[آل عمران].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :{حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ : قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ () حِينَ قَالُوا :إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }[صحيح البخاري]
ومعنى حسبنا الله : أي الله كافينا ، فالحسب هو الكافي أو الكفاية ، والمسلم يؤمن بأن الله عز وجل بقدرته وعظمته وجلاله يكفي العبد من كل ما أهمه وأصابه ، ويرد عنه بعظيم حوله كل خطر يخافه ، وكل عدو يسعى في النيل منه .
وأما معنى : ( نعم الوكيل )، أي : أمدح من هو قيِّم على أمورنا ، وقائم على مصالحنا ، وكفيل بنا ، وهو الله عز وجل ، فهو أفضل وكيل ؛ لأن من توكل على الله كفاه ، ومن التجأ إليه سبحانه بصدق لم يخب ظنه ولا رجاؤه ، وهو عز وجل أعظم من يستحق الثناء والحمد والشكر لذلك .
{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} وجاءت"فضل" هنا نكرة في سياق الاثبات على اعتبار أن تكون مطلقة ؛ وكان يمكن أن يقول فانقبلوا"بنعمة وفضل" لكن أضاف "من الله" لكي يشعر قيمة  هذه النعمة، فهى نعمة خاصة جدا مميزة جدا" بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ" أي كل سوء، "لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم".
فرضى عنهم ربهم وأرضاهم ولا شك هذا هو الفوز.
وهذا الدعاء من أعظم الأدعية فضلا ؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عز وجل ، فهي تعني توكيل كل الحول والقوة له سبحانه من الموكل في هذا الأمر المعني .
ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه حقق له الكفاية المطلقة ، الكفاية من شر الأعداء ، والكفاية من هموم الدنيا ونكدها ، والكفاية في كل موقف يقول العبد فيه هذه الكلمة يكتب الله عز وجل له بسببها ما يريده ، ويكتب له الكفاية من الحاجة إلى الناس ، فهي اعتراف بالفقر إلى الله ، وإعلان الاستغناء عما في أيدي الناس .
هذا الدعاء قاله أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار ، قال تعالي{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (20) يَا نَار كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم(21)}[الأنبياء].
وقاله كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام حين قال أصحاب موسى إنا لمدركون فانفلق له البحر نصفين قال تعالي{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67)}[الشعراء].
هؤلاء هم الأنبياء صفوة الله لم يلجئوا إلا لله في أمورهم وترديد هذا الدعاء حسبنا الله ونعم الوكيل!!.
قال القرطبي: لَمَّا فَوَّضَوا أمُورهم إليه واعْتَمَدُوا بِقُلُوبِهم عليه أعطاهم مِن الجزاء أربعة مَعَانٍ: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتِّباع الرضا، فَرَضَّاهم عنه ورِضِي عنهم.
المواضع المناسبة للدعاء بـ ” حسبنا الله ونعم الوكيل “
يناسب هذا الدعاء كل موقف يصيب المسلم فيه هم أو فزع أو خوف ، وكذلك كل ظرف شدة أو كرب أو مصيبة ، فيكون لسان حاله ومقاله الالتجاء إلى الله ، والاكتفاء بحمايته وجنابه العظيم عن الخلق أجمعين .
وهناك أوقات يردد المسلم هذا الدعاء :ـ
1ـ في الصباح والمساء :ـ
عَن أبي الدَّرداءِ رضيَ اللَّهُ عنه قالَ : مَن قالَ إذا أصبحَ وإذا أَمسى : "حَسبيَ اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هوَ عليهِ توَكَّلتُ وَهوَ ربُّ العرشِ العظيمِ  سَبعَ مرَّاتٍ ". كفاهُ اللَّهُ ما أَهَمَّهُ”
[وهذا اسناد صحيح وقد صححه العلامة الالباني موقوفا على ابي الدرداء في السلسلة الضعيفة] .
2ـ عند الشدائد:ـ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (): «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الْإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ»، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ () فَقَالَ لَهُمْ: «قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا».[رواه الترمذي]
وقد ورد في ذلك حديث ضعيف جدا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي () قال :
(إِذا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ العَظِيمِ فَقُولوا : حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ ) رواه ابن مردويه .
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ () قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
3ـ لرد كيد الأعداء:
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "{حسبنا الله ونعم الوكيل}، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}" صحيح البخاري.
وقَالَ النَّبِيُّ ():{إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في الفتوحات الربانية ، وصححه الشيخ أحمد
شاكر في عمدة التفسير و ضعفه الألباني في  ضعيف أبي داود ]
وقد ورد في البداية والنهاية للإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالي
أن الخليفة " ابوالعباس عبد الله  العبّاسي ،قتل  38 ألف مسلم بعدَ أنْ دمّر الدّولة الأموية و أسّس الدولة العبّاسية ودخل بخيله مسجد بني أُمَيّة ، ودخل قصرهُ وقال : أَتَرَونَ أَحَد مِن النّاس يُمكِن أن يُنكِر عليّ ؟!
قالوا له : لا يُنكِر عليك أحد إلا الأوزاعي ! فأمَرُهم أْن يُحضِروه ..
فلمّا جاؤوا الإمام الأوزاعي قام رحمهُ الله فاغتسل ثم تكفّنَ بكفنِه ، ولبس فوقهُ ثوبه ، و خَرَج من بيتِه إلى قصر الخليفة..
فامر الخليفة أبو العباس السفاح وزراءه و جُندَه أنْ يقفوا صفّين عن اليمين والشّمال و أن يرفعوا سيوفهم !!
في محاولةٍ لإرهاب العلاّمة الأوزاعي رحمه الله، ثم أمرهم بإدخاله ، فدخل عليه رحمه الله يمشي في وقار العلماء و ثَبَات الأبطال ..
و يقولُ عن نفسِه : (والله ما رأيتهُ إلا كأنه ذُبابٌ أمامي يوم أنْ تصوّرتُ عرشَ الرّحمن بارزاً يوم القيامة ، وكان المُنادي يُنادي فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير .. والله ما دخلت قصرهُ ، إلا و قد بعتُ نفسي من الله عز وجل ).
فقال له الخليفة أبو العباس: أأنت الاوزاعي ؟ فرد عليه بثبات : يقول الناس إني الأوزاعي ! اغتاظَ الرجل و أرادَ إهلاكَه ، فقال : يا أوزاعي ! ما ترى فيما صَنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العِباد والبِلاد ؟
أجِهاداً و رِباطاً هو ؟ قال: فقلت: أيها الأمير ! حدّثني فُلان عن فُلان ، يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله () يقول: «إنّما الأعمال بالنّيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ».
دُهِشَ الخليفة ابو العباس من هذه الإجابة المُسدَّدة ! فنكتَ بالخَيزرانة في يدِهِ على الأرض أشدّ
ما ينكت،ثم قال : ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا مِن بني أُميّة ؟
فرد عليه بقوله : قال : حدّثني فلان عن فلان عن جدّك عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنّ الرسول () قال :{لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ : النفسُ بالنفسِ ، والثّيِّبُ الزاني ، والمفارقُ لدِينِه التاركُ للجماعةِ}.
غضب الخليفة العباسي جداً ،و رفَعَ الأوزاعِي عِمامته حتي لا تعوق السّيف ،و تراجعَ الوزراء للوراء ، ورفعوا ثِيابهم حتي لا يصيبهم دمه !فقال له السّفاحُ وهو يشتاطُ مِن الغَضَب :
ما تري في هذه الأموال التي أُخِذت ، وهذه الدُّور الّتي اغتُصِبت ؟
فقال له رحمهُ الله : إن كانتَ في أيديهم حراماً فهي حرامٌ عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.
وسوفَ يُجرِّدُك اللهُ يوم القيامة و يُحاسِبك عُرياناً كما خَلَقك فان كانت حلالاً فحساب وان كانت حراما فعقاب .. !!
فزاد غيظَ السفاح أكثر وأكثر و نكتَ على الأرض ، بعصاهُ ، أشدّ ما ينكت و الإمام يردد جهراً : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ..
فقال له : اخرج عليّ و رماهُ بِصُرّة مال ، ليأخُذها ،فرفض الإمام أخذها ، فأشار عليه أحد الوزراء بأخذها ..
فأخذها من يدِه و نثرها أمامه في أثواب الوُزراء و الحاشية ،ثم ألقى الكيس و خرجَ مَرفوع الرأس قائلاً : ما زادني الله إلا عزةً و كرامه.
ولما مات الإمام الأوزاعي رحمه الله ذهب الخليفة أبو العباس إلي قبره و قال : والله إني كنتُ أخافك كأخوفِ أهل الأرض .. و ما خِفتُ غيرك والله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزاً رحمهُ الله تعالى
وكان يزيد بن حكيم يقول: ما هِبت أحداً قط هَيبتي رجلاً ظلمتُه وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، يقول لي: حسبي الله، الله بيني وبينك.
وروى الترمذي وصححه الألباني عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس}.
4ـ عند إعراض الناس عن الحق:ـ
فقد قال الله تعالى آمراً بذلك نبيه (): {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم(129)}[التوبة].
يعني: يكفيني ربي، لا إله إلا هو، لا معبود سواه ، عليه توكلت وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت،
وإليه وإلى نصره استندت؛ لأنّه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عنّي منكم ومن غيركم من الناس، وهو رب العرش العظيم.
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)}[الزمر].
فإن قيل: حسبنا الله تقال لاستدفاع المكروه، فأين المكروه في إعراض المشركين؟
فالجواب: أنهم إذا أعرضوا وكذبوا فتكوا، فتقال الكلمة لدفع شرهم.
5ـ عند الخوف من وقوع الظلم:ـ
فعن أم المؤمنين عائشة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما، أنهما تفاخرتا فقالت زينب: زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن. وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن. فَسَلَّمَت لها زينب، ثم قالت: كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت زينب: قلت كلمة المؤمنين"[رواه الطبري في التفسير].
فالمسلم لا يلتفت إلى أهل الخداع والمكر؛ لأن الله كافيه شرهم، وهو حسبُه من كيدهم؛ قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)}[الأنفال].
هذا هو المؤمن، يفزع إلى الله في كلِّ شؤونه، ويعتمد عليه في كلِّ أموره.
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً      لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ وارْضَ بهِ     إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحَدٍ      فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
6ـ عند إحسان الظن بالله وانتظار فضله :ـ
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ(59)}[التوبة]
قال السعدي رحمه الله: "{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}، أي: كافينا الله، فنرضى بما قسمه لنا، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُون}، أي: متضرعون في جلب منافعنا، ودفع مضارنا، لسلموا من النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية".
المعنى الثاني : (الحاسب) الذي أحصى كل شيء، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
لكي تعرف كم ذرة رمل في جبل فهذا أمر يعجز عنه البشر! اللهم إلا إذا وجدت تقنيات عالية تصنع مثل هذا الأمر، لكن إن صنعته ستصنعه عن حساب كالحاسوب أو غيره، أما الله عزّ وجلّ فيحسب دون حاجة إلى حساب، الله سبحانه وتعالى يدرك هذه الأجزاء ومقاديرها، هذا جبل الحسنات وهذا جبل السيئات لا يحتاج إلى أن يحسب أو يجند ملائكته لكي يحسبون، الله سبحانه وتعالى يدرك الأجزاء والمقادير التي يعلمها العباد بالحساب من غير أن يحسب.
فالله سبحانه وتعالى “الحاسب” الذي أحصى كل شيء لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء قال تبارك وتعالى{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}[الجن].
وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة .
وقال تعالي {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)}[الحديد].
وقال تعالي { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}[يس]
وقال :{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)}[مريم].
وأعمالك كلها أيها الإنسان محسوبة محصية، لا يضيع منها شيء، ولا يزاد عليك شيء، فتجزى بها يوم القيامة ولا تظلم.
قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)}[الأنبياء].
وقال سبحانه:{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ (6)}[المجادلة].
وقد أمر الله سبحانه الحفظة بذلك، أن يدونوا كل صغيرة وكبيرة.
قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)} [ق].
وهذا الحفظ والإحصاء الدقيق، والحساب الذي لا يفوته شيء، هو الذي يبهت أهل الأجرام، الذين لا يبالون بأعمالهم صلحت أو فسدت، يعملون السيئات بلا حساب ويظنون أنهم متروكون سدى، لا حساب ولا عذاب، قال تعالى عنهم :{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}[الكهف].
المعنى الثالث : حسيب بمعنى المحاسب (وهو أسرع الحاسبين ):ـ
لا مفر من حساب الله تعالي: فالله سبحانه وتعالى لا يشغله حساب أحد عن أحد ولن يكون هناك دور تنتظر فيه، ولن يكون هناك مفر من هذا الحساب، الكل سيحاسب وبدقة شديدة عن كل صغيرة وكبيرة، قال جلّ في علاه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(17)} [غافر]، وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى
والله سبحانه وتعالى هو أسرع الحاسبين فحين يردإليه العباد فيحاسبهم لا يشق عليه ذلك فهو سبحانه يعلم عددهم وأعمالهم وآجالهم وجميع أمورهم ، وقد أحصاها وعلم مقاديرها ومبالغها وهو لا يحسب بعقد يد ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة ولا أصغر منها ولا أكبرإلا في كتاب مبين.
فالله تعالي يعلم أدق الأعمال، وأدق الذرات، والقِطمير، والفتيل، والنقير. رأس النواة المذبب، والقِطمير، غِشاؤها، والفتيل، الخيط بين فَلْقَتيْها، فلا تُظلمون فتيلاً ولا قِطميراً ولا ذرة ومِثقال ذرة من خردل، ولا ظُلمْ اليوم وما كان الله لِيَظلِمهم، فالله حسيب، قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}[آل عمران]
وحساب الخلق لا مشقة فيه على الخالق الحاسب، بل هو يسير عليه.
قال تعالى :{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}[الأنعام].
قال ابن جرير: ثم ردت الملائكة الذين توفوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم إلى الله سيدهم الحق، (ألا له الحكم) يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه، (وهو أسرع الحاسبين) يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها.
لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ". اهـ .
فكما أن خلقهم وبعثهم لا مشقة فيه كما قال سبحانه{مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (28)}[لقمان].
فكذلك حسابهم لا مشقة فيه ولا تأخير،{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)} [يس].
معايشة إيمانية ليوم الحساب :ـ
فما الحساب؟ وما هي صفته؟ وعلى ماذا يحاسب الله تعالى العباد؟
يوم الحساب: هو محكمة العدل الإلهية التي يقضي فيها رب العزة سبحانه بين خلقه وعباده وينبغي أن تعلم أن يوم القيامة: يوم يجمع الله فيه الأولين، والآخرين للحساب قال تعالي:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49)لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)}[الواقعة].
وقال تعالي {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}[آل عمران].
يوم تتكشف فيه الحقائق والأستار، فالكل مكشوف النفس والعمل والمصير:قال تعالي {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}[الحاقة].
يوم يشيب من هوله الوليد، وتذهل الأم الحنون عن طفلها، وتسقط فيه الحامل حملها قال تعالي{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}[الحج].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه  قال: قال رسول الله (): يقول الله يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار ؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك حين يشيب الصغير, وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى, ولكن عذاب الله شديد, فاشتد ذلك عليهم, فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: (أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفًا ومنكم رجلًا، ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة), قال: فحمدنا الله وكبَّرنا، ثم قال: (والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ). [رواه البخاري ومسلم]
وأما صفة الحساب: فلا بد لكل محكمة من حاكم يحكم ويقضي، وشهود يشهدون، ومتهم وأرض يقام عليها الحكم.
أولا : الحاكم:ـ
فهو الله جل جلاله، جبارالأرض والسماء، تباركت أسماؤه وعظمت صفاته الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى ويبدأ الأمر:
أ- بنفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتصعق الخلائق كلها وتموت: قال تعالي {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ (68)}[الزمر:].
 ب- إحداث تغير عام في الكون فتنشق السماء وتتناثر النجوم وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض قال تعالي {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)}[التكوير]. كورت أي ظلمت، انكدرت: أي تناثرت، وسيرت: أي حركت وصارت كالهباء.
ج- ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتقوم الخلائق للحشر: قال تعالي {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)}[الزمر].
د- نزول عرش الرحمن جل جلاله:قال تعالي {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)}[الحاقة].
، أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة،
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله () قال:{أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام}
[رواه أبوداود والطبراني]
هـ- ثم يشرق على الأرض نور الحق جل جلاله قال تعالي قال تعالي{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)}[الزمر].
أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء.  
و- ثم مجي الحق سبحانه مجيئا يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه الكبير المتعال،قال تعالي :{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)}[الفجر].
وأما صفة حكمه جل جلاله سبحانه:
- العدل المطلق: قال تعالي{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}[الزلزلة].
أ- فلا ظلم: قال تعالي {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}[الكهف].
ب- ولا أنساب: قال تعالي {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون].
 أي لا تنفع الإنسان يومئذ قرابة ولا يرثي والد لولده يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ ليأخذ حقه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا).
ج- ولا رشوة لتغير صورة الحكم: فالحاكم هو الغني المتعال والكل مفتقر إليه سبحانه قال تعالي:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}[فاطر].
د- ولا تهديد ولا ضغوط: فالحاكم هو القوي سبحانه قال تعالي {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)}[البقرة].
وقال تعالي {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93)}[مريم]. فالكل ضعيف وعبد.
ثانيا :الشهود:ـ
وأما الشهود فهم كثير فلا مكان للإنكار والكذب والمراوغة .
1- وأعظمهم شهادة هو الله سبحانه الله جل جلاله قال تعالي {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}[المجادلة].
2- الرسل عليهم الصلاة والسلام ويشهد للرسل سيدنا وحبيبنا رسول الله () للحديث:
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله () يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا"  فذلك قوله جل ذكره وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) والوسط العدل [رواه البخاري]
3- الملائكة: قال تعالي {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)}[ق].
يقول الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا وقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك).
4- الجوارح: قال تعالي {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)}[فصلت] .
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي () فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم  قال: من مخاطبة العبد ربه  فيقول: يا رب ألم تجرني (تحفظني) من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، والكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل) .
5- الأرض: قال تعالي {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}[الزلزلة].
قرأ رسول الله () هذه الآية: (يومئذ تحدث أخبارها ) قال: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمةٍ بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها).
6- التسجيل الكامل كما ذكر بعض العلماء: لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة].
وتعرض الأعمال عرضا حيا ناطقا، فسيرى المرء عمله وهو يباشره ويا للفضيحة.
اللهم إنا نسألك ستر الدارين، اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.
ثالثا:المتهم:ـ
هو الإنسان الذي خلقه الله بيده، وأسجد له الملائكة، وكرّمه على كثير ممن خلق، سخر الكون له، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وجعل له واعظا من عند نفسه بالفطرة التي فطر الله الناس عليها على معرفته سبحانه وحذره من الشيطان وطاعته ثم يستقبل الإنسان ذلك كله بالسخرية قال تعالي {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)}[يس].
ويجعل من الشيطان ربا يعبده من دون الله: قال تعالي {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}[يس].
ويمر بآيات الله الدالة عليه سبحانه وتعالي معرضا قال تعالي {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}[يوسف].
يمن الله عليه بالنعم فيزداد طغيانا قال تعالي :{ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)}[الأعلى].
الإنسان الذي إذا أحاطت به الخطوب تذكر ربه وإذا كان في نعمة غفل وكفر قال تعالي {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}[النحل].
رابعا :أرض المحكمة:
قال تعالي{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم].
وللحديث : عن سهل بن سعد قال سمعت النبي () يقول {يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد}[رواه البخاري]
وأيضا: (أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة).
فهي أرض أخرى غير أرضنا لم تطأها قدم من قبل، ولم تعمل عليها خطيئة، ولم يسفك عليها دم، أرض طاهرة من ذنوب بني آدم وظلمهم، طهر يتناسب وطهر القضاء.
وأما على ماذا يحاسب الله تعالى العباد: فاعلم أن الحساب سوف يكون مشافهة: فكل عبد يعرض على ربه، ويتولى سبحانه حسابه بنفسه للحديث:
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ (): (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)[رةاه البخاري ومسلم]
والحساب إما أن يكون يسيرا: وذلك بأن يعرض على العبد عمله بحيث لا يطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة ، فعن صفوان بن محرز أن رجلا سأل ابن عمر كيف سمعت رسول الله () يقول في النجوى قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول عملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرره ثم يقول إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته}[رواه البخاري]
وأما أن يكون الحساب عسيرا وذلك لمن كثرت معاصيه فذلك الذي يناقش الحساب ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة قال رسول الله (): ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أليس قد قال الله : (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا  يسيرا)؟
فقال رسول الله (): إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب).
والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة.
والحساب يتناول كل شيء:ــ
1ـ العمر والمال والجسم والعلم لقول النبي (): (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه).
2ــ عن النعم وشكرها قال تعالي {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}[التكاثر].
قال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا). ولقوله (): (إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال: له ألم نصح لك بدنك، ونروك من الماء البارد).
3- عن الحواس واستعمالها: قال تعالي {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}[الإسراء].
قال ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم .
4- عن الفرائض من صلاة وزكاة: لقوله (): {إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة وآخر ما يبقى الصلاة، وأول ما يحاسب به الصلاة ويقول الله: انظروا في صلاة عبدي، قال: فإن كانت تامة كتب تامة، وإن كانت ناقصة يقول: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن وجد له تطوع تمت الفريضة من التطوع، ثم قال: انظروا: هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كانت ناقصة قال: انظروا هل له صدقة فإن كانت له صدقة تمت له زكاته}. 
5- عن الدماء والقتل: لقول النبي (): (أول ما يقضى بين بالناس يوم القيامة في الدماء) كلُّ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : قال : قال رسول الله () (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركا أو يقتل مؤمنا متعمدا).
.وعن عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ، عن رسولِ اللهِ () أنَّه قال: (مَن قَتَل مُؤْمِنًا فاغتَبَطَ بقَتْلِهِ لم يَقْبَلِ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلًا). [أبو داود]
وعن أبي الدَّرْداءِ، عن رسولِ اللهِ () أنَّه قال: (لا يَزالُ المُؤْمِنُ مُعْنِقًا صالِحًا ما لَمْ يُصِبْ دمًا حرامًا، فإذا أَصابَ دمًا حرامًا بَلَّحَ). أي (ضعُفَ وانقطَعَ فلم يستطِعِ المشْيَ) [أبو داود]
6- السؤال عن المسؤولية والأمانة: قال تعالي {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)}[الصافات].
وعَنْ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ () أَنَّهُ قَالَ : {أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ }[رواه البخاري ومسلم ].
7- عن الكلمة:لقوله (): (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) .
ولقول النبي (): {وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم}
و ما من كاتب إلا ستبقى                 كتابتـه وإن فنيـت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء                 يسرك في القيامة أن تراه
8- عن الحقوق والمظالم للحديث: (يقول الله تعالى: أنا الديان، أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة).   
العنصر الرابع : الأثار المترتبة علي معايشة اسم الله الحسيب :ـ
1ـ استشعار معيَّة الله عز وجل :ـ
الإيمان باسم الله "الحسيب" يُفضِي إلى استشعار معيَّة الخالق للعبد في كل زمان ومكان، وإذا كان الله معك، فمَن عليك؟ وإذا كان عليك، فمن معك؟
قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا أحببتَ أن يدومَ الله لك على ما تُحِب، فدُمْ له على ما يحب".
وقيل:
كُن عن همومك مُعْرِضا     وَكِلِ الأمور إلى القضا
وابْشِر بِخَيْر عاجِـلٍ      تنس به ما قد مضى
فَلَرُبّ أمر مُسْخِـطٍ       لك في عواقِبه رِضى
وَلَرُبّما ضاق المضيقُ     وَلَربما اتــسع الفضا
الله يفعل ما يشــاء     فلا تكــن مُعْترِضا
الله عَوَّدّك الجمــيل     فَقِسْ على ما قد مضى
2ـ استشعار الفقر والحاجة إلي الله تعالي :ـ
ـ أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه لا غنىً له عنه، بل لا يتصور العبد حياته دون ربه، فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء والتضرع إليه سبحانه وتعالي.
3ـ دوام محاسبة النفس
إن النجاةَ والمخرجَ في موقف الحساب يترتب علي محاسبة النفس  في الدنيا والوقوف معها وقفة جادة .....
كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ،واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا،وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا.
فمن حاسب نفسه بدقه في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة.
فعن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه قال رسول الله ()"الكَيِّس مَنْ دانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعد الموت والعاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفَسَهُ هَواهَا وتمنَّى على الله الأماني" [الترمذي] .
ولو سَرَتْ هذه المحاسبة على وجهِها الأكمل، لَمَا تفشَّت بيننا مظاهرُ الغش والرِّشوة والمحسوبية،وضياع الحقوق والمظالم، ولكن الفَطِن منا مَن يُؤدِّي المظالم في الدنيا قبل يوم الحساب، فالله كفيلٌ بردِّ الحقوق إلى أصحابها، قال تعالى:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}[الغاشية].
فلا يمر بك يوم دون أن تنظر أين أنت من طريق الإسلام ؟  هل تقدمت أم تأخرت ؟
هذا سيدنا عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فاطمة بنت عبد الملك رأته يبكي قالت له : مالك تبكي ؟
قال لها : دعيني وشأني ، فلما ألحت عليه ، قال : ويحك يا فاطمة إني وليت أمر هذه الأمة ، فرأيت المريض الضائع ، والفقير الجائع ، والشيخ الكبير ، والأرملة الوحيدة ، وذي العيال الكثير ، والرزق القليل ، والمأسور ، والمظلوم ، وأمثالهم في أطراف البلاد ، فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً ، وأن خصمي دونهم رسول الله ، فخفت ألا تثبت حجتي فلهذا أبكي ، دعيني وشأني قال تعالي {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)} الحجر.
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى!
ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!)
[وتمام القصة ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى. الإحياء والقصة مذكورة في صفة الصفوة لابن الجوزي ].
وفي الختام ..
إن غياب الناس عن معايشة اسم الله الحسيب ،ونسيان محاسبة النفس لهو نذير غرق الأمة في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة،  وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً، لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع المجتمع و الفرد حساباً على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون وكما تهوى أنفسهم فيتقلبون على الحياة ودروبها بلا زمام ولا خطام فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون كما قال تعالي{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً (28)}[النبأ].
فاللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 ============
رابط pdf
رابط word


ليست هناك تعليقات: