الحمد لله الذي خلق فسوي ،وقدر فهدي ، وأضحك
،وأبكي ، وأمات وأحيا ، وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك
ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا …
الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر، لا إله إلا
الله إلا الله ، الله أكبر ولله الحمد ..
الله أكبر تكبيرة عابد ، الله أكبر صيحة كل مجاهد
. الله أكبر بها فتحنا خيبر ،
الله أكبر بها انتصرنا علي جحافل كسري وقيصر .
الله أكبر ما وفق الله المسلمين لحج بيته الحرام
، الله أكبر ما تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم وخرجوا لأداء فريضة الحج طمعا في
الرحمة والرضوان . الله أكبر ما تجردوا من ثيابهم وارتدوا ملابس الإحرام ،
الله أكبر ما ارتقعت أصواتهم بالتلبية والتهليل
والتكبير لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا
شريك لك لبيك ، الله أكبر ما طافوا بالبيت الحرام وسعوا مهللين ومكبرين بين الصفا
والمروة ، الله أكبر ما خرجوا من مكة إلي عرفات ، الله أكبر ما تجلي عليهم ربهم في
هذا المكان بالرحمات ، الله أكبر ما أزيلت الفوارق بين الطبقات وتمت المساواة بين
الأغنياء والفقراء ،ووقفوا صفا واحدا أمام الواحد الديان .
الله أكبر ما تجلي رب الكائنات علي كل واحد منهم
فطهرة من ذنوبه وكفر عنهم سيئاته ومنحه بفضله الأجر العظيم والثواب الأكبر .
الله أكبر ما ذبح كل مسلم أضحيته في هذا
اليوم العظيم وعلي مقاومة النفس والشيطان صبر وانتصر ، سبحانك يا من جمعت القلوب
علي الحق بحكمتك ووسعت كل شيء بعلمك وقدرتك ورحمتك ،
سبحانك تخلق ما تشاء وتختار سبحانك أنت الواحد
القهار ، سبحانك آناء الليل
وأطراف النهار .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. صدق
وعده ، ونصر عبده , وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ..
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ،و صفيه من
خلقه وحبيبه ، بلغ الرسالة ،وأدي الأمانة ، ونصح للأمة وكشف الله به الغمة ، وجاهد
في الله حق جهاده حتي أتاه الله اليقين . فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه
وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما بعـــد … فيا أيها المؤمنون…
إن العيد من شعائر الإسلام
العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة، ومقاصد عظيمة فضيلة، وحِكماً
بديعة، فأنتم نعيش الآن الساعات الأولى من يوم عيد النحر المبارك، يوم العيد
الأكبر، الذي يلتقي فيه المسلمون على صعيد الحب والإخاء يتبادلون أحاديث الود
والصفاء، فتقوى صلاتهم وتتوثق أخوتهم فيحمدون الله عز وجل على نعمة الشريعة
الإسلامية التي جمعتهم برباطها، وألفت بين قلوبهم، وشدت بعضهم إلى بعض، بعرى
العقيدة و الإيمان، فأصبح مثلهم في المودة والتراحم كمثل الجسد الواحد والبنيان
المرصوص، فالتواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة،
وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين
فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال
رسول الله : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم
مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)
. ولي معكم في
يوم التضحية والفداء عدة رسائل أرسلها إلي أحبابي الكرام :
الرسالة الأولي كن محبا :
والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات
الإسلام، فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر
نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى.
فاجعل نفسك ممن يستحق التهنئة بفرحة هذا العيد
السعيد وان من يستحق التّهنِئَةَ بالعيد الموسِر الذي يزرَع البسمةَ على شِفاه
المحتاجين، والشَّفوقُ الذي يعطِف على الأرامِلِ واليتامى والمساكين، والصحيحُ
الذي يتفقَّد المرضى والمقعَدين، والطّليق الذي يرعَى السجناءَ والمأسورين.
فالأخوة
الإيمانية امتداد لمحبة الله وتوحيده ، وثبت بين المؤمنين بقوله تعالى ( إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ ]الحجرات :
10] ،
فهي رابطة بعقد الله سبحانه وتعالى ، وإن أول ما
يميز هذه الرابطة أنها في ذاته سبحانه وتعالى ، يقول الله سبحانه وتعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] [التوبة : 71]
،
فالأخوة الإيمانية تفتح لكل
موحد باب عظيم للأخوة في كل أنحاء الأرض ، وما أجمله من شعور ، أن نشعر بأن كل
موحد على وجه الأرض هو أخ لنا ، له من الحقوق ما له وعليه من الواجبات ما عليه ،
في أي بقعة كان ومن أي شعب أو لغة كان ما دام على عقده وميثاقه التوحيدي مع الله
سبحانه وتعالى ،فالأخوة الإيمانية فوق كل الحواجز والعلائق الأرضية ، وفي هذا
إلماحة إلى ضلال أولئك الذين يفرقون المسلمين والموحدين على أساس ولاءات عصبية
، وجنسيات وتابعيات مقيتة ، تفتت الأمة وتمزقها ، وتضع الحدود التي تفصل بين
أبنائها .
ورحم الله القائل :
يا أخي المسلم في كل مكان وبلد أنت مني وأنا منك كروح
في جسد
وأهم ما يميز الأخوة الإيمانية كذلك أنها لقاء
بين الموحدين على مهام عظيمة ، وأعمال كبيرة ، تسمو بالمسلم إلى المهمة الأصيلة في
تعمير الأرض بالخير ، ونشر العدل في الأرض ، ومحاربة الطواغيت ؛ فهي إذاً أخوة في
سبيل تحقيق مهام جِسام في حياة البشرية لا يقدر عليها المسلم بمفرده ، وإنما تتآزر
جهود المؤمنين وطاقاتهم مجتمعة لتحقيق هذه المهام العِظام .
وأيضا أخوة الإسلام أخوة في طريق إزالة الطواغيت
ونشر العدل في الأرض ، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصحابة الكرام
من مهاجرين وأنصار في رباط أخوة إيمانية ، أبدعت نواة لدولة حضارية عمّرت الأرض
بمنهج الله تعالى ، والأخوة الإيمانية أخوة فوق كل العصبيات الأرضية كمثل الجسد
الواحد .
إن الاخوة الإيمانية أخوة إيديولوجية ، تنطلق من
أسس عقدية ، فالمؤمنون والمؤمنات .. ربهم واحد ، ورسولهم واحد وقدوتهم واحدة ،
وكتابهم واحد ، وقبلتهم واحدة ، ومنهجهم واحد ، ومعتقدهم واحد ، وقائدهم وأميرهم
واحد . فهم كالجسد الواحد الذي تسكنه روح واحدة ويديره عقل واحد وله تطلعات وأهداف
واحدة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : }مَثَلُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ
الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى {
فهي فوق أخوة النسب ، وهي فوق أخوة القبيلة ، وهي
فوق أخوة الوطن …فوق كل الأخوات الأرضية …تسمو عليها وترتقي لتلتقي على نفحة الوحي
السماوية .
وفي المقابِلِ ـ أيّها المسلمون ـ ليس العيدُ لمن
عقَّ والدَيه فحُرِم الرّضَا في هذا اليومِ المبارَك السعيد، وليس العيدُ لمن
يحسُد الناسَ على ما آتاهم الله من فَضله، وليس العيدُ لخائنٍ غشّاش كذّاب يسعى
بالأذَى والفسادِ والنميمةِ بين الأنام. كيف يسعَد بالعيد من تجمَّلَ بالجديد
وقلبُه على أخيهِ أسود؟! كيف يفرح بالعيدِ من أضاع أموالَه في الملاهِي المحرَّمة
والفسوقِ والفجور؟!
يمنَع حقَّ الفقراء والضعفاء ولا يخشى البعثَ
والنشور، لا يعرِف من العيدِ إلا المآكلَ والثوبَ الجديد، ولا يفقَه مِن معانيه
إلاّ ما اعتاده من العاداتِ والتقاليد، ليس لهم منَ العيد إلا مظاهرُه، وليس لهم
من الحظِّ إلى عواثِرُه.
الرسالة الثانية كن عفوا:
إن العفو شِعار الصالحين الأنقياء ذوي الحلم
والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازل عن الحق نوع إيثار للآجل على العاجل، وبسط
لخلق نقي تقيٍّ ينفذ بقوة إلى شغاف قلوب الآخرين، فلا يملكون أمامه إلا إبداء نظرة
إجلال وإكبار لمن هذه صفته وهذا ديدنه. إن العفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين؛ إذ
له في النفس ثقل لا يتم التغلُّب عليه إلا بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقام
للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياء الذين استعصوا على حظوظ النّفس ورغباتها، وإن
كانت حقًّا يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله-تعالى}وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ
مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ{،الشورى:41.
غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن
إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. وهذا هو الشَّديد الممدوحُ
الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي. وقد أخرج الإمام
أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ: ( }من كظم غيظًا وهو قادرٌ على
أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء{
عباد الله:
إن العفو له فضل عظيم، وأجر كبير، فقد جاء عن علي
بن أبي طالب-رضي الله عنه- قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله- تعالى حدثنا
بها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: }وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{ ]الشورى:30[. أي
:” ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاءٍ في الدنيا فيما كسبت أيديكم،
والله-تعالى- أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في
الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه”. أيها المسلمون: لقد أثنى الله- تعالى-على
عباده المتقين، ووصفهم بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس
والإحسان إلى الخلق، ووعدهم جنة عرضها السموات والأرض، فقال:{الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{ ]آل عمران:134[
قال
“الإمام ابن كثير” في تفسير قوله والعافين عن الناس أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم
في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال”. وقد أمر الحق-
جلَّ وعلا- نبيه الكريم بالعفو والصفح، فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْجَاهِلِينَ} (لأعراف:199)
.
وقد فهم النبي العفو بأن تعطي من حرمك، وتصل من
قطعك، وتعفو عمن ظلمك. وقد أمر الله المؤمنين، بما أمر به المرسلين ، فقال- جل من
قائل-: }فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ] {البقرة:109[
وقد جاء عن أبي بكر- رضي الله عنه-أنه قال:
“بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء
فليقم، فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس”.
أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس يظنون أن
العفو والتجاوز يقتضي الضعف والذلة، وهذا غير صحيح، فالعفو والتجاوز لا يقتضِي
الذّلَّة والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا
كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار، فقد بوَّب البخاريّ- رحمه الله في صحيحه-
بابًا عن الانتصارِ من الظالم، لقوله- تعالى-: }وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ {، ]الشورى:39[
وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا
يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا"
قال الحسن بنُ علي- رضي الله تعالى عنهما-: (لو
أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه) ،
وقال جعفرُ الصادِق- رحمه الله-:"لأن أندمَ
على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة".
وقال الفضيل بنُ عياض- رحمه الله: "إذا أتاك
رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال:
لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله- عزّ وجلّ- فقل له: إن كنتَ
تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا
وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار
يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان”.
عباد الله: إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ، ولكنَّ
العفوَ هو الكمالُ والتّقوى، قال الله }وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ{ الشورى:40[
الرسالة
الثالثة : كن صالحا مصلحا :
إن غاية المسلم من أتباعه تكوين أمة صالحة تصلح
للخلافة وإعمار الأرض ، لتحافظ علي كيانها ، وترتقي بنفسها إلي المعالي ، ولن يكون
ذلك إلا بالتحلي بالجدية والإيجابية ، وأن يبدأ كل بنفسه ، منتقلا من مقعد النقد
إلي موقع العمل محركا للأحداث آخذا بزمام الأمر مؤمنا بدوره في الحياة ومستعينا
بربه دون أن يعبأ بالمعوقين أو يتأثر بالعوام الجدية ضرورية لأن بها تؤدي التكاليف
والواجبات. وتبلع الرسالات وتنتشر الدعوات ويتغلب على العقبات والمشقات وتتحقق
أسمى الأهداف والغايات لا يكفي أن يكون الإنسان صالحا في نفسه بل جعل الخيرية في
الإنسان أن يكون صالحا مصلحا للمجتمع من حوله حتي ينجوا المجتمع من حوله وينجو هو
معهم، إن سفينة الأمة تمر الآن بفترة عصيبة وهي تبحر في بحار متلاطمة الأمواج
ورياح الفتن تأتي من كل مكان والخطر يحدق بالجميع وظلام المعاصي والفساد يحجب
الرؤى ويطمس الفكرة فلا بد لأهل الصلاح المصلحين أن يقودوا الأمة إلى الإيجابية
وإلى الحركة الهادفة الراشدة مقتدين بإمام الأنبياء صلي الله عليه وسلم متمثلين
الحديث الذي رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: }مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ
وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ
بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي
أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا
لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا
فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى
أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا{ ]رواه البخاري[ .
وقد جاء
عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- حديث يبين هذا حينما سألته أمنا زينب بنت جحش
– رضي الله عنها- فقالت: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: “نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ
الْخَبَث. ولا يحل العذاب بقوم إلا إذا فشا فيهم المنكر غير عابئين بنصح ناصح أو
إرشاد مرشد، والطامة الكبرى أن يقع الجميع في المنكر ولا يوجد من يردهم عنه.
ولاشك أن الذي يتحرك لتغيير المنكر هو الذي ينجيه
الله عز وجل من سوء العذاب وقد أكد القرآن على هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي
الأرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). [هود:
116-117].
قال الحافظ ابن كثير: “يقول تعالى: فهلا وجد من
القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات
والفساد في الأرض. وقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: قد وجد منهم من هذا الضرب قليل،
لم يكونوا كثيرًا، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه، وفجأة نقمته؛ ولهذا أمر
تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقد أكد
صاحب الظلال على أن هذه سنة كونية في الأمم؛ “فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد
الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها
الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون،
فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر
في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك
الانحلال.. والاختلال!
الرسالة
الرابعة: كن جادا :
لا يقوم التغيير إلا بقوم جادين يتسمون بالجدية
لأنه بدونها تبدد الجهود المبذولة.. وتذيل شجرة الدعوة، وتخبو رايتها ويتأخر
الركب، ويتقدم الأعداء.. وتضيع الأمانة ، وعدم الجدية يؤدي إلي الوقوع في المعصية
والنفاق والعياذ بالله . فسبب المعصية الأولى هو النسيان وقلة العزم والجدية، وهذا
يتقاسمه كل بني البشر، وهي المنافذ الأولى التي يخترقها الشيطان من الإنسان، }ولقد عهدنا إلي آدم من قبل
فنسي ولم نجد له عزما{ ] طه .75[
لذا كان الرسل ودعواتهم على مستوى من الجدية بقدر
ما يمنع عنهم الخطأ ويحقق
العصمة،
وتفاوت بعضهم في العزم حتى تميّزوا بـ”أولوا العزم من الرسل” ولما دعا رسول الله –
صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق – رضى الله عنه- إلى الإسلام فأسلم، إذا
بالصديق رضى الله عنه يستشعر المسئولية، ويجدُّ في الدعوة الفردية، فيسلم على يدية
صفوة من خيار الصحابة: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف،
وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكانوا نعم الأعمدة الشامخة لدعوة الله،
ونصرة الإسلام. يقول عن حاله : ( والله ما نمت فحلمت .. ولا سهوت فغفلت .. وإنني
على الطريق ما زغت ) ..
هذه كلمات تعبر عن مدى تغلغل مفهوم الجدية في نفس
أبي بكر فالعمر قصير ولا وقت للهزل .. فمن جد وجد ..
وهذا
صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- القائد العظيم يسيطر عليه همّ الأقصى الأسير، فلا
يمزح ولا يضحك ويقول: ” إني لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي
الصليبين” فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه.
ــ إن الجيل الأول الذي تربى في حضن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أدرك أن الإسلام جاء ليحرره من كل الأغلال والقيود لينطلق في
ربوع الأرض بكل حزم وجد، ينشر هذه الدعوة لتحرير البشرية، ولا يتقاعس في سبيل ذلك
لأنها ليست من سماته، بل يمضي قُدما في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل، فيقوم
صحابي جليل ،واعٍ لرسالته، قد عقد العزم ألا يكون من المتخاذلين، قام هذا الصحابي
وهو ربعي بن عامر – رضي الله عنه- في وجه كسرى ملك الفرس ليجيبه بكل ثقة وصدق وعزم
: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن
جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة …
” يا له من خطاب حضاري رائق .. قاله ذاك المسلم
الواعي منذ 14 قرنا من الزمان
.. إن
الجيل الأول قد تربى على حياة الجد والعزم، فحطّم الأصنام الطينية والخشبية ثم
انتقل إلى تحطيم الأصنام البشرية، فعاشت البشرية جمعاء على اختلاف أديانها
ومعتقداتها في جو لم تشهد ولن تشهد مثله إلا تحت ظل الإسلام ورايته : جو سادته
الحرية والعدل والاحترام والتعاون والتكافل …
==================
رابط pdf
https://top4top.io/downloadf-3084nls7u1-pdf.html
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق