الحمد لله رب العالمين
.. أعد للمهاجرين الأجر الكبير والفوز العظيم والنعيم المقيم في الجنة
فقال تعالي }الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22){ ]التوبة[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. جعل الهجرة من
موجبات رحمته تعالي فقال تعالي }إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218){ [البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) دعا إلي
الهجرة وحث عليها فقال (ﷺ)}العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ{ ]رَوَاهُ مُسلِمٌ[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله
وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ..
لقد شرع الله الهجرة وحث عليها وذلك
من أجل الحفاظ علي الدين والعقيدة لأنهما أغلي وأعز ما يملك الإنسان فقال
تعالي }إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ
كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97){ ]النساء[.
وكذلك دعا إلي الهجرة من أجل لقمة
العيش والسعي علي المعاش فقال تعالي }وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي
الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100){ ]النساء[.
وكذلك أمر بهجرة الذنوب والمعاصي
ففيها الخير الكثير، فقال تعالى لنبيه (ﷺ): {وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ(5)} ]المدثر[.
فالهجرة واجبة علي الإنسان في كل وقت
وآن ،ولكي نؤدي واجب الهجرة لابد أن نقف علي حقيقة الهجرة ، لذلك كان
موضوعنا }حقيقة الهجرة وفضلها{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية .....
1ـ معني الهجرة.
2ـ هجرة الأبدان.
3ـ هجرة القلوب إلي الله
تعالي.
4ـ فضل الهجرة.
5ـ كيف نحصل علي ثواب
المهاجرين ؟
6ـ الخاتمة.
العنصر الأول : معني
الهجرة :
الهجرة في اللغةً: مفارقة الإنسان
غيره ببدنه أو بلسانه أو بقلبه.
ومعناها شرعاً: مفارقة بلاد الكفر أو
مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة.
العنصر الثاني :هجرة
الأبدان:
لقد شرع الله تعالي هجرة الأبدان
وأعطي عليها أجرا عظيما إذا صدقت النية ، حيث قال (ﷺ) }إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله،
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه{
]أخرجه
البخاري[
فأعظم الهجرة من أجل الدين والعقيدة
وهي الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام.
1- الهجرة من دار الحرب
إلى دار الإسلام:
وكانت فرْضًا أيام
النبِيِّ (ﷺ) وهي باقية مَفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت
بالفَتْح هي القصد إلى النبِيِّ (ﷺ) حيثُ كان.
لقد أمر النبي (ﷺ) الصحابة
بالهجرة إلى الحبشة لمّا اشتد عليهم الأذى من الكفار في مكة فخرجوا إلى أرض الحبشة
مرتين فراراً بدينهم.
وبقى النبي (ﷺ) في مكة يدعو
إلى الله ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول: {رَّبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن
لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً(80)} [الإسراء]،
فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة
وأذن لأصحابه بالهجرة إليها، فبادروا إلى ذلك فراراً بدينهم وقد تركوا ديارهم
وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، وقد أثنى الله عليهم
ومدحهم ووعدهم جزيل الأجر والثواب، وصارت الهجرة قرينة الجهاد في كتاب الله عز
وجل، وصار المهاجرون أفضل الصحابة حيث فرّوا بدينهم وتركوا أعزّ ما يملكون من
الديار والأموال والأقارب والعشيرة، وباعوا ذلك لله عز وجل وفي سبيله وابتغاء
مرضاته.
ولقد هاجر النبي (ﷺ) مرغما من
وطنه مكة المكرمة، تحت ضغط وتهديدٍ من المشركين؛ بالحبس أو النفي والإبعاد، أو
القتل والإعدام، وكلُّ هذا مكرٌ ومؤامرة ضدَّ النبي (ﷺ) ودعوته {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ
أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)} ]الأنفال)،
ترك وطنه مكة، وعاد بعد سنوات فاتحا منتصرا، وعندما دخلها وصار بالحجون وقف عَلَى الحَزْوَرَةِ فَقَالَ:}وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ{، وفي رواية: }وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ{. ]هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. سنن الترمذي[
وصار ذلك شريعة ثابتة إلى أن تقوم
الساعة فقد جاء في الحديث: }لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع
التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها{، فكل من لم يستطع إظهار دينه في بلد فإنه
يجب عليه أن ينتقل منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه.
وقد توعد الله من قدر على
الهجرة ولم يهاجر فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ
قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء
وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)
فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً
غَفُوراً} [النساء].
فهذا وعيد شديد لمن ترك الهجرة
بدون عذر، وهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على
الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، وأنه ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص
هذه الآية حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ} أي يترك الهجرة {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} أي
لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض، وهذا اعتذار منهم غير صحيح
لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة فتركوها، ولهذا قالت لهم الملائكة توبيخاً لهم:
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}.
فمن لم يستطع إظهار دينه في بلد وجب
عليه الخروج إلى بلد يستطيع فيها ذلك، فإن بلاد الله واسعة ولا تخلو من بلاد
صالحة، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً (100)} [النساء].
أي مكاناً يتحصن فيه من أذى الكفار،
وسعة في الرزق، ويعوضه الله بها عما ترك في بلده من المال، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا
ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ(42)} [النحل].
2- الهجرة فرارا من بطش
الظالمين :
وذلك فضْلٌ مِن الله رخَّص فيه، فإذا خشِيَ على نفسه، فقد أذِنَ الله في الخروج عنه، والفِرار بنَفسه؛ ليُخلِّصها مِن ذلك المَحْذور، وأول مَن فعَله إبراهيم عليه السَّلام ،حيث قال تعالي: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)} [الصافات].
وقال سبحانه عن إبراهيم الخليل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(27)} ]العنكبوت[
أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان،
ففي الهجرة كان الفرج في الدنيا والآخرة.
وقال الله تعالي مُخْبرًا عن سيدنا
موسى عليه السلام }فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ (21){ [القصص].
العنصر الثالث : هجرة
القلوب إلي الله تعالي:
ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب
إلى الله تعالى بإخلاص العبادة له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله
وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله (ﷺ) باتباعه وتقديم
طاعته والعمل بما جاء به.
ومن هجرة القلوب :
1ـ هجر المعاصي من الكفر والشرك
والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه (ﷺ): {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} ]المدثر[.
الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها
والبراءة منها ومن أهلها.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ:}المُسْلِمُ
مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ
مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ{. ]صحيح البخاري[.
وعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: }أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ ؟! مَنْ
أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ،وفي رواية: ودمائهم،
وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ
جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا
وَالذَّنُوبَ{ ]مسند أحمد[
أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال
والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور
يجب هجرها والابتعاد عنها.
2ـ هجرة أماكن وأهل السوء:
ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من
الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالابتعاد عنهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ
هَجْراً جَمِيلاً (10)} [المزمل] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من
سفهاء قومك ، واتركهم تركاً لا عتاب معه.
وهناك هجْرٌ أي مقاطعةُ من يسيئون إلى الدعوة والدعاة، والصبرُ على أذاهم، قال كما جل جلاله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)} [المزمل]
قال ابن القاسم: سَمِعتُ مالكًا يقول:
لا يحلُّ لأحد أن يُقيم بأرضٍ يُسَبُّ فيها السَّلَف؛ قال ابن العربي: وهذا صحيح،
فإنَّ الْمُنكَر إذا لم تَقْدِر أن تغيِّرَه فزُلْ عنه؛ قال تعالى}وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا
تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(68){[الأنعام].
فلا يحلُّ لمسلم أن يُساكِن الكفار؛
خشيةَ أن يتطبَّع بطباعهم؛ لأنَّ الطَّبع سرَّاق، ولقول النبي (ﷺ) }أنا
بريءٌ من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين{، قالوا: يا رسول الله، لِم؟ قال: }لا تَراءَى ناراهُما{؛ ]رواه أبو داود في "سننه" من حديث جرير البجلي[.
3ـ هجر الصفات الذميمة :
ويجب علينا أن نهجرَ الصفاتِ
الذميمةَ، والأخلاقَ الرذيلةَ، فقد حذرنا نبينا (ﷺ) من أمثال
هذه الصفات؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ)قَالَ:}إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ
ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ
أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا،
وَبِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَبِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا{.
قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ؟) قال: "أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ"، قَالَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ: (يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟) قَالَ: "أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ اللهُ، وَالْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، فَأَمَّا الْبَادِي فَإِنَّهُ يُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَأَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا{. ]مسند أحمد واللفظ له، ورواه أبو داود مختصرا، والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم[.
وعن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ
أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ (ﷺ)عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: }وَيْحَكَ!
إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: (نَعَمْ!)
قَالَ: «فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟» قَالَ: (نَعَمْ!) قَالَ: }فَاعْمَلْ
مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا{ ]صحيح مسلم[ .
قال النووي: [وَالْمُرَادُ
بِالْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هَذَا الأَعْرَابِيُّ؛ مُلازَمَةُ
الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ (ﷺ)، وَتَرْكُ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ،
فَخَافَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (ﷺ)أن لا يَقْوَى لَهَا، وَلا يَقُومَ
بِحُقُوقِهَا، وَأَنْ يَنْكُصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ شَأْنَ
الْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا لَشَدِيدٌ، وَلَكِنِ اعْمَلْ بِالْخَيْرِ
فِي وَطَنِكَ، وَحَيْثُ مَا كُنْتَ، فَهُوَ يَنْفَعُكَ، ولا ينقصك اللَّهُ مِنْهُ
شَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ]. شرح النووي على مسلم .
قال العزُّ بن عبدالسلام: (الْهِجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثْم والعدوان، وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان؛ لِما فيها من إرضاء الرحمن، وإرغام الشيطان) "نضرة النعيم"
إذن فالهجرة هجرتان:
1ـ هجرة تامة فاضلة لا يساويها ولا يوازيها شيء، وهي الهجرة من مكة وغيرها إلى المدينة، وهذه انقطعت وانتهت بفتح مكة.
2ـ وهجرة دائمة مستمرة وهي هجر
المنكرات والمعاصي والسيئات، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُعَاوِيَةَ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ
اللهِ (ﷺ) قَالَ: "الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَهْجُرَ
السَّيِّئَاتِ، وَالأُخْرَى أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلا
تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ
مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ المَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِع
وفي رواية: ختم عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ
الْعَمَلَ" المعجم الكبير للطبراني قال في إرواء الغليل
العنصر الرابع : فضل
الهجرة :
1ـ الهجرة لا مثل لها :
الْهجرة من شريعة النبي (ﷺ) وهي باقية
إلى قيام السَّاعة، وشأْنُها عظيم، لاعمل
يعدِلُها، ولا وظيفة تُساويها، كما في الحديث الذي أخرجه النَّسائي بسند صحيح من
حديث أبي فاطمة الليثي - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، حدِّثْني بعملٍ أستقيم
عليه وأعمله؛ قال له رسول الله (ﷺ)}عليك
بالهجرة، فإنه لا مثل لها{
ومن له بالهجرة والقدرة عليها، إلاَّ
قوي العزم والإرادة؟!
وهل يقدر عليها كلُّ إنسان؟
لا يقدر عليها إلاَّ ببذل النَّفس
لها، وشَحْذ الهمة للوصول إليها، أَلِهذه الدرجة أمْرُ الهجرة؟! الجواب: نعَم؛
لأنَّ أمر الهجرة شديد؛ لأنَّ بعض الناس يظنُّ أنه مهاجر وليس كذلك، وإنما هو
مُهَجَّر، قال عمر: هاجروا ولا تهَجَّرُوا، قال أبو عبيد: يقول: أخلصوا الهجرة
لله، ولا تَشبَّهوا بالمهاجرين على غير صحَّة منكم.
روى البخاري من حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه أنَّ أعرابيًّا سأل رسول الله (ﷺ)عن الهجرة،
فقال:}ويْحك، إنَّ شأنَها شديد، فهل لك من إبِلٍ
تؤدِّي صدقتها؟) قال: نعم، قال: (فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لن يَتِرَك من
عملك شيئًا{
قال الخطابِيُّ رحمه
الله في "معالِم السُّنن": "وقوله (لن يَتِرك) معناه لن
ينقصك، ومن هذا قوله تعالى}وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35){ [محمد]، والمعنى أنَّك قد تدرك بالنِّسبة
أجرَ المهاجر، وإنْ أقمْتَ من وراء البحار، وسكنْتَ أقصى الأرض.
2ـ الضمان الإلهي
للمهاجر في الحفظ والرعاية والنصرة :
قال الله تبارك وتعالى:}وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100){ ]النساء[.
إن المهاجر في سبيل الله سيجد
في أرض الله تعالى منطلقا وسعة، ويجد الله تعالى في كل مكان يذهب إليه يجيبه
ويرزقه وينجيه، ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الهجرة والموت إنما هو أمر محتوم
عندما يحين الأجل المرسوم وسواء أقام أم هاجر فإن الأجل لا يستقدم ساعة ولا يستأخر
فأعطى الله سبحانه ضمانا بوقوع الأجر عليه منذ الخطوة الأولى في الهجرة إليه، فأي
ضمان آخر بعد هذا الضمان الذي يعطيه مولانا للمهاجر الصادق؟!
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عتيك
قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول}من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات
فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله{.
وقال جل شأنه كذلك:}وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ
قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا
يَرْضَوْنَهُ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59){ ]الحج[
ولقد يحظى المهاجر إلي الله ورسوله (ﷺ) بمعية الله
تعالي ولقد رأينا ذلك واضحا في أعظم هجرة وهي هجرة رسول الله تعالي ، حيث يقول
الله عز وجل في حقه:}إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40){ ]التوبة[.
تجلى الله تعالى على سيدنا محمد (ﷺ) بالنصر في
حادث الهجرة.. وفي قلب الغار "غار ثور" سلم كما سلم إبراهيم عليه السلام
في وسط النار، وموسى عليه السلام في التابوت، ويونس عليه السلام في بطن الحوت وإذا
لم يرد الله نجاة أحد فهو في البرج الشامخ يموت، وإذا تولى برعايته أحدا من خلقه
حفظه بخيط العنكبوت وعصمه، فمن كان في ميدان العصمة كان مستغنيا عن نصرة
المخلوقين...
3ـ الهجرة من ثمار الإيمان
بالله تعالي:
من الملامح التي نلاحظها في حديث
القرآن الكريم عن الهجرة أنه يقرنها بالإيمان في كثير من المواطن قال الله تعالى:}إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218){ ]البقرة[.
وقال الله جل جلاله: }الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22){ ]التوبة[
وقال الله عز وجل:}وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (74){ ]الأنفال[.
4ـ الهجرة وسام شرف
للمهاجرين:
قال جل ثناؤه:}وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100){ ]التوبة[.
السبق إلى الهجرة طاعة عظيمة، من حيث
إن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع، فمن أقدم على الهجرة صار قدوة لغيره في
هذه الطاعة... وكذلك السبق في النصرة... وللجميع الجنة والرضوان في النهاية.
وقال تبارك اسمه:}فَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا
وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الثَّوَابِ (195){ ]آل عمران[
وقال تعالي }وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
(41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42){ ]النحل[
ثم ذيل الله الكلام عنهم في سورة
الحشر ابتداء من قوله تعالى }لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9){ ]الحشر[.
هذه صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح
المميزة للمهاجرين لا ملجأ لهم سوى الله، ولا جنات لهم إلا حماه، وهم مع أنهم
مطاردون قليلون ينصرون الله ورسوله بقلوبهم.
العنصر الخامس : كيف نحصل
علي ثواب المهاجرين ؟
العبادة في زمن الغربة
وأيام الفتن :
العبادة الخالصة لله تعالى وقت الفتن
والشدائد والمحن تساوي هجرة إلى النبي (ﷺ) فهو القائل:} الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ{. ]رَوَاهُ
مُسلم[ .
وفي رواية عند غيره: }الْعِبَادَةُ
فِي الْفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ{ ]المعجم
الكبير للطبراني[ .
فَالعِبَادَةُ في الفِتنَةِ
كَالهِجرَةِ، وَالهِجرَةُ في الإِسلامِ وَلا سِيَّمَا في زَمَنِ الغُربَةِ
وَالفِتنَةِ سَبَبٌ لِلمَغفِرَةِ وَالرَّحمَةِ، قَالَ تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعدِ مَا
فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ(110)} [النحل]
في أَوقَاتِ الفِتَنِ وَمَا
أَكثَرَهَا في هَذَا الزِّمَانِ- تَتَفَرَّقُ القُلُوبُ وَتَتَشَتَّتُ النُّفُوسُ،
وَتَذهَلُ العُقُولُ وَتَختَلِفُ المَوَازِينُ، وَيَختَلِطُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ
وَيَخفَى الصَّوَابُ، وَتَضعُفُ الهِمَمُ وَتَطِيشُ الأَحلامُ وَيَغلِبُ اتِّبَاعُ
الهَوَى، وَيَكُونُ النَّاسُ في أَمرٍ مَرِيجٍ وَيُصرَفُونَ عَنِ الهُدَى،
وَيَكثُرُ أَئِمَّةُ الضَّلالِ وَيَبرُزُ رُؤُوسُ الزَّيغِ، وَيُصبِحُ المَعرُوفُ
مُنكَرًا وَالمُنكَرُ مَعرُوفًا، وَيَنصَرِفُ النَّاسُ إِلى الزَّخَارِفِ
وَيَطمَئِنُّونَ إِلى الدُّنيَا، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا أَعَزَّ مِن مُؤمِنٍ
يُهَاجِرُ إِلى رَبِّهِ بِقَلبِهِ، وَيُحَلِّقُ بِنَفسِهِ عَمَّا فِيهِ غَيرُهُ
مِن اختِلاطٍ وَاضطِرَابٍ، وَيُفَارِقُ مُجتَمَعَاتِ الفَسَادِ وَالإِفسَادِ،
وَيَكُونُ كَالسَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ إِلى الإِسلامِ، الَّذِينَ خَرَجُوا مِن
دِيَارِهِم وَأَموَالِهِم وَأَهلِيهِم، وَتَرَكُوا البُلدَانَ وَفَارَقُوا
الأَوطَانَ، وَخَرَجُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاتَّبعُوهُ
وَجَاهَدُوا مَعَهُ.
وَمَا أَمَرَّ تَجَرُّعَهُم لِلصَّبرِ
وَأَشَدَّ قَبضِهِم عَلَى الجَمرِ، وَمَن كَانَ مِن أُولَئِكَ القِلَّةِ، فَهُوَ
المُبشَرُ بِقَولِ الحَبِيبِ عليه الصلاة والسلام لأَصحَابِهِ:} إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامًا الصَّبرُ فِيهِنَّ مِثلُ القَبضِ عَلَى
الجَمرِ، لِلعَامِلِ فِيهِنَّ مِثلُ أَجرِ خَمسِينَ رَجُلاً مِنكُم{ ]رَوَاهُ
التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ[
فهم خاطئ!!
في أيام الفتن يَفهَمُ بَعضُ النَّاسِ
أَنَّ الهِجرَةَ في أَزمِنَةِ الفِتَنِ، هِيَ اعتِزَالُ النَّاسِ وَمُصَارَمَتُهُم
وَالانصِرَافُ الكُلِّيُّ عَنهُم، وَلُزُومُ المَسَاجِدِ أَوِ البُيُوتِ لِصَلاةٍ
أَو ذِكرٍ أَو قِرَاءَةِ قُرآنٍ أَو دُعَاءٍ، وَوَاللهِ إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ وَمَشرُوعٌ في زَمَنٍ مَا، حَيثُ قَالَ عليه الصلاة
والسلام فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ:}يُوشِكُ أَن يَكُونَ خَيرَ مَالِ المُسلِمِ
غَنَمٌ يَتَّبِعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ
مِنَ الفِتَنِ{
غَيرَ أَنَّ هَذَا لَيسَ بِأَفضَلَ
وَلا أَكثَرَ أَجرًا مِمَّن يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم،
وَيَسعَى في نَفعِهِم وَتَوجِيهِهِم وَتَعلِيمِهِمُ الخَيرَ وَدِلالَتِهِم
عَلَيهِ، وَيَكُونُ بِقِيَامِهِ بِأَمرِ اللهِ بَينَهُم خَيرَ قُدوَةٍ لَهُم
وَأُسوَةٍ،
أيها السلمون : أَلا
فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَكثِرُوا مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَزَوَّدُوا مِنَ
البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَأَخلِصُوا للهِ وَكُونُوا لَهُ عَابِدِينَ،
فَإِنَّكُم في زَمَنٍ تَتَوَالى فِتَنُهُ وَتَنتَشِرُ انتِشَارَ النَّارِ في
الهَشِيمِ، وَلا منجا مِن ذَلِكَ وَلا مَلجَأَ إِلاَّ المُسَارَعَةُ إِلى
الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ وَاتِّخَاذُهَا زَادًا لِلمَعَادِ، قَالَ (ﷺ):}بَادِرُوا
بِالأَعمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا
وَيُمسِي كَافِرًا، وَيُمسِي مُؤمِنًا وَيُصبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ
بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنيَا{
]رَوَاهُ
مُسلِمٌ[
وَعَن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها
قَالَت: "استَيقَظَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ) لَيلَةً فَزِعًا يَقُولُ: }سُبحَانَ
اللهِ! مَاذَا أُنزِلَ اللَّيلَةَ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنزِلَ مِنَ
الفِتَنِ، مَن يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ لِكَي يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ
في الدُّنيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ{
]أَخرَجَهُ
البُخَارِيُّ[
الخاتمة :
أيها المسلمون : ما أحوجنا إلي هذا
النوع من الهجرة في زماننا هذا الذي تنكبت فيه أمتنا طريق الهداية ونافست أهل
الكفر في إتيان المنكرات إلا من عصم الله تعالي ، فشاع الزنا ،وعم الربا وشربت
الخمر جهارا نهارا ، وجاهر الناس بالمعاصي دون حياء من الله تعالي .
فلا بد أن نحي في نفوسنا روح الهجرة
إلي الله تعالي بالعودة إلي منهجه الصافي وندع ما نحن من بعد وانحراف عن منهج الله
تعالي.
فمن غض بصره عن الحرام في زمن غرق فيه
الشباب في براثن القنوات الفضائية والمواقع الإباحية، فهو من المهاجرين.
ومن عفت يده عن الحرام حين تغلغل
الحرام إلي النخاع وطرق أبواب الأتقياء فهو من المهاجرين .
ومن أمسك لسانه عن ذكر الناس والناس
فاكهتهم ذكر فلان وغيبة فلان فهو من المهاجرين .
ومن تركت التبرج والزينة الحرام وسط
أخوات لها كاسيات عاريات فهي من المهاجرين .
فاللَّهُمَّ
إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ...
----------------------------
رابط doc
https://www.raed.net/file?id=865704
رابط pdf
https://www.raed.net/file?id=865708