19 ديسمبر 2019

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ




الحمد لله العزيز الوهاب الكريم التواب... شرع الشرائع ، وفرض الفرائض وحد الحدود وحذر من تجاوز هذه الحدود وانتهاكها  .. جعل المال عصب الحياة، به تنتظم معايش الناس، ويتبادلون على أساسه تجاراتهم ومنتجاتهم، ويقوّمون على أساسه ما يحتاجون إليه من أعمال ومنافع. ولقد أخبر سبحانه و تعالى بأنه أحد الأمرين اللذين هما زينة الحياة الدنيا في قوله تعالى }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (46){ [الكهف].           
                                      
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. حرم أكل المال بالباطل فقال تعالي}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (29){[النساء]. 

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ...تعامل مع المال علي أنه أمانة ومسئولية يسأل عنه صاحبه يوم القيامة فقال  صلى الله عليه وسلم }لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أن اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه{ رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له، وروى الترمذي قريبًا منه بإسناد حسن صحيح.                                                                                                                
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
                                                                 
أما :بعــــد .. فيا أيها المؤمنون ..
فالمال في الاسلا م وسيلة لتبادل المنافع بين الناس، وتقويم المجهود المبذول في العمل والجزاء عليه، حيث يتمكن به الإنسان من إشباع رغبات النفس.   

 وإذا كان الإنسان مولعا بحب المال، وممتحنا به في هذه الحياة الدنيا فهل يتحرى توجيهات الشرع الحكيم في كسبه وإنفاقه؟ أم يكون همه هو هو جمع المال وتبذيره دون مراعاة الحلال والحرام في كل ذلك؟ فقال تعالى } الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46){  الكهف           
وقال تعالي }وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20){ [الفجر]، وقال جل شأنه } وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8){[العاديات].  
ونجد تكالب الناس علي جمع المال ولا يبالون مصدره وربما يتعدي الأخ علي حق أخيه أو أخته في حقه في الميراث ولا يبالي سواء كان حلال أو حرام
لذلك كان حديثنا عن أكل مال الغير في الميراث وذلك من خلال العناصر الرئيسية :ـ 

1ـ الميراث وصية الله تعالى.
2ـ أسباب أكل الميراث
3ـ أمور شائعة يقع فيها الناس .
4ـ عقوبة أكل الميراث .
5ـ من روائع من تاريخ السلف مع الميراث

العنصر الأول : الميراث وصية الله تعالى لعباده:ـ
من جوانب عظمة الإسلام اهتمامه بأحكام الميراث بعد موت الميت فجاءت أحكام الميراث دقيقة موزعة بحكمة بالغة وعدل من قبل رب العالمين.
 فربنا سبحانه تولى تقسيم التركات ولم يترك ذلك لأحد من البشر، فصل ربنا بدقة أحكام المواريث في بيان بليغ وحساب دقيق مما يستحيل على البشر أن يهتدوا إليه لولا أن هداهم الله.
روى الإمام أحمد وغيره أن امرأة سعد بن الربيع جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تقول له : ( يا رسول الله هاتان بنتا سعد بن الربيع قتل معك شهيدا يوم أحد وترك لهما مالا فجاء عمهما فأخذ المال ولا ينكحان إلا بمال . فقال : يقضى الله فى ذلك .. فأنزل الله آيات المواريث فقضى للزوجة بالثمن والبنتين بالثلثين والباقى للأخ عصبة ) .
 ومن تأمل الآيات الثلاث الواردة في تفصيل أنصبة الورثة رأى أنها جميعا ختمت بصفة العلم ..
ففي الآية الأولى: }فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11){ النساء.
 وفي الآية الثانية: }وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12){ النساء.
وفي الآية الثالثة:}يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176){ النساء.

 إن من عادة كل إنسان أن يُنَفِّذ وصيَّة مَن له مكانة عنده، وكلما عَلَت مكانة الموصِي، كان تَنفيذ وصيَّته ألْزَمَ، ولا سيَّما إن كرَّر نفس الوصية وأمَر بتنفيذها.
إن الله جل في علاه أعظم من كلِّ عظيم، وأكبر من كلِّ كبير، وأعلى من كلِّ عليٍّ؛ قال تعالى}سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1){ [الأعلى]؛ لذا نقول: إنَّ وصيَّة الله في الميراث أَوْلَى أن تُنَفَّذ.
 وما إن نزلت هذه الآيات على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتدب أصحابه واستحثهم على تعلم علم الفرائض( وهو علم المواريث ) فقال صلى الله عليه وآله وسلم 
( تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه نصف العلم وهو ينسى وهو أول شيئ ينزع من أمتى ) .
وروى الإمام أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ( العلم ثلاث : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنة ماضية . وما سوى ذلك فهو فضل ) .
فاستجاب أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لهذا النداء والحث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وممن تقدم فى هذا العلم الصحابى الجليل زيد بن ثابت الذى مدحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : ( أفرضكم زيد بن ثابت )
وبقوله : ( أرحم أمتى أبو بكر وأشدهم فى دين الله عمر وأكثرهم حياءً عثمان وأفرضهم زيد بن ثابت ) .
ومنهم أيضًا السيدة عائشة .. فعن مسروق أنه قال : ( رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض )
ومنهم الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود الذى كان يلقب بالحبر فى هذا الباب وغيره ، إذ قال سعد بن أبى وقاص عنه حول هذا العلم ( لا تسألونى مادام هذا الحبر فيكم ) .
وممن تقدم وفاق فى هذا الباب وغيره أمير المؤمنين على بن أبى طالب إذ كان يخطب على منبر الكوفة فسئل عن مسألة عويصة فأجاب على السائل فى جملة قصيرة ومضى فى خطبته وسميت هذه المسألة بالمسألة المنبرية ..
وكان سيدنا على يقول في خطبته : ( الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعاً ، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرُّجعى. فسُئِل عنها فأجاب على قافية الخطبة: " والمرأة صار ثمُنها تُسعًا"  ، ثم مضى في خطبته .
فانظر كيف حسب بداهةً، وأجاب سليقةً، فتناغمت القوافى والمعانى .
وكان الرجل إذا جمع هذا العلم نبل قدره وعظم فقد روى الإمام مسلم أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : مَنْ استعملتَ على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى ! قال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا ! قال : فاستخلفتَ عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عز وجل ، وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين .

العنصر الثاني أسباب أكل الميراث:ـ
 أخوة الإسلام ك إن هناك أسباب عديد تجعل الإنسان يأكل الميراث و يتعدى حدود ما انزل الله تعالى نذكر من أهمها:ــ

1ـ ضعف الإيمان:
فآكل الميراث ضعيف الإيمان و إن صلى و صام و قرأ القران لأنه تشبه بأعداء الله و قتلت الأنبياء من اليهود عندما قالوا لأنبيائهم كما اخبر الله تعالى عنهم }وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(93){[البقرة].
فالله تعالى أمرهم ولكنهم قالوا سمعنا وعصينا.
 وأنت يا آكل الميراث إن لم تقلها بلسانك فأنت تقولها بأفعالك وجحودك لحقوق الورثة.

2 - طمع الأقارب في ميراث المرأة:
 فكثير من أكلة المواريث أصابهم الجشع و الطمع فجحدوا حق الورثة ظنا منهم ان ذلك سينقص المال و الطمع جمرة لا تحرق إلا صاحبها في الدنيا و الآخرة.
عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الترمذي.
وقال المناوي: (فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم؛ لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً).
وقال الوراق: (لو قيل للطمع: من أبوك؟ قال: الشك في المقدور. ولو قيل: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل. ولو قيل ما غايتك: قال الحرمان).
وقال أبو العباس المرسي: الطمع ثلاثة أحرف كلها مجوفة، فصاحبه بطن كله لا يشبع أبداً. واصل الطمع وسببه والدافع إليه التوهم أعني التخيل والحسبان.

3 - التقاليد والعادات القبلية الجاهلية.
فبعض الناس عندهم عادات لا يورثون البنات ويجحدوهم حقوقهم فاذا قلت له لماذا لا تورث إخوتك يقول "إحنا طلعنا وجدنا آباءنا وأجدادنا لا يورثون البنات".
نقول له: هذه عادات أهل الجاهلية الذين ذمهم الله تعالى و بين ان التقاليد سبيل الضلال } وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(104){[المائدة] .
وقال تعالى} قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74){[الشعراء] .
وقال جل ذكره } وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(21){ [لقمان].

العنصر الثالث : أمور شائعة يقع فيها الناس :ــ
إن كثيرا ممن لا دين لهم يتحايلون على أكل أموال الناس بالباطل وإسقاط نصيب غيرهم فى المواريث ومن الأمور الشائعة فى ذلك ما يلى :

1- إسقاط نصيب النساء :
فإن كثيرا من الناس إذا كان له أخوات يستحققن الميراث فإنه يعمل جاهدا على إسقاط حقوقهن وأكل أموالهن بالباطل راجعا بذلك إلى أيام الجاهلية الأولى التى  كانت النساء فيها يمنعن من الميراث عنوة .
2- المرأة إذا كان عندها بنت أو أكثر فإن أقارب الزوج يستحقون جزءً من الميراث بالعصبة فإنها تشنع عليهم وتقول أنهم يريدون أن يأكلوا أموال اليتامى وتريد أن تستحوذ هى وبناتها على جميع التركة .
3- الرجل إذا كان عنده بنت أو أكثر وله أخوة أو أقارب أولاد عمومة ويعلم أنهم سيرثون مع بناته فإنه يلجأ فى حياته أن يبيع لبناته بيعا وشراءً معرضًا بذلك عن حدود الله تعالى .
وإن رجلا أتى مثل هذا العمل فأذله الله تعالى فى الدنيا قبل الآخرة فقد تحايل على ذلك بأن كتب بيته لابنته الوحيدة بيعًا وشراءً حتى لا يأخذ إخوته معها فى ميراثه ، ومرت الأيام فقامت البنت بكتابة البيت لزوجها ثم ماتت هذه البنت .
فتزوج الزوج فى هذا البيت وطرد هذا الرجل إلى الشارع فلم يجد مَنْ يسأل عنه إلا أخوته وأقاربه الذى تحايل عليهم قبل ذلك ليسقط نصيبهم من الميراث .
فمن أعلم من الله عز وجل ؟!
ومن أحلم من الله عز وجل ؟!
ومن أحكم من الله عز وجل ؟!
4- الرجل يقسم على أولاده تركته وهو حى :
وهذا من الأخطاء الشائعة فقد أجمع العلماء على أن من شروط الميراث ( تحقق موت المورث ) إذ أنه ربما يموت أحد الورثة فيغير تقسيم الميراث رأسًا على عقب .
وقد يبلغ الرجل مثلا الستين عاما فيبدو له أنه هالك لا محالة فيكتب لأولاده ويقسم بينهم وإذا به يُعافى من مرضه ويعيش عمرًا مديدًا يتزوج فيه وينجب من امرأة أخرى فيكون أولاده الكبار فقط قد استحوذوا على الثروة كلها وجار على أولاده الصغار، وإن الرجل لا يزال بخيرٍ مالكًا أمره ما دام المال بيده والقرار بيده ..
ومما يروى فى ذلك أن رجلا قسم ماله بين أولاده فأهملوه وتركوه ، فلما وجد أولاده انصرفوا عنه حزن لذلك ، فجمعهم وقال يا أولادى لقد قسمت عليكم مالا قليلا لكن ثروتى الحقيقية قد جعلتها فى صندوق فى حفرة تحت سريرى هذا .
فرجع أولاده يتسابقون لخدمته ، هذا يأتى له بعباءة والآخر بقطعة قماش والثالث بأكلة طيبة ومرت الأيام على ذلك حتى مات .
فلما كشفوا عن هذه الحفرة وجدوا فيه صندوقا كبيرا مليئًا بأوتاد من خشب ومعها ورقة مكتوب فيها ( وتد ثم وتد فى عين من يكتب ثروته وهو حى للولد ) 

  5- رجل يمنع ولدا من أولاده لأنه عاق : 
نقول له لا فمن عصى الله فيك فأطع الله تعالى فيه وقد حذر النبى من ذلك فقال صلي الله عليه وسلم:} إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة، ثم قال: واقرءوا إن شئتم: تلك حدود الله.... إلى قوله: عذاب مهين{ رواه الإمام أحمد وابن ماجه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة, ثم يحضرهما الموت, فيضاران في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [النساء:12]. إلى قوله تعالى: ذلك الفوز العظيم . رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.

عباد الله:
لا مجال في توزيع أنصبة الميراث للمجاملة ولا للواسطة ولا للرأي ولا للهوى إنها شريعة الله وحكمة الله تولى الله قسمة المواريث منعا للنفوس الضعيفة المفتونة بالمال أن تتلاعب بمال الورثة ومنعا للشقاق والاختلاف تولى الله قسمة المواريث لكي يضفى على المؤمن الطمأنينة والرضا إذا علم حينما يقل نصيبه أو حينما يمنع من الإرث أن نقصه أومنعه آت من لدن أحكم الحاكمين فيرضى حينذاك بحكم الله قال تعالي }وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50){ المائدة.
ومن أعظم صور العدل في الميراث تصافي القلوب بين الورثة وعدم تراشق سهام الضغائن فكل قد رضي بنصيبه الذي فرضه الله له.
هل يوجد في غير شريعة الإسلام ذلك التوزيع العادل لميراث الميت؟
حقا إنها عظمة الإسلام عظمة تحمل العدل عظمة بين الجاهلية الأولى التي تمنع المرأة من الإرث والجاهلية المعاصرة التي تدعو لمساواة المرأة بالرجل في الإرث.
نعم عباد الله ديننا دين العدل لا دين المساواة ولذا فالمناداة بمساواة الحقوق بين الذكر و الأنثى على خلاف أصول الشرع.

عاقبة أكل الميراث :ـ
لقد ختم الله تعالى آيات المواريث بقوله }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14){[النساء]
( تلك حدود الله ) لم يتركها لملك مقرب ولا لنبى مرسل إنما تولى قسمة ذلك بنفسه .
( وذلك الفوز العظيم ) فالجنة حقا هى الفوز العظيم }وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72){[الزخرف].       
 ليس الفوز العظيم فى قطعة أرض ولا فى عقار زائل ولا فى مال يتحول إنما الفوز العظيم هو فى جنة الرحمن .
وإياك أخى المسلم أن تظن أنك ستسعد بهذا المال الذى تأكله من أصحابه فإنه سيلاحقك ويكون سببًا فى شقائك فى الدنيا قبل الآخرة وصدق الله تعالى إذ يقول تعالي}وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ(126){[طه] .

فيا من تأكل ميراث أهلك وذويك ، وتقطع أرحاما كان يجب عليك وصلها ، وتأكل أموالا كان عليك صيانتها ، وتؤصل عداوات تتوارثها الأجيال ، اتق الله وأعط كل ذى حق حقه .
* ويا أهل كل ميت بادروا بتقسيم ميراثه إن وجد حتى لا يثقل ذلك بعد ذلك ويكون هذا المال سببا فى قطيعتكم . ولأنه يسهل على الأخوة والأخوات أن يتقاسموا المال ويتراحموا فيما بينهم أكثر من أجيال صغيرة تنشأ ليس لها نفس التراحم الموجود بين الأخوة .

فالويل كل الويل لمن يا يأكل ميراث اليتامي والضعفاء، فهذا من الظلم الفادح الذي حرمه الله تعالي ، لقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه، وحرمه على عباده، كما في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) رواه مسلم.
والله عز وجل توعد الظالمين بالعذاب فقال تعالى} وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) { [إبراهيم].
وقال تعالي: } أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) { [هود].

أيها المسلمون ...
إن الأمر ليس باليسير فبعض الناس يظنه هينا وهو عند الله تعالى عسير... وهذه بعض العقوبات التي توعد الله بها آكل الميراث:ـ  
  
أولا: أنه متعد لحدود الله "
اعلم هداني الله تعالى و إياك: أن أكلك للميراث فيه تعديا لحدود الله تعالى و انتهاكا لحرماته فالله سبحانه بعد أن بين الأنصبة قال ﴿ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229]، ولا تُجاوزوها؛ ولهذا قال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [النساء: 13]؛ أي: فيها، فلم يزِد بعض الورثة، ولَم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل ترَكهم على حُكم الله وفريضته وقِسمته،
 ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]؛ أي: لكونه غيَّر ما حكَم الله به، وضادَّ الله في حُكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسَم الله وحَكَم به؛ ولهذا يُجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المُقيم.
ولا شك أن من منع امرأة: أختاً كانت، أم أماً، أم جدة أم زوجة ميراثها فقد ‏تعدى حدود الله، وتعرض لعقوبته، والله قد قسم الميراث قسمة عدل لا جور فيها ولا ‏حيف.
أخرج أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله  - صلَّى الله عليه وسلَّم  (إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوْصَى حافَ في وصيَّته، فيُختم له بشرِّ عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيَعدل في وصيَّته، فيُختم له بخير عمله، فيدخل الجنة)، قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [النساء: 13]، إلى قوله: ﴿ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14]. ( ضعيف).

ثانيا: أنه آكل حق الضعيفين.
ونقولُ لهؤلاء الذين فرقوا دينهم، وطبقوا آية وعطلوا أخرى، وصلوا ثم ظلموا، وزكوا ثم بخلوا، وصاموا ثم تركوا، وحجوا ثم ختموا حياتَهم بحجة إلى الشيطان ، والنبي  صلى الله عليه وسلم يقول }اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ {  [أخرجه أحمد وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة].
 ينادى المولى تبارك وتعالى على آكلي حقوق الضعيفين (اليتيم والمرأة) فيقول تعالي  { وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) { النساء.

ثالثا: أنه قاطع لأرحامه:
فالله تعالى يجازي أهل الصلة بالصلة في الدنيا والأخرة ويجازي أهل القطيعة بالقطية في الدنيا والأخرة والجزاء من جنس العمل.
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ }مَا من ذَنْب أَجْدَر أَن يعجل لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ{
يعني: أنه تحصل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية، حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة، وهذا يدل على عظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم.

ربعا : الحجب والحرمان من دخول الجنان:ـ
فالجنة هي صلة الله التي جعلها لأهل كرامته ولأهل طاعته فاذا قطع المسلم رحمه حجبه الله من جنته.
عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» يعني قاطع رحم (مسلم)، ولفظ أبي داود: (لا يدخل الجنة قاطع رحم).
و في معنى هذا الحديث قولان: أنه لا يدخلها من أول وهلة، أي أنه يتأخر في دخول الجنة، وأنه يدخل النار ويعذب بها، ولكنه إذا دخل النار لا يستمر فيها أبداً، بل لابد أن يخرج منها، وأن يدخل الجنة ما دام أنه مرتكب لكبيرة فقط، ولا يمنع من دخول الجنة أبداً إلا الكفار الذين هم أهل النار، فلا سبيل لهم إلى الخروج منها أبداً.
أنه لا يدخلها أبداً إذا كان مستحلاً؛ لأن استحلال الذنب كفر، فيكون ذلك مانعاً من دخول الجنة أبداً؛ لأنه يكون بذلك كافراً، والكافر لا يخرج من النار ولا يدخل الجنة أبداً.

صلة الله للواصل وقطعه للقاطع والطرد من رحمته:
 عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:}إِنَّ الله خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَك{.
قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ}فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22){ [محمد].
وَخَرَّجَهُ في: باب قول الله }يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ (15){ [الفتح] ، وفي تفسير سورة محمد عليه السلام، قوله }وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22){[محمد]... متفق عليه.
فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل من وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقربائه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه ولا يقطع رحمه.
وجاء في الحديث الآخر: (حتى إن أهل الديار لا يصبرون على شيء من الذنوب، ولكن يصلون أرحامهم فيعطيهم الله عز وجل الغنى في الدنيا) 
فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي ولكنه يصل رحمه فإن الله تعالى قد يغفر له، لأن صلة الرحم عظيمة جداً، قال الله سبحانه وتعالى: } فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23){ [محمد].
فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم أصم الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم.

خامسا: الإفلاس يوم القيامة:
 يا آكلا للميراث لا تظن أن ذلك فيه الغنى كلا بل فيه الإفلاس قال تعالي } يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89){[الشعراء].
توهم نفسك و قد بعثر ما في القبور و حصل ما في الصدور و قد أتيت بصلاة و زكاة و صوم و حج و لكنك قد أكلت المواريث نظر إلى نفسك في عرصات يوم القيامة ...عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال فيأتي وقد شتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار{رواه مسلم.

سادسا: الإثم الكبير:
اعلم علمني الله وإياك: أن التعدي على المواريث جرم عظيم وإفك مبين قال الله تعالى }وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2){[النساء].
والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.
روى أن رجلا من بنى غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي عليه السلام فنزلت هذه الآية فلما سمع العم قال اطعنا الله واطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع اليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم « من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره » يعنى جنته فلما قبض الفتى ماله انفقه في سبيل الله فقال عليه السلام « ثبت الأجر وبقى الوزر » فقالوا كيف بقى الوزر فقال « ثبت الأجر للغلام وبقى الوزر على والده » تفسير الثعلبي [ لم اقف على صحة هذا الأثر].

سابعا: أكلة الميراث أكلة النار:
 أيها الأحباب: الذين يأكلون الميراث هم الذين وصفهم الله تعالى بقول }إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10){ [النساء10].
إن اليتامى مظنة أن يبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلما هو بخسهم حظهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم سماه الله تعالى أكلا لما فيه من معنى الأخذ وأن يقصد به تنمية ماله كما ينمي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مالها البوار } ومن نبت لحمه من حرام فالنار أولى به{ .
وقال سبحانه }وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) { [آل عمران] لكمال التشنيع على الأكل، إذ هم يظلمون ضعيفا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الأكل بقوله: } إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ(10){ ﴾ [النساء] .
وهذا تصوير لضرر الأكل عليهم؛ لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار ويضعها في بطنه أي يملأ بطنه بها فهو في ألم دائم حتى يهلك، وكذلك دائما من يأكلون أموال اليتامى لَا يأكلون أكلا هنيئا ولا مريئا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتا خربت لأنها أكلت مال اليتيم. وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة فقال تعالي:
} وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10){ [النساء] أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها. اللهم ارزقنا رزقا حسنا، وجنبنا ما حرمت، وأقنعنا بالحلال الطيب، إنك سميع الدعاء.
قال القاسمي -رحمه الله - ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.

ثامنا: الفضيحة يوم القيامة.
ألا فلتعلمَ أن ما أكلتَ من حق أختك؛ من مال وعقار؛ ستُطوقه يومَ القيامة بإذن الله، لو ظلمتها جنيهًا سيأتي عليك نارًا، ولو ظلمتها شبرًا من أرضِ فسيأتي حول عنقك يومَ القيامة نارًا من سبع أرضين، قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: } مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ{ [أخرجه البخاري، في كتاب المظالم].
وهذا الحديثُ له قصةٌ عجيبة في صحيح مسلم؛ وذلك أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ  رضي الله عنه  أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة (أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ).
فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا! فَقَالَ سَعِيدُ بْن زَيْدٍ - رضي الله عنه اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً؛ فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا!.
قال بعض الرواة: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ أخرجه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم }خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَهْبُ مُؤْمِنٍ، أَوْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ{[أخرجه أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع].

تاسعا: أن أكل الميراث يدخل في السبع الموبقات.
قال صلى الله عليه وسلم اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ:(الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ ) [أخرجه البخاري].

العنصر الخامس: من روائع من تاريخ السلف مع الميراث.
وهذه القصص هي لنسوة عرفن الله تعالى و قالوا } وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285) ﴾ [البقرة].

القصة الأولى:
استَمِع لهذه القصة، ومُلَخَّصها أنَّ رجلاً كان ببغداد يعمل بزَّازًا  يَبيع البزَّ؛ أي: الثياب؛ يعني: قمَّاش له ثروة، فبينا هو في حانوته، أقْبَلَت إليه صبيَّة، فالْتَمَست منه شيئًا تَشتريه، فبينما هي تُحادثه، كشَفَت وجهها في خلال ذلك، فتحيَّر، وقال: قد والله تحيَّرت مما رأيت، فقالت: ما جِئْت لأشتري شيئًا، إنما لي أيَّام أتردَّد إلى السوق؛ ليقع بقلبي رجلٌ أتزوَّجه، وقد وقَعْت أنت بقلبي ولي مالٌ، فهل لكَ في التزوُّج بي؟
 فقال لها: لي ابنة عم وهي زوجتي وقد عاهَدتها ألاَّ أُغَيِّرها، ولي منها ولد، فقالت: قد رَضِيت أن تَجِئ إليّ في الأسبوع نوبتين، فرَضِي، وقام معها فعَقَد العقد، ومضى إلى منزلها، فدخَل بها، ثم ذهب إلى منزله، فقال لزوجته: إنَّ بعض أصدقائي قد سألني أن أكون الليلة عنده، ومضى فبات عندها، وكان يمضي كلَّ يوم بعد الظهر إليها، فبَقِي على هذا ثمانية أشهر، فأنْكَرَت ابنه عمه أحوالَه، فقالت لجارية لها: إذا خرَج، فانظري أين يمضي؟
فتَبِعتْه الجارية وهو لا يدري، إلى أن دخل بيت تلك المرأة، فجاءَت الجارية إلى الجيران، فسألتْهم: لِمَن هذه الدار؟
 فقالوا لصبيَّة قد تزوَّجت برجلٍ تاجر بزَّاز، فعادَت إلى سيدتها، فأَخْبَرَتْها فقالت لها: إيَّاكِ أن يعلمَ بهذا أحد، ولَم تُظهر لزوجها شيئًا، فأقام الرجل تمام السنة، ثم مَرِض ومات، وخلَّف ثمانية آلاف دينار، فعَمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقُّه الولد من التركة  - وهو سبعة آلاف دينار  - فأفْرَدَتْها، وقَسَمت الألف الباقية نصفين، وتَرَكت النصف في كيس، وقالت للجارية: خذي هذا الكيس واذْهَبي إلى بيت المرأة، وأعْلِميها أنَّ الرجل مات وقد خلَّف ثمانية آلاف دينار، وقد أخَذ الابن سبعة آلاف بحقِّه، وبَقِيَتْ ألف، فقَسَمتُها بيني وبينك، وهذا حقُّك، وسَلِّميه إليها، فمَضَت الجارية، فطَرَقت عليها الباب ودخَلت، وأَخْبَرَتها خبرَ الرجل، وحَدَّثتها بموته، وأَعْلَمتها الحال، فبَكَت وفتَحَت صندوقها، وأخْرَجَت منه رقعة، وقالت للجارية:
عودي إلى سيِّدتك، وسَلِّمي عليها عني، وأَعْلميها أنَّ الرجل طَلَّقني، وكتَب لي براءة، ورُدِّي عليها هذا المال؛ فإني ما أستحقُّ في تَرِكته شيئًا، فرَجَعت الجارية، فأَخْبَرَتها بهذا الحديث.
القصة الثانية: 
ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها وهي تعجن موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. أي: أن مال الرجل إذا توفي انتقل وصار ملكاً لورثته الشرعيين، فلم يصبح لها وحدها، فلذلك رفعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
القصة الثالثة:
وأخرى كانت تستصبح بمصباح يعني: بالزيت أو شيء من هذا فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء، يعني: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به.
فيا ويل من يأكلون أموال الميراث! وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلماً، ويتلفون أموالهم في أشياء حرم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر.
عباد الله: إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه} إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56){ ﴾ [الأحزاب].
فاللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن واغفر لنا وارحمنا وتولي جميع أمورنا وتوفنا وأنت راض عنا
اللهم آمين ..


ليست هناك تعليقات: