16 مايو 2018

رمضان شهر التغيير



الحمد لله رب العالمين .. فرض الصيام للارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك، فقال سبحانه وتعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183){ البقرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. كتب الفلاح والنجاة في تزكية النفس وتطهيرها فقال تعالي } وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10){ الشمس.
 وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .... صاحب الخلق الرفيع وبين أن الغاية من الصيام تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك فقال صلي الله عليه وسلم : «والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم» [البخاري].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ..
إن رمضان فرصة عظيمة لتحقيق تغيير حقيقي في جانب السلوك والعبادة والأخلاق، فالمسلم في أيامه ولياليه يسارع في نيل أجره وعظيم ثوابه، وينهل من فيض عطاء ربه، ويتزود من رمضان زاداً لآخرته، فرمضان مدرسة ربانية يستزيد فيها المؤمن من الأجور والحسنات بالطاعات والقربات، ويتقوى بما يعينه في تعزيز صلته بخالقه ليسعد في الدنيا والآخرة، فينبغي للمسلم اغتنام فرصه، والمبادرة والمسارعة في تحصيل فوائده وعظيم أجره.
 إن رمضان شهر التغيير لذا نجد فيه كُلَّ شيء قد تغيرَ ، ولكن السؤال الأهم: هل رياحُ التغيير التي أحدثها هذا الضيفُ الكريم في حياتنا اكتسحت ما بدواخلنا لإحداث نقلةٍ رُوحية وجسدية تُصلح أوضاعنا وتُغيّر ما بنا من سوء؟
إذا كان شهرُ رمضان أحدثَ بإذن الله في هذا الكون الشامخ تغييراً ملموساً لا ينكره أحد، إذ فتّحت أبوابُ الجنة، وغلّقت أبواب النار، وصفِّد الأعداء الألداء الشياطين، وينزل الملائكة الكرام مشاركين في سيدة الليالي ليلةِ القدر يملؤون الأرض، حصلت هذه التغييرات الكونية في سيد الشهور، أفلا تتغيرُ حياتُنا المريرة وأوضاعنا المأسوية في شهر ٍمُنح من الخصائص ما يعجز عن تدوينه المدادُ؟
خصائص شهر رمضان:ـ  
1- أن الله تبارك وتعالى أنزل فيه القرآن، قال تعالى: } شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) 185){ [البقرة].
 وهو دستور هذه الأمة، وهو الكتاب المبين، والصراط المستقيم، فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد، وهو الهدى لمن تمسك به واعتصم، وهو النور المبين، نور لمن عمل به، لمن أحل حلاله، وحرم حرامه، وهو الفاصل بين الحق والباطل، وهو الجد ليس بالهزل، فعلينا جميعاً معشر المسلمين العناية بكتاب الله تعالى قراءةً، وحفظاً، وتفسيراً، وتدبراً، وعملاً وتطبيقاً.   
 2- ومن خصائص شهر رمضان: تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد مردة الشياطين وعصاتهم، فلا يصلون ولا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل، قال : { إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين }،
وفي رواية: { إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة } [البخاري].  
 3- ومن خصائص شهر رمضان: تضاعف فيه الحسنات. 
 4- ومن خصائص شهر رمضان: أن من فطر فيه صائماً فله مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً، قال : { من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء } [حسن صحيح رواه الترمذي وغيره].  
5- ومن خصائص شهر رمضان: أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة التي يكتب الله تعالى فيها ما سيكون خلال السنة، فمن حرم أجرها فقد حرم خيراً كثير، قال : { فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم } [أحمد والنسائي وهو صحيح]. ومن قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، قال : 
{ من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [متفق عليه]،
وقال :{من قامها إبتغاءها، ثم وقعت له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر } [أحمد].
فياله من عمل قليل وأجره كثير وعظيم عند من بيده خزائن السموات والأرض، فلله الحمد والمنة. 
6- ومن خصائص شهر رمضان: كثرة نزول الملائكة، قال تعالى:} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا (4){[القدر].  
 7- ومن خصائص شهر رمضان: فيه أكلة السحور التي هي ميزة صيامنا عن صيام الأمم السابقة، وفيها خير عظيم كما أخبر بذلك المصطفى حيث قال:{ فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } [مسلم]،
وقال عليه الصلاة والسلام:{ تسحروا فإن في السحور بركة } [متفق عليه].
 8- ومن خصائص شهر رمضان: وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، وهي الغزوة التي تنزلت فيها الملائكة للقتال مع المؤمنين، فكان النصر المبين، حليف المؤمنين، واندحر بذلك المشركين، فلا إله إلا الله ذو القوة المتين.
9- ومن خصائص شهر رمضان: كان فيه فتح مكة شرفها الله تعالى، وهو الفتح الذي منه إنبثق نور الإسلام شرقاً وغرباً، ونصر الله رسوله حيث دخل الناس في دين الله أفواجا، وقضى رسول الله  على الوثنية والشرك الكائن في مكة المكرمة فأصبحت دار إسلام، وتمت بعده الفتوحات الإسلامية في كل مكان. 
 10- ومن خصائص شهر رمضان: أن العمرة فيه تعدل حجة مع النبي ، ففي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام:{ عمرة في رمضان تعدل حجة } أو قال { حجة معي }. 
 11- ومن خصائص شهر رمضان: أنه سبب من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، قال :
 { الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر } [مسلم]. 
  12- ومن خصائص شهر رمضان: أن فيه صلاة التراويح، حيث يجتمع لها المسلمون رجالاً ونساءً في بيوت الله تعالى لأداء هذه الصلاة، ولا يجتمعون في غير شهر رمضان لأدائها.  
13- ومن خصائص شهر رمضان: أن الأعمال فيه تضاعف عن غيره، فلما سئل  أي الصدقة أفضل قال: { صدقة في رمضان } [الترمذي والبيهقي]. 
14- ومن خصائص شهر رمضان: أن الناس أجود ما يكونون في رمضان، وهذا واقع ملموس لنجده الآن، ففي الصحيحين عن بن عباس رضي الله عنهما قال: { كان النبي  أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.. }.
15- ومن خصائص شهر رمضان: أنه ركن من أركان الاسلام، ولا يتم إسلام المرء إلا به، فمن جحد وجوبه فهو كافر، قال تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183){  [البقرة]،
وقال  صلي الله عليه وسلم:{ بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام } [متفق عليه]. 
 فشهر هذه خصائصه وهذه هباته وعطاياه، ينبغي علينا معاشر المسلمين إستغلال هذه الفرصة وإستثمارها فيما يعود علينا بالنفع العميم من الرب العليم الحليم، فلا بد لنا من إحداث تغيير حقيقي في هذا الشهر.       
وإن المتأمل في حياة الإنسان، يجد إن كثيراً من جوانب حياته في حاجة إلى تغيير، تغيير حقيقي ينقله إلى حال يطمح إليها.
جوانب التغيير في رمضان:
رمضان فرصة ثمينة لتغيير بعض جوانب السلوك وتقويمها، واصلاح النفوس وتهذيبها، فالاعتناء بجوانب التغيير في هذا الشهر الفضيل، والحرص على الاستفادة من مدرسة الصوم لتحقيق التقوى التي يسمو فيها المسلم للرقي في سلم الرفعة الروحية والأخلاقية، هي من أجل المقاصد التي شرع الصيام من أجلها، وليس أفضل من شهر الصوم لبدء علاقة جديدة مع التغيير الإيجابي المستمر إلى ما بعد رمضان.
فتغيير الحال لا يكون بالتمني والأماني، ولكن بالعمل الجاد والنية الخالصة والسلوك القويم، فمن أراد أن يصل إلى بر الأمان وشاطئ السلامة فعليه أن يعد الزاد من التقوى والعمل الصالح، وأن يحكم السفينة ويتعهد الراحلة، وإلا كان كما قال القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها      إن السفينة لا تمشي على اليبس
وتتعدد جوانب التغيير وتتنوع، وهي تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والسلوك، ولكل جانب من هذه الجوانب وسائل وطرق للتغيير، يحتاج فيها المسلم للتفكر والتمعن فيها؛ لسد جوانب النقص التي تحتاج إلى تغيير لتصحيح المسار،
ومن بين أبرز هذه الجوانب:
أولاً: علاقة المسلم بخالقه:
فهي علاقة تتميز خلال هذه الشهر الكريم بقوة الصلة بين العبد وربه، وهذا ما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة في رمضان وفي غير رمضان، فرب رمضان هو رب سائر شهور العام.
فالطاعات والقربات ليست محصورة بشهر واحد، فهي متاحة في كل شهور العام، فطريق التغيير يكون من خلال الاستمرار على أداء هذه الطاعات من خلال التدرج في المداومة عليها؛ حتى يصل المسلم إلى الغاية منها، وهو الاستمرار في الطاعة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ:( أدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ).
الصيام يكسب صاحبه خلق المراقبة لله تعالى، فهو يستطيع أن يأكل ويشرب لكنه لا يفعل طاعة لله تعالى ولذلك لا يدخله الرياء، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
 وإذا صحت المراقبة لله تعالى فسيصلح بصلاحها الشيء الكثير وسينعكس ذلك على سلوك المسلم، وسيتضح ذلك في أخلاقه، وإذا راقب الإنسان الله في عباداته ومعاملاته، وأخذه وعطائه، وعلم أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}الأنعام.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}المجادلة.
إذا علم هذا كله واستشعر التوجيه النبوي القائل: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
 فقد حاز خيراً كثيراً، وارتقى في سلم الأخلاق والسلوك إلى مدى بعيد.
ثانياً: علاقة المسلم بنفسه:ـ
فرمضان فرصة لتفقد النفس ومحاسبتها وحثها على الخير، والتغيير يبدأ عند محاسبة النفس وتصحيح أخطائها، وهذا ما يجب أن تكون عليه، عادة مستمرة يترقى بها المسلم إلى أفضل درجات السمو والرفعة.
يقول الحسن البصري رحمه الله  :" المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
فإن غاية الصيام معالجةُ النفس وإصلاحها لتكتسب بعدها الإرادةَ الصارمة، والعزيمة الجادة على طريق الإصلاح؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)} [البقرة].
هيا لنغتنم شهر التغيير ولنصلِح قلوبَنا، ونطلِّق ما بها من أمراض إلى الأبد خلال هذا الشهر، ففي رمضان تسلم القلوبُ من وَحَرها وحسدها وحقدها وغشها وخيانتها، وتسلم من الشحناء والبغضاء، ومن التهاجر والتقاطع، لتعود إلى فطرتها الحقيقة؛ قال عليه الصلاة والسلام: (صومُ شهر الصبر وثلاثةِ أيام من كل شهر يُذهبن وَحَرَ الصدر) [أخرجه البزار وصححه الألباني].
هيا لنغتنم شهر التغيير ولنصلِح ألسنتا، ونطهّرها، فهي أخطر جوارح الإنسان، صغيرة الحجم ، عظيمٌة الجُرْم ، فبالصيام يسلم اللسانُ من قول الزور، ويسلم من العمل به، ويسلم من اللغو، ويسلم من اللعن، ومن الباطل، ومن الكذب، ومن الغيبة والنميمة وغيرها، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم  (من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه) [أخرجه البخاري]،
ويقول: (ليس الصيامُ من الأكل والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث؛ فإن سابك أحد أو جهل عليك فقُل: إني صائم إني صائم) [أخرجه الحاكم وصححه الألباني]،
وهكذا بقية الجوارح، وبقية الأعمال، تصلُح وتتغير نحو الأفضل لمن صدق مع خالقه، فيصدقه فيما يعمل.
هيا لنغتنم شهر التغيير ونستمر على الحق ونعض عليه بالنواجذ ، ونعود إلى رحاب الله ،ونترك ما ألفته النفس من لهو وهوى قد يكون الفكاك منه صعباً كما قال الشاعر :
النفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
فشهر رمضان الكريم مثلا، ليس مجرد طقس يمتنع فيه الفرد عن شهوتَيْ البطن والفرج من طلوع الشمس إلى غروبها، بل هو أيضا مناسبة يلتزم فيها المسلم بالسلوكات الحسنة والمعاملات الطيبة، ويمتنع فيها عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كي يَحْسُن صومه ويَثْبُتَ أجره.
فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالعَطَشُ)، فالغاية من الصيام تتعدى الإحساس المادي بالجوع والعطش وغيرهما، إلى الإدراك الروحي لنعم الله وأفضاله، و الإحساس المعنوي بآلام الآخرين ومعاناتهم، وهمومهم ومشاكلهم.
والمسلم الحقيقي هو الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة، إلى ممارسة عبادة الصوم بجوانبها المادية والروحية معاً، وجعلها بمثابة تدريب سنوي لتحسين أخلاقه والرقي بسلوكه في مختلف جوانب الحياة، بالشكل الذي يتلاءم مع الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ، وَلَا لَعَّانٍ، وَلَا فَاحِشِ وَلَا بَذِيء).
فالمؤمن الحق في رمضان وفي غير رمضان  لا يطعن في الناس وأعراضهم، ولا يلقي باللعنات هنا وهناك، ولا تصدر عنه الفواحش والبذاءة وغيرها من السلوكيات المشينة والتصرفات الدنيئة.
والمسلم الحق في الأيام العادية وفي شهر رمضان على الخصوص، لا يتحدث إلا بالصدق، ولا ينطق إلا بالخير، ولا ينقاد للممارسات المنبوذة كالكذب، والدجل، والخداع، وخيانة الأمانة، وشهادة الزور وغيرها، كي لا تنتفي معاني السلوك البنَّاء من ممارسته لعبادة الصوم، وعندئذ فلا حاجة لله بصيامه.
فقد جاء في الحديث الشريف عن نبينا الكريم صلي الله عليه وسلم قوله: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
أي من صام ولم يترك الكذب والعمل به فلا قيمة لصيامه.
والمسلم الحق أيضا، هو الذي يبتعد أثناء الصوم عن اللغو في القول، والفُحش في الكلام، ويتجنّب الرفث والفسق، فلا يُضَيِّع وقته في مجالس السوء والنميمة، ولا تضعف نفسه أمام شهوات الحياة المادية والمعنوية، ولا يدفعه سوء أدب الآخرين معه واستفزازهم له بالقول والعمل، إلى التفوه بالكلام الفاحش معهم والتلفظ بالعبارات البذيئة تجاههم، وبذلك يتحقق المقصد السامي للصوم، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (لَيْسَ الصّيامُ منَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَث،ِ فَإنْ سَابَّكَ أحدٌ أوْ جَهِلَ عَليْكَ فَقُلْ : إنّي صَائِمٌ إنِّي صائِمٌ).
والمسلم الحق أيضا، هو الذي لا يتأثر أثناء الصوم بانقطاعه عن الأكل والشرب والشهوات الأخرى، فلا تضعف همته ولا تخفت عزيمته، فتراه هادئ النفس مطمئن البال، متحكما في أعصابه، كاتما لغضبه، كاظما لغيظه، فلا يصرخ في وجوه الناس ولا يخاصمهم، ولا يرفع صوته في وجوههم ولا يتوعدهم بغض النظر عن الأسباب والظروف، تماشيا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : «والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم» [البخاري].
ومن خلال هذه السلوكيات وغيرها، يمكن اعتبار شهر رمضان بمثابة ورشة تدريب في الأخلاق الحميدة والسلوكات الراقية، إذا استغلها المسلم كما يجب، استقامت شخصيته وانسجمت مع ذاتها ودينها ومحيطها في وحدة متآلفة، لا مكان للتصنع والرياء فيها.
ليشكل المسلم بذلك، نموذجا يحتذى به في التوفيق بين العبادة والسلوك في رمضان وفي غير رمضان، وبذلك يصلح صومه، ويَثْبُت أجره ويعكسَ الصورة الحقيقية للدين الإسلامي الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه عندما سئل ما الدين؟ فأجاب بكل بلاغة: (الدين المعاملة).
في شهر رمضان يتربى المسلم على الكثير من القيم والأخلاق التي تهذب سلوكه، وتصقل شخصيته، وتورثه الذكر الحسن، والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وإنه لينبغي أن نربي أنفسنا على الأخلاق الفاضلة، ونجعلها سلوك نتعامل بها في واقع الحياة.
ولعل شهر رمضان وفريضة الصيام ونفحات الرحمن فرصة عظيمة لتدريب النفس وتربيتها وتهذيبها، فغاية العبادات في الإسلام تربية الروح وتقويم السلوك ومعالجة الانحرافات وتوثيق الصلة برب الأرض والسماوات، فهل من عزم وإرادة في نفس كل مسلم ومسلمة وصائم وصائمة للقيام بذلك، وقد أمره الله عز وجل بتزكية نفسه، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10]،
قبل أن يأتي يوم لا ينتفع الصائم بصومه ولا المصلي بصلاته ولا المزكي بزكاته. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون من المفلس؟»، قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع"، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دماء هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» [رواه مسلم].
فرمضان شهرٌ للمراجعة والتغيير والتربية والتهذيب للنفوس،فالصوم يدفع المسلم ويوجهه إلى ضبط النفس والحلم والعفو والصفح والتنازل، ليس على سبيل الجبن والخوف والضعف، ولكن طاعة لله وإتباعٍ لرسوله صلى الله عليه وسلم وطلبٍ للأجر والثواب.
هذا هو خلق الحلم وهو سيد الأخلاق مدحه الله في القرآن، وأمر به ووصف به أنبيائه وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلق به وأمر به أصحابه وأمته من بعده إلى يوم القيامة.
وإن من فضائل رمضان وثمراته أن يربي المسلم على هذه القيم والأخلاق.
فكم دفع الحلم عن صاحبه من مشاكل وفتنٍ ومصائب، وكم دفع الحلم عن صاحبه من بلايا وشرور، وكم رفع قدر الحلم صاحبه بين الناس وأورثه الذكر الحسن، وكم من حسنات ثقل الله بها ميزان صاحب الحلم الذي صبر في ذات الله وكظم غيظه وتفضل على غيره، وقد أمر الله به، فقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ‌ بِالْعُرْ‌فِ وَأَعْرِ‌ضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(199)} [الأعراف]،
ووصف به عباده فقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا(63)} [الفرقان]، وقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُ‌ونَ(37)} [الشورى].
لقد كان الحلم من أهم الصفات التي زكى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَبِمَا رَ‌حْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ  وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ‌ لَهُمْ وَشَاوِرْ‌هُمْ فِي الْأَمْرِ‌فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)} [آل عمران].
قال علي رضي الله عنه في "أول عِوض الحليم عن حلمه أنّ الناس أنصاره"، وقال بعض البلغاء: "ما ذبَّ عن الأعراض كالصفح والإعراض"، وسئل الأحنف بن قيس: "بم سدت قومك؟"، قال: "وجدت الحِلم أنصر لي من الرجال".
ـ فالحلم من الصفات التي يحبها الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج، أشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة».
وَ ورد في مسند أبي يعلى أن الأشج قال: "يا رسول الله، كانا فيّ أم حدثاَ؟"، قال: «بل قديم»، قال (الأشج): قلت: "الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما" [صحيح مسلم].
والحلم وضبط النفس من صفات أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، هذا إبراهيم الخليل عليه السلام يصفه ربه بالحلم ويقول: {إِنَّ إِبْرَ‌اهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة].
وقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَ‌اهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ(75)} [هود].
ويُبشّره ربه كذلك بابن حليم، ويكون الحلم من صفات إسماعيل عليه السلام. قال تعالى: {فَبَشَّرْ‌نَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101].
 وهذا هود عليه السلام نبي الله يتعرض للسب والشتم والتسفيه من قومه، وهو مع ذلك كان في غاية الحلم على قومه يريد لهم الخير والصلاح، قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66)  قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68)} [الأعراف].
ولقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم من الغضب لما فيه من أضرار خطيرة علي الفرد وغيره من الناس ، منها ...
ما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب كما يصف الأطباء كتجلّط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكته مميتة أو مرض السكري وغيره . نسأل الله العافية .
ولو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله !.
بل قد يؤدي الغضب إلى سب الدين والعياذ بالله , بل وإلى الخروج كلية من الملة .
ولا يكون الغضب محمودا إلا إذا كان من أجل الله تعالي ودفاعا عن دين الله عز وجل ..      
فعن عائشة  رضي الله عنها  قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- ( رواه مسلم ).
 وذم الغضب المذموم الذي من أجل الدنيا .. فبين صلي الله عليه وسلم أصناف الناس عند الغضب ،روي الترمذي رحمه الله تعالي عندما خطب النبي صلي الله عليه وسلم عصر يوم من الأيام فكان مما قاله لهم: إنَّ بني آدم خلقوا على طبقات شتىّ: ألا انّ منهم بطيء الغضب سريع الفيء، وسريع الغضب سريع الفيء، وبطيء الغضب بطيء الفيء، فتلك بتلك، ألا وانّ      
 منهم بطيء الفيء سريع الغضب، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، ألا وان  منهم حسن القضاء حسن الطلب، ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب، ومنهم سيئ  الطلب حسن القضاء، فتلك بتلك، ألا وان منهم سيئ القضاء سيئ الطلب، ألا  وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب،وشرّهم سيئ القضاء سيئ الطلب.
فالنــاس في موضـــوع الغــضب أربــعة أصنــاف :
الأول: سريع الغضب سريع الرضى.
الثاني: بطئ الغضب سريع الرضى.
الثالث: سريع الغضب بطيء الرضى.
الرابع: بطئ الغضب بطئ الرضى.
ولنأخذ هذه الأصناف بشئ من التفصيل :
  سريع الغضب سريع الرضى:
هذا الصنف من الناس لا يحسن إدارة ذاته ونفسه، وكلمة واحدة تؤثر فيه ويتفاعل معها ثم بكلمة أخرى يهدأ ويرضى، وهذا الصنف يؤذي في التعامل ولا يعرف الطرف الآخر كيف يتعامل معه باستمرار، بل مزاجه متقلب وقد يغضب من كلمة اليوم، ولو قيلت له بعد أسبوع قد لا يغضب فهو حسب حالته النفسية يغضب ويرضى.
  بطئ الغضب بطئ الرضى:
وهذا صنف آخر من الناس لا يغضب، ولكنه إن غضب فلعله يقاطع الطرف الآخر أسبوعا أو أكثر، إلا أن حسنة هذا الصنف أنه بطئ الغضب.
  سريع الغضب بطئ الرضى:
وهذا شر الناس فانه يغضب لأي شئ ولكنه لا يرضى بسرعة، ولا يقبل أي اعتذار أو تأسف على الخطأ، بل انه حتى إذا أراد أن يصفح أو يعفو يتخذ هو القرار بغض النظر عن اعتذار الطرف الآخر.
4ـ بطئ الغضب سريع الرضى:
وهذا خير الناس، فالحلم والحكمة صفاتهم، ولا يمنع ذلك من غضبهم بحكم طبيعتهم البشرية، ولكنهم إذا غضبوا سريعوا الرضى عندما يعتذر إليهم . 
وقد وضع النبي صلي الله عليه وسلم أسبابا للتخلي بالحلم وكظم الغيظ وتجنب الغضب ، فمن ذلك :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان :
قال تعالى : " وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)" ( الأعراف) .
وقال : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)} فصلت.
وعن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجلان يستبّان ، فأحدهما احمرّ وجهه واتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ( رواه البخاري ومسلم) .
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه ( صحيح الجامع الصغير) .
2- السكوت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا غضب أحدكم فليسكت " ( رواه الإمام أحمد المسند وفي صحيح الجامع) .
وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين .
3- التغيير من الهيئة:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) .
قال العلامة الخطابي - رحمه الله - في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد . والله أعلم ( سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن  ) .
4- الوضوء والصلاة :
عَنْ عَطِيَّةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ.أخرجه أحمد وأبو داود.
قال ابن تيمية :" وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا حَرَكَةُ الدَّمِ ؛ فَإِذَا سَكَنَ غَلَيَانُ الدَّمِ سَكَنَ الْغَضَبُ .( مجموع الفتاوي).
روي أن معاوية  رضي الله عنه حبس العطاء يوماً ، فقام إليه أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه- فقال له : "يا معاوية إنه ليس من كدك ، ولا من كد أبيك ، ولا من كد أمك" ، فغضب معاوية غضباً شديداً ، ونزل عن المنبر، وقال للناس : " مكانكم " ، وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج إليهم وقد اغتسل فقال :" إن أبا مسلم كلَّمني بكلام أغضبني ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:" الغضب من الشيطان ، والشيطان خلق من نار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليغتسل ، وإني دخلت فاغتسلت ، وصدق أبو مسلم ، إنه ليس من كدِّي، ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم".( إحياء علوم الدين).
5- تذكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال لا تغضب . فردّد ذلك مراراً ، قال لا تغضب ( رواه البخاري فتح الباري) .
6- تذكر ثواب من يكظم غيظه :
يكفى الحلم عزة ورفعة وعلو شأن أنه من أسماء الله وصفة من صفاته، فهو سبحانه وتعالى (الحليم)؛ يرى معصية عبادة ومخالفتهم لأمره ثم يمهلهم ولا يسارع في عقوبتهم مع اقتداره واستحقاقهم لها، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(61)} [النحل].
وقد وصف نفسه بالحلم في أحد عشر موضعًا في القرآن الكريم، قرن فيها المغفرة بالحلم من ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ‌ حَلِيمٌ(235)} [البقرة].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ‌ حَلِيمٌ(155)} [آل عمران]،
وقال تعالى: {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ‌ حَلِيمٌ(225)} [البقرة].
وأوصى سبحانه وتعالى بالحلم والرفق ومجاهدة النفس عليهما وبين آثارهما، قال تعالى:
قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)} [فصلت:].
ومن صفات المؤمنين المتقين :{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} آل عمران.
وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ما تشرئبّ الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : { إذا ما غضبوا هم يغفرون } .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تغضب ولك الجنة " ( حديث صحيح : صحيح الجامع ) .
ومما ورد من الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:( من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) ( رواه أبو داود  وغيره ، وحسنّه في صحيح الجامع  ) .
7- تذكر فضل الحلم والعفو :
قال تعالى : {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}الشورى.
وعن علي بن الحسين قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل فيقوم ناس من الناس فيقال انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنة قالوا قبل الحساب قالوا نعم قالوا من أنتم قالوا أهل الفضل قالوا وما كان فضلكم قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا أسى علينا غفرنا قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ثم يناد مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال له مثل ذلك فيقولون نحن أهل الصبر قالوا ما كان صبركم قالوا صبرنا أنفسنا على طاعة الله وصبرناها عن معصية الله عز و جل قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ( أبو نعيم : حلية الأولياء  ).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك وتعالى للطالب فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء قال يا رب فليحمل من أوزاري قال وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب أرفع بصرك فأنظر في الجنان فرفع رأسه فقال يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا قال هذا لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملكه قال بماذا قال بعفوك عن أخيك قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله عز وجل فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين .( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه , رواه الحاكم في مستدركه ) .
7- معرفة أن الرجولة الحقيقة في السيطرة على النفس عند الغضب:
والحلم دليل على رباطة الجأش وشجاعة النفس ودماثة الخلق. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،(ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد والحديث متفق عليه .
وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة . قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) ( رواه الإمام أحمد  ، وحسنه في صحيح الجامع) .
وقال أحد السلف : ليست الأحلامُ في حالِ الرضا إنّما الأحلامُ في حال الغضبْ 
8- التأسي بأهل الحلم في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، أمَّا صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم فقد كان أكثر الخلق حلماً، فيصبر ويصفح ويسامح ويتجاوز، حتى كسب بهذا الخلق قلوب الناس وانظروا إلى هذا الموقف الرائع في حياته صلي الله عليه وسلم ...
 في يومٍ من الأيام بينما كان رسول الله مع أصحابه في المسجد إذ برجل يتخطى الصفوف حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بمجامع قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وردائه ونظر إليه بوجه غليظ وقال له: "يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فو الله ما علمتم بني عبد المطلب إلا مطلاً، ولقد كان لي بمخالطتكم علم"، وكان هذا الرجل هو زيد بن سعنة حبر من أحبار اليهود وكان رسول الله قد استدان منه إلى أجل وقبل حلول الأجل بيومين جاء زيد إلى رسول الله قال زيد: ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: "يا عدو الله: أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟
 فو الذي نفسي بيده لولا ما أُحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك".
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتَؤدة فقال: «يا عمر أنا وهو كُنَّا أحوج إلى غير هذا؛ أن تَأمرني بحسن الأداء، وتَأمره بحُسن إتباعه (أي الطلب)، اذهب به يا عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرِّ مكان ما رعُته»، قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: "ما هذه الزيادة يا عمر؟"، قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعُتك"، قال: "وتعرفني يا عمر؟"، قال: "لا"، قلت: "أنا زيد بن سعنة"، قال: "الحبر؟"، قلت: "الحبر"، قال: "فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت؟ وقلت له ما قلت؟"، قلت: "يا عمر، لم يكن من علامات النبوة شيءٌ إلَّا وقد عرفتُ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرتُ إليه إلَّا اثنتين لم أخبرهما منه: يَسبق حُلمه جَهله، ولا تَزيده شِدة الجهل عليه إلا حُلماً، وقد خبرتهما، فأُشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً وأُشهدك أن شَطر مالي فإني أكثرها مالاً صدقة على أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم"، قال عمر: "أو على بعضهم فإنك لا تسعهم؟"، قلت: "أو على بعضهم"، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، وآمن به وصدقه، وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة ثم توفى في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رحم الله زيداً. [ابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته. ثم قال: "يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك"، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمرَ له بعطاء" [رواه البخاري].
موقف رهيب، وحلم عجيب وخلق عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه .كان وقافا عند آيات الله تعالي ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل ( العطاء الكثير ) ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر رضي الله عنه حتى همّ أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، ( وكان من جلساء عمر ) : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه ، صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل ( رواه البخاري) .
فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب ( رواه البخاري) .
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ، عندما أسمعه رجل أبا الدرداء  رضي الله عنه كلاما , فقال : يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
قيل لابن المبارك رحمه الله تعالى اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة قال ترك الغضب.
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:(اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى).                
هذه بعض الجوانب التي تستحق التوقف عندها والاعتناء بها والاهتمام بتغيرها، فلنبدأ صفحة جديدة مع التغيير الإيجابي، ولنستفد من مدرسة الصيام لنصلح من ذواتنا، ولنرسخ هذه القيم في أنفسنا، ولنعلمها من حولنا، لكي يكون مجتمعنا مجتمعاً تسوده الألفة والمحبة، وليكن رمضان خطوة أولى للتغيير.
اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها"
هيا لنغتنم شهر التغيير ونلجأ إلى الله لجوء المضطرين المستغيثين المنيبين ،فهو وحده المغيث المجيب لمن دعاه .
اللهم تقبل منا الصيام والقيام واجعلنا من الفائزين برمضان .
آمين يارب العالمين
تحميل word 

تحميل pdf


ليست هناك تعليقات: